يعاني العالم اليوم من أزمات كثيرة بعضها بنيوي يهدد العالم في وجوده أو على الأقل في مساره الآمن نحو المستقبل.. ورغم التقدم الهائل الذي يشهده عالم اليوم فإن أخطر أزماته ليست تكنولوجية كما قد يتصور البعض إلا أن أخطر أزمة حقيقية يعيشها العالم اليوم ألا وهي أزمة القيم والمبادئ. وما يجعل أزمة القيم والمبادئ أحد أخطر الأزمات هو أنها مرتبطة بجميع مسارات الحياة لذلك فإن تأثيرها قوي وأساسي على كل الأزمات الأخرى سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية.
لقد كرّست الأزمة الأخلاقية والقيمية في العالم وجود بيئات تزدهر فيها المعلومات المضللة، كما همّشت بشكل كبير حقوق الإنسان، وسهّلت أمر التشكيك في معايير وأخلاقيات المؤسسات العلمية والطبية. وإذا كانت الثورة التقنية والتكنولوجية التي يشهدها العالم بسبب تطبيقات الذكاء الاصطناعي يفترض أن تشعر العالم بالفخر على هذه الإنجازات نجدها تبث الخوف والتحذيرات والأمر عائد في مجمله إلى الجانب القيمي والأخلاقي الذي قد يتسبب غيابه إلى فناء البشرية نتيجة التطور الهائل للذكاء الاصطناعي.
وتعزى أزمة القيم والمبادئ في مختلف المجتمعات في العالم إلى أسباب كثيرة في مقدمتها تدهور دور الأسرة والنظم التربوية وحدوث تغيرات جوهرية في الكثير من المفاهيم الاجتماعية، إضافة إلى التأثيرات الناتجة عن ثقافة العولمة التي كرست في المجتمعات رغم اختلاف الكثير من المقاييس والمفاهيم، إضافة إلى زراعة ثقافة الاستهلاك في مختلف المجتمعات في العالم.
ورغم أهمية هذه الأسباب إلا أن أحد أسباب أزمة المبادئ في العالم تعود إلى تراجع أو غياب دور النخب المثقفة في العالم، وبشكل خاص العالم العربي. كانت النخب الثقافية تقوم بدور تنويري كبير، وتقوم بصياغة القيم والمبادئ داخل المجتمعات، وكانت مسؤولة عبر التاريخ في توجيه الرأي العام نحو المثل العليا، لكن الكثير من هذه النخب تخلت عن دورها لأسباب كثيرة من بينها التغيرات الثقافية والاجتماعية في المجتمعات وكذلك الضغوطات الاقتصادية والسياسية، ونتج عن هذا التخلي أو تآكل الدور الذي كان للنخب، ضعف في مختلف مفاصل المجتمعات.
إن العالم الذي نعيش فيه في أمس الحاجة إلى بناء فهم أعمق للثقافة والتاريخ والأخلاق حتى نستطيع تجاوز الكثير من التحديات والمنزلقات التي ينزلق العالم نحوها كل يوم.
وعلى النخب الثقافية تحمل مسؤولياتها في مواجهة التحديات المعاصرة، مثل العولمة والتكنولوجيا الجديدة، بروح من النقد البناء والابتكار، مع الحفاظ على الهوية الثقافية والقيم المجتمعية.. وهذا يتطلب مواجهة موجات التضليل والأخبار الزائفة وتعزيز ثقافة النقاش العقلاني والموضوعي.. وهذا بالضرورة يعني أن لا تكون النخب الثقافية متورطة بنفسها في هذه الموجات الزائفة.
ويمكن للنخب الثقافية أن تقوم بدور فعّال في التوسط بين الثقافات المختلفة والمساهمة في بناء جسور الحوار والتفاهم المتبادل تعزيزا لقيم التعايش والسلام.
ومع أن دور النخب الثقافية مهم وأساسي في طريق تجاوز الأزمة الأخلاقية والقيمية التي يعيشها العالم إلا أنه لا بد من الإشارة إلى أن العالم في حاجة ماسة، أيضا، للقيادة الأخلاقية سواء في الدول أو حتى في المنظمات الدولية بهدف نشر القيم المشتركة بدلا من التركيز فقط على قيمة المساهمين.
لقد تآكلت عبر العقود الماضية الكثير من القيم التي كان النظام العالمي يتكئ عليها أو أنه حصل على مشروعيته منها مثل قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان وسيادة القانون والسياسة الواقعية المتمثلة في التعامل مع الاضطرابات الاقتصادية والجيوسياسية.
