سعود السنعوسي: ليكنْ بحرا، فكان بحرا
تاريخ النشر: 27th, March 2024 GMT
حين يحار المرء في تصنيف رواية، سندرك أننا أمام عمل يستحق قراءات عدة، لا من أجل تكريس تصنيف بعينه بقدر ما هو محاولة لتبيُّن حدود الجنس الكتابيّ الذي نسميه الرواية، أو لو شئنا الدقة، «لا حدود» هذا الجنس الذي فرض نفسه عالميًا منذ قرون، وعربيًا منذ عقود، بوصفه الجنس الأقدر على التقاط التفاصيل، وإيجاد الحيوات، وإعادة كتابة التاريخ.
لهذه المقدمة ضرورة كبرى لفهم سياقات وأهمية الثلاثية الروائية «أسفار مدينة الطين»، أحدث روايات الروائي الكويتي سعود السنعوسي، إذ صدر جزآن منها عن منشورات مولاف، وسيصدر الجزء الثالث (الأخير؟) بعد عدة أشهر. للمقدمة أهمية لإدراك موقع هذه الرواية ضمن أعمال السنعوسي نفسه، وضمن خارطة الرواية العربية عمومًا. ما من شك أن هذه الرواية أفضل أعمال السنعوسي، بل لعلها ستكون بداية ثانية بمعنى ما، تكرّس لكل ما سيأتي بعدها من أعمال. كل ما قبلها تمهيد لها (تمهيدات متفاوتة، بل متعثرة أحيانًا)، وكل ما بعدها سيكون منطلقًا من عالمها المتفرد. ليس للمرء التنبّؤ بمستقبل الأدب العربي حتمًا، سيما وأن الخيبات أكثر من أن تُعدّ، إلا أن هذه الرواية حفرت لها مكانًا مستحقًا. ثمة إغراء لمقارنتها بروايات مماثلة لغيره من الروائيين (أكان تماثلًا في الحجم أو في الأفق السردي واللغوي)، بيد أن لهذه المقارنة مقام آخر، ويعنينا هنا أنها بشير بما هو قادم لدى السنعوسي وللرواية العربية في آن، بخاصة في مسألة ضبابية التصنيف.
هذه الضبابية في ذاتها نقطة قوة، إذ على عكس الآراء السائدة في القراءة والنقد، ليس للأعمال التقليدية «الواقعية» (ما معنى الواقعية أصلًا؟) مكان عال في التصنيفات الأدبية. لا بد من عنصر «غريب»، لا بد من تصنيف «محيّر»، لا بد من عوالم متخيّلة حتى لو اكتفت القراءات الكسولة بما هو ظاهري. وتتكرّس جدلية القراءة في تبيان ما لا يكون كي ندرك ما يكون، بمعنى تبيان ما ليست عليه هذه الرواية؛ كي ندرك مفاتيحها الحقيقية، وندرك ما هي عليه حقًا.
أعمال السنعوسي مفعمة بالفِخاخ، وبالإيهامات التي يميل إليها الكاتب؛ كي يغوي قارئه بالغوص أكثر. وفي واقع الحال، تبدأ تلك الفخاخ هنا من هوية الكاتب نفسه، فالكاتب ليس الراوي بالضرورة، بل إن السنعوسي ورسومات مشاعل الفيصل موجودان في الغلاف فقط، بينما الرواية برسوماتها لكاتب آخر ولرسامة أخرى. بل ثمة غلاف ضمن غلاف، ورواية ضمن الرواية، وكاتب داخل الكاتب، وتصل حدة الإيهام أحيانًا إلى خروج الشخصيات من الصفحات إلى الحياة، إنْ كان لـ «الحياة» معنى أصلًا في هذه المتاهة؛ إذ ما الحقيقة وما الخيال؟ ما الواقع وما المتخيّل؟ وحتى الثلاثية الروائية ناقصة تنتظر جزءها الثالث الذي قد لا يصدر في الماضي (عام 1990 في زمن السرد)، وسيصدر في المستقبل (زمننا هذا). ولكن (لا بد من لكن هنا)، قد يختلف القراء في مدى تقبّلهم لهذه المتاهات وكثافتها، لا بمعنى الصعوبة، فالرواية – على عكس بعض الآراء والمراجعات – ليست صعبة، بل بمعنى الشطط في اللعب الذي قد تتّضح ضرورته في الجزء الثالث المنتظَر، أو هذا ما أتمناه، إذ لم أجد ضرورة سردية للمبالغة في خروج الشخصيات من الرواية إلى «الحياة». كان يمكن الاكتفاء بالرواية نفسها، أو بطبقة واحدة من طبقات الإيهام.
