الميناء والاضطراب في شرق السودان
تاريخ النشر: 27th, March 2024 GMT
أحمد بن عمر
قبل أسبوع نفذ العاملون في هيئة المواني البحرية إضراباً لمدة 24 ساعة تحذيرياً لتوقيف ما اسمته " تغول" في أعمال الهيئة المستقلة المسؤولة عن إدارة المواني البحرية، وإصدار قرارات تمس باستقلاليتها، عبر ضم بعض إداراتها لوزارة المالية, وتعتبر هيئة المواني من أكبر هيئات وزارة النقل الاتحادية و تعني بإدارة المواني في السودان.
مشاهد تجمع العاملون أمام بوابة رئاسة هيئة المواني في ميناء بورتسودان منفذين لاحتجاجات ليس شي جديد، فمنذ 6 سنوات و الشهور الأخيرة للمعزول للبشير تحديداً ظلّ الميناء مسرح للصراع الذي أخذ طابع المكونات المجتمعية منذ أعلان ما يسمي "بمؤتمر سنكات" ، ولكن تبدو الأزمة مختلفة هذه المرة و قد تنفجر في الشرق خلال هذه الحرب التي تعتبر بورتسودان هي مقاراً لإدارة الجيش و الحكومة فيها تقوم بادارة الجزء الخاضع لسيطرتها.
خلفية الأزمة
لتحديد أزمة الحكومة الحالية في ببورتسودان و نظرتها لوضع الدولة ففي حالة الحرب يجب عليك أولا الاطلاع علي السلسة التي كتب عنها بعنوان " كارثة سقوط المدن عسكرياً تمهيد لفصل إداري للمدن وليس فصل سياسي للأقاليم " , ففي الجزء الثالث تحدثت عن "موازنة الحرب" التي أجازها جبريل إبراهيم و أيضأ مقال "البحث عن الإيرادات بزيادة الدولار الجمركي" فيجب قرأتها أولا بتمعن .. واليك عزيز/تي القارئ/ة .. الاهتمام بتأثيرات القرارات علي الدولة هو الوسيلة للتفسيرات السياسية للأحداث , فعندما يذكر وزير المالية جبريل إبراهيم في مؤتمر صحفي عن حوجته للإيرادات اعترافه بفقد 80% من إيرادات الدولة بسبب الحرب فهذا يجعل بعض الاتجاهات لتمويل الحرب أمراً يظل البحث فيه عن مشروعية وضع اليد علي المال لتزويد الجيش في حربه علي الدعم السريع أولوية قصوى.
هذا الأمر جعل منذ اليوم الأول للحرب تحدي البحث عن الأمول هو الهم الأكبر فـألان الدولة تعتمد بشكل أساسي علي المنفذ البحري للصادرات والواردات من أجل استجلاب العملات الصعبة و حصائل الصادر من أجل تمويل الحرب وتكاليف تسيير ما تبقي من الدولة مما جعل تفكير وزارة المالية الأول في البحث عن إيرادات إضافيه من الشركات الحكومية أو التابعة للمؤسسات الدولة مما يعني أن هنا أزمة إدارية للمواني بتقاطع البيرقراطية المركزية و المحلية و هو ما سنتناوله.
الأزمة الإدارية للمواني
أ-أنشاء إدارة مراجعة داخلية تابعة للمالية داخل هيئة المواني البحرية
بدأت مبكراً بوصف المكونات المحلية استقبال الوفود الحكومية والحركات تبديدا للمال المحلي الذي يُصرف علي هذا الوضع المختل , ومع تحفظات الجهات المحلية للأمر إلا أن شهر فبراير كان بداية (للرصاصة الأولي)...
فماذا حدث في أزمة السلطة الاتحادية والمحلية؟ ؟ (خريطة الصراع في نقاط) :-
1- قامت وزارة المالية عن طريق إدارة ( ديوان المراجعة الداخلية لأجهزة الدولة القومية) بمخاطبة مدير هيئة المواني البحرية ليقوم بإنشاء وحدة مراجعة داخلية داخل هيئة المواني البحرية السودانية مع أرفاق اسماء 5 موظفين لتعيينهم , ولكن مديرهيئة المواني المكلف محمد مختار (أعتذر) وعلل أعتذاره بأن لديهم هيئة مراجعة داخلية تتبع لهيئة المواني نفسها.