وسقطت الكثير من هذه القيم والمبادئ حتى إن النظام الغربي القائم على فكرة الديمقراطية وحقوق الإنسان أصبح ليس فقط في موضع النقد وإنما في موضع الرفض، وقد تحرض الكثير من الأزمات والحروب التي يشهدها العالم بما في ذلك الحرب على غزة والحرب الروسية الأوكرانية والحرب الأهلية في السودان وانتشار الفكر الشعبوي في العالم الغربي على حركة عالمية كبرى لإسقاط النظام العالمي القائم الآن؛ لأنه يثبت كل يوم فشله الذريع.. وهذا كله بسبب أزمة الأخلاق والقيم في العالم.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی العالم الکثیر من
إقرأ أيضاً:
مفتي الجمهورية: نواجه تحديات فكرية وثقافية تسعى لهدم القيم وتفكيك الأسرة
قال الدكتور نظير محمد عيَّاد، مفتي الجمهورية، ورئيس الأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء في العالم: إن الحديث عن الأسرة لم يعد من نافلة القول، بل أصبح من أوجب الواجبات، نظرًا لما تواجهه من تحديات فكرية وثقافية ممنهجة تسعى لهدم القيم وتفكيك كيان الأسرة، وهو ما يُعد تهديدًا مباشرًا لاستقرار المجتمع بأسره.
جاء ذلك خلال كلمته التي ألقاها في ورشة العمل التي نظَّمها المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية تحت عنوان: «قضايا الأسرة المصرية: التحديات وسبل المواجهة»، وذلك بحضور نخبة من الأكاديميين والخبراء والمتخصصين في مجالات الاجتماع والدين والإعلام.
وقد استهل المفتي كلمته بتوجيه الشكر إلى إدارة المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، وعلى رأسها الأستاذة الدكتورة هالة رمضان، مديرة المركز، مشيدًا بالجهود العلمية التي يبذلها في معالجة القضايا المجتمعية ذات الأولوية، وفي مقدمتها قضايا الأسرة، التي وصفها بأنها ليست قضية عادية أو ثانوية، بل تمثل عمق الأمن المجتمعي، وجوهر الاستقرار الوطني.
وأضاف فضيلته قائلًا: إن الحديث عن الأسرة وقضاياها لم يعد من الأمور الثانوية أو التكميلية كما كان يُنظر إليه في السابق، بل أصبح من أوجب الواجبات في ظل ما نشهده من تحديات معاصرة متسارعة. فبِنْيَة الأسرة لم تعد بمعزل عمَّا يدور حولها من تحولات فكرية وثقافية وسلوكية، جعلت من الضروري أن تتكامل الجهود الدينية والعلمية والمجتمعية للحفاظ على هذا الكيان الأساسي الذي يُعد نواة المجتمع وركيزته الأولى.
وأشار إلى أن دار الإفتاء المصرية تتابع هذه التحولات باهتمام بالغ، وتسعى إلى مواكبة ما يطرأ من إشكاليات تمسُّ استقرار الأسرة وتماسكها، موضحًا أن من أخطر التحديات التي تواجه الأسرة اليوم هو التأثير المتنامي لوسائل التواصل الاجتماعي، وما تحمله من مفاهيم مغلوطة تختلط فيها الحقائق بالأوهام، ويتم من خلالها الترويج لأفكار دخيلة تسعى لتفكيك القيم وطمس الهوية.
وحذَّر المفتي من الغزو الفكري والثقافي الممنهج الذي يستهدف ضرب استقرار الأسرة وتشويه معالمها، عبر نشر أفكار تتنافى مع منظومتنا الدينية والأخلاقية، مثل: الشذوذ الجنسي، والحرية المنفلتة، والانسلاخ عن المبادئ التي تحفظ التوازن داخل الأسرة. لذلك، فإن الحديث عن قضايا الأسرة هو حديث عن أمن مجتمعي واستقرار وطني، لا يقل أهمية عن غيره من القضايا الكبرى.
وأكد فضيلته أن حماية الأسرة لا تنفصل عن حماية الهوية الوطنية، قائلًا: هويتنا الوطنية مكوَّنة من: الدين، واللغة، والتاريخ، والقيم، وهناك محاولات ممنهجة لطمس هذه الهوية، مما يستدعي وقفةً واعيةً وتكاتفًا لحماية الإنسان المصري من الذوبان الثقافي.
