هنالك مقولةُُ سارية تقول أنّ أفضل ما فعله السودانيون في تاريخهم هو ما فعلوهُ وهم متوحدّون ، وهذه مقولةٌ سطحية تفسّر سطحية تحرّكات من أطلقوها باحثين عن تحالفات كبيرة الأحجام مشتتّة الإرادة، في الحقيقة فإن أفضلَ ما فعلهُ السودانيون طوال تاريخهم الحديث فعلوهُ عندما توّحدت إرادتهم ، كانت تلك الإرادةُ إحساساً جماعياً لا تحالفاً سياسياً ولا قبلياً ولا إجتماعياً ، إرادةٌ بدأت بالثورة المهدية عندما أحسّت مجتمعاتُ السودان الغُبن والكراهية ضدّ المستعمر التركي ، فترجموا إحساس القهر لقوّةِ خارقة إلتفت حول الإمام المهدي لا في شخصه ، وإنّما حول إرادته التي كانت مطلب الجميع ، فنتج عن ذلك حركة المقاومة الإجتماعية الأشرس في المستعمرات التركية في ذلك الوقت فسالَ فيها دمُُ لا زالت تتحدّث عنه الحبّوبات في أحاجي المساءات في مُدن السودان وأريافه، كانت مُكافأةُ السودانيين التي أخذوها لمقاومتهم هي التحرّر والإنعتاق .

