«مهلاً، توقّفْ عن لعب الألعاب، هل تحاولُ إخافتنا؟)
جونشيرو تانيزاكي، بالأسود والأبيض،ص 216
اعتبرتُ، على الدوام، أنّ تدرّجات موضوعة الجريمة في الأدب الخياليّ، لها قواسم مشتركة كثيرة مع تنامي مسارات حياة قنديل البحر وسيرته، القائمة على سلسلة منطقيّة جدا من الاستعارات، والصدف، والإيحاءات، والافتراضات، والمبالغات، والمجازات، والموارابات، والإضمارات، والتمويهات، والاختلاقات.
فهذا الحيوان الرخويّ، المصنّف علميّا ضمن شعبة اللاّسعات، يتكاثرُ عن طريق وضع بيوضه السابحة فقاعاتٍ هلاميّةً في الماء، إلى أن تصل إلى موقع ثابت مثل الأحجار يساعدها على الالتصاق، فتنمو، عندئذ، على هيئة يرقات أسطوانيّة لتصبح «بوليب».
وذاك ما حدث، تقريبا، في الجريمة الأولى، التي استقرّ فيها مجسّم نَمِر ضخم - مصنوع من النحاس، مطليّ بالذهبـيّ ـ داخل الواجهة الزجاجيّة العريضة لمتجر «ألفا 55» بمدينة الدار البيضاء. فكان المُصَوِّر الفوتوغرافيّ المتجوّل أسامة المعاشي يقفُ، عند حلول غروب كلّ يوم، أمام تلك الواجهة المُطِلَّةِ على الشارع العموميّ، ثمّ يلتقطُ للعابرين الراغبين من المارّة صوراً فوريّة بصحبة النّمر المضاء بمصابيح النيون، والمُثبَّت على قاعدة من الجبس الأبيض. إلى أن جاء يوم حزين، مشهود بالنسبة لسكان الحيّ، تمّ فيه العثور على أسامة المعاشي مقتولا خلف مخازن المتجر، غارقا في بركة دم كبيرة. وقتها، ذهبت شكوك المحقّقين، وفرضيّاتهم المتضاربة إلى كون المرحوم تعرّضَ لطعنة غائرة في صدره، بفعل أداة حادّة، أو شيء مُدبّب مُشابه.
وبعد مرحلة «البوليب»، يدخلُ قنديل البحر طور النضج، ويلج دورة نُموّه المواليّة، ليغدو بمثابة «ميدوزا»، تتزايد لاجنسيّا بواسطة نظام استنساخ نفسها بنفسها، ثمّ تقضي حياتها على شكل شقائق النعمان، أو مناطيد معتمة، تتدلّى منها لوامس رقيقة، ومجسّات حسيّة طويلة، تنجرفُ بحريّة مطلقة مع التيّارات المائيّة.
وهو ما يتماثلُ، على الأرجح، مع الجريمة الثانيّة التي ذهب ضحيّتها نحّات أقنعة مسرح متقاعد؛ فالفنّان المسالم، الطاعن في العمر جواد الخمليشي، وُجِدَ مذبوحا من الوريد إلى الوريد، بشكل وحشيّ غير مبرّر، داخل ورشته التقليديّة الصغيرة الملحقة بحديقة بيته، وأُلقِيَ، إلى جانبِ جسد الميّت، قناعٌ جلديّ مستنسخ لشخصيّة فصاميّة، كان قد صنعهُ الفقيد، قبل سنوات طويلة، لمسرحيّة قديمة، موضوعها طفولة قاتل متسلسل، ينتمي إلى عائلة مفكّكة، ويتلذّذُ على نحو شاذّ بتعذيب القطط والكلاب والضفادع، قبل أن يباشر في اغتيال البشر والتهام أعضائهم المحفوظة في ثلاّجة التبريد داخل مسكنه. وقد احتارت شرطة مدينة مراكش في فكّ لغز هذه الجناية الغامضة، بالنظر إلى انعدام أيّة دوافع ظاهرة، أو خفيّة لاقترافها، فضلا عن غياب أدنى دليل، أو قرينة واضحين على هذه الجريمة.