وكذلك، وبرغم وجود شخصيات تاريخية حقيقية، أكانت من الأسرة الحاكمة الكويتية ورجال القصر (الأمير سالم الصباح على الأخص)، وطبقة رجال الدين المتنورين (عبد العزيز الرشيد مثلًا)، أو الأجانب شبه المستشرقين شبه المقيمين شبه السياح (إلينور كالفرلي، الطبيبة والمبشّرة الأمريكية)، ليست ثلاثية «أسفار مدينة الطين» رواية تاريخية. ولعلنا لا نشطّ كثيرًا لو قلنا إن مصطلح «الرواية التاريخية» مصطلح ملتبس مساوئه أكثر من محاسنه؛ إذ لا معنى للمصطلح في واقع الحال، فالرواية عمل متخيّل بطبيعته بصرف النظر عن كمّ الشخصيات التاريخية الحقيقية، والأحداث التاريخية الفعلية؛ وفي الوقت ذاته، كل رواية هي رواية تاريخية من حيث الجوهر، إذ تسرد ماضيًا وتاريخًا لشخصياتها، بصرف النظر عن مدى واقعيتها. فما نراه في «أسفار مدينة الطين» هي كويت عام 1920، بمعاركها وحكّامها وأجانبها وسورها ومسلميها ومسيحييها ويهودها، وكويت عام 1990 قُبيل الغزو، بمعاركها الأخرى التي قد تبدو أصغر ظاهريًا، غير أن نتائجها اليوم فادحة، بخاصة في مسألة فرض الرقابة على الصحف، وتقلّص مساحة الحرية السياسية، وانكماش رحابة التنوّع. ولكنها، في الوقت ذاته، كويت متخيّلة، أو كويت موازية، لها بعض ملامح الكويت «الحقيقية» ولها ملامحها التي تخصها، وكأننا في غابة مرايا، أو كون مواز متخيّل، لا تبدو فيه فرضية أننا كلنا نعيش في كون مواز فرضية مستحيلة بالمطلق.
ما من ماض أو حاضر أو مستقبل في هذه الأسفار، بقدر ما هو زمن أوحد يشبه عجينة كونيّة تتمازج فيها الأزمنة، وكأننا ننظر إلى النجوم فنظنّها حاضرًا بينما هي في واقع الأمر ماضٍ تأخر في الوصول، ومستقبل ولد ومات في لحظة واحدة، بل لعلها ليست نجومًا حقًا. وليس من قبيل المصادفة أن زمن السرد الأول (1920) بدأ بالبحر، بالماء، مثل سفر تكوين لكويت لا تشبه الكويت، حيث لا نفط، ولا ثراء، ولا تزمّت، ولا رقابة على اختلاف معاني الرقابة. كلّ هذا سيأتي لاحقًا، وستتضاءل حصة البحر، وستتضاءل معها حصة الخيال، وحصة الكويت الموازية التي لا فضاء لها إلا السرد. وليس من قبيل المصادفة أيضًا أن زمن ما قبل النفط كان زمن الهوامش؛ جميع الشخصيات شخصيات ولدت في الهامش وتموت فيه، أكانت حكّامًا أم محكومين، رجالًا أم نساء، أهل بحر أم أهل صحراء، أساطير أم واقعًا، وإن كان الواقع – في حقيقة الأمر – أسطورة، والأسطورة واقعًا، حيث لا معنى لكل هذه الأزمنة والشخصيات والأمكنة إلا بالسرد الذي يبدأ منه كل شيء، وإليه ينتهي كل شيء.
