كنتُ أقود سيَّارتي متَّجها ككلِّ صباح إلى الجامعة، عندما أرسلت لي مديرة تحرير مجلَّة نزوى الأستاذة والرِّوائيَّة هدى حمد صباح الاثنين من تاريخ أربعة ديسمبر لعام 2023 على العاشرة والنِّصف صورةً على برنامج واتساب من جهاز هاتفي، تخبرني عن شيءٍ من أرشيف المجلَّة قد وسعها لشدَّةِ المفاجأة أن ترسله لي.

اعترتني في لحظةٍ خاطفةٍ كالطَّير تلك، وحينٍ بارقٍ كالرَّعد ذاك، دهشةٌ أخَّاذة للمشاعر والأحاسيس والأنفس.

فما وجدتُنِي إلا وقد تنحَّيتُ عن الطَّريق، وأوقفت محرِّك السَّيَّارة بعد أن ركنتها جانبًا، وبدأت ألتقط أنفاسي وأنا أتفقَّد الصُّورة على مهلٍ مخلوطٍ بقلق، وأملٍ ممزوجٍ بحزن.

لم أكن أتصوَّرُ يومًا أنَّ رسالةً من ذلك الماضي البعيد ستقطع كلَّ هذا الزَّمن لتعود إليَّ من جديد. كأنَّما لو أنَّها خطاب ملفوف كسيجارةٍ على نفسه وقد أُدخلَ عنق زجاجةٍ قبل أن يُحكموا الإغلاق، ليُلقَى وسط المحيطات، باحثًا، كما تريدُ له الأقدار وتشاءُ له الصُّدَفُ، عن ساحلٍ يرتمي بين أحضانه ارتماءَ شقيٍّ أنهكه ظلمُ الزَّمان.

توسَّعت حدقَةُ عينيَّ لتُفتِّشَ عنِّي في تلك السُّطور، لحظَة كتابَتِها أوَّل مرَّة، وأنا أراسل من خلالها للمرَّة الأولى الأستاذ سيف الرَّحبي ملتمسًا منه نشر قصائدي البضرابينيَّة (نسبةً إلى بضرابين، مسقط رأسي). وما لبثتُ أقرأ الرِّسالة فقرةً فقرةً، وأطالع فيها شأني تلك الأيَّام، إلا ورأيتَني قد عادت بي الرِّسالةُ إلى الأيَّام الخوالي، الأوائل منها والتَّوالي.

في تسعينيات القرن الماضي، كنَّا نجتمعُ بعد كلِّ عصرٍ بمقاهي المشور، بمكانٍ يقع قرب قلعة بني زيَّان التي حكم أصحابُها تلمسان، والتي انتدبت نفسَها عاصمَةً للمغرب الأوسط. كان ذلك السُّور العظيم يحيطنا كلَّ مساء بمناعةٍ حضاريَّة فائقة، ومنعةٍ نفسيَّة رائقة، فنسترخي على الكراسي تحت شجر الدَّلب الأخضر اليانع، وأغصانه الوارفة الظَّليلة، نتقصَّى جغرافيا الخاطر المرتاح، وننأى فيه بأنفسنا المنهكة، فنرتشفُ كؤوس الشَّاي المُعَطَّرةِ بالنَّعناع، ونتقاسمُ حبَّات المْبَسَّسْ (أُكلاتٌ مغاربيَّة تعرض على أطباق العشيَّات)، ثمَّ نتطلَّع إلى كتبٍ تأتي يُمنةً ويُسرَة، لعلَّنا نفرُّ بعقولِنا من تلك المحاضرات الأكاديميَّة بالجامعة، والأطر المعرفيَّة المقنَّنة بفعل التَّقاليد السِّياسيَّة والأعراف.

لم نكن حينها، والكتب ذاتُ الفكر المختلف تفدُ إلينَا، إلَّا في صهيلٍ جامحٍ بالشَّباب، نتقاطع ونختلف، ونتوافقُ ونأتلف، ونناقشُ فكرًا نحسبُهُ أكبر منَّا، وثقافاتٍ نراها أوسع وآدابًا أجلَّ وفنونًا أكثرَ تمكينًا للنَّفس وعلومًا أوفى.

كنَّا نجتمعُ من حدبِ كلِّ تخصُّصٍ وصوب، من القانون، والفلسفة، واللُّغات الأجنبيَّة، والآداب، والتَّاريخ، وعلم الاجتماع، وعلم النَّفس، ومن الفنون، والموسيقى، والسِّينما، لنتناقش في جوٍّ من الحرِّيَّة الذي وفَّرته آنذاك المدن الجزائريَّة، بعيدًا عن القرى التي رزحت تحت وطأة العنفِ، وما آلت إليه الأوضاع من خوفٍ وهلعٍ وتدمير. كنَّا نتعلَّم في نقاشاتنا روح التَّخصُّصات المتعدِّدة، ووسائل التَّعبير المختلفة، نقرأ الشِّعر، ونناقش الفلسفة، ونتفرَّغ للنَّفس، ونتفهَّم المجتمعات، ونتحدَّث عن الحبِّ، والحُزنِ والنِّهايات.

وفي تلك المرحلة بالذَّات، وقعت بين أيدينا مجلَّة نزوى، كما تقعُ تُفَّاحةً أعلى الشَّجرة، فتقَّلبت بينَنا كقطعةٍ معدنيَّة ذهبيَّةٍ قديمةٍ عثَر عليها طفلٌ وهو يتفحَّصُ جرارَ بابل المتبعثرة، أو كجنٍّ مُتَفتِّحِ الخاطرِ يبحثُ، بين المنازلِ المختلفة الألوان، عن هوسٍ جديد.