أمّا المحطّة الأخيرة من حلقات كينونة قنديل البحر، فتبدأُ بعد نفوقه، وهبوطه إلى الأعماق الصامتة، كي يشرع في التحلّل التدريجيّ. عندها، تتجمّعُ خلاياه مجدّدا، وتتطوّرُ من تلقاء ذاتها، كما لو كانت تنبعث من اضمحلالها. كما أنّ سرّ الخلود الأبديّ، لهذا الكائن الإسفنجيّ ذي التناظر الشعاعيّ الرباعيّ، يكمنُ في قدرته على مداوة أطرافه المقطوعة باستمرار، أو استرجاع الأجزاء المفقودة منها، أو إعادة تموضعها، لتغدو المسافة بينها متساويّة مدوزنة متى تمّ قَطْعُ أحد مكوّناتها العضويّة.
وعلى الأغلب، تتناسبُ هذه المحطّة مع الجريمة الثالثة، تلك التي وقعت في منطقة سوق الصفارين بفاس، لما وَجد أحد المتنزّهين على ضفاف نهر بوخريب جثّةَ شخص مجهول مبقورة الأحشاء، ممصوصة الدماء حتّى آخر قطرة، ومقضومة الأطراف، كما لو تعرّضت للنهش والمضغ، ليتبيّن فيما بعد، وعقب الأبحاث البوليسيّة المعمّقة، أنّ المقتول غيلةً هو المعلّْم عبد المالك بناني، نقّاش الأواني والنحاسيّات، الذي كان حرفيّا بارعا، متخصّصا في زخرفة الصواني الفضيّة أزهارا ونباتاتٍ خرافيّة، وتزويقها بأشجار متحوّرة من فصيلة آكلي اللّحوم والحشرات، ونمنمتها بحرشفيّات ذوات أفواه مرعبة متناهيّة الصغر، وتحسينها ببتلات وأنسجة وجذور ملتفّة كالأشراك الحديديّة.
والآن، إليكم تفسيري الشخصيّ المبسّط لفحوى نظريّتي المتواضعة عن علاقة الأدب الخياليّ بالجريمة العنيفة المتغوّلة، المتنقّلة كالعدوى في الزمان والمكان: إنّ قنديل البحر شفّاف من دون عمود فقريّ، وككلّ مخلوق شفّاف، فهو لا ظلّ لَهُ، ينتسبُ إلى جرح الإشكال والاختلاط، شأنَ مخلب النّمر الذي قتلَ المصوِّر أسامة المعاشي، انتقاما من الاستغلال التجاريّ المفرط لصورته.. وصنوَ سكين شخصيّة القناع المسرحيّ، الذي أجهز على الفنّان جواد الخمليشي، اقتصاصا من تطفّله على استدعاء الأقنعة من عالم الظلمات إلى عالم الأحياء.. ونظير أسطورة أشواك شجرة «فخ إبليس» العائدة، التي وضعت حدا لحياة المعلّم عبد المالك بناني، عقابا له على انتهاك حرمتها المفزعة، الشبيهة بمزيج جهنميّ من وحوش «الهاربي» الخبيثة المجنّحة (*)، وعضاءات متعدّدة الرؤوس تتجادلُ مع بعضها بغضب شديد، ثمّ تندفعُ أحيانا من جانب إلى آخر كما لو أنّها تهاجم عدوا خياليّا خرج لتوّه من بطون كُتُبِ العجائب والفنطاسيا(**)..
القصة وما فيها، أنّ قنديل البحر طاف وجابَ المحيطات لما لا يقلُّ عن 600 مليون سنة.. قبل ظهور الأسماك العظميّة، والزواحف، والأدغال، والسراخس، والفطريّات... لكنّهُ، أيضا، نشأ وترعرع بالتزامن مع أوّل وأبشع جريمة(***)عرفتها الإنسانيّة، حينما شجَّ قابيل رأس أخيه هابيل بحجر، فأرداه...
.............................................................
(*) إحالة أولى: الهاربي أو الهَارْبيز في الأساطير الإغريقيّة والرومانيّة، وحوش مجنّحة خبيثة، نصفها امرأة، والنصف الآخر طائر. كانت سيّئة السمعة في المتخيّل الجمعيّ بسبب شراهتها، ورائحتها البغيضة. أرسلت من قبل الآلهة كعقاب لمضايقة فينوس الأعمى، فمتى وُضعت أيّ وجبة أمامها، هبطت من الجو، ثمّ حملتها في رمشة عين. وإذا لم تلتهم الطعام لسبب من الأسباب، فإنّها تلوّثه عن طريق إسقاط مادة نتنة عليه، وذلك لجعله غير صالح للأكل بالمرّة. كانت الهاربيز رسل هاديس (ملك العالم السفليّ)، ووفقا للأسطورة، مهمّتها سرقة الأطفال، وأرواح النّاس، ولهذا السبب كانت تُصوّر في الأيقونات والخزفيّات البيزنطيّة، وهي تحمل بمخالبها، داخل القبور، روح الشخص الميّت.
(**) إحالة ثانية: كتب الكنديّ في «الحدود الفلسفيّة»: «التوهّم هو الفنطاسيا، وهذه قوّة نفسانيّة، ومدركة للصور الحسيّة، مع غيبة طينتها، ويقال: الفنطاسيا، وهي التخيّل، حضور صورة الأشياء المحسوسة مع غيبة طينتها»، ص 192. ويقول الخوارزمي: «فنطاسيا هي القوّة المخيّلة من قوى النفس، وهي التي تتصوّر بها المحسوسات في الوهم، وإن كانت غائبة عن الحسّ، وتسمّى: القوّة المتصوِّرة أو المصوِّرة»، نقلا عن «المصطلح الفلسفيّ عند العرب»، ص 213.
(***) إحالة ثالثة: كم ﺃتوق، ذات يوم، لكتابة «ﺃنطولوجيّا وجيزة للجريمة في الزمن البدائيّ»، تبعا لمقاربة شامانيّة صرف.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: قندیل البحر
إقرأ أيضاً:
عقب اعتراف الأمن باغتيال المغترب أنور.. غضب شعبي يجتاح تعز يتهم الأمن بالتستر على ملابسات الجريمة ودوافعها الحقيقية والقيادات المتورطة فيها
مقالات مشابهة مذيعة تونسية تنشر صورة تجمعها مع أحمد الشرع وفيصل القاسم يوجه دعوة مفاجئة بشأن الصحافيين والفنانيين في سوريا
16 ساعة مضت
فضيحة مدوية: ترقية مسؤول متهم باختلاس الملايين وسجن المبلغين تُشعل الغضب الشعبي بالتزامن مع توقف المرتبات18 ساعة مضت
لماذا لا يتم ضبط الجناة.؟ أهالي تعز ينتفظون ويهددون بالتصعيد الثوري احتجاجًا على تقاعس السلطات عن الانتصاف لمظلومية الدكتور المخلافي20 ساعة مضت
فلكي يطلق تحذيرات عاجلة لجميع السكان مما سيحدث خلال الـ48 ساعة القادمة20 ساعة مضت
خذوا حذركم.. الجوبي ينشر توقعات الطقس: درجات حرارة تصل إلى ما دون الصفر في عدة محافظات يمنية غدًا21 ساعة مضت
حادثة قتل مروعة تُشعل غضب الأهالي في تعز والجاني يفر من العدالة (الاسم + الصورة)22 ساعة مضت
في حادثة صادمة أثارت غضباً واسعاً، اعترفت الأجهزة الأمنية في مدينة تعز بمسؤوليتها عن جريمة قتل المغترب أنور منصور عبده زيد، الذي قُتل أثناء احتجازه في قسم شرطة عصيفرة.
وجاء هذا الاعتراف بعد ضغط إعلامي وشعبي كبير، كشف عن تفاصيل صادمة تشير إلى تواطؤ داخل القسم، حيث اتُهم القتيل زوراً بحيازة مخدرات، قبل الإعلان عن وفاته واختفاء سيارته الفارهة ومقتنياته الشخصية.
وفي خطوة وصفت بأنها محاولة لاحتواء الغضب الشعبي، أعلن مدير أمن تعز، منصور الأكحلي، عن توقيف مدير قسم شرطة عصيفرة وعدد من الضباط والأفراد وإحالتهم للتحقيق، كما أوضح أن فريقاً من الأدلة الجنائية تم إرساله إلى موقع الحادثة، مؤكداً أن القضية قيد متابعة النيابة العامة.
لكن الشارع في تعز يرى أن هذه الإجراءات جاءت فقط بعد فضح الجريمة إعلامياً، حيث كان من الممكن التستر عليها تماماً لولا تدخل الإعلاميين والنشطاء والمجتمع، مطالبين بالتحرك السريع لمحاكمة جميع المتورطين وإنزال أشد العقوبات بحقهم.