السرد نقطة قوة «أسفار مدينة الطين» ونقطة ضعفها في آن. لم يكن لمثل هذه الرواية التي تمتد على مساحة سبعين عامًا أن تُكتَب إلا بطريقتين: طريقة تقليدية جافة كانت ستصيب الرواية في مقتل، وطريقة أمثل يتكسّر فيها السرد ويتنوّع بتنوّع الأصوات. ما من شك أن اللغة والسرد في «أسفار مدينة الطين» وصلا إلى مستوى عالٍ لا تماثله فيه أية رواية سابقة من روايات السنعوسي، بخاصة في الفصول التي تقترب من الشطح الصوفي (فصول سعدون على الأخص)، غير أن تعدّد طبقات الإيهام تسبَّب أحيانًا في تماثل بين صوت عبد العزيز الرشيد وصوت إلينور كالفرلي، وبين صوت صادق بو حدب وصوت سيف/غايب. كان تنويع الخط الطباعي لعبة ذكية، غير أن اختلاف الطباعة لم يتوافق دومًا مع اختلاف الصوت. صحيح أن الرواية نجت من فخ السرد الخطي الذي لم يكن ليُكتَب إلا ارتدادًا بين الزمنين السرديين، فكان الحل في أقواس سردية تنطلق من زمن وتوغل في دواخل الشخصيات، أو في دوائر تنطلق من زمن وتوغل في زمن آخر قبل أن تعود إلى صاحبها، إلا أن إصرار السنعوسي على الفصحى في الحوار كان خيارًا إشكاليًا أضعفَ مرونة السرد الذي لم تنقذه بضع كلمات محكية هنا أو هناك. ستبقى هذه المسألة إشكالية، غير أن الحل –في رأيي– هو تنويع مستويات المحكية لا مستويات الفصحى، إذ ليس على الكتّاب تخفيف العبء على القراء، وليس عليهم التضحية بطبقات السرد من أجل انتشار أكبر. لا يجد قارئ «أسفار مدينة الطين» رشاقة في الحوارات، ولذا سيلجأ إلى الخيال، إلى ترجمة سطور الفصحى إلى سطور محكية، إلى الغوص في عالم آخر مواز لعالم الفصحى، كما تغوص الرواية وشخصياتها في البحر، وفي أمواج الخيال. ليس خيارًا مخيّبًا في نهاية المطاف.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: أسفار مدینة الطین هذه الروایة بخاصة فی لا بد من واقع ا غیر أن
إقرأ أيضاً:
ما الذي فعلته البطالة بثقافتنا العراقيَّة؟
آخر تحديث: 6 فبراير 2025 - 11:58 صصفاء ذياب تشير أغلب التقارير إلى انتشار البطالة بين الشباب، لاسيّما وأنَّ هناك أعداداً كبيرة منهم يعيشون على رواتب الرعاية الاجتماعية، التي تؤشّر إلى المشاكل الاقتصادية التي أحدثها توقّف أغلب المصانع والمعامل الحكومية، فضلاً عن ندرة الاستثمارات التي كانت ستستخدم هذه الأيدي الشابة، لاسيّما في ظل تزايد عدد الخرّيجين الذين لا يحصلون على التعيين الحكومي، بسبب الأعداد الهائلة من الخريجين كلّ عام في الجامعات الحكومية؛ بفرعيها الصباحي والمسائي، والجامعات الأهلية التي انتشرت بشكل كبير في المدن العراقية كلّها، فضلاً عن حاملي الشهادات العليا إن كانوا خريجي الجامعات العراقية، أو الإيرانية أو اللبنانية ودول أخرى غيرهما. العلاقة بين البطالة والفقر وثقافة الشباب معقدة وتتأثر بعدّة عوامل. إليك بعض النقاط الرئيسة مثل إنَّ البطالة تؤدي إلى