2-قام ديوان المراجعة الداخلية بمخاطبة وزير المالية حول أعتذار مدير هيئة المواني البحرية, فكان رد وزير المالية أن : (يتم الزام مدير هيئة المواني بالقوانين واللوائح).
3 -قام مدير المكتب التنفيذي لوزير المالية في 17/2/2024م بمخاطبة مدير هيئة المواني مجدداً.
4- وبعد ثلاثة أيام نص قانون حول وحدات المراجعة الداخلية و شؤون الخدمة بالدوائر الحكومية أن يتم فصلها من الهيئات الحكومية و تبعيتها للدوائر المتخصصة حسب منشور ( ديوان شؤون الخدمة التابع لوزارة العمل و الإصلاح الإداري) الذي يحمل الرَّقَم 1/2024, وهي من ضمن قرارات كثيرة قام بها الوزير المكلف احمد علي عبد الرحمن.
5-خطوة المالية لإنشاء وحدة مراجعة داخلية كان سببها متابعة إيرادات الدولة وفقاً (للقانون) الذي تم اجازته في يناير 2023م و المسمي ب (قانون التعديلات المتنوعة لولاية المالية علي المال العام), الذي يعطي الصلاحية الأكبر لوزير المالية و قام القانون بتوسيع صلاحيته أيضأ و هو ما جعل الوزير يتدخل ب(القانون).
6- اعتمدت إدارة المراجعة الداخلية لأجهزة الدولة القومية في حجتها لهيئة المواني البحرية في (الخطاب) علي قوانين اعطيت لوزارة المالية مسبقاً, و قانون ديوان شؤون الخدمة التابع لوزارة العمل و الإصلاح الذي ذكرته أيضأ .. كـأمثـــلة :
(قانون المراجعة الداخلية 2010 ولائحته للعام 2011)*
(توجيهات لمجلس الوزراء رَقَم 5 السابق لسنة 2021م)*
(قرار وزير المالية رقم 25/2021م)*
7-بناءً لذلك رفض مرة أخري مدير هيئة المواني المكلف محمد مختار خطاب الوزير وهو أمر وصفته الحكومة بالتطرف و عدم تنفيذ لوائح المؤسسات.
ب-قضية التخلص من المهملات
قضية المهملات ليست جديدة ففي كل عام او عامين تخرج الي السطح في من لها احقية بيع المهملات عن طريق المزادات, و نذكر أن من العام 2008م في عهد م. إبراهيم حامد مدير المواني كان هناك جدل في الاتفاق في التخلص من المهملات بالرغْم أعترافه ب(قانون) بيع المهملات الذي يتفق عليه من (الجمارك – المالية – النقل) ,والاتفاق يؤكد أنه لا يجوز للمواني (تدليل) المهملات من نفسها, بالرغْم أن حينها وزير الدولة بالنقل (فيليب طون ليك) قد ذكر ان هناك تجاوزات في عملية التخلص من المهملات.
ربما المثال لنوعية هذه الصراعات الداخلية بعيداً وكانت تتسم ببعض المرجعية البيروقراطية للمؤسسات ,حسناً ... فأذا عدنا الي عام الانقلاب الأول 2022م باشرت لجنة "حصر وتكشيف وبيع المهملات بالموانئ البحرية" عملها في بكل هدوء حيث استقبها المدير المكلف للمواني المهندس ابراهيم يوسف بمكتبه بحضور أيضأ مدير التسويق مزمل حسن و هي لجنة مكلفة طِبْقاً لـِ القرار رقم 8 لسنة 2022م و قد قامت اللجنة بحل بعض المشاكل المتعلقة بالبضائع الحكومية و البضائع التي تخص الهيئات و ما خلق إشكالات تتعلق بالتلف و كان لأبد من الوصول لصيغة (تَفَادَى) من المخاطر و الانتفاع بالإيرادات الحكومية.
اذاً...