كذاك الاختلاف الذي كنَّا فيه، توسَّعت المجلَّة بحسب راياتنا التي لم تكن أبدًا واحدة، فماثلَتِ المجلَّة الأنفُس، وتماثلت الأرواح، وامتثلتِ النِّيَّاتُ، وتمثَّلَ العقلُ في أبهى ما يمكن أن يكون عليهِ من صورة، لا يبتغيها إلا من هو على خطى المثال الأفلاطونيّ.

وهل يسَعُنا شيءٌ ونحن في تلك التَّقاطعاتُ إلَّا أن نسكنَ نقطةً واحدة، نقطةَ نزوى التي لا تبرح مكانَها مركزًا في الدِّين والثَّقافة والتَّاريخ؟

كان سيف الرَّحبي، قائدُ الجوقةِ الأوَّل، في هذه السمفونيَّة المدهشة، يجرُّ خيالنا، الواحد تلو الآخر، إلى معبدِ باخوس الوثني، لنقرأ، على نخبِ حرَّاس المتوسِّط وأوليائه الأوفياء، نصَّه الصَّحراويَّ الذي يمجِّدُ فيه عرينَ الأبديَّة. لم نتبيَّن من تلك البيانات الأولى، إن كان رئيسَ تحرير، أم شاعرًا، أم كاتبًا يصادرُ الفضاءات، كأنَّه يجعلها تهيم به حبًّا، فتجثو على رُكبَتيها خالدةً بجمالها اللُّغوي. بل كان هو الآخر، نقطةً مضيئةً على رأس القاطرةِ، يُخلِي سبيلَ السِّكَكِ الحديديَّة، ليتدرَّجَ عليها السَّالكون إلى غاياتهم، والمريدون إلى أقطابِهم، والنَّاجون بأنفسِهِم إلى الخلاصِ الجميل.

اِكتشافٌ قطع على نفسي آنذاك عهدًا بأن يبقى على حاله إلى آخر الحياة، يحفظُ شبابي، ويمنع عن مائهِ الرَّكود، ولا يسوقُ إليه إلا ينابيعَ الجبال العالية.

مرَّت، بعد ذلك، أشهرٌ عديدةٌ، حتَّى طالعتني لأوَّل مرَّة بمزرعة جدِّي النَّائية مجلَّة نزوى في عددها الثَّاني والعشرين، وقد أخبرتني العائلة بوصولها، ارتجفت يداي وهي تمسك بأوَّل نافذةٍ في التَّاريخ، ورُحتُ أقلِّب في صفحاتها باحثًا عن نصِّي الشِّعريّ الذي يحمل عنوان «احتفالُ التَّعَبْ»:

- تَعِبْتُ مِنْ صَدِيحِ قَلْبٍ لاَ يَرِقُّ / مِنْ غُبَارٍ تَشَظَّى فِي الكَلاَمِ المُسْتَحِيلِ / مِنْ عُيُونِ عَاشِقٍ خَاسِرَةٍ

جَفَّتْ عَلَى وِسَادَةٍ تَخُونُهَا كُلَّ مَسَاءٍ / مِنْ خُطْوَةٍ لاَ تَكْبُرُ / وَلاَ تَمُوتُ.

- تَعِبْتُ مِنْ وَجْهِي الغَرِيبِ دَائِمًا / وَمِنْ سُكُوتِي، وَتَفَاهَتِي / وَمِنْ ذُبَابَةٍ تَحُطُّ فِي صَفْحَةِ أَيَّامِي وَلاَ تَطِيرْ/ مِنْ سِتَارِ فَرْحَتِي الذَّي لَمْ تَرْتَدِيهِ شَمْسُ أَسْرَارِي / وَأَنْتِ تَرْتَمِينَ فِي فِرَاشِ حَضْرَتِي / ذَاكِرَةً قَتِيلَةً / وَدَمْعَةً لِكُلِّ أَقْمَارِي.

- تَعِبْتُ مِنْ صَبَاحٍ لاَ يَقُولُ أَشْهَى مِنْ سُكُوتِهِ السَّدِيميِّ / وَمِنْ عُصْفُورَةٍ تَرَاكَمَتْ فِي عُشِّ غَفْوَتِي / وَغَنَّتْ فِي مَقَابِرِ النُّعَاسِ / مِنْ يَقْظَتِي الحُبْلَى خَسَارَاتٍ،/ وَمِنْ فِنْجَانِ بَرْنَامَجِ يَوْمِي / وَجَرِيدَةِ الخَرَابِ/ مِنْ قِطَّةٍ كَسُولَةٍ تَجُرُّ ذَيْلَ حُجْرَتِي وَلاَ تَمُوءُ/ تَتْرُكُ ظُفْرَهَا بِعَتْبَةِ البِسَاط، كَيْ تَعُود / بِعَاشِقٍ مُسَالِمٍ / أَوْ بِفَرِيسَةِ النَّهَارِ.

- تَعِبْتُ مِنْ نَافِذَةٍ تَفْتَرِسُ الحُلْمَ / وَمِنْ سَرِيرِ جُرْحِي مُسْتَبَاحٍ لِجَسَارَةِ الأَلَم / وَبائِعِ الأسْرَارِ / وَضْوْءِ خَافِتٍ يَمُوتُ فِي زِنْدَيْكِ / يَنْحَنِي هُدُوءًا / لِقَبَائِلِ الجَسَدِ / وَحَارِسِ الأَخْبَارِ.

- تَعِبْتُ مِنْ وَرَّاقَةٍ أَكْتُبُهَا كُلَّ مَسَاءْ / مِنْ مَكْتَبٍ مُصَادَرٍ / مِنْ شُعْلَةٍ أُنْثَى تَلُوحُ فِي حَيَاء / مِنْ لَفْظَةٍ أُضِيفُهَا لمَجْلِسِ العَائِلَةِ الفَصْلِيَّةِ / مِنْ قُبْلَةٍ بَارِدَةٍ / تَقْتَاتُ مِنْ سِيجَارَةٍ مُطْفَأَةٍ في مَرْمَدِ انْتِحَارِي.

- تَعِبْتُ مِنْ محْفَظَةِ الأَشْغَالِ أُلْقِيهَا عَلَى فَخْذِ حَبِيبَةٍ حَزِينَةٍ / وَأَدْعُوهَا لحَمَّامٍ خَفِيفٍ / كَيْ يَرُشَّهَا بِرَغْوَةِ الخِيَانَةِ اليَوْمِيَّةِ المُخَادِعُ الذِّي يَبِيتُ في عُيُوني بِزُجَاجَةِ النَّبِيذِ... ثَمَّ أَغْتَالُ خُطَاهُ../ وَأَحْتَسِي عِنْدَ عَشَائِي خُطْبَةَ عِشْقٍ / أُعْلِنُ احْتِفَاءَةً بأَبْلَغِ الأَشْعَارِ.

- تَعِبْتُ مِنْ شَوَارعِ الكَلاَمِ / مِنْ كُلِّ الذِّي كَانَ وَمَا كَانَ / وَمِنْ لَيْلَةِ عُمْرِي / وَضُحَى أَسْفَارِي/ وَمِنْ مَدِينَةِ السَّرَابِ / وَمَا تَبَقَّى مِنْ قُرَى هَذَا النَّهَارِ.

كان هذا النَّصُّ الذي تتبدَّى فيه أتعابُ شابٍّ مرهونٍ بواقعٍ أليمٍ جرَّاء أحداث التِّسعينيات بالجزائر أوَّل إطلالةٍ منِّي على العالم، منحني، حينَها، الإحساسَ بأنَّني كاتبٌ عظيمٌ، ووارثُ الدُّنيا، وشاغلُ النَّاسَ، وقاطعٌ قولَ كلِّ خطيب. وإذا كان هذا الإحساسُ، بذلك العمرِ، ليس سوى وهمَ شبابٍ عابرٍ، فإنَّه بذلك العهد، كان يكفي، لأحيطَ العالم وأقطعَهُ بنَفَسِ مبتهِجٍ واحد.

في ذاك العدد، نشرتُ إلى جانب عبدالرَّحمن منيف، محمود درويش، علي حرب، ألبير قصيري، عبداللَّطيف اللعبي، إبراهيم نصر الله، هاشم صالح، علي المقري، عبداللَّه الحرَّاصي، عبدالله خليفة، وحيد الطَّويلة، خليل الشّيخ، نوري الجرَّاح، خليل النَّعيمي، سلوى النَّعيمي، عبدالله البلوشي، فاطمة الشِّيدي، طالب المعمري، وكثيرين ممَّن توشَّحت بهم ثقافة ذلك الجيل العربيَّة.

كشفت عمانُ، شيئًا فشيئًا، عن وجهها لي، وبدأت تقتربُ كسفينةٍ خالدةٍ إلى روحي، نصوصُها، أسفارُها، كتَّابُها، شعراؤها، عمرانُها وصحراؤها، قبائلُ من الثَّقافات تجيشُ بركبانها على زاويةٍ في المطلقِ البهيج.

أمَّا هذا الشَّاعرُ، فقد تمثَّل لي، وهو يساريُّ المحرِّرين، كمونديلَّا الشُّعراء، مناضلُ الكلمةِ المبدعةِ في رواقِ قوافيها وخوذِ رويِّها. كانت لِيَدِه بغُمدِهَا الطَّويل في النَّفسِ ندَا سماءٍ مسجَّاةٍ فوقَ الأمطار، وممدودةٍ على سريرٍ موثورٍ بجميل الأقدار، وكنت أسائلُ نفسي، أَيُقدَّرُ عليَّ أن يأخذ بيدي سيفُ الرَّحبي، لينشرَ لي، أنا ذلك المنفيُّ في أقاصي التَّاريخ بهذا المكان؟؟ وزادني، بعد هذه الثَّلاثينيَّة الماراطونيَّة، أن رأيتُ اليومَ بمسقط، لأوَّل مرةٍ، في ذلك الاحتفاء، أقراني، ممَّن وُلِدُوا مثلي في هذا الجيلِ النَّزويِّ، فأدركتُ أنَّني لم أكن وحدي، وإنَّما جيلٌ كاملٌ ممَّن وجدوا فيه، الشَّيخَ الباسطَ زَرَابِيهِ للمريدين.

وإذا كان لي، من ذلك، عهدُ الرِّباطِ، أن أنشرَ بنزوى، طالبَ ليسانس وماجستير بتلمسان، ثمَّ طالبَ دبلوم دراساتٍ معمَّقةٍ ودكتوراة ببوردو، ثمَّ أستاذًا باحثًا بباريس ومحاضرًا فيها، فإنَّ أقلَّ ما يُقال، عن هذا الرِّباطِ، أنَّه لم يكن مقدَّسًا فحسب، بل كان أيضًا اتِّحادًا روحيًّا جمع السَّاري بأوَّل نجمةٍ قادتْهُ إلى بيتهِ في المُطْلَقَين: مطلَقِ المكان ومُطلَقِ الزَّمان.

بعد فراغي من قراءةِ الرِّسالة التي أرسلتني إيَّاها الرِّوائيَّة هدى حمد، نظرتُ حيث التَّوقيع، مزرعة بضرابين وتاريخ 19 ديسمبر 1998، فإذا به المكانُ مكانُ مولدي والزَّمان نفسُه زمانُ ذلك. فلمَ يا تُرى، أكتبُ رسالةً عيدَ ميلادي الثَّالث والعشرين ببضرابين، أهُوَ احتفاءٌ بتجدُّدِ عهد أم هو بكاءٌ على ما مضى، أم هي رسالةٌ أرسلُها لنفسي بعد مرور خمسٍ وعشرين سنة من الآن؟

ها إنَّني أدخل الفندقَ الآن منهكًا، بعدما شاركت الأصدقاء النَّدوة الأولى معقِّبًا، لثلاثينيَّة نزوى، مبتهجًا باللِّقاء وحزينًا بعد مضيِّ هذا العمر، أتقاطع مع نفسي على سرير غرفتي، وأعود إلى الوراء، وأتساءلُ مجدَّدًا، ما الذي كنتُ أريد أن أقوله آنذاك وأنا ببضرابين، لنفسي الآن وأنا بمسقط. هل هي أرواحٌ سابقة، وأجسادٌ لاحقة، وبينهما يقف الدَّهرُ ساعةً من الزَّمان؟

اِقترحت علينا وزارة الإعلام في جولةٍ سياحيَّةٍ للخروجِ إلى مدينة نزوى، التي تبعد عن مسقط بمسافةِ ساعتين تقريبا، وبالتَّأكيد، لا أحد يعجز عن ردِّ هذا الاقتراح، فلا تُعدُّ نزوى فقط، حاملة للمعاني، وطويَّةً للذَّوات العارفة، وإنَّما أيضًا تلك التي حملت أحلامَنا في اِسمها، وكتاباتِنا في حروفها، وعُقُولَنا في تاريخِها. كان في سماء بيضةِ الإسلام الزَّرقاء الفاتنة، في شيءٍ من العُشب الذي يفوحُ عطرُه تحت أثر الشَّمس اللَّافحة، في قلعتها المهيبة، في أدراجها الضَّيِّقة، وأبوابها المتحصِّنة بالمَنَعَة والتَّمنُّع، ما ذكَّرني، على حينِ ذلك، بالقيروان، رابعةِ الثَّلاث، وأمِّ قرى الأطلس ببلاد المغرب الكبير. ورحتُ أستذكر في خاطري، بنَ عبداللَّه الصَّنعاني، دفينَ القيروان، هذا المهندسُ المعماريُّ العربيُّ الذي اختطَّ جامع قرطبة وجامع سرقسطة الكبير، قد كان له بالقيروان أن جعلَها مسكنًا يذكِّره كلَّ صباحٍ بالبيضة الأولى من هذه البلاد الواسعة الأرجاء.

وكأنِّ نفسي بين ذاك الزَّمان من عهد شبابِها وهذا، ما هو بين القيروان من عهد الأوائلِ ونزوى. تقاطعٌ بين مدينتينِ على بعد المسافةِ بينهما، يهوِّن عليَّ تقاطعَ نفسي على بعد الزَّمان وأمدِه. فعجبًا من مُدنِ، تتقمَّصُ ذواتَنا، وتتمثَّل بخيالاتِنا، وتتوسَّم من أنفُسِنا ما بها من همَّةِ التَّاريخ وبيان العزيمة وعظمة الماضي وتكليف الإرثِ أصحابَهُ بعدالةٍ تقامُ، والعلمِ أولياءَهُ بقسطٍ مُستَوفى، ثمَّ تصبحُ لنا صورةَ العهد الذي نمضي فيهِ بمجلَّةٍ كتَّابًا وشعراء ومفكِّرين.

- في تعقيبي عن النَّدوة التي جمعت كلًّا من أحمد البرقاوي، وأحمد المديني، وفاطمة الشِّيدي وعبدالرَّحمن المسكري ومنى حبراس:

إنَّ تقييم مجلة نزوى لا سيما بعد مرور ثلاثين عامًا في وقتٍ وجيزٍ لهو أمرٌ صعبٌ جدًّا، نظرًا للزَّخم المعرفي الكبير الذي عرفته هذه المجلَّة وتميَّزت به. ولكن انطلاقًا من مختلف المداخلات، عملت على صياغة تعقيبٍ أحاول أن أبسطهُ أمام ذلك الإطار النَّظري الذي أسَّست له نزوى كمرجعيَّة قبل انطلاقها.

إنَّ القراءة التي قدَّمتُها ملخِّصًا بها تدخُّل زملائي تشير تاريخيًّا وإحصائيًّا إلى أنَّ النَّثر العماني مثَّل صُلب اهتمام مجلَّة نزوى منذ بداياتها الأولى، ممَّا جعلها تُحقِّقُ جزءًا متينًا من حداثة أدبيَّة انتقلت بشكلٍ مقصودٍ وفي نظرةٍ أوسع إلى تحديد المنطلق النَّظري. فالنُّصوص السَّرديَّة العمانيَّة ونقدها هي مرايا متقابلة رُفعت بين طيَّات المجلَّة انطلاقًا من مختلف مقاربات التُّراث السَّردي في صيغة تحديثيَّة مستخدمةً المصطلحات السَّرديَّة الجديدة، وهو ما سمَّاه بتحديث الأصيل وتأصيل الحديث.

وفي قراءةٍ تقف على الضِّفة الأخرى من النَّثر، تمَّت الإشارةُ إلى اهتمام عميقٍ بالتُّراث الشِّعري لدى مجلَّة نزوى، وجعل ذلك على منوال الدِّراسات المنهجيَّة مجالًا خاضعًا للقراءة الحديثة لا سيما فيما له علاقة بمختلف المقاربات التي نجد من بينها المقاربة المقارنة، والمقاربة البينيَّة التي تعتمدُ على فرضيَّة الطَّبيعيات والشِّعر. وعلى الوجه نفسه، وفي قراءة بنيويَّة، فإنَّ نزوى كسَّرت طوق العزلة العميقة عن رقبة المخيال الشِّعري ببناءاته الجديدة كقصيدة النَّثر مثلًا، وفتحت الأبواب لهذا النَّوع من الإبداع الشِّعري.

ولا يدلُّ هذا عن قطيعة مع الشِّعر الكلاسيكي، وإنَّما هو انتقالٌ بالإبداع إلى مرحلة مختلفة حيث سمحت نزوى بكتابة الذَّات المتشكِّلة في مرحلتها الجديدة، وفتحت حقًّا نافذة كبيرةً ليكون بإمكان المثقَّف العربي أن يقول «أنا» بعيدًا عن الآخر وتأثيراته وسلطته العنيفة. ولا يعني ذلك بالأساس أنَّ المجلَّة قامت بإلغاء الآخر، بل جعلت من التَّرجمة مجالا للاعتراف به على نحوٍ واعٍ.

وليس الاعتراف هو القيمة الوحيدة التي حقَّقت نزوى انتقالَها له، وإنَّما انتقلت نزوى أيضًا من المعرفة إلى التَّعريف والتَّعارف والمعروف والعرفان والتَّعرف.

ويتجلَّى هذا الانتقال كموضوع مشترك بين المداخلات في أنَّ المجلَّة قد صاغت إطارها النَّظري نهاية سنوات التِّسعينيات، أي وهي على مشارف نهاية قرنٍ وألفيَّةٍ، وبداية قرنٍ آخر وألفيَّةٍ أخرى. فتكون عن وعيٍ أو لاوعيٍ على رغبة جامحة في الانتقال بالثقافة العمانيَّة زمنيًّا، وثقافيًّا وفكريًّا، وجغرافيًّا من خلال تنقُّلها عبر مختلف أقطار الأرض.

ولا تكمن قيمة الانتقال كمشروعٍ لنزوى في هذا فحسب، وإنَّما في انفتاحها على المجتمع العماني والعربي أيضًا، بما يسع فضاء الإنسانيَّة الأرحب. وهي بذلك، تسهم في تقديم المعرفة للمجتمع لغرض التَّقدُّم به على نحوٍ أرقى وأعمق.

وإذا كان لصيغة الانتقال الميزة التي اجتمع عليها المتدخِّلون، فإنَّ استنتاجي للنَّدوة الأولى يجعلني أربط شخصيَّة المجلَّة روحيًّا بشخصيَّة رئيس تحريرها الأستاذ سيف الرَّحبي، فلقد اصطبغت المجلَّة في تعدّدها وانفتاحها بالتَّعدُّدية نفسها التي يتميَّز بها سيف الرَّحبي. فلقد اجتمعت فيه سيرةُ المتنقِّل عبر الأمصار والأقطار ثمَّ انتقلت به إلى فضاء التَّعقُّل الذي أفضى إلى إنجازٍ مجلَّة بحجمٍ عَالَمٍ كامل، بما يفي ذلك ممَّا قالته العرب: العلم علمُ أقدامٍ وليس علم أقلام.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: ة الأولى سیف الر ات الم ة نزوى ة التی

إقرأ أيضاً:

ما الذي يكشفه طعن نجيب محفوظ عن السلطة في مصر ؟

قبل ثلاثين سنة، وتحديدًا في الرابع عشر من أكتوبر سنة 1994، تعرض الروائي المصري الشهير الحائز على جائزة نوبل في الأدب نجيب محفوظ للطعن في العنق وهو جالس في سيارة صديق على الضفة الغربية لنهر النيل في طريقه إلى لقائه الأسبوعي بمقهى في وسط القاهرة، ونجا محفوظ -البالغ آنذاك من العمر اثنين وثمانين عامًا- بأعجوبة من محاولة الاغتيال لكنه بات شبه عاجز عن الكتابة لما تبقى من حياته، وكان مرتكب الهجوم عضوًا في حركة إسلامية متشددة تعرف بـ«الجماعة الإسلامية»، وكانت متورطة آنذاك في أعمال عنف بشتى أرجاء مصر بهدف زعزعة النظام السياسي في مصر، وباستهداف الكاتب المرموق، كان مرتكب الهجوم يتحرك بتحريض من عالم متطرف يدعى عمر عبدالرحمن ويعرف أيضًا بـ«الشيخ الأعمى»، وكان آنذاك هو الزعيم الروحي للجماعة.

وقبل سنوات قليلة من ذلك، كان المرشد الأعلى لإيران آية الله روح الله الخميني قد أصدر فتواه الشهيرة الداعية إلى اغتيال الروائي البريطاني سلمان رشدي، وانتهز عبدالرحمن فرصة تجدد جدل ديني قديم حول أشهر روايات محفوظ وهي «أولاد حارتنا»، فقال الشيخ الأعمى تعليقًا على فتوى الخميني: إن محفوظ أيضًا مرتد مثل رشدي، مضيفًا إنه لو كان محفوظ قد قُتل قبل ثلاثين سنة لما اجترأ رشدي على كتابة روايته «الآيات الشيطانية»، وفي حين أن كلمات عبدالرحمن ليست بفتوى في شكلها، فقد فسرها أتباعه بأنها أمر بوجوب قتل محفوظ.