فقدان الدخل، ممّا يزيد من خطر الفقر الذي يحدُّ من فرص التعليم والتدريب، وبحسب علم النفس، فإنَّ البطالة تؤدّي إلى زيادة الوقت الحر، الذي يدعو إلى انخراط في السلوكيات السلبية، وذلك يعود لأسباب كثيرة، منها: تدهور الثقة بالنفس والقيمة الذاتية، تقليل فرص الزواج والاستقرار الاجتماعي، تقليل المشاركة السياسية والاجتماعية. ومن ثمَّ، على الرغم من الوقت الذي يملكه الشباب حينها، فهذا الوقت يشكّل عبئاً جديداً يبعدهم عن القراءة والبيئات الثقافية، وبحسب الباحث نعيم حسين كزار البديري فقد أدّت الأزمات (الحروب والحصار والاحتلال) في العراق إلى نتائج خطيرة ألقت بظلالها على المجتمع العراقي، ولعلَّ أخطر تلك الآثار بث التضخّم في كلِّ مناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسلوكية، وبسبب استمرار الأزمات مدّة طويلة كانت آثارها بنيوية على المجتمع العراقي، بمعنى أنَّها تمأسست وترسّخت في عمق الممارسة اليومية الاجتماعية، بحيث حازت آلياتها على الاعتراف الاجتماعي وتغلغلت في الحس الجمعي للناس. إذ إنَّ الاحتلال حرّك في المجتمع العراقي ما أسماه العالم (نيل سملزر) عوامل التهيئة البنائية أو المفضية إلى التوتّر البنيوي التي كسرت روتينية الفعل الاجتماعي وتواتره وانتظامه وحوّلته إلى سلوك جمعي أتسم بالعنف وأسفر عن كلف اجتماعية عالية. فصورة المشهد العراقي اليوم تمثّلت بأزمة هي نتاج لأسباب قد أخذت مأخذاً من بنية ونسيج وأواصر هذا المجتمع، إذ تمثلت أزمة العراق بتبعثر واغتراب قيمي واستلاب ثقافي جاء كنتيجة واضحة لما مرَّ به هذا المجتمع من أزمات خانقة والتي قد جعلت منه إن لم نكن نبالغ بقايا مجتمع يحاول الوثوب والنهوض من جديد. مضيفاً أنَّه إزاء هذا الواقع الاجتماعي المأزوم لتضيف مشكلة البطالة بآثارها ونتائجها مزيداً من التوتّر الاجتماعي بين الشرائح الاجتماعية ومصدراً آخر يرفد مصادر الأزمات بين المجتمع والسلطة الحاكمة وحاضنة رخوة لتفريخ صفحات من العنف والتطرّف والإرهاب. وقد استفحلت هذه المشكلة منذ ثمانينات القرن الماضي إثر تزايد اعتماد العراق على قطّاع النفط، والتوسّع غير المخطّط لقطّاع الخدمات غير المنتجة كالزراعة والصناعة، وإهمال الاستثمار الإنتاجي في النشاطات المدنية وتزايد سيطرة النخبة الحاكمة على مؤسّسات الدولة وتسريح ما يقرب من مليون مجنّد عقب انتهاء الحرب العراقية الإيرانية، ليدخلوا سوق العمل من دون مهارات تؤهّلهم للحصول على عمل ذي دخل مجزٍ، وتفاقمت هذه المشكلة في ظلِّ الحصار الاقتصادي (1990-2003) وتدهور مجمل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وتراجع مستويات المعيشة وتزايد معدّلات البطالة والفقر بفعل الحصار. وإذا كانت البطالة مستشريه بين الشباب على الرغم من وجود الكثير من المعامل والمصانع حينها، فكيف هو الحال بعد العام 2003 ودخول العراق في حروب عدّة أوقفت الاستثمارات والصناعات الوطنية.فإذا كانت للبطالة والفقر تأثير على البنية الاجتماعية وتكوين الفوارق الطبقية… كيف يمكن وصف تأثيرهما على البنية الثقافية لجيل الشباب؟ بهرجة الانشغالات الصاخبة يشير الشاعر حسام السراي إلى أنَّه بالرغم من تطوّرات الحياة واندماج قطاعات غير قليلة من الشباب في ممارسات حضاريّة، من بينها مثلاً رغبتهم في التعبير العفوي عن أنفسهم؛ بجرأة، ومن دون تكلّف، وبلا عمق أيضاً في الخطاب والمتبنّيات، لم تعد الرغبة في التثقف والاستزادة المعرفيّة، بمعنى قراءة الكتب وتداول الأفكار لدى هؤلاء، مُغرية وخاضعة للاندفاع نفسه بنحوه المعهود الذي عرفناه قبل عقود؛ هناك صور ابنة لحظتها هو ما يشغل جموع من الشباب اليوم.يبدو أنّنا نعيش زمن وأد وإزاحة الأفكار، الأفكار والأيديولوجيات الكبيرة، وهذا له ظلاله على الواقع، في العراق وتونس ومصر، وفي بلدان لها تقاليد ثقافيّة صارمة وتنتمي للعالم الآخر. لننظر إلى حفل تايلور سويفت الأخير في تورنتو بكندا، وهي مغنّية صف أوّل ونجمة بوب عالميّة، ولننتبه لما يفعله إغواء الصورة والجمهرة التي لا تحتفل بالمغنية الرشيقة فقط؛ بل بوجودها في مشهدية هذه اللحظة الجماعيّة، ضمن سلسلة حفلات حول العالم بلغت ايرادات تذاكرها ملياري دولار خلال عامين تقريباً. هل يمكن لأحداث ثقافيّة رصينة أن تنافس وتجلب هذا التأثير والعوائد الماليّة من سلسلة حفلات توقيع كتب وعروض مسرحيّة وفعاليات نخبوية بالغت في ابتعادها عن عموم الناس؟هذا بالنسبة لمزاج وميول الشباب في مقطع راهن من الألفية الحالية التي يتقدّم فيها ما هو سريع التلقي على ما يحتاج لتأنٍ وصفاء ذهني. محليّاً، لدينا اليوم فوارق طبقيّة بدأت تتفاقم بين شبان لا يحصلون على ما يلبي احتياجاتهم وكثير منهم ضيّعه وضعه المعاشي وأبعده عن التحصيل الدراسي والمستوى التعليمي الجيّد، وبين أقران آخرين يتنعّمون بالترف. هل يمكن لشاب يَحار بقوته اليومي أن يفكّر بالذهاب إلى عرض مسرحي أو اقتناء كتاب؛ بل لندقّق في سلوك هذا النوع من الشباب كيف يتخشّن في الشارع ويكون أحياناً مفتقراً للتهذيب؛ والأسباب ثقافيّة توعوية بحتة، قبالة من يعيشون الرخاء ولا يعانون اقتصادياً، لكنّهم لا يأبهون لشيء اسمه كتاب جديد وعرض للأوكسترا السيمفونية؛ في حين لا مانع لديهم من قضاء ساعات طوال في مقهى مع أراكيل وتزجية عابرة للوقت.نعم البنية الثقافيّة للجيل الشاب تأثّرت بفعل بهرجة الانشغالات الصاخبة والتفكير بمتطلبّات الحياة التي لا تتيح في نهاية اليوم قراءة صفحات من كتاب؛ إنّما البحث عن متعة سريعة لا تتطلّب أيَّ جهد ذهني. وجهاً لوجهه ويبين الشاعر حمدان طاهر المالكي أنَّه من الواضح أنَّ الفقر هو المسبّب الأكبر لكل الأمراض الاجتماعية التي تنخر المجتمع وتمدُّ آثاره الكبيرة على مفاصل الحياة كلّها، وحين