الميناء والاضطراب في شرق السودان
تاريخ النشر: 27th, March 2024 GMT
أحمد بن عمر
قبل أسبوع نفذ العاملون في هيئة المواني البحرية إضراباً لمدة 24 ساعة تحذيرياً لتوقيف ما اسمته " تغول" في أعمال الهيئة المستقلة المسؤولة عن إدارة المواني البحرية، وإصدار قرارات تمس باستقلاليتها، عبر ضم بعض إداراتها لوزارة المالية, وتعتبر هيئة المواني من أكبر هيئات وزارة النقل الاتحادية و تعني بإدارة المواني في السودان.
مشاهد تجمع العاملون أمام بوابة رئاسة هيئة المواني في ميناء بورتسودان منفذين لاحتجاجات ليس شي جديد، فمنذ 6 سنوات و الشهور الأخيرة للمعزول للبشير تحديداً ظلّ الميناء مسرح للصراع الذي أخذ طابع المكونات المجتمعية منذ أعلان ما يسمي "بمؤتمر سنكات" ، ولكن تبدو الأزمة مختلفة هذه المرة و قد تنفجر في الشرق خلال هذه الحرب التي تعتبر بورتسودان هي مقاراً لإدارة الجيش و الحكومة فيها تقوم بادارة الجزء الخاضع لسيطرتها.
خلفية الأزمة
لتحديد أزمة الحكومة الحالية في ببورتسودان و نظرتها لوضع الدولة ففي حالة الحرب يجب عليك أولا الاطلاع علي السلسة التي كتب عنها بعنوان " كارثة سقوط المدن عسكرياً تمهيد لفصل إداري للمدن وليس فصل سياسي للأقاليم " , ففي الجزء الثالث تحدثت عن "موازنة الحرب" التي أجازها جبريل إبراهيم و أيضأ مقال "البحث عن الإيرادات بزيادة الدولار الجمركي" فيجب قرأتها أولا بتمعن .. واليك عزيز/تي القارئ/ة .. الاهتمام بتأثيرات القرارات علي الدولة هو الوسيلة للتفسيرات السياسية للأحداث , فعندما يذكر وزير المالية جبريل إبراهيم في مؤتمر صحفي عن حوجته للإيرادات اعترافه بفقد 80% من إيرادات الدولة بسبب الحرب فهذا يجعل بعض الاتجاهات لتمويل الحرب أمراً يظل البحث فيه عن مشروعية وضع اليد علي المال لتزويد الجيش في حربه علي الدعم السريع أولوية قصوى.
هذا الأمر جعل منذ اليوم الأول للحرب تحدي البحث عن الأمول هو الهم الأكبر فـألان الدولة تعتمد بشكل أساسي علي المنفذ البحري للصادرات والواردات من أجل استجلاب العملات الصعبة و حصائل الصادر من أجل تمويل الحرب وتكاليف تسيير ما تبقي من الدولة مما جعل تفكير وزارة المالية الأول في البحث عن إيرادات إضافيه من الشركات الحكومية أو التابعة للمؤسسات الدولة مما يعني أن هنا أزمة إدارية للمواني بتقاطع البيرقراطية المركزية و المحلية و هو ما سنتناوله.
الأزمة الإدارية للمواني
أ-أنشاء إدارة مراجعة داخلية تابعة للمالية داخل هيئة المواني البحرية
بدأت مبكراً بوصف المكونات المحلية استقبال الوفود الحكومية والحركات تبديدا للمال المحلي الذي يُصرف علي هذا الوضع المختل , ومع تحفظات الجهات المحلية للأمر إلا أن شهر فبراير كان بداية (للرصاصة الأولي)...
فماذا حدث في أزمة السلطة الاتحادية والمحلية؟ ؟ (خريطة الصراع في نقاط) :-
1- قامت وزارة المالية عن طريق إدارة ( ديوان المراجعة الداخلية لأجهزة الدولة القومية) بمخاطبة مدير هيئة المواني البحرية ليقوم بإنشاء وحدة مراجعة داخلية داخل هيئة المواني البحرية السودانية مع أرفاق اسماء 5 موظفين لتعيينهم , ولكن مديرهيئة المواني المكلف محمد مختار (أعتذر) وعلل أعتذاره بأن لديهم هيئة مراجعة داخلية تتبع لهيئة المواني نفسها.