. بعد ذلك إتّحدت إرادةُ السودانين ضدّ قهر المستعمر الإنجليزي وقهر عبود وقهر نميري وقهر البشير فأجتذوا آثارهم في ثوراتٍ سلمية عظيمة .. ومن الجدير هنا الإشارة إلى فشل هؤلاء القادة في توحيد السودانين وإنتاج نظام سياسي مستقر لأنهم تاهوا بين الدروب وأستوردوا الأفكار وأعتمدوا الحلول السطحية لإشكاليات مجتمعاتٍ مُعقّدة وجدت نفسها دون سابق إنذار تحت مظلةِ دولةٍ واحدة ذات نظام حكمٍ مركزي .. ففشل هؤلاء القادة والنخب التي كانت تنظّر لهم في ترجمة الإرادة الجماعية لعقدٍ إجتماعي يجنح بالدولة إلى التطور لا إلى الصراع، ما حدث في ديسمبر لم يكُن إلّا تكراراً لتوهانٍ تاريخي بالغٍ في الخطورة ، وهذه المرّة نتج عنه أبشع حربٍ في تاريخ السودان الحديث الغارق في النزاعات الأهلية وكالعادة عملت النّخبة السياسية على معالجة الخطأ بالخطأ ، فبالرغم من أنّها بعد ثورة ديسمبر التي ضحّى من أجل سودان السلام فيها من ضحّى قد عمِلت على تعميق الصّراع وإشاعة خطاب الكراهية وتقنين وضعية جيشين في دولةٍ واحدة بحثاً عن السّلطة ، بعد وصول التناقضات إلى ذروتها ونشوب الحرب لم تستشعر هذه النّخبةُ خطورة مافعلت وما تفعل فعَمدَت مرّة أُخرى على الإلتفاف حول جسم المليشيا الشائِه ومُداراة سوءاته وسُتر جرائمه وتعملُ جاهدة بلا كلل على إعادة إنتاجه لتدمير الحاضر والمستقبل، مُتسّترة في ذلك بشعارات لا للحرب الكذوبة وبأخلاقٍ تدعيها لكن لا تمتلكها والتاريخُ قد وثّق كُلَّ شئٍ مكتوباً ومرئياً ومسموعاً ..
في أبريل إتّحدت إرادةُ السودانين في دربٍ آخر ، ودرسٍ ربما ليس الأخير ولكنّه الأعمق لإجتثاثِ المستعمرين الجُدد ، وقد تُرجم إحساسُ القهر لإنتاج المقاومة الشعبية التي إلتفّت حول هدفٍ واحد وهو سيتحقّقُ لامحالة .. لكن هنا لابدّ من الرأفةِ على الكثيرين الذين ظلّوا تحت تأثير الخدرِ اللذيذ للجماعات السياسية النَشاز ، فبعد سنةٍ من كلمة التاريخ الفصل بأنّ مليشيا الدعم السريع لا مكان لها لا عسكرياً ولا سياسياً في مستقبل السودان بسبب ما فعلت وما زالت تفعل ، ظلّ الكثيرون في مواقع أهل الأعرافِ خوفاً من التأثيرات النفسية الصبيانية من عناصر التحالف السياسي النَشاز أو خجلاً من تغير مواقفهم بعد أن إستبان النّصحُ أو غروراً ..
أمام كُلِّ مَنْ كان جزءاً من إرادة السودانين في التحرُّر في شتاء ديسمبر قبل خمسة أعوام فرصةُ أن يتحرّر هو نفسه ويفكّ وثاقه بيديه فما مشيناها من دروبٍ وما أُعيدت على مسامعنا من دروسٍ لم تعُد تحتملُ مزيداً من اللامبالاة والكسل والإنقياد الاعمي وراء كلّ من شكّل تحالف ، لأنّ ما كنّا نراهُ مجرّد مهرجاناتِ فرحٍ في ذلك الشتاء العظيم ، تفتّق عن جراحٍ شديدةِ الغور ومتناقضاتٍ لا حصر لها ، ونارُُ عظيمةُُ كلّما غفلنا عنها زاد أشتعالها ، سودانُ متماسكُُ في سطحه لكن بداخله ندوبُُ كثيرةُُ ، غُبنُُ وتربّصُُ وخيانة ، ولا يداوي ذلك إلّا إرادةُ ضحايا حربِ أبريل لإجتثاث الشرّ من جذوره وبناء سودان يشبه أهله بكلّ سحناتهم وألوانهم وثقافاتهم ، سودانُُ لا مجال فيه لرفض الآخر إلّا في إطارِ تنافسٍ سياسي عادل بعد إقامةِ مؤسساتِ العدالة على هُدى الشعبِ ووفق إرادته ، سودانُُ تجزّ فيه كلّ الأجسامِ الضارّة التي تنمو وفق عمليةٍ إستهباليةٍ سياسية كانت أم إجتماعية .. سودان البقاءُ فيه للأرض وأمانُ الديار ، والحُكم فيه للقانون الخارج من صميم شعوبه .. سودانٌ لا مكان فيه لإرادة المُنظمات والأجسام المشبوهة وقوى الإستعمار الحديث .. سودانُُ روحه من أهله وخيره لأهله والسلام .
رُبّما وأقول ُربّما أنّ هذه هي الرسالة التي أراد أن يوصلها لنا أوبريت الدُرُوب، إذْ أنها – أي الدُرُوب – في جوهرها أطروحةٌ نقدية تاريخية لتُفْهَم وليست كلمات ملحّنة ومغنّاة لتُسمع، أتت تلك الأطروحة لتقوم بإستعراضٍ لتاريخ السودان حتى تصل إلى خُلاصةٍ واحدة وهي أن ليس ثمَّ مخرجٌ من سودان ما بعد الاستعمار لا يُعرِّف الأزمة كأزمة مُمتدة في حدها الأدنى من 1956 وفي حدها الأقصى من 1821 رُفعت الأقلام وجفّت الصحف.
الشُكر كُلُّ الشُكر ِلكل مَن ساهم وشارك في إخراج هذه التُحفة الفنية العظيمة لتبقى هاديةً للأجيال.
كلمات الأوبريت :
قُول لي يا سُودان عليك عَرَق الغَلابة و همّهم
إنتَ بتمِشْ فُوق الدُرُوب أمْ هي بتمِشْ فُوقك تجرِّب حظّها
و كُلُّ مرة هِي بِتَحرِقْ دمّهم
قُول لي يا سودان عليك دَمع الثَكالى و نخْجتِن
سايل على خدَّك سِنين
إنتَ البتذرف للدُموع أمْ هِي بتسوقَك خلفها
لِجْمَات حُزُن طُول الزَمن
شِقِيش يسيل دَمعك تَمِشْ
وين ما يكون حُزنَك تكون كل ما تَنَاديك أنّتِن
واقِف أظنِّك لِيك زَمن كُل ما سِمِع عنَّك طريق
جَا وجرَّبك أو خرَّبك يِمشِيك يدُوسك ما بِخاف فزْعة وِلاد واقفِين حِداك ولعلَّهم ماشِین سِنين درب الجمُر
تِعِب الجمُر من تِحتهم يِدفِن خُطى الأحلام هَشيم الأُمنيات تذرّو الرياح آثارهم تاه الطريق مِن خلفهم لا هو استبان لا وصلوا هُم
يا وطني مَلْطشَة الدُرُوب حتّى الدُرُوب مَلَّت خلاص
ملَّت رمَادك تِحتهم ما بحسِّو هُم
من روسيا جابو لَك طريق تَمْلاو رِفاق
كَسوك مِن لبسَاتا صوف صِيفك بيضَحك اخْتِناق
عرَّاقي بَسْ بِقضي الغَرَض يا اولادي ما هذا الطريق
الكُلُّو ضيق الحَرْ نَضمْ و الحُرْ وهِمْ والثورة تاكل في جَنَاك
والأمر أبسط من كدا
من مصر جابو لَك زُقاق قالو بتمُرْ
أخوان مِنو؟ أخوانَّا أم أخوان بعض؟
صالِح منو العام في الفساد هل نِحنا هُم؟
هُم مِنو؟ یاخْ هُم منو؟
و الأمر أبسط من كدا
ما بين مصر والرُوس دِريبَات من وهَمْ
خمُّونا خَمْ باسم الذي ما أرسلُمْ
أسياد نهم هل دِیل ولادَك يا وطن هل كُنتَ عَاق؟
لا أبداً وحَاتَك لَم تكُنْ
لم تكن إلا النِسِيمات في الصباح
تَمْلا القُلوب وتفِيض سَماح
إلا البِسِيمات في وُجُوه أطفَالنا
كم علمَّتها الحُب في كِفاح
إلا المعالِم في الدُرُوب
أشجَارك أحجَارك و أنفاس المُلاح
تحكِيك بدون ما تقُول فللطِيب افتضاح
تحكِيك تنادينا وتقول الفَجْر لاحْ
ما قُلت ليك الأمر أبْسَط مِن كِدا
سودان وبَسْ سودان کَفی
الكُل غلَط وإنتَ اللي صاح
آخر سُؤال ليك يا وطَن
قول لي سألتك بالقِبيل
رفعوا العلم رفعوهو ليه؟
وفَضلْ الألم في كُل شِبِر
دَمْعات ودمْ فرحتنا هل كانت وهَمْ؟
قُول لي يا سُودان مِتِين تِختَار طريقَكْ بي فَهَمْ
تَختاها مَلْطشة الدُرُوب تَخّتى الوهَمْ
شان الغَلابة وهمّهم شان الثَكالي وأنّتِن
قِدّام هِناك شايل مَزامير الفَرح
نَبْراك نِحنا وحُلمهم نَبْراك ِنحنا وضحكتِن
في كُل قلِب تلْقى الدَرِب
تبْقى الدَرِب نبْرى الوطن
#أوبريت_الدروب