-سؤال.. لماذا الاحتجاج الآن ؟
ولكن في مارس 2024م اندلعت من قبل المواني مؤكدة علي اعتراضها في عملية التخلص وهو أمر يجعلنا نتسأل لماذا قامت هذه الاحتجاجات في أمر بيرقراطية القرارات ؟ ربما السُلطات اعلي هذه المرة, فهي لجنة شكلت بموجب قرار من مجلس السيادة للتخلص من المهملات مع التأكيد علي خضوعها لقسمة الايرادات بما ذلك ضمان لمواني نفسها , و أن كان الأعتراض علي المدة الفعلية ( من 3 أشهرا لي 45 يوم) فهو غير منطقي من قبل هيئة المواني ففي هذه الحالة المواني نفسها مستفيدة من القرار لفائدة مهمة و هي : ( المساحة و تدوير الأرضيات يجعل من حركة الإيرادات جيدة من ناحية تشغيل), و المتضرر هو التاجر الذي ننتظر أن تمثله اللجان المختصة.
-الجواب.. في تفكير العمال والمظفون
يتضح لنا أن أمول المهملات (ملك للعاملين وفقاً لقانون مجاز مسبقاً و الذي لا يمكن إلغاءه إلا بواسطة برلمان) حسب ما ذكر سامي الصائغ عضو نقابة المواني البحرية التي استند إلي هذه الحُجة للاحتجاجات , و يبدو أن الأخوة العاملين يحتاجون الي المزيد علي الاطلاع علي قانون ولاية المالية علي المال العام لمعرفة كيف يتحرك الوزير من الناحية القانونية فالحال بعد يناير 2023 مختلف كما هو في السابق .
سابقاً لم يكن هناك ولاية مالية علي المال العام و الهيئة لها الحق في التصرف في الفائض بعد تحقيق الربط السنوي للايرادات وفق اللوائح الصادرة من هيئة الموانى البحرية, ولكن مع التغيير في السياسات في السنوات الاخيرة للنظام تعتبر المالية أن ايراد الموانى هو أيراد للدولة مع الاحتفاظ بحق المواني نفسه الذي أعتبرته هيئة المواني "تغولاً" .
نتيجةً لذلك تظل الاحتجاجات حول اي محاولة لتدخل الدولة في المواني سلباً أو ايجاباً شيئاً أداة تعبيرية لها أبعاد سياسية ومجتمعية في بورتسودان من قِبل المموظفين و العمال, رغم محاولة النظام البائد مسبقاً في التعديل بأدخال الشركة الفلبينية كمثال و بعدها شركة مواني دبي و اخرها ميناء ابو عمامة في عهد انقلاب البرهان حميدتي قابلته احتجاجات و اضرابات ,فهذا الصراع يمكننا تلخيصه في نظرة المكونات المجتمعية و العاملين في الهيئة بأنه صراع نفوذ بين السُلطة المركزية و السُلطة المحلية .
الميناء و الإضراب والاضطراب هل ستكون هناك أزمة في شرق السودان؟
اندلعت الاحتجاجات من المظفون التابعين لهيئة المواني البحرية ومن ثم قامت وقفات احتجاجية نظمها عمال هيئة المواني البحرية ثم تلتها احتجاجات من اللجنة العليا لمناهضة الخصخصة الذي تحول لاحقاً لإضراب تحذيري لمدة 24 ساعة في 10 مارس, وسلمت لجنة مفوضة من العمال الأسبوع الماضي مذكرة لمجلس السيادة مطالبة بإلغاء القرار وأمهلت المجلس 72 ساعة للرد.
أيضأ تدخل مكون البجا ( كعادته المحببة) في الشرق عن طريق مجلس نظارات البجا و العموديات المستقلة في الأمر, حيث حذرت بالمساس بهيئة المواني البحرية في بيان ممهور بتوقيع المتحدث الرسمي باسم المجلس (طه فكي) طالبت فيه البرهان للتدخل بتجميد الإجراءات التى اتخذها وزير المالية درءًا للفتنه التى بدأت شرارتها فى ألانتشار.
ملخص المؤشرات...
1-مشروع قانون التعديلات المتنوعة لولاية المالية على المال العام
هذا القانون الذي تم اجازته في يناير 2023م هو قانون غير شرعي لأنه صادر من سُلطة انقلابية و موقع بتوقيع عبد الفتاح البرهان نفسه رئيس مجل السيادة , و أن كان هناك شخص يري غير ذلك فعليه تقبل الأمر إذا بما في ذلك مجلس نظارات البجا (الحامي المجتمعي) و هيئة المواني التابعة للدولة و التي هي مؤسسة غير معنية بشرعية السُلطة مادام إنها تابعة للدولة.
حذرنا من هذا القانون في فبراير 2023م من ما سيسببه من (استبداد) أداري في الدولة فهو قانون كرس لوزير المالية النفوذ و الصلاحيات الواسعة بتبعية ديوان المراجع العام الي سُلطات وزير المالية .. (لك أن تتخيل) وهي النقطة الفاصلة التي تتيح للوزير مراجعة شركات الحكومة التي تتبع له في آن واحد.
فلا ينسي العمال و الموظفين في هيئة المواني البحرية ي أن الهيئة شركة حكومية خاضعة بالقانون لولاية وزارة المالية علي المال العام و يحق لها مراجعة الاداء الداخلي مع التعزيز بقانون المراجعة الداخلية لأجهزة الدولة القومية لسنة 2010م بضمان كل سلطاتها التي سمح لها الدخول الي اي مرفق و أتخاذ الاجراءات (حفاظاً علي المال العام).
فأن كان هناك احتجاج حقيقي للفائدة العامة و للسودان فليقم المحتجون في هيئة المواني البحرية و المكونات المجتمعية بالتنسيق مع بقية المؤسسات في الدولة لتجميد هذا القانون الي أن تأتي سُلطة تنهي الانقلاب و الحرب و ينظر لهذا القانون مرة أخرى , فمن حيث المبدأ ولاية المالية علي المال العام ظللت أبشر به ولكن من حيث التنفيذ فقد صاحبته الكثير من المشاكل, فلا تستطيع قانونياً هيئة المواني بمنع المالية من انشاء وحدة مراجعة داخلية ولا تسطيع منع المالية من الوصول الي إيرادات الدولة سواءً كانت في الجمارك أو المواني او أي متحصلات.
2-التخوفات المصحوبة بالمؤامرة
التوترات بين النقابات او المكونات المجتمعية مع وزير المالية جبريل إبراهيم ليست الأولي حيث يعتقد السكان المحليون أن وزير المالية يريد أفارقهم و تشريدهم من الميناء الذي يمثل موردهم المتمثل في الحفاظ علي عصبة المكونات و توازناتها في الشرق و قد سبقه وزير الملية في العهد السابق معتز موسي الذي تصدى له العمال والمكونات بشراسة في عدد من القضايا أبرزها (الشركة الفلبينية).
وهذه التقاطعات يمكن أن تستثمر فيه أي جهة تريد لشرق أن يشتعل سواءً كانت هذه الجهة (خارجية أو داخلية ) , وما حدث في تقديري الشخصي هي ليست مشكلة كبرى بين السُلطات المحلية و المركزية (رغم أن وزارة النقل تكتفي بالمشاهدة وهي الأخرى متخوفة من المالية من التغول حسب القانون الجديد), و تفسيري حول حساسية الأوضاع والتعبئة في قضايا الشرق في السنوات الاخيرة هي ما قادت الي هذا الاحتقان , و الحال كما نشاهد قد يقود الأوضاع حالياً في شرق السودان نحو أنزلاق يمكن أن تعقبه فوضي في عاصمة الجيش والحكومة.
3-تمويل الحرب
يقود الجيش الدولة الآن في الحرب , و سخرت الدولة ما تبقي من سُلطة إدارية لتمويل الحرب و يعد جبريل إبراهيم وزير المالية أكثر المُخلصين لقضية الحرب , فقد قام بوضع موازنة حرب تتضمن الأولوية القصوى لتمويل مشتريات الجيش و المرتبات العسكرية من الدولة نفسها , و هو أمر طوارئ اقتصادي يجعل من المالية تتجه نحو الميناء للاستفادة من أمواله التي تمثل 350 مليون يورو سنوياً في اسوء حالتها بعد الانقلاب الذي شهد قبل ذلك قفل الناظر(ترك)للميناء , و الأن ورغم انخفاض حركة الشحن الي 20% بعد سقوط ولاية الجزيرة الا أن الميناء قادر علي تمويل جزء شحيح من متطلبات منصرفات الحرب عبرها , وكل استراتيجية التمويل تتم بمباركة البرهان نفسه و مساعديه ..فماذا سيفعل البرهان كوسيط لجأت له نظارات البجا (علي المدي المتوسط حتي نهاية العام الحالي) ؟
اخيراً..
