«حرب أخرى» بين موسكو وكييف في السودان
تاريخ النشر: 27th, March 2024 GMT
في الحرب الدائرة في أوكرانيا منذ أكثر من عامين، ثمة جانب خفي بقي حتى وقت قريب بعيداً عن الأضواء رغم التغطية الدائمة والمكثفة لمجريات الميدان والجوانب العسكرية والتسليحية، وللحراك السياسي والديبلوماسي الدولي من جهة أخرى.
والجانب الخفي عنوانه حرب أخرى تدور بين موسكو وكييف على بعد ستة آلاف كيلو متر من خطوط الجبهة وتحديداً في السودان الذي يعيش حرباً أهلية بين جيشين: القوات المسلحة السودانية التي يقودها الجنرال عبد الفتاح البرهان، وقوات «الدعم السريع» بقيادة الجنرال الآخر محمد حمدان دقلو المعروف بلقب «حميدتي».
أما طرفا هذه الحرب الأخرى الخفية التي تتخذ من السودان مسرحاً لها فهما مجموعة «فاغنر» الروسية التي تساند «الدعم السريع»، وقد تغير اسمها إلى «أفريكا كوربس» بعد مقتل مؤسسها وقائدها أفغيني بريغوجين بسقوط طائرة كان يستقلها في 29 أغسطس (آب) الماضي.
وتواجد «فاغنر» في السودان ليس جديداً أو خفياً كما أن طموحاتها كانت معروفة. الجديد فقط مشاركتها الفعلية في الحرب الدائرة في السودان منذ شهر أبريل (نيسان) من العام الماضي.
ومقابل «فاغنر»، فهناك وافد جديد تمثله المخابرات العسكرية الأوكرانية وتحديداً الكتيبة المعروفة باسم «BRATSTVO»، وهذه تقاتل إلى جانب القوات المسلحة السودانية.
غلاف أسرار
وما أصبح معروفاً اليوم أن المخابرات العسكرية الأوكرانية وصلت إلى السودان في شهر أغسطس الماضي. وحتى وقت قصير، كانت الجهات العسكرية الأوكرانية المسؤولة تحيط أنشطة مخابراتها بغلاف سميك من السرية. بيد أن شبكة «سي إن إن» الإخبارية الأميركية كانت الأولى التي نجحت في هتكه في تقرير بثته في 20 سبتمبر (أيلول) الماضي مؤكدة حصولها على الصور ومقاطع فيديو من مصدر عسكري أوكراني.
وتعليق «سي إن إن» المصاحب مفاده أن «القوات الأوكرانية الخاصة هي على الأرجح المسؤولة عن هجمات بالمسيرات استهدفت مواقع قريبة من الخرطوم» كما أنها «تقوم بهجمات أرضية ضد (الدعم السريع)».
بعد ذلك بأيام، وتحديداً في 6 أكتوبر (تشرين الأول)، نجح محققون تابعون لمنظمة «بلينكات» غير الحكومية المتخصصة في تحليل الصور والمعلومات المتعلقة بالحرب الأوكرانية، في تحديد موقع الصور ومقاطع فيديو المأخوذة لقناصين أوكرانيين مجهزين ببنادق ومناظير للرؤية بعيدة المدى في بيئة صحراوية.
ووفق خلاصتهم، فإن المكان يسمى جبل «المرخيات» ويقع غرب مدينة أم درمان، (واحدة من ثلاث مدن تتشكل منها العاصمة الخرطوم).
وفي السادس من نوفمبر (تشرين الثاني)، نشرت صحيفة «كييف بوست» الصادرة باللغة الإنجليزية، مقطع فيديو لهجمات ليلية صورت من مسيّرة مجهزة بنظام للرؤية الليلية.
واكتفت الصحيفة المذكورة بالإشارة إلى أنها جرت في مدينة سودانية من غير تسميتها. إلا أن صحيفة «لوموند» الفرنسية نجحت في التعرف على المكان وهو أحد أحياء مدينة أم درمان.
ونقلت الصحيفة المذكورة، في تقرير لها نشر يوم 19 نوفمبر، عن مصادر من المخابرات العسكرية الأوكرانية تأكيد وجود عناصر من القوى الخاصة الأوكرانية «متواجدين بشكل دائم» في هذه المدينة، وأن أوكرانيا التي عانت صعوبات في هجومها المضاد الصيف الماضي، «تسعى لتطوير حضورها خصوصاً في أفريقيا من أجل محاربة (فاغنر) حيث وجدت».
وتجدر الإشارة إلى أن «فاغنر»، زمن مؤسسها بريغوجين، لعبت دوراً مهماً في الحرب الدائرة على الجبهة شرق أوكرانيا وقد نجحت في السيطرة على مدينة «باخموت» نهاية مايو (أيار) الماضي بعد معارك دامية استمرت لأشهر.
تقرير فرنسي
بيد أن أفضل تقرير حول حضور المخابرات الأوكرانية في السودان نجحت في إعداده القناة الإخبارية الفرنسية «إل سي آ» وبثته قبل ثلاثة أيام. وجاء التقرير ومدته ثماني دقائق، نتيجة جهد الصحافية المتخصصة غوندولين ديبونو التي أقامت في كييف طيلة شهر كامل، حيث تمكّنت من الالتقاء بمقاتلين عادوا من السودان وبضباط من المخابرات العسكرية، إضافة إلى مقاطع فيديو صورها أفراد من الكتيبة الأوكرانية، وتبين بوضوح أنشطتها وأهدافها. ومحور التحقيق يدور حول الحرب الروسية - الأوكرانية ولكن على الأراضي الأفريقية.
يُفهم من المقابلات التي أجريت أن أهداف كييف متعددة، أولها، «تخريب أنشطة (فاغنر) في القارة الأفريقية، وخصوصاً في السودان وحرمان موسكو من استغلال الذهب المستخرج من المناجم السودانية ونسف المجهود الحربي الروسي».
وقال أحد الضباط العائدين من السودان إن التركيز على السودان مرده «الانتشار الكثيف لـ(فاغنر) في هذا البلد الذي تحول نقطة ترانزيت رئيسية بسبب إطلالته على البحر الأحمر، حيث يمكن نقل الثورات الطبيعية المستخرجة بحرياً بسهولة».
وثاني الأهداف قطع خطوط المواصلات التي تستخدمها «فاغنر» أكانت البرية من خلال استهداف الشاحنات التي تنقل الذخائر والمقاتلين أو المراكب على نهر النيل.
وتبين مقاطع الفيديو عمليات استهداف الشاحنات بفضل المسيّرات الانتحارية التي يجيد الخبراء الأوكرانيون استخدامها أو عمليات برمائية يقوم بها أفراد القوة الأوكرانية الخاصة لتعطيل مواقع لـ«الدعم السريع» أو ضربها وتفجيرها.
خبرات متراكمة
يتمثل الهدف الثالث، وفق أحد الضباط الأوكرانيين، في نقل الخبرات العسكرية التي تراكمت لدى القوات الأوكرانية والتعويل عليها لزيادة حضورها وتأثيرها. ولذا؛ فإن القوة الأوكرانية تقوم بتدريب وحدات من الجيش السوداني على المعارك البرية واستخدام القوارب في عمليات هجومية والأهم من كل ذلك تدريبها على استخدام المسيّرات.
وشرح أحد المقاتلين الأوكرانيين، كما يبين ذلك مقطع فيديو، كيف يقومون بعمليات برمائية وكيف يستخدمون المسيّرات التي أخذت تلعب دوراً رئيسياً في الحروب الحديثة.
وجاء في شهادته ما حرفيته: «قمنا بعمليات عدة لقطع خطوط الإمداد لـ(فاغنر) من خلال كمائن على خطوط الإمداد الرئيسية وفجّرنا شاحنات الذخيرة والأسلحة وصهاريج المحروقات، وقد نجحنا في تدريب السودانيين على القيام بها وقد أخذوا بمشاركتنا في تنفيذها».
ويبين أحد مقاطع الفيديو تمكن الأوكرانيين من قتل عدد من عناصر ميليشيا «فاغنر» وأسر ثلاثة من أفرادها.
ويُعد قيام القوات الأوكرانية بتدمير القطع البحرية الروسية في البحر الأسود أحد أهم نجاحات كييف. ولذا؛ فإن القوة المنتشرة في السودان تستنسخ، إلى حد ما، الطرق والأساليب المجربة في البحر الأسود ونقلها إلى السودان وتدريب القوات السودانية على استخدامها. والطريف في أحد مقاطع الفيديو أنه يظهر جندياً أوكرانياً وقد تعلم بعض عبارات العربية إذ يلقي التحية بقوله «السلام عليكم».
من الصعب تصور أن انتشار وحدات أوكرانية في السودان وربما بعدها في دول أفريقية أخرى سيغير مصير الحرب الدائرة على الجبهات الأوكرانية. لكن الواضح، وفق الضابط الأوكراني أن بلاده تريد «استخدام خبراتها القتالية وتسخيرها دبلوماسياً واستعدادها لتوسيع انتشارها في بلدان أخرى، خصوصاً في أفريقيا». وخلاصته أن أوكرانيا «تخوض حرباً وجودية» ضد روسيا، وبالتالي فإن كل الأسلحة مفيدة لخدمة هذا الغرض.