وصدرت «أولاد حارتنا» للمرة الأولى مسلسلة في صحيفة الأهرام المصرية المؤثرة سنة 1959، قبل عقود من محاولة اغتيال محفوظ، ومنذ ظهورها الأول وهي محط نزاعات دينية بسبب محتواها التجديفي المزعوم، ولم تنشر الرواية كتابًا في مصر إلا بعد وفاة محفوظ سنة 2006.

وإذ نعيد النظر في تاريخ الكتاب المضطرب بعد ثلاثين سنة من استهداف حياة محفوظ، يبدو أن الجدل الديني في وقت صدور «أولاد حارتنا» الأول كان في واقع الأمر ستارًا ملائمًا للنظام العسكري للرئيس المصري آنذاك جمال عبدالناصر، فمن خلال إتاحة المجال لاحتدام الجدل ولقيام المؤسسة الدينية بإعاقة نشر الرواية، استطاع نظام عبدالناصر أن يجتنب تناول الحجة الأساسية الكامنة في صلب الرواية، وهي الانتقاد السافر للمنحى القمعي الذي نحاه الحكم العسكري منذ انقلاب 1952، دونما مهاجمة صريحة للكاتب الذي كان قد حاز بالفعل على قدر معتبر من الشهرة وكان محبوبًا للغاية حتى من عبدالناصر نفسه.

ويقوم بناء الرواية على سلسلة نوفيلات [روايات قصيرة] تلمح إلى الأديان الإبراهيمية الثلاث، أي اليهودية والمسيحية والإسلام، وتدور أحداثها جميعًا حول وقف الجبلاوي، ذلك الأب النائي المعزول ذي الهالة الإلهية الذي يتجاوز عمره حدود الطبيعة، وفي حدث يذكرنا بطرد آدم وحواء من جنة عدن، يطرد الجبلاوي ذريته من أملاكه، ويحكم على أبنائه بحياة الشقاء في ظل قسوة حكامهم الطغاة والفتوات.

وتهون على الحارة محنتها بين الحين والآخر بظهور شخصيات عبر الأجيال تضاهي رمزيًا [الأنبياء] موسى وعيسى ومحمد، الذين يصورهم قلم محفوظ الشعري في سمات شديدة البشرية، فالأنبياء جميعًا لهم ارتباط وثيق بالجبلاوي، ومباركة الجبلاوي نفسه لهم تتيح لهم هداية أبناء الحارة واستعادة العدالة مؤقتًا في إدارة الوقف، غير أن تعاليم الأنبياء -بمرور الوقت- تتحول إلى عقائد جامدة قمعية يسيء استغلالها حكام وفتوات جدد، فيحكمون على مواطني الحارة مرة أخرى بحياة المذلة والحرمان، وفي القسم الأخير من الرواية، يحل العلم محل الشرائع الدينية الثلاث باعتباره عقيدة العصر الحديث الراسخة، ويرتكب مجسِّد العقلانية الحديثة دنس قتل الجبلاوي لكنه، شأن جميع أسلافه من قبله، يكون منذورًا للفشل في مسعاه إلى تحرير الحارة من الشقاء.

وفي الرواية العديد من الثيمات والعناصر التي كان من شأنها أن تثير غضب المؤسسة الدينية المصرية في أواخر الخمسينيات من القرن العشرين، منها «قتل الإله» والإيحاء بأن الإسلام محض دين من أديان كثيرة تفشل في النهاية في تحرير الإنسانية من شقائها، ومشهد للشخصية المجسدة أدبيًا للنبي محمد وتسمى بقاسم في الرواية إذ يدخن الحشيش على الجوزة، ومثلما روى محمد شعير بالتفصيل في كتابه «الرواية المحرمة» (2022)، فقد استفزت الرواية فعلًا غضب شخصيات دينية كثيرة في تلك الحقبة، ومن هذه الشخصيات من كان منتميًا لجامعة الأزهر في القاهرة، وهي من أبرز مؤسسات التعليم الإسلامي في العالم.

غير أن شعير يذكر حوارين ذهب فيهما محفوظ إلى أن الجلبة المحيطة بـ«أولاد حارتنا» بدأت بالفعل على يد كتَّاب آخرين، وفي حكيه للواقعة، يبدو أن شعير يشير إلى احتمال أن يكون الشاعر صالح جودت -لأغراض شخصية أو سياسية- قد كتب رسالة باسم مستعار اتهم فيها الرواية بالتجديف، فلفت إليها أنظار علماء الأزهر، وفي حين أننا لم نعرف مطلقًا من الذي كان أول من أثار زعم تجديف نجيب محفوظ، فإن نقادًا كثيرين في تاريخ «أولاد حارتنا» المعقد يتفقون على أن الجدل الديني قد طغى على جوهر الرواية السياسي الذي لا يزال بعد خمسة وستين عامًا يمثل اتهامًا قويًا لجميع أنظمة الحكم القمعية.

وكتب محفوظ الرواية بعد فترة انقطاع طويلة، وكانت أعماله قبلها -في مرحلته الواقعية- قد بلغت ذروتها بـ«الثلاثية» التي حظيت بثناء واسع، وبعد تحقيقه الشهرة الأدبية، فقد محفوظ بوصلته بعد انقلاب 1952 الذي أطاح بالملكية المصرية، لكنه أطاح بالليبرالية أيضًا وبحمية العشرينيات والثلاثينيات الفكرية، وقد تجسد فقدان البوصلة ذلك في توقف دام خمس سنوات بين «الثلاثية» و«أولاد حارتنا»، بل لقد فكر خلالها محفوظ في التوقف عن الكتابة، ثم عاد إلى فنه بأسلوب مختلف تمامًا، فكتب أكثر أعماله سياسية.

