«مركز 1871»... من لهب الحريق إلى وهج الابتكار
تاريخ النشر: 26th, March 2024 GMT
في نوفمبر من عام 2023م حقق «مركز 1871» التكنولوجي الأمريكي إنجازا علميا كبيرا من خلال تنفيذ مختبر ابتكار الذكاء الاصطناعي في شيكاغو، الذي يعد حدثا عالي المستوى، ويتم فيه تتويج شركات الابتكار الفائزة بدعم المستثمرين، إذ استضاف المختبر (39) رائد عمل من مؤسسي الشركات الناشئة والقائمة على الابتكار التكنولوجي، وأتاح لهم الفرصة لعرض شركاتهم الابتكارية على (300) من أصحاب رأس المال الاستثماري المحلي، والأكاديميين، وخبراء الذكاء الاصطناعي، والرؤساء التنفيذيين لكبرى شركات مدينة شيكاغو وولاية إلينوي، ومبتكري الشركات الناشئة الأخرى، وبيوت الخبرة الاستشارية مثل ماكينزي وغيرها، ومختلف فئات المجتمع المحلي، حيث أتاح المختبر الفرصة لأي شخص لحضور الجلسات العامة، والمناقشات الجانبية، ولكن السؤال الأكبر هو: ما الذي جعل من مختبر «مركز 1871» للابتكار الاصطناعي قصة نجاح مثيرة للاهتمام رغم انعقاد فعاليات شبيهة لها في جميع دول العالم؟
في البدء تعالوا نتعرف على «مركز 1871» الذي تأسس في عام 2012م كمؤسسة غير ربحية لدعم مجتمع الشركات الناشئة الرقمية في شيكاغو، جاء تسميتها بهذا الاسم استيحاءً من حريق شيكاغو العظيم الذي حدث في عام 1871م، في ذلك الوقت اجتمع المهندسون، والمعماريون، والمخترعون وعملوا معًا لبناء مدينة جديدة ومتميزة، وقد كان مصدر إبداعهم هو ذلك المزيج من الشغف، وروح التجديد، والبراعة العملية التي لم تُشكل ملامح جديدة للمدينة التي نهضت من الرماد، ولكنها بقيت مصدر إلهام المبدعين والمبتكرين في كل مجال وليس في البناء والتشييد، وهذا بالنسبة للاسم، أما من الناحية التشغيلية فقد حقق المركز منذ إنشائه نموا مطردا حتى صار مركزًا إقليميا للتكنولوجيا المتقدمة، وضمن أفضل البيئات الداعمة والمحفزة لريادة الأعمال الأكاديمية، إذ يعد مركز 1871 موطنًا لأكثر من (400) شركة ناشئة رقمية عالية النمو منذ مراحلها المبكرة، وهي أيضًا المقر الرئيسي لأفضل حاضنات ومسرعات الأعمال في مدينة شيكاغو، وأنشأ المركز مدارس المواهب التقنية الذي يستهدف رعاية الموهوبين واستقطابهم واستبقائهم في المجالات العلمية والتقنية، وكذلك يعمل المركز مع تحالف إلينوي للعلوم والتكنولوجيا، الذي يمثل الداعم الأكبر للتكنولوجيا والتقدم العلمي في الولاية، ويتواجد بالقرب من مبنى المركز عدد من شركات رأس المال الاستثماري في شيكاغو، ومكاتب تابعة لكل من جامعة نورث وسترن، وجامعة شيكاغو، وجامعة إلينوي، ومعهد إلينوي للتكنولوجيا.