وختم فضيلة المفتي كلمته مؤكدًا أهمية تبنِّي خطاب ديني رشيد يواكب التحديات، قائلًا: نحن بحاجة إلى خطاب ديني واعٍ ومتكامل، وإلى دعم علمي ومجتمعي يسانده، حتى نتمكن من استعادة التوازن داخل الأسرة، وتعزيز قيم المودة والرحمة، والتصدي للتحديات الأخلاقية والفكرية التي تهدد تماسك المجتمع. ولا شك أن اللقاءات العلمية والورش التفاعلية مثل هذه تُعد خطوة في الطريق الصحيح نحو بناء مجتمع قوي متماسك، يُعلي من شأن الأسرة ويحميها من التفكك والضياع.
وقد شهدت الورشة مشاركة عدد من المتخصصين والخبراء، حيث أعربت الدكتورة هالة رمضان، مديرة المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، عن ترحيبها بفضيلة المفتي والسادة الحضور، مُشيدةً بالدور الفاعل الذي تقوم به دار الإفتاء المصرية في الإرشاد الزواجي ومواجهة التفكك الأسري، مؤكدة على أن الدولة المصرية أَوْلت اهتمامًا بالغًا ببناء الإنسان والحفاظ على كيان الأسرة، ونحن نُثمِّن الدور الرائد لدار الإفتاء في هذا المجال.
من جانبه أكد الدكتور مجدي حجازي، أستاذ علم الاجتماع وعضو المجلس الأعلى للثقافة، أن هذه الورشة تأتي في توقيت بالغ الأهمية، في ظل ما وصفه بتراجع القيم الإنسانية، وهيمنة اللون الرمادي"، مشيرًا إلى أن مواجهة هذا التراجع القيمي تتطلب "العودة إلى الهوية والثوابت، مع ضرورة التفاعل الواعي مع التطورات التكنولوجية.
من جهته، أشار الدكتور وليد رشاد، أستاذ علم الاجتماع بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، إلى أن كثيرًا من الأسر التي تشكَّلت عبر وسائل التواصل تواجه تحديات كبيرة بسبب النزعة المادية في اختيار شريك الحياة، لافتًا إلى أن "ظواهر مثل: عزوف الشباب عن الزواج، وارتفاع معدلات الطلاق، والمشكلات الداخلية الناتجة عن التدخل السلبي من الأهل، أو الخيانة الزوجية، أو الانفصال العاطفي، كلها مظاهر تتطلب معالجة علمية ومجتمعية شاملة.
وفي سياق متصل شهدت الورشة أيضًا تقديم ورقة عمل للدكتور عمرو الورداني، أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية، بعنوان: نحو سُبل مباشِرة لمواجهة التحديات المعاصرة للأسرة المصرية - رؤية تحليلية من واقع قضايا دار الإفتاء المصرية، والتي أكد خلالها أن الأزمة الأسرية الراهنة متعددة الأبعاد: ثقافية، ونفسية، واتصالية، داعيًا إلى تعزيز المرافقة القلبية والعاطفية بين أفراد الأسرة، وبناء العلاقات على المودة والرحمة لا على العدل فقط.
وأشار الدكتور الورداني، إلى أن أبرز مهددات التماسك الأسري والاجتماعي تشمل السيولة القِيَمية، والضغط الاقتصادي، وسوء التواصل، وانتشار المفاهيم الدينية المغلوطة، مؤكدًا أهمية دمج الدين بالحياة اليومية، وتشبيك العلوم الشرعية والاجتماعية، وتفعيل الفتوى كأداة تربوية وأخلاقية.
كما دعا إلى تدريب المقبلين على الزواج، وإعادة تأهيل الأزواج، وتبنِّي خطاب ديني إفتائي مبكر داخل المناهج الدراسية، إلى جانب محاكاة السلوك النبوي داخل الأسرة.
جدير بالذكر أن هذه الورشة تأتي في إطار تعزيز التعاون المشترك بين المؤسسات الدينية والبحثية لمواجهة التحديات المتزايدة التي تهدد الأسرة المصرية، والسعي نحو بلورة رؤية متكاملة علمية وروحية تحفظ تماسك المجتمع، وتدعم استقرار الأسرة باعتبارها نواة البناء الاجتماعي وأساس نهضة الوطن.