نتحدث عن أسباب الفقر لا شكَّ أنَّنا نتحدث عن البطالة التي دائماً تأتي بسبب قلّة فرص العمل وندرتها أمام متطلّبات الواقع الحياتي، أصبح الشباب العراقي مع تزايد السكّان المتسارع وجهاً لوجه مع وحش البطالة، ليست هناك تنمية ولا مشاريع اقتصاديه تستوعب هذه الموجة الكبيرة من العاطلين عن العمل. ويضيف المالكي: أستطيع القول إنَّ هذا الأمر ليس مستحدثاً، لقد بدأ منذ نهايات التسعينيات كمرحلة أولى ثمَّ بدأ بشكل واضح للعيان بعد العام 2003، لقد اتضح أنَّ الحكومات المتعاقبة كلّها على حكم العراق لم تستطع أن تشيّد بنية اقتصادية من معامل ومصانع تستوعب الأيدي العاملة ونتج عن هذا فرضية واقعية أنَّ فرصة العمل الوحيدة المتاحة هي مؤسّسات الدولة، وبدأنا نرى بطالة من نوع آخر هي البطالة المقنّعة التي لا تؤدّي عملاً مهمّتها الوحيدة تسلّم الراتب، لقد قادت عوامل الفقر والبطالة إلى انهيار كبير في مستوى جودة التعليم ومؤسّساته التربوية وانعكس هذا الأمر بشكل كبير على المستوى الثقافي وذلك للارتباط الوثيق بين التعليم والثقافة، نرى اليوم الكثير من خرّيجي الجامعات لا يعرفون شيئاً عن ثقافة وتراث وحضارة بلدهم، وهو مؤشّر خطير على تلك الانتكاسة الكبرى. الفقر يمحو الفنون ويرى الروائي أحمد دهر أنَّ البطالة والفقر يؤثّران بشكل عميق على البنية الثقافية لجيل الشباب، إذ يؤدّيان إلى تغيّرات جوهرية في القيم والممارسات الثقافية. عندما يعاني الشباب من انعدام الفرص الاقتصادية، فإنَّهم يواجهون تحديات في تحقيق تطلّعاتهم الشخصية والمهنيّة، ممَّا يؤثّر بشكل مباشر على رؤيتهم للحياة ومستوى انخراطهم في المجتمع. الفقر والبطالة غالباً ما يؤدّيان إلى انتشار الإحباط واليأس بين الشباب، ممَّا يجعلهم أكثر عرضة لاتباع ثقافات الهامش التي قد تتسم بالعنف أو السلوكيات السلبية. فضلاً عن ذلك، يضعف الفقر القدرة على الوصول إلى التعليم والثقافة، ممَّا يحدّ من تنمية المهارات الفكرية والإبداعية. وبالتالي، تصبح الفجوة الثقافية بين الفئات الاجتماعية المختلفة أكثر وضوحاً، ممَّا يزيد من الفوارق الطبقية. من جهة أخرى، يساهم الفقر في تراجع الاهتمام بالأنشطة الثقافية، مثل القراءة والفنون، بسبب الأولويات الاقتصادية الملحّة. كما أنَّه يعزّز انتشار ثقافات استهلاكية سطحية تركز على المظاهر بدلاً من القيم والمضمون.أي لا يمكن أن تطلب من شاب يخرج في ساعة الفجر ويعود آخر النهار يلقط رزقه وتأتي وتسأله عن ماهية الوجود أو هل الحقيقة نسبية أو مطلقة، فهو في هذه الحال سيرد عليك بالسباب هو يريد أن ينتشي بشيء مضحك ويا حبّذا يكون تافهاً جدّاً فيكفيه تعب الجسد ولا يريد أن يجهد عقله أيضاً. لمواجهة هذه التحديات، يجب على المجتمع والمسؤولين عن الملف الثقافي توفير برامج لدعم الشباب، مثل تعزيز التعليم المجاني، وخلق فرص عمل، وتشجيع الأنشطة الثقافية التي ترفع من وعيهم وتمنحهم أدوات للتعبير عن أنفسهم وتطوير قدراتهم. بذلك، يمكن الحد من التأثير السلبي للفقر والبطالة على البنية الثقافية. ثقافات فرعية وبحسب غسان البرهان، فالفقر يحدُّ من الوصول إلى تعليم جيّد، ممَّا يؤدّي إلى ضعف المهارات الثقافية والمعرفية، وبذلك يصبح الاهتمام بالفنون، القراءة، أو المشاركة الثقافية أقل أولوية.