الشرق الأوسط
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: العسکریة الأوکرانیة المخابرات العسکریة الحرب الدائرة الدعم السریع فی السودان نجحت فی
إقرأ أيضاً:
خرائط تظهر حجم الاستيلاء الروسي على الأراضي الأوكرانية.. تقدم سريع (شاهد)
حققت روسيا مؤخرًا العديد من المكاسب في حربها على أوكرانيا، ما أحدث تحولات كبيرة في ديناميكيات الصراع، وخلق تداعيات إستراتيجية بعد هذه التطورات على القوات الروسية والأوكرانية.
وقالت صحيفة "نيويورك تايمز" في تقريرها الذي ترجمته "عربي21"، إن القوات الروسية شنت على مدار العام الماضي هجمات متواصلة على المواقع الأوكرانية لم تسفر في كثير من الأحيان سوى عن مكاسب محدودة، ولكن الجهود الروسية بدأت تؤتي ثمارها؛ ففي تشرين الأول/ أكتوبر، حققت روسيا أكبر مكاسبها على الأرض منذ صيف 2022، حيث انهارت خطوط الدفاع الأوكرانية تحت الضغط المستمر.
وأشارت الصحيفة إلى أن القوات الروسية استولت على مدار الشهر الماضي، على أكثر من 160 ميلًا مربعًا من الأراضي في منطقة دونباس شرقي أوكرانيا، والتي تعتبر المسرح الرئيسي للحرب حاليا. وقد سمح لها ذلك بالسيطرة على البلدات الاستراتيجية التي كانت ترتكز عليها الدفاعات الأوكرانية في المنطقة، بدءًا من فوهليدار في أوائل تشرين الأول/ أكتوبر، ثم سيليدوف الأسبوع الماضي.
ويرى عدد من الخبراء أن هذه المكاسب المتسارعة ستساعد الجيش الروسي في تأمين أجنحته قبل شن هجوم على مدينة بوكروفسك، وهي مركز لوجستي رئيسي للقوات الأوكرانية في دونباس.
ويقول جنود ومحللون عسكريون أوكرانيون إن الهجمات الروسية طوال العام المنقضي أضعفت الجيش الأوكراني تدريجيًا رغم عدم تحقيق تقدم لافت، إلى درجة أن القوات أصبحت منهكة ولم تعد قادرة على الاحتفاظ بمواقعها.
تقدم روسي سريع
يوضح باسي باروينين، الخبير العسكري في مجموعة "بلاك بيرد" ومقرها فنلندا، أن نصف المكاسب التي حققتها روسيا في شرق أوكرانيا خلال عام كامل جاءت في الأشهر الثلاثة الماضية وحدها، وقال "الوضع في جنوب شرق دونباس يتدهور بسرعة".
وقد حققت روسيا سلسلة من المكاسب الصغيرة في تموز/ يوليو جنوب شرقي دونباس، ووضعت عينها على بوكروفسك، وهي مركز رئيسي للسكك الحديدية والطرق، تعتمد عليها أوكرانيا في عمليات الإمداد في المنطقة.
وفي آب/ أغسطس، انهارت الخطوط الدفاعية الأوكرانية وتقدمت روسيا 10 أميال نحو بوكروفسك وأطبقت على سيليدوف من الشرق والشمال.
وقد تباطأ زحف روسيا نحو بوكروفسك عندما واجهت عدة خطوط من الدفاعات الأوكرانية وأرسلت كييف تعزيزات إلى المنطقة. وبدلًا من مهاجمة بوكروفسك بشكل مباشر، حاولت روسيا تطويقها من الجنوب، وأحكمت قبضتها على سيليدوف. وفي أقصى الجنوب، استولت على فوهليدار، وهي بلدة حصينة تقع على قمة تل.
كما تقدمت أيضًا إلى كوراخوف من ثلاثة اتجاهات، في محاولة للضغط على القوات الأوكرانية للخروج من المدينة.
وشبّه باروينين الهجمات الروسية المتواصلة على القوات الأوكرانية بـ"لعبة اضرب الخلد"، حيث تظهر باستمرار نقاط تأزم جديدة أسرع من قدرة الجيش الأوكراني على رد الفعل، وهذا يسمح لروسيا بالتقدم بسرعة كلما وجدت نقطة ضعف.
وأشار فينسنت توريه، المحلل في المؤسسة الفرنسية للأبحاث الاستراتيجية، إلى عوامل أخرى ساعدت روسيا على التقدم، بما في ذلك استخدامها المتزايد للقنابل الموجهة القوية، التي يمكنها تدمير مواقع العدو المحصنة، ونقص التحصينات الأوكرانية في المنطقة التي يدور فيها القتال.
وقال توريه: "الدفاعات الأوكرانية أصبحت مدمرة أكثر فأكثر، والتضاريس أكثر ملاءمة للهجمات الروسية. علاوة على ذلك، فإن الروس لديهم زخم أكبر من خلال استخدام القنابل الموجهة. وتجتمع العوامل الثلاثة لتفسير المكاسب الروسية المتزايدة".
وقد عانت كييف من نقص حاد في قواتها في ساحة المعركة، ولمعالجة هذه المشكلة قال أوليكساندر ليتفينينكو، أمين مجلس الأمن القومي والدفاع الأوكراني، أمام البرلمان يوم الثلاثاء إنه سيتم تجنيد 160 ألف جندي إضافي، بهدف رفع نسبة الأفراد في الوحدات إلى 85 بالمائة.
وأضافت الصحيفة أن القوات الروسية تمكنت في الأشهر القليلة الماضية من اختراق المعاقل الأوكرانية في محيط تشاسيف يار بعد أن فشلت محاولاتها منذ فترة طويلة بسبب قناة تفصل المدينة عن ضواحيها، والتي كانت بمثابة حاجز طبيعي للأوكرانيين. ووفقًا لوزارة الدفاع البريطانية، من المرجح جدًا أن روسيا عبرت القناة واقتربت من حدود المدينة.
كما استخدم الجيش الروسي تكتيك التهديد بالتطويق لإجبار القوات الأوكرانية على الانسحاب في أماكن أخرى، كما هو الحال في سيليدوف. وفي هذا السياق، يقول سيرهي كوزان، رئيس مركز الأمن والتعاون الأوكراني، وهي مجموعة بحثية غير حكومية، إن سيليدوف تحمي الجناح الجنوبي لبوكروفسك وأن الاستيلاء عليها سيساعد روسيا على تركيز مدفعيتها وتأمين طرق الإمداد.
ضعف التحصينات
يقول الخبراء العسكريون إن التقدم السريع الذي أحرزته روسيا مؤخرًا يشير إلى نقطة ضعف أوكرانية أخرى، وهي نقص التحصينات.
فبعد الاستيلاء على بلدة فوهليدار الحصينة في وقت سابق من هذا الشهر، واجهت القوات الروسية أرضًا مفتوحة مع خطوط دفاعية أوكرانية متناثرة وقليل من المناطق الحضرية التي يمكن للقوات الأوكرانية أن تتحصن فيها لمجابهة التقدم الروسي.
وفي الأسبوع الماضي فقط، تقدمت روسيا حوالي ستة أميال شمال فوهليدار، وهي وتيرة سريعة بشكل غير عادي مقارنة بالمكاسب السابقة. ويعلق باروينين قائلا: "لقد تجاوز الروس الآن خط الجبهة القديم وحقول الألغام الواسعة التي كانت مزروعة فيه، والتي أوقفت الهجمات السابقة على فوهليدار عام 2023".
ومما زاد الطين بلة، أن أوكرانيا أضعفت مواقعها في دونباس من خلال إعادة نشر وحدات متمرسة من هناك إلى منطقة كورسك الروسية، حيث شنت القوات الأوكرانية هجومًا مفاجئًا عبر الحدود هذا الصيف.
ومن المشاكل التي يعاني منها الجانب الأوكراني قلة خبرة القوات التي تكافح لصد الهجمات الروسية، ويشير توريه إلى أن العديد من الوحدات التي تدير الآن الخطوط الأمامية في دونباس هي من قوات الدفاع الإقليمي الأوكرانية - وهي قوة مكونة إلى حد كبير من المدنيين الذين تطوعوا لمحاربة الروس في سنة 2022، ولكنهم يفتقرون إلى التدريب والمعدات التي تتمتع بها وحدات الجيش النظامي.
ويرى باروينين أن التقدم السريع الذي حققته روسيا مؤخرا يدعم "الصورة العامة التي لدينا عن القوات الأوكرانية: الاحتياطيات منخفضة، والكثير من الوحدات النوعية عالقة في كورسك، ولدى روسيا ما يكفي من القوات لاستغلال أي نقاط ضعف في خطوط الدفاع الأوكرانية".