2-قام ديوان المراجعة الداخلية بمخاطبة وزير المالية حول أعتذار مدير هيئة المواني البحرية, فكان رد وزير المالية أن : (يتم الزام مدير هيئة المواني بالقوانين واللوائح).
3 -قام مدير المكتب التنفيذي لوزير المالية في 17/2/2024م بمخاطبة مدير هيئة المواني مجدداً.
4- وبعد ثلاثة أيام نص قانون حول وحدات المراجعة الداخلية و شؤون الخدمة بالدوائر الحكومية أن يتم فصلها من الهيئات الحكومية و تبعيتها للدوائر المتخصصة حسب منشور ( ديوان شؤون الخدمة التابع لوزارة العمل و الإصلاح الإداري) الذي يحمل الرَّقَم 1/2024, وهي من ضمن قرارات كثيرة قام بها الوزير المكلف احمد علي عبد الرحمن.
5-خطوة المالية لإنشاء وحدة مراجعة داخلية كان سببها متابعة إيرادات الدولة وفقاً (للقانون) الذي تم اجازته في يناير 2023م و المسمي ب (قانون التعديلات المتنوعة لولاية المالية علي المال العام), الذي يعطي الصلاحية الأكبر لوزير المالية و قام القانون بتوسيع صلاحيته أيضأ و هو ما جعل الوزير يتدخل ب(القانون).
6- اعتمدت إدارة المراجعة الداخلية لأجهزة الدولة القومية في حجتها لهيئة المواني البحرية في (الخطاب) علي قوانين اعطيت لوزارة المالية مسبقاً, و قانون ديوان شؤون الخدمة التابع لوزارة العمل و الإصلاح الذي ذكرته أيضأ .. كـأمثـــلة :
(قانون المراجعة الداخلية 2010 ولائحته للعام 2011)*
(توجيهات لمجلس الوزراء رَقَم 5 السابق لسنة 2021م)*
(قرار وزير المالية رقم 25/2021م)*
7-بناءً لذلك رفض مرة أخري مدير هيئة المواني المكلف محمد مختار خطاب الوزير وهو أمر وصفته الحكومة بالتطرف و عدم تنفيذ لوائح المؤسسات.
ب-قضية التخلص من المهملات
قضية المهملات ليست جديدة ففي كل عام او عامين تخرج الي السطح في من لها احقية بيع المهملات عن طريق المزادات, و نذكر أن من العام 2008م في عهد م. إبراهيم حامد مدير المواني كان هناك جدل في الاتفاق في التخلص من المهملات بالرغْم أعترافه ب(قانون) بيع المهملات الذي يتفق عليه من (الجمارك – المالية – النقل) ,والاتفاق يؤكد أنه لا يجوز للمواني (تدليل) المهملات من نفسها, بالرغْم أن حينها وزير الدولة بالنقل (فيليب طون ليك) قد ذكر ان هناك تجاوزات في عملية التخلص من المهملات.
ربما المثال لنوعية هذه الصراعات الداخلية بعيداً وكانت تتسم ببعض المرجعية البيروقراطية للمؤسسات ,حسناً ... فأذا عدنا الي عام الانقلاب الأول 2022م باشرت لجنة "حصر وتكشيف وبيع المهملات بالموانئ البحرية" عملها في بكل هدوء حيث استقبها المدير المكلف للمواني المهندس ابراهيم يوسف بمكتبه بحضور أيضأ مدير التسويق مزمل حسن و هي لجنة مكلفة طِبْقاً لـِ القرار رقم 8 لسنة 2022م و قد قامت اللجنة بحل بعض المشاكل المتعلقة بالبضائع الحكومية و البضائع التي تخص الهيئات و ما خلق إشكالات تتعلق بالتلف و كان لأبد من الوصول لصيغة (تَفَادَى) من المخاطر و الانتفاع بالإيرادات الحكومية.
اذاً...