ما هي أخبار صفقة ميناء أبو عمامة بعد التوترات مع دولة الأمارات العربية المتحدة ؟؟
كيف ستتمكن من الحكومة والجيش من تمويل الحرب في حالة قيام احتجاجات في الشرق؟؟
كيف سيتفادي البرهان (التخدير المؤقت) للأزمة و التلاسنات بين المالية و المكونات المجتمعية المستمرة منذ أشهر؟؟
dr_benomer@yahoo.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: المکونات المجتمعیة المراجعة الداخلیة وزارة المالیة جبریل إبراهیم ولایة المالیة وزیر المالیة من المهملات هذا القانون تمویل الحرب فی الشرق
إقرأ أيضاً:
ما الذي سيفعله الرئيس الشرع لمواجهة إسرائيل؟
خطا الرئيس السوري أحمد الشرع ثلاث خطوات مُهمة نحو إعادة توحيد سوريا، ومواجهة مشاريع تقسيمها. الأولى، إفشال التمرد المُسلّح الذي قادته خلايا النظام المخلوع في مناطق الساحل بهدف إسقاط الدولة الجديدة وإشعال حرب أهلية. والثانية، إبرام اتفاق مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد) لدمجها في الدولة الجديدة، والثالثة، الاتفاق مع أهالي ووجهاء محافظة السويداء الجنوبية على دمجها الكامل في مؤسسات الدولة.
مع ذلك، تبقى مُعضلة الجنوب السوري إشكالية ضاغطة على سوريا؛ بسبب التحركات التي بدأتها إسرائيل منذ الإطاحة بنظام الأسد واحتلالها أجزاء جديدة من الأراضي السورية ومحاولتها تأليب دروز الجنوب على إدارة الرئيس الشرع.
على الرغم من أن إسرائيل سعت في البداية إلى تسويق تحرّكاتها العدوانية في سوريا في إطار مواجهة مخاطر أمنية مزعومة تُهددها، فإن النهج الإسرائيلي أصبح بعد ذلك أكثر وضوحًا، خصوصًا بعد إعلان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في 23 فبراير/ شباط الماضي عن نوايا إسرائيل الإستراتيجية في سوريا. وتتضمن هذه النوايا تحقيق أربعة أهداف متوسطة وبعيدة المدى.
أولًا، تكريس احتلال المنطقة العازلة في الجولان وقمة جبل الشيخ الإستراتيجية كأمر واقع من خلال ربط التواجد الإسرائيلي فيهما بالتهديدات المزعومة بعيدة المدى التي تواجه إسرائيل من سوريا، وليس القريبة المدى. وبالنظر إلى أن المناطق المُحتلة الجديدة ليست كبيرة من حيث الحجم، فإن إسرائيل قادرة على الاحتفاظ بها، إما بهدف ضمها لها بشكل نهائي، أو بهدف تعزيز موقفها في أي مفاوضات مستقبلية مُحتملة مع النظام الجديد في سوريا.
ثانيًا، محاولة إحداث شرخ كبير بين الدروز في جنوب سوريا والإدارة الجديدة كبوابة لتأسيس كيان درزي كمنطقة عازلة بينها وبين سوريا. ولا تقتصر وسائل إسرائيل بهذا الخصوص على تشجيع النزعة الانفصالية بين الدروز، وتقديم نفسها كحامٍ لهم، بل تشمل كذلك طرح مطلب تحويل جنوب سوريا إلى منطقة منزوعة السلاح وعدم انتشار الجيش السوري الجديد فيها، فضلًا عن اعتزام السماح للدروز بالعمل داخل إسرائيل.
ثالثًا، تدمير ما تبقى من الأصول العسكرية التي أصبحت ملكًا للدولة السورية بعد الإطاحة بنظام الأسد من أجل إضعاف القدرات العسكرية لهذه الدولة، وتقويض قدرتها على امتلاك عناصر القوة لبسط سيطرتها على كافة أراضيها وللتعامل مع التحديات الأمنية الداخلية التي تواجهها، خصوصًا مع الأطراف: (قسد، خلايا النظام في الساحل، والتشكيلات المسلحة في الجنوب). وتندرج هذه الإستراتيجية ضمن أهداف إسرائيل في تشجيع النزعات الانفصالية على الأطراف لإضعاف السلطة المركزية في دمشق.