مطالبات بكشف ملابسات القضية:
تشير مصادر مطلعة في تعز إلى أن جريمة قتل المغترب، لها دوافع عميقة لم يتجرأ الامن على كشفها وأبقاها سرًا كونها تتعلق بقيادات نافذة، مؤكدة أن استهداف أنور جاء للتغطية على جرائم أخرى أكبر منها تتعلق بقيادات عليا في المحافظة.
دعوة للتصعيد:
وفي ظل استمرار الغضب الشعبي، دعا ناشطون وإعلاميون إلى مواصلة الضغط الشعبي والمجتمعي حتى يتم الكشف عن جميع ملابسات الجريمة بشفافية أمام الرأي العام، واعلان دوافعها واسبابها، وتقديم كافة اطرافها والمتورطين فيها للمحاكمة سريعا.
كما وجهوا دعوة إلى تنظيم مظاهرات سلمية وتصعيد الاحتجاجات للتأكيد على ضرورة محاكمة المتورطين ومحاسبة كل من تواطأ أو تستر على الجريمة.
هاشتاقات للتحرك المجتمعي:
ولتفاعل الرأي العام على نطاق واسع، أطلق نشطاء حملات تحت هاشتاقات: #سرعة_كشف_المتورطين #سرعة_محاكمة_القتلة #كلنا_انور
ويأمل الناشطون أن يتمكنوا من إبقاء القضية في دائرة الضوء حتى تتحقق العدالة، مؤكدين أن قضية أنور ليست مجرد جريمة فردية، بل تعكس فساداً عميقاً يتطلب وقفة جادة من الجميع.
ذات صلة السابق مذيعة تونسية تنشر صورة تجمعها مع أحمد الشرع وفيصل القاسم يوجه دعوة مفاجئة بشأن الصحافيين والفنانيين في سوريااترك تعليقاً إلغاء الرديجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.
آخر الأخبار عقب اعتراف الأمن باغتيال المغترب أنور.. غضب شعبي يجتاح تعز يتهم الأمن بالتستر على ملابسات الجريمة ودوافعها الحقيقية والقيادات المتورطة فيها 7 دقائق مضت مذيعة تونسية تنشر صورة تجمعها مع أحمد الشرع وفيصل القاسم يوجه دعوة مفاجئة بشأن الصحافيين والفنانيين في سوريا 16 ساعة مضت فضيحة مدوية: ترقية مسؤول متهم باختلاس الملايين وسجن المبلغين تُشعل الغضب الشعبي بالتزامن مع توقف المرتبات 18 ساعة مضت لماذا لا يتم ضبط الجناة.؟ أهالي تعز ينتفظون ويهددون بالتصعيد الثوري احتجاجًا على تقاعس السلطات عن الانتصاف لمظلومية الدكتور المخلافي 20 ساعة مضت فلكي يطلق تحذيرات عاجلة لجميع السكان مما سيحدث خلال الـ48 ساعة القادمة 20 ساعة مضت خذوا حذركم.. الجوبي ينشر توقعات الطقس: درجات حرارة تصل إلى ما دون الصفر في عدة محافظات يمنية غدًا 21 ساعة مضت حادثة قتل مروعة تُشعل غضب الأهالي في تعز والجاني يفر من العدالة (الاسم + الصورة) 22 ساعة مضت الارصاد تسجل درجات صفرية وتحذر موجة صقيع بالتزامن مع تعمق مرتفع جوي سيبيري بارد في انحاء البلاد يوم واحد مضت صنعاء تضع قضايا جديدة على طاولة مفاوضات السلام مع الرياض يوم واحد مضت حكومة “بن مبارك” تطلب تدخلاً عسكريًا أمريكيًا لحماية الملاحة الإسرائيلية في البحر الأحمر يوم واحد مضت محاولة اغتيال تستهدف عضوًا بارزًا في المجلس السياسي بصنعاء أثناء اجتماع في تعز يوم واحد مضت مسؤول يمني يكشف عن تحركات إسرائيلية لإنشاء دولة عازلة جنوب سوريا يوم واحد مضت © حقوق النشر 2024، جميع الحقوق محفوظة | لموقع الميدان اليمني