-سؤال.. لماذا الاحتجاج الآن ؟
ولكن في مارس 2024م اندلعت من قبل المواني مؤكدة علي اعتراضها في عملية التخلص وهو أمر يجعلنا نتسأل لماذا قامت هذه الاحتجاجات في أمر بيرقراطية القرارات ؟ ربما السُلطات اعلي هذه المرة, فهي لجنة شكلت بموجب قرار من مجلس السيادة للتخلص من المهملات مع التأكيد علي خضوعها لقسمة الايرادات بما ذلك ضمان لمواني نفسها , و أن كان الأعتراض علي المدة الفعلية ( من 3 أشهرا لي 45 يوم) فهو غير منطقي من قبل هيئة المواني ففي هذه الحالة المواني نفسها مستفيدة من القرار لفائدة مهمة و هي : ( المساحة و تدوير الأرضيات يجعل من حركة الإيرادات جيدة من ناحية تشغيل), و المتضرر هو التاجر الذي ننتظر أن تمثله اللجان المختصة.
-الجواب.. في تفكير العمال والمظفون
يتضح لنا أن أمول المهملات (ملك للعاملين وفقاً لقانون مجاز مسبقاً و الذي لا يمكن إلغاءه إلا بواسطة برلمان) حسب ما ذكر سامي الصائغ عضو نقابة المواني البحرية التي استند إلي هذه الحُجة للاحتجاجات , و يبدو أن الأخوة العاملين يحتاجون الي المزيد علي الاطلاع علي قانون ولاية المالية علي المال العام لمعرفة كيف يتحرك الوزير من الناحية القانونية فالحال بعد يناير 2023 مختلف كما هو في السابق .
سابقاً لم يكن هناك ولاية مالية علي المال العام و الهيئة لها الحق في التصرف في الفائض بعد تحقيق الربط السنوي للايرادات وفق اللوائح الصادرة من هيئة الموانى البحرية, ولكن مع التغيير في السياسات في السنوات الاخيرة للنظام تعتبر المالية أن ايراد الموانى هو أيراد للدولة مع الاحتفاظ بحق المواني نفسه الذي أعتبرته هيئة المواني "تغولاً" .
نتيجةً لذلك تظل الاحتجاجات حول اي محاولة لتدخل الدولة في المواني سلباً أو ايجاباً شيئاً أداة تعبيرية لها أبعاد سياسية ومجتمعية في بورتسودان من قِبل المموظفين و العمال, رغم محاولة النظام البائد مسبقاً في التعديل بأدخال الشركة الفلبينية كمثال و بعدها شركة مواني دبي و اخرها ميناء ابو عمامة في عهد انقلاب البرهان حميدتي قابلته احتجاجات و اضرابات ,فهذا الصراع يمكننا تلخيصه في نظرة المكونات المجتمعية و العاملين في الهيئة بأنه صراع نفوذ بين السُلطة المركزية و السُلطة المحلية .
الميناء و الإضراب والاضطراب هل ستكون هناك أزمة في شرق السودان؟
اندلعت الاحتجاجات من المظفون التابعين لهيئة المواني البحرية ومن ثم قامت وقفات احتجاجية نظمها عمال هيئة المواني البحرية ثم تلتها احتجاجات من اللجنة العليا لمناهضة الخصخصة الذي تحول لاحقاً لإضراب تحذيري لمدة 24 ساعة في 10 مارس, وسلمت لجنة مفوضة من العمال الأسبوع الماضي مذكرة لمجلس السيادة مطالبة بإلغاء القرار وأمهلت المجلس 72 ساعة للرد.
أيضأ تدخل مكون البجا ( كعادته المحببة) في الشرق عن طريق مجلس نظارات البجا و العموديات المستقلة في الأمر, حيث حذرت بالمساس بهيئة المواني البحرية في بيان ممهور بتوقيع المتحدث الرسمي باسم المجلس (طه فكي) طالبت فيه البرهان للتدخل بتجميد الإجراءات التى اتخذها وزير المالية درءًا للفتنه التى بدأت شرارتها فى ألانتشار.
ملخص المؤشرات...
1-مشروع قانون التعديلات المتنوعة لولاية المالية على المال العام
هذا القانون الذي تم اجازته في يناير 2023م هو قانون غير شرعي لأنه صادر من سُلطة انقلابية و موقع بتوقيع عبد الفتاح البرهان نفسه رئيس مجل السيادة , و أن كان هناك شخص يري غير ذلك فعليه تقبل الأمر إذا بما في ذلك مجلس نظارات البجا (الحامي المجتمعي) و هيئة المواني التابعة للدولة و التي هي مؤسسة غير معنية بشرعية السُلطة مادام إنها تابعة للدولة.
حذرنا من هذا القانون في فبراير 2023م من ما سيسببه من (استبداد) أداري في الدولة فهو قانون كرس لوزير المالية النفوذ و الصلاحيات الواسعة بتبعية ديوان المراجع العام الي سُلطات وزير المالية .. (لك أن تتخيل) وهي النقطة الفاصلة التي تتيح للوزير مراجعة شركات الحكومة التي تتبع له في آن واحد.
فلا ينسي العمال و الموظفين في هيئة المواني البحرية ي أن الهيئة شركة حكومية خاضعة بالقانون لولاية وزارة المالية علي المال العام و يحق لها مراجعة الاداء الداخلي مع التعزيز بقانون المراجعة الداخلية لأجهزة الدولة القومية لسنة 2010م بضمان كل سلطاتها التي سمح لها الدخول الي اي مرفق و أتخاذ الاجراءات (حفاظاً علي المال العام).
فأن كان هناك احتجاج حقيقي للفائدة العامة و للسودان فليقم المحتجون في هيئة المواني البحرية و المكونات المجتمعية بالتنسيق مع بقية المؤسسات في الدولة لتجميد هذا القانون الي أن تأتي سُلطة تنهي الانقلاب و الحرب و ينظر لهذا القانون مرة أخرى , فمن حيث المبدأ ولاية المالية علي المال العام ظللت أبشر به ولكن من حيث التنفيذ فقد صاحبته الكثير من المشاكل, فلا تستطيع قانونياً هيئة المواني بمنع المالية من انشاء وحدة مراجعة داخلية ولا تسطيع منع المالية من الوصول الي إيرادات الدولة سواءً كانت في الجمارك أو المواني او أي متحصلات.
2-التخوفات المصحوبة بالمؤامرة
التوترات بين النقابات او المكونات المجتمعية مع وزير المالية جبريل إبراهيم ليست الأولي حيث يعتقد السكان المحليون أن وزير المالية يريد أفارقهم و تشريدهم من الميناء الذي يمثل موردهم المتمثل في الحفاظ علي عصبة المكونات و توازناتها في الشرق و قد سبقه وزير الملية في العهد السابق معتز موسي الذي تصدى له العمال والمكونات بشراسة في عدد من القضايا أبرزها (الشركة الفلبينية).
وهذه التقاطعات يمكن أن تستثمر فيه أي جهة تريد لشرق أن يشتعل سواءً كانت هذه الجهة (خارجية أو داخلية ) , وما حدث في تقديري الشخصي هي ليست مشكلة كبرى بين السُلطات المحلية و المركزية (رغم أن وزارة النقل تكتفي بالمشاهدة وهي الأخرى متخوفة من المالية من التغول حسب القانون الجديد), و تفسيري حول حساسية الأوضاع والتعبئة في قضايا الشرق في السنوات الاخيرة هي ما قادت الي هذا الاحتقان , و الحال كما نشاهد قد يقود الأوضاع حالياً في شرق السودان نحو أنزلاق يمكن أن تعقبه فوضي في عاصمة الجيش والحكومة.
3-تمويل الحرب
يقود الجيش الدولة الآن في الحرب , و سخرت الدولة ما تبقي من سُلطة إدارية لتمويل الحرب و يعد جبريل إبراهيم وزير المالية أكثر المُخلصين لقضية الحرب , فقد قام بوضع موازنة حرب تتضمن الأولوية القصوى لتمويل مشتريات الجيش و المرتبات العسكرية من الدولة نفسها , و هو أمر طوارئ اقتصادي يجعل من المالية تتجه نحو الميناء للاستفادة من أمواله التي تمثل 350 مليون يورو سنوياً في اسوء حالتها بعد الانقلاب الذي شهد قبل ذلك قفل الناظر(ترك)للميناء , و الأن ورغم انخفاض حركة الشحن الي 20% بعد سقوط ولاية الجزيرة الا أن الميناء قادر علي تمويل جزء شحيح من متطلبات منصرفات الحرب عبرها , وكل استراتيجية التمويل تتم بمباركة البرهان نفسه و مساعديه ..فماذا سيفعل البرهان كوسيط لجأت له نظارات البجا (علي المدي المتوسط حتي نهاية العام الحالي) ؟
اخيراً..