لم يغب محتوى الرواية السياسية عن فطنة رئيس تحرير الأهرام محمد حسنين هيكل، وكان هيكل -المقرب من عبد الناصر- قد قال لشعير: «إنه أدرك رسالة الرواية وأهميتها الهائلة»، وبعد مشاورة عبدالناصر، مضى هيكل ونشر العمل مسلسلًا، برغم تصاعد الجدل في الدوائر الدينية.

وفقا لقراءتي، وقراءة كثير من النقاد المذكورين في كتاب شعير، تشكل «أولاد حارتنا» شهادة سياسية على إيمان محفوظ بالمساواة وتحرر الإنسان أكثر مما تشكل تمثيلًا أدبيًا لموضوعات دينية، فوفقا لسرد محفوظ الفاتن والمبدد للأوهام، ليس بوسع العقائد الدينية أو التطورات التكنولوجية في نهاية المطاف أن ترفع الشقاء عن الحارة -وهي تمثيل لمصر إن لم تكن تمثيلًا للإنسانية-، ويبقى قصر الجبلاوي الفخم المنيع الذي تعيش خارجه حشود المحرومين والبائسين سالمًا ومهيمنًا، في حين يبدو أن عِبَر الأجيال الماضية وتعاليم الأنبياء السابقين قد طواها النسيان، فـ«آفة حارتنا النسيان» مثلما يتكرر في كل قسم جديد من الرواية.

وتقوم شهرة الرواية بالدرجة الأساسية، في مصر وخارجها، على اتهامات التجديف والجدل الديني الذي أثارته، وكثيرًا ما يرتبط محفوظ برشدي بوصفهما مثالين للكاتب العلماني المستهدف من المتطرفين الدينيين، غير أن هذا قد لا يعدو الجانب الإثاري الأكبر في الموضوع، ففي الواقع، يجسد مأزق «أولاد حارتنا» كيف استطاع نظام حكم استبدادي علماني أن يستغل جدلًا دينيًا لكبت صوت كاتب مؤثر كان يعبر عن سخطه على الوضع السياسي في مصر في ظل حكم عبدالناصر.

ولقد تبنى محفوظ نفسه هذا التفسير صراحة، ففي عام 2001 نقلت عنه مجلة أدبية مصرية قوله: إن «أولاد حارتنا» في المقام الأول رواية سياسية، والذين كنت أفكر فيهم وأنا أكتبها فهموا معناها، فعرفوا من أعني بالفتوات، لذلك أعتقد أنهم ربما كانوا وراء المنعطف الديني الذي مضت إليه الأمور، وكان محفوظ شديد الوعي بأن الجدل الديني أدى إلى سوء فهم عام حيال رسالة الرواية الأعمق؛ لأنه أكَّد في مناسبات عدة أنه في أثناء كتابة الرواية قد تأثر بأسئلة عن السلطة السياسية وكيفية تحديها، وفي حديث إلى جريدة كويتية سنة 1975، أعرب عن أسفه «لعدم فهم رسالته»، موضحًا أن الدافع الحقيقي لتأليف الرواية جاء من «وقوع هوة بينه وبين المجتمع» بعد أن شاهد مصر متألمة في أعقاب 1952 إذ اعترتها «تناقضات وأخطاء مفزعة... وبخاصة ما تعلق بالتعذيب والاعتقال»، وبعد أن رأى «بعض الناس ينتفعون من الثورة انتفاعًا هائلًا إلى أن أصبحوا أغنى من الإقطاعيين» الذين صودرت أراضيهم على يد عبدالناصر.

وعلى مدار الرواية، كان محفوظ يسائل الحكام العسكريين الجدد: «في صف من أنتم؟ الفتوات أم الأنبياء؟»، وكان هذا السؤال الصريح شديد الإشكالية في مصر في أواخر الخمسينيات، في ظل إحساس عظيم بالإثارة تجاه النظام العسكري، وبخاصة بعد نجاح تأميم قناة السويس سنة 1956، ووسط كل تلك الضجة، كتب محفوظ رواية مليئة بالإشارات المستفزة، والواضحة أيضًا، إلى الوضع السياسي آنذاك، بما كان يعني أن الحارة في نهاية المطاف «لا تزال هي الحارة نفسها، والفتوات هم الفتوات أنفسهم».

وتمثل «أولاد حارتنا» أيضًا أول وأهم لحظة في سلسلة من الحلقات التي وضعت محفوظ في مرمى النظام بسبب موقفه الانتقادي، إذ استهلت الرواية فترة تجريب أدبي دامت طوال عقد الستينيات وأوائل السبعينيات، وتظهر في روايات من قبيل «السمان والخريف» و«اللص والكلاب» و«ثرثرة فوق النيل» التي يتضافر فيها الإحباط والسخط من النظام السياسي الاستبدادي مع مختلف ثيمات فقدان الاتجاه والاستياء والسخرية العدمية، وحدث في تلك الفترة أن تعرضت روايات محفوظ لحذف مقاطع منها على أيدي رقباء الحكومة، وحدث أن كان هو نفسه على شفا التعرض للاعتقال فلم ينقذه منه إلا تدخل عبدالناصر الشخصي.

ظلت تداعيات الجدل الديني حول «أولاد حارتنا»، بجانب التوترات مع المؤسستين السياسية والثقافية في تلك الحقبة، مستولية على محفوظ حتى بعد حصوله على جائزة نوبل في الأدب سنة 1988، فقد تجددت اتهامات الردة في الدوائر الدينية المتطرفة بعد إعلان الجائزة، وتعرض محفوظ لاستهداف من بعض البلاد العربية بسبب تأييده لمعاهدة السلام بين مصر وإسرائيل سنة 1979 ومحاباته فكرة حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بموجب حل الدولتين، وفي كتاب «قصة الرواية المحرمة»، يذكر محمد شعير واقعة مثيرة مزعومة عن عرض أحد موظفي منظمة التحرير الفلسطينية على محفوظ قرابة نصف مليون دولار -أي قرابة ثلاثة أمثال قيمة جائزة نوبل- ليرفض الجائزة المرموقة بسبب تعاطف لجنتها المفترض مع إسرائيل.