شادي علي

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: الد ر وب

إقرأ أيضاً:

"فك كربة".. مشروع مجتمعي

 

 

 

محمد بن رامس الرواس

 

كانت بداية "فك كربة" مبادرة من محامٍ، ثم مجموعة من المحامين حتى أصبحت اليوم مشروعًا وطنيًا، تقوم عليه عدة جهات من المجتمع الذي يتصف دوماً بالعطاء والسخاء سواء أفرادا أو مؤسسات مجتمع مدني.

إنها مبادرة مُهمة وعظيمة ذات أبعاد اجتماعية تتفق مع مبادئ ديننا الإسلامي الحنيف، وتدعو إلى التكامل والتآزر والتآخي والتعاضد والتكافل، فما أحوجنا اليوم إلى زيادة تفعيلها ونشرها خاصة في ظل الضغوطات الاجتماعية والأسرية والمعيشية التي باتت تزداد يوما بعد يوم، تقابلها مسؤولية اجتماعية للفرد، وبالتالي هي مسؤولية كافة أطياف المجتمع وليس هناك جهة واحدة يقع على كاهلها تخليص من طالت به الأيام في العسر والضيق بالسجن.

ما زلتُ أتذكر كلمات الدكتور محمد بن إبراهيم الزدجالي المشرف العام على مبادرة فك كربة بجمعية المحامين العُمانية عندما لخص الفكرة قائلًا: "التبرع يمكن أن ينقذ شخصًا واحدًا مدينًا في ظاهره، ولكن في حقيقته يُبهج عائلة بأكملها". إنَّ هذا الأمر إنما هو مسؤولية الجميع للتخفيف عن معاناة من وقعوا تحت طائلة القانون في ظل ظروف قد تكون خارجة عن إرادتهم، ولطالما كانت الجمعيات الخيرية والجمعيات الأهلية، وعلى رأسها جمعية المحامين العُمانية واحدة من أهم الجهات التي كانت ولا تزال لها الدور الأساسي في مد وتقديم يد العون لهم خاصة لأولئك المعسرين الذين تتوافر فيهم شروط معينة يتطلب الأمر الوقوف معهم ومساعدتهم، أولئك الذين وقعوا في قضايا مالية ولديهم أسر متعففة.

وعليه.. فإنَّ هذه المسؤولية تقع على كافة المجتمع لما لها من تحديات قد تفوق أحياناً قدرات الجهات التي تقوم بأدوارها اليوم، من أجل ذلك لابد أن تتساوى المسؤولية الاجتماعية بين الأفراد والشركات والمؤسسات وأهل الخير ورجال الأعمال والجمعيات الخيرية واللجان والفرق الخيرية بالولايات وكل من له علاقة بهذا الموضوع من خلال التبرعات المالية، والحملات التوعوية لفك كرب الأسر المحتاجة عبر تقديم الاستشارات القانونية للمسجونين في القضايا التي تشملها المبادرة، ومن أجل ذلك كانت التوعية والتكافل الاجتماعي، ونشر ثقافة العطاء وتعزيز فكرة دعم المحتاجين واجبًا جماعيًا مُستدامًا وليس مجرد عمل خيري موسمي لجهة واحدة بعينها.

إنَّ مبادرة فك كربة بجمعية المحامين العُمانية كمشروع إنساني يحمل شعار "لأننا نؤمن أن الإنسان يستحق فرصة ثانية"، واحدة من المبادرات التي يفخر بها المجتمع العُماني؛ حيث تهدف إلى جمع تبرعات مالية لفك أسر المُعسِرِين الذين يقبعون في السجون بسبب مطالبات مالية متأخرة أو تجارية أو غير ذلك التزامًا منها بما يتوافق مع ما يحمله المجتمع العُماني من قيم وصفات أخلاقية تدعو إلى التعاضد والتآزر هذا بجانب كل ما يدعو إليه ديننا الإسلامي الحنيف ويرشد إليه نبينا عليه أفضل الصلاة والتسليم.

رابط مختصر

مقالات مشابهة

  • "فك كربة".. مشروع مجتمعي
  • «التجديف الحديث» يشارك في «الكونغرس العالمي»
  • البعاتي كانت عيناه تتحركان بشكل آلي (ومخيف نوعا ما)
  • كيكل: الوحدة التي حدثت بسبب هذه الحرب لن تندثر – فيديو
  • لماذا صمت المشايخ والدعاة ؟
  • الدول التي تدرس إدارة ترامب فرض حظر سفر عليها
  • عاجل . البنك المركزي اليمني يكشف عن نقل مراكز البنوك التي كانت بصنعاء الى إلى عدن. ضربة موجعة للمليشيا الحوثية
  • إيزاك يرفض الحديث عن مستقبله ويركز على موقعة ليفربول الحاسمة
  • المجلس الوطني الكوردي رافضا الدستور السوري: كتب بعقلية أمة واحدة ودين واحد
  • حماس: الحديث عن مقترحات جديدة يهدف للقفز على اتفاق غزة