ما هي أخبار صفقة ميناء أبو عمامة بعد التوترات مع دولة الأمارات العربية المتحدة ؟؟
كيف ستتمكن من الحكومة والجيش من تمويل الحرب في حالة قيام احتجاجات في الشرق؟؟
كيف سيتفادي البرهان (التخدير المؤقت) للأزمة و التلاسنات بين المالية و المكونات المجتمعية المستمرة منذ أشهر؟؟
dr_benomer@yahoo.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: المکونات المجتمعیة المراجعة الداخلیة وزارة المالیة جبریل إبراهیم ولایة المالیة وزیر المالیة من المهملات هذا القانون تمویل الحرب فی الشرق
إقرأ أيضاً:
هل السودان بديل محتمل لتهجير أهالي غزة؟؟
كتب الأستاذ الجامعي د.محمد عبد الحميد
ماذا لو إستيقظ السودانيون على قرار تهجير الفلسطينيين من سكان غزة الي بلادهم؟؟
قد يستبعد أهل السودان أن يكون بلدهم مطروح كخيار لتهجير الفلسطينيين مِن غزة لسببين رئيسين.. الأول أنه غير عملي لبُعد السودان من أرض فلسطين. والثاني لأن السودان يشهد حرب طاحنة في أراضيه.
يؤكد علم العلاقات الدولية أنها فوق تشكلها بصورة معقدة، فإنها كذلك تسير بشكل لا خطي Non - linear بحيث أن أحداث في نطاق جغرافي ما يمكن أن تؤثر على دول بعيدة تماماً عن ذلك النطاق... وأن سلسلة أحداث صغيرة قد تؤدي لأحداث كبرى. وفي هذه النقطة بالتحديد يمكن تذكر الأحداث التي تسببت في الحرب العالمية الأولى، فقد أدى إغتيال الأرشيدوق فرانز فيرندناد في صربيا في العام 1914م لإندلاع الحرب الكونية الأولى وتأثرت بها الدول القريبة والبعيدة.. غير أن الكثير من الناس خاصة من غير المختصين في العلاقات الدولية يجنحون للنظر لتلك العلاقات على أنها تسير بإتجاه خطي واحد متسلسل زمانياً ومكانياً.. ولذلك يستبعدون عنصراً مهماً في التحليل وهو الإحتمالات الراجحة منها والمرتبطة بالخط المتصل بأحداث لم تكن بادية للعيان حدثت في مناطق بعيدة جغرافياً من مركز الحدث الشاخص أمامهم وربما في زمن بعيد نسبياً.
إن المتابع للقضية الفلسطينية يجد أن معظم أحداثها ترسمت وفق الإتجاه اللاخطي منذ وعد بلفور في 1921 وهو نفسه أي وعد بلفور وطبقاً للمسار اللاخطي في العلاقات الدولية قد إنبنى على حادثة إغتيال الأرشيدوق بينما في الواقع الظاهري للأحداث قد لا يجد غير المختص في العلاقات الدولية روابط حقيقية ومنطقية بين تلك الأحداث وتخليق الكيان الاسرائيلي.
عموماً، ومهما يكن من أمر، وبذات المنطق قد لا ينصرف ذهن السودانيين لإحتمالية أن يستقر سهم مؤشر الأحداث على إختيار السودان كمكان لتهجير الفلسطينيين نسبة لواقع الحرب الحالي، وحالة النزوح الواسعة لدى معظم سكانه، بينما القراءة اللاخطية لمسار العلاقات الدولية قد تجعل من السودان أفضل البدائل المطروحة الآن (إندونيسيا، مصر، الأردن، السعودية سيرلانكا أو ألبانيا).
إن منطق الإحتلال الإستيطاني الذي يميز وجود إسرائيل في الأراضي الفلسطينية يجعل من أمر تهجيرهم هدف تخبو جذوته وتتقد بالتفاعل مع أحداث أخرى طبقاً للنمط اللاخطي في العلاقات الدولية. فصعود ترمب في سدة قيادة الولايات المتحدة وبنهجه السيرويالي وسلوكه النزق في السياسة عموماً وتعامله بعقليةالمطور العقاري Real state developer، وتبنيه لخيار التهجير أجج تلك الجذوة وشجع إسرائيل على تبنيه مع أنه لم يكن مطروح كخيار على أقل تقدير طوال عهد سلفه بايدن.
من ناحية أخرى تتسم العلاقات الدولية بالطبخات السرية والصفقات غير العلنية والتلويح بالحوافز والجزاءات كما يفعل ترمب الآن مستنداً لمنطق القوة Power وهذه الأخيرة هي المُعامل الذي يحرك كل تروس العلاقات الدولية، فإذا مضى منطق الصفقات والجزاءات وما يسميه ترمب (السلام بالقوة) فسوف لن يكون السودان خيارٌ محتمل و مرحبٌ به فحسب، بل ومثالي لتهجير الفلسطينيين. ذلك لأن الدول المطروحة في القائمة الآن مطلوب منها واحد من أمرين، إما أن تستقبل المهجرين أو تجد بديلاً لهم.. وفي الغالب سيسود منطق "دفع الضرر عن الذات" خاصة الثلاثة دول العربية في قائمة ترمب ولن تتحرج بتقديم البديل، وهنا يمكن ملاحظة كيف تصرف ملك الأردن في المكتب البيضاوي يوم 11 فبراير 2025م أمام ترمب عن طرح موضوع التهجير وموقفه منه، فرد بطريقة نفض بها كُرة النار الملتهبة من حِجره (إننا ننتظر الرؤيا المصرية) في حين لم يكن مطلوب منه التحدث عن مصر.. وهذا بالتحديد دفع الضرر فيم الأجواء المفتوحة، فكيف يكون الحال في الغرف المغلقة؟!!
إن الحرب في السودان لن تشكل عقبة كبيرة في هذا الإتجاه إذا ما طرح السودان كبديل، ذلك لأنها يمكن أن تتوقف بإشارة من اللاعب الدولي الأبرز - أمريكا- متى ما أرادت ذلك. فالحرب في السودان منظور لها من نواحي إستراتيجية وسياسية هي حرب "غير مُعرّفة" Undefined بطريقة يمكن معها تعقب أسبابها ومن ثم الإقبال على حلها. فهي حرب مازال يصدق عليها وصف قائد الجيش البرهان بأنها (عبثية) كما أنها في أحد تجليات التحليل تؤكد على "غياب الدولة". لهذا فهي لن تشكل عقبة في سبيل ترشيح السودان كبديل لخيار ترمب ولا أقول خطته. أما مِن الناحية الجغرافية فسفينة واحدة من أي ميناء ستكون كفيلة بنقل المهجرين لبورتسودان ومنها لبقية أراضي السودان خاصة وسطه النيلي الممتد على سهول زراعية خصبة يمكن أن تستوعب كل أهل غزة وسكان الضفة الغربية وحتى فلسطينيي الشتات. أو أن خطة عكسية كعملية موسى تلك التي نُقل فيها اليهود الفلاشا بقطع من الليل من السودان بسرية كفيلة بأن تنقل تحت جنح ذات الظلام العدد المستهدف من المهجرين.
غير أن في هذه المسارات اللاخطية خطٌ واضحٌ ومرسومٌ بجلاء وأنفة وكبرياء هي إرادة الشعب الفلسطيني الذي عاهد نفسه وشهداءه على ألاّ خيار غير التشبث بالأرض في محيط هو أدرى بمزاداته العلنية وخياناته الظاهرة والخفية. وإحباطاته العلنية ونبذه في العراء يتجرّع مرارات الإحتلال من التجارب التي خبرها منذ حريق الأقصى 1969م مروراً بالنكسة 1967م و إنتهاءاً بالأيدي المكتوفة التي أخذت تشاهد بلا مبالاة إزهاق أرواح فاقت في غضون خمسة عشر شهرا فقط سعة أكبر ملاعب كرة القدم في العالم.
د. محمد عبد الحميد
wadrajab222@gmail.com