وبرغم نشأته أصلًا في عائلة متدينة، كانت أخلاقيات محفوظ السياسية نتاجًا لتربيته السياسية في حقبة ليبرالية بعض الشيء -أي حقبة القومية المصرية والنضال من أجل الاستقلال عن الاحتلال البريطاني- وتنشئته على يد المثقف العلماني التقدمي سلامة موسى، ونجيب محفوظ، على احترامه للسلطات الدينية في مصر، كانت لديه قناعات راسخة بأن الدولة الحديثة لا يجب أن توالي دينا أو عقيدة، وكان مقدرًا لهذه الرؤية العلمانية للمجتمع والسياسة أن تدفع بمحفوظ إلى الصدام مع أغلب الأطراف المتشددة في المؤسسة الدينية، وقد حدث هذا على الرغم من حقيقة تبدو بأثر رجعي منطوية على مفارقة، وهي أن من أوائل من التفتوا إلى مواهب محفوظ الأدبية سيد قطب وليس غيره، وهو منظِّر الإخوان المسلمين المرموق ومؤلف كتاب في الجهاد، وكان لفترة من الزمن صديقًا مقربًا من الكاتب.

توشك محاولة اغتيال محفوظ سنة 1994 أن تكون واقعة منسية استعادتها الذاكرة أخيرًا إثر محاولة اغتيال رشدي في 2022، وهذه الواقعة توجز الدور الإشكالي للإسلام الراديكالي في مصر المعاصرة وعلاقته المعقدة بالحكم العسكري في البلد الذي لجأ على مدى عقود إلى قمع الإسلاموية في بعض الأوقات وإلى تشجيعها في البعض الآخر، غير أن الأهم، من منظور معاصر، هو أن هذه الواقعة تلقي الضوء أيضًا على إيمان محفوظ بالديمقراطية والمساواة المنبوذتين اليوم تمامًا في مصر، وكما في عالم «أولاد حارتنا» الأدبي، يبدو أن مصر الحقيقية اليوم قد نسيت دروس الماضي وتعاليمه، وأحدثها دروس وتعاليم ثورة 2011 التي أطاحت بنظام حسني مبارك البالي، ويبدو قصر الجبلاوي بكل هيلمانه الطاغي أقرب إلى مخطط لمعمار المجتمع المزدهر في مصر، متجسدًا في العاصمة الإدارية الجديدة، الشاسعة والمعزولة، وفي العديد من المجمعات السكنية الراقية التي تغير وجه القاهرة.

وبرغم مضي خمسة وستين عامًا، لا تزال الرواية إذن عدسة استثنائية الوضوح يرى المرء من خلالها ويفهم قضايا مصر البنيوية السياسية والاجتماعية، وكذلك مأزقها الراهن، فلقد أقام الحكم شرعيته على استئصال الأصولية الدينية، وإذا به يقيم على أطلالها نظام قمع زاد من تفاقم الأوضاع الخطيرة التي كان أغلب المصريين يعانون منها في ظل أنظمة الحكم الغابرة.

لقد كتب محفوظ «أولاد حارتنا» في لحظة استنارة من منحنى مساره ككاتب ومثقف عام، لكنه ينهي الرواية برؤية مشرقة مشجعة: «ولنرينَّ في حارتنا مصرع الطغيان ومشرق النور والعجائب»، وقبل أكثر قليلًا من عقد، أدى التجاهل والإعراض عن محنة جموع المحرومين في مصر إلى أن ثارت «الحارة» وأطاحت بنظام، ولم يكن ذلك بأقل من معجزة، وفي الوقت الذي انمحى فيه ذلك الاضطراب التاريخي تقريبًا من الذاكرة الجمعية النسَّاءة، فإن أسبابه الكامنة لا تزال حاضرة إلى حد كبير، وكذلك لا تزال حاضرة وكامنة بذور انتفاضة مستقبلية، ومثلما استغرق نشر «أولاد حارتنا» في مصر خمسين سنة، فقد تلزم فترة أطول من الزمن لظهور رسالتها أخيرًا، كاملة، بوصفها قوة تحرير ووضوح.

جابرييل كوسنتينو أستاذ مساعد في قسم الصحافة والإعلام بالجامعة الأمريكية في القاهرة

ذي نيو لاينز

مقالات مشابهة

  • 14.5 مليون ريال لمشاريع خدمية وتنموية بالداخلية
  • ما الذي يكشفه طعن نجيب محفوظ عن السلطة في مصر ؟
  • المكان بصفته فضاء روائيا
  • جامعة نزوى تسلط الضوء على "تقنيات أشباه الموصلات" بمشاركة خبراء من تايوان
  • «السيارات الكلاسيكية» احتفاء بالموروث
  • الكشف عن المكان.. أين سيُدفن نصرالله؟
  • من هو كمال عدوان الذي سُمي مستشفى غزة باسمه؟
  • فعاليات نسائية بمحافظة حجة احتفاءً بذكرى ميلاد فاطمة الزهراء
  • من القبو إلى القبر.. تأثيرات المكان في «لعنة الأمكنة» للخطاب المزروعي
  • المسماري: درنة المكان الأنسب لاستكمال جلسات حوار قانون المصالحة