مضيفاً أنَّه مع انعدام فرص العمل وغياب استراتيجيات واضحة لدعم الشباب، تتحوّل أولوياتهم من الطموحات الثقافية والإبداعية إلى التركيز على القيم المرتبطة بالبقاء، مثل البحث عن موارد أساسية تضمن الحد الأدنى من المعيشة، وهذا التحوّل يضعف قدرتهم على الانخراط الفعّال في المشهد الثقافي. أمَّا بالنسبة للشباب في الوسط الثقافي العراقي، فإنَّ انحسار الفرص حدّد وجهتهم وجعلها- إلى حدٍّ كبير- محصورة بالعمل الصحافي والإعلامي، وكلاهما يخضعان لرأس مال سياسي له أجندته وأهدافه وخطابه، الأمر الذي يحوّل هذه المنصات إلى أدوات تكرّس التبعية، بدل تحفيز الشباب ودعم أفكارهم المبتكرة، فضلاً عن إخضاعهم لخطابها.هذا التحوّل في الأولويات يُضعف ارتباط الشباب بمفهوم الهوية الوطنية أو الثقافية ويجعلهم عرضة للاغتراب الاجتماعي والثقافي. كما أنَّ الثقافة المحلّية في ظلِّ غياب فرص العمل، تصبح أقل جاذبية، ويفقد الشباب القدرة على رؤية أنفسهم كمساهمين فعّالين في إنتاجها أو تطويرها، وهذا الاغتراب قد يفسّر انجذاب الشباب إلى ثقافات فرعية قد تتخذ جانباً متطرّفاً من أقصى اليمين أو اليسار. اختلال المعايير ويختتم الدكتور خالد عبد المصلاوي موضوعنا، قائلاً: يَطفو تأثير البطالة والفقر على البيئة الاجتماعية وتكوين الفوارق الطبقية على مشهد البنية الثقافية لجيل الشباب بشكل واضح حينما يفقد الشباب أحلامهم وطموحاتهم بالمستقبل المشرق الذي يصبون إليه، ويَذهَب باتجاه عَكسي في تَحطيم ثقافتهم للانحدار إلى هاوية الجهل والتخلّف الثقافي، وبصورة عفوية تقودهم مرغمين للبحث عن فرصة عمل بشتّى الوسائل والطرق من دون الاكتراث أو التقيّد بأيّة مبادئ أو قيم ثقافية ومجتمعية يحملها وينادي بها مجتمعه.وَيتَجَسّد ذلك في غياب القيم النبيلة، ليصبح هدف الشباب هو الحصول على المادة والمال فقط بأيّة وسيلة حتى إذا كانت غير مشروعة وغير قانونية، لتختفي وتَضعف الأهداف والقيم والمبادئ النبيلة التي كان يحملها فكر الشباب، وليحلَّ محلّها التخلّف والانحدار الثقافي والطمع والجَشَع وانعدام الإنسانية، ما يؤدي إلى تسلّط من هم غير مؤهلين- لكنهم يملكون المنصب أو المال- على طبقة وشريحة الشباب المثقفين وأصحاب الشهادات العليا من الطبقة الفقيرة وتجبرهم للعمل في مسلك لا يَتَناسب ومؤهّلاتهم العلمية والثقافية من أجل الحصول على لقمة العيش، ويؤدي ذلك إلى اختلاف المعايير المجتمعية والثقافية.