رابعًا، تقويض قدرة تركيا على الاستفادة من التحول السوري لتعزيز دورها في سوريا، وفي المنافسة الجيوسياسية مع إسرائيل في الشرق الأوسط. ولهذه الغاية، تعمل إسرائيل على مسارات مُتعددة، ليس فقط محاولة إيجاد موطئ قدم لها بين الدروز في الجنوب، بل أيضًا شيطنة الإدارة السورية الجديدة للتأثير على القبول الدولي بها، والضغط على إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لعدم الاعتراف بالرئيس الشرع، وإبقاء العقوبات على سوريا كسيف مُصلت عليها لتحقيق مصالح إسرائيل، والضغط كذلك على واشنطن لإقناعها بالحاجة إلى بقاء الوجود العسكري الروسي في سوريا كضرورة لمواجهة نفوذ تركيا.
حتى في الوقت الذي يبدو فيه تقسيم سوريا أو فَدْرلتها أو تحويل الجنوب إلى منطقة منزوعة السلاح (عدم وجود الجيش السوري فيها)، غير مُمكن وغير واقعي، فإنه من المرجح أن تحتفظ إسرائيل باحتلال المنطقة العازلة وقمة جبل الشيخ الإستراتيجية لفترة طويلة.
كما ستسعى لاستثمار الفترة الطويلة التي ستستغرقها عملية بناء الدولة الجديدة ومؤسساتها العسكرية والأمنية من أجل مواصلة شن ضربات على امتداد الأراضي السورية؛ بذريعة مواجهة تهديدات مُحتملة، أو خطر وقوع مثل هذه الأسلحة في أيدي جماعات تُشكل تهديدًا لإسرائيل.
إن هذا النهج الإسرائيلي المُحتمل ينطوي على مخاطر كبيرة على سوريا وإدارتها الجديدة، لأنه سيُقوض من قدرتها على تحقيق استقرار داخلي كامل وبناء مؤسسة عسكرية قوية. ولا تبدو احتمالية الدخول في حرب مع إسرائيل واردة على الإطلاق على جدول أعمال الرئيس الشرع، خصوصًا في هذه المرحلة التي تفرض عليه تركيز أولوياته على إنجاح المرحلة الانتقالية، وإعادة بناء الدولة، وبناء علاقات جيدة مع الغرب من أجل رفع العقوبات المفروضة على سوريا وإطلاق عملية إعادة الإعمار.
لقد شدد الشرع في القمة العربية الطارئة، التي عُقدت في القاهرة، على ضرورة العودة إلى اتفاقية فض الاشتباك بين سوريا وإسرائيل لعام 1974، بما في ذلك انسحاب إسرائيل من الأراضي الجديدة التي احتلتها بعد سقوط نظام الأسد. ويعمل الشرع على ثلاثة سياقات لمواجهة التحدي الإسرائيلي.
التأكيد على التزامه باتفاقية فض الاشتباك لإظهار رغبته في تجنب أي صدام عسكري مع إسرائيل.
تقويض قدرة إسرائيل على استثمار الانقسامات الطائفية والمجتمعية والعرقية في سوريا من خلال السعي لدمج الحالات على الأطراف: (الشمال الشرقي، الساحل، الجنوب) في الدولة الجديدة.
تعزيز القبول الدولي به لإقناع القوى الفاعلة في المجتمعين: الإقليمي والدولي بالضغط على إسرائيل للحد من اندفاعتها في سوريا، والعودة إلى الوضع الذي كان قائمًا في الجنوب قبل سقوط نظام بشار الأسد.
علاوة على ذلك، يُحاول الشرع توسيع هامش المناورة لديه في مواجهة التحدي الإسرائيلي من خلال تعميق الشراكة الجديدة لسوريا مع تركيا.
على الرغم من وجود مشروع لاتفاقية دفاع مشترك بين تركيا وسوريا، فإن الشرع لا يزال متريثًا في الإقدام على هذه الخطوة لاعتبارات مُتعددة. لكنه في حال تصاعد خطر التحدي الإسرائيلي على استقرار سوريا ووحدتها، فإنه قد يلجأ إلى هذه الاتفاقية للحصول على دعم تركي في تسليح الجيش السوري الجديد، وتعزيز قدرته على مواجهة هذا التحدي.
والخلاصة أن التحدي الإسرائيلي يُوجد عقبات كبيرة أمام نجاح التحول في سوريا، لكنه يُوجد في المقابل فرصًا للشرع لبلورة إستراتيجية متكاملة للتعامل مع هذا التحدي، وتعزيز القبول الدولي به كضمان لمنع اندلاع حرب بين سوريا وإسرائيل في المستقبل.