إذن أين هي مواطن التفوق التي صنعت نجاح مركز 1871 التكنولوجي؟ لو نظرنا إلى السردية الاستراتيجية للمركز نجد بأن المركز قد حلق بنجاحه خارج حدود ولاية إلينوي ليصبح مركزً للابتكار العالمي، إذ تنص السردية على ما يلي: «نحن لم يتم تسميتنا على اسم حريق شيكاغو العظيم في عام 1871م، ولكن قد ألهمنا ما حدث بعد ذلك، تلك اللحظة الرائعة التي لم تُشكل مدينة شيكاغو فحسب، بل شكلت العالم الحديث بأكمله»، وهذا يعكس حقيقة أن القصة من وراء الاسم هي بحد ذاتها مصدر قوة هذا المركز، فقد نجح مجموعة المؤسسين الرائدين من توظيف رمزية هذا الحدث التاريخي، ورسم الصورة الذهنية التحفيزية لقصة نجاح الإنسان في قهر التحديات وإعادة الإعمار، فإذا عدنا للوراء قليلا إلى بدايات العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، نجد بأن الفاعلين الرئيسيين في اقتصاد شيكاغو كانوا محدودين من حيث الحجم والتأثير، وتمركزت أركان النظام البيئي للابتكار حول الجامعات ومؤسسات التعليم العالي، والمختبرات ومراكز البحث الحكومية، ومركز شيكاغولاند لريادة الأعمال، وجوائز شيكاغو للابتكار، وأسبوع شيكاغو للأفكار، ومركز تيكنيكسوس (TechNexus) ، وكان التركيز الاستراتيجي حينها هو الاستثمار في بناء شراكات مثمرة بين الشركات الرائدة في التكنولوجيا، والجامعات، ورجال الأعمال الطموحين، سعيا وراء إعادة التفكير في النمو الإقليمي القائم على التكنولوجيا المتطورة، وذلك للحاق بركب التطور العلمي الهائل الذي بدا واضحا في الولايات الأمريكية الأخرى الأكثر تقدما، ونظرًا للمنافسة المحتدمة في مجالات اكتساب القيمة التنافسية من الترابط والتشبيك بين الفاعلين في منظومة الابتكار قررت مؤسسة 1871 تحويل تركيزها الاستراتيجي لتستهدف الشركات الناشئة الأكثر تطورًا ورسوخًا، وأطلقت حزمة من خمسة برامج موجهة لدعم الشركات الابتكارية التي كان مقرها الفعلي في شيكاغو، وهي برنامج بناء القيادات التقنية، وخارطة طريق الشركات الناشئة، وبرنامج الابتكار المجتمعي، ومختبرات الابتكار، وبرنامج التحديات، وبعد أربع سنوات من الإنشاء، وتحديدا في عام 2016م، نشرت دوريَّة هارفارد للأعمال دراسة حالة حول التأثير الاستثنائي الذي أحدثته مؤسسة 1871، واعتبرته حسب تحليلها بأنه إعلان عن ظهور نظام بيئي جديد للابتكار في شيكاغو، ولم تخطئ هذه التحليلات، إذ واصلت المؤسسة نجاحاتها، وها قد أصبحت اليوم مصدر إلهام الكثير من منظومات الابتكار الوطنية، فالرسالة الحقيقية من وراء مؤسسة 1871 لا تقتصر على الحصول على موطئ قدم في الخريطة المعرفية، بل كانت من أجل تحقيق أهداف معنوية أخرى، فمدينة شيكاغو مشهورة عالميًا، لكنها لم تُعرف من قبل كمركز للابتكار التكنولوجي، وما كان يراود مخيلة المؤسسين للمركز هو إيمانهم بأنه قد حان الوقت لتغيير ذلك التصور، وعلى الواقع تحقق الحلم المنشود، وصارت ولاية إلينوي تحتل المرتبة الثانية بعد كاليفورنيا على مستوى الولايات الأمريكية في زيادة مؤشر عدد الشركات الناشئة ذات التقنية العالية.
وإذا قرأنا قصة هذه المؤسسة بتمعن يمكن الخروج بمجموعة من الدروس والأفكار الملهمة، وفي العمق يأتي موضوع الهيكل المؤسسي، فمركز 1871 هو في الأساس مؤسسة خاصة غير ربحية، ولها مصادر تمويل متعددة، ولا تتلقى موازنة مالية حكومية سنوية، ولذلك فهي مؤسسة مستقلة بدأت أعمالها بمنحة مالية من الولاية، وتمكنت من الوصول للتمويل الذاتي والاستدامة المالية عبر مساهمات الشركات الراعية، أي أنه لم يكن هناك مصدر للتمويل الثابت، وهذا يثبت بأن المؤسسات الوسيطة الداعمة للفاعلين في منظومة الابتكار تكون أكثر نجاحا واستدامةً حينما تتخذ هياكل مؤسسية مختلفة عن المؤسسات الحكومية النمطية، كما تعلمنا تجربة مركز 1871 بأن التركيز الاستراتيجي على مجالات معينة هو مصدر الإبداع والنجاح، فالمركز لم يدخل بيئة منظومة الابتكار كفاعل رئيسي في مواقع متعددة، ولم يضع أهدافا واسعة المدى، ولكنه دخل المنظومة بصفته داعما ومسرعا للشركات الناشئة الابتكارية والقائمة على التكنولوجيا الرقمية وحسب، وذلك من أجل تلبية احتياجات مجتمع التكنولوجيا وريادة الأعمال المتنامي في منطقة تشيكاغولاند، وذلك بإتاحة الاستفادة من التمويل، ومن برامج التوجيه، والجلسات التعليمية، وقاعات الاجتماعات، والمساحات المكتبة، ونظرًا لأن معظم الشركات الناشئة لديها موارد مالية محدودة، وهي أيضا غير قادرة على الحصول على قروض مصرفية، أو تمويل مباشر من المستثمرين المحليين، كان مركز 1871 يمثل الوجهة الأولى والمركزية للمبتكرين الشباب، ورواد الأعمال الناشئين، وهذا الاختصاص هو الذي قام بتوليد الإبداع، ولكن مع الانفتاح لجميع الشركاء، فقد قام المركز بإشراك جميع فئات المجتمع بجانب الشركاء الأساسيين، وبذلك اكتسبت أنشطة وفعاليات المركز درجة عالية من الانتشار والوعي من جهة، وكذلك العمل التشاركي الناجح من جهة أخرى.
إن التقدم الهائل في التقنيات الرقمية قد اختزل الزمن الفعلي للاختراعات والتطوير التكنولوجي الذي طالما عرفته البشرية، ولم يعد هناك مجال لترقب حصول الابتكار، إذ يمكن أن يظهر الابتكار في أي مكان وبشكل لا نتوقعه، ومعظم الممارسات الناجحة في دعم منظومات الابتكار الوطنية هي في الأصل مبادرات مستقلة عن المؤسسات الأكاديمية، والمؤسسات الحكومية، مما يعيد للأذهان أهمية التجديد والبحث عن الفرص غير المألوفة، وتوظيف الإمكانيات الملموسة، وغير الملموسة في إذكاء الإبداع الإنساني، وكما تمكنت مؤسسة 1871 من نشر رسالة الإرادة الإنسانية العظيمة للعالم، يمكن لأي مؤسسة أو فريق عمل أن يحقق طموحات كبيرة، عبر توظيف القصص التحفيزية والإيجابية كمصدر إلهام للأفكار العظيمة، وكما يقول عالم الفيزياء ألبرت أينشتاين: «لا يمكنك انتظار الإلهام، عليك أن تسعى وراءه»، فالإبداع في المجمل هو التفكير بشكل مختلف وجديد، والابتكار هو أداة تنفيذ الأفكار الجديدة، وفي عصرنا الحالي أصبح المصدر الحقيقي والوحيد للتقدم والحصول على حيز في التنافسية هو الثروة الكامنة في العقل البشري، والخيال، والروح الإنسانية القادرة على رسم المستقبل الأفضل.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الشرکات الناشئة مدینة شیکاغو فی شیکاغو فی عام
إقرأ أيضاً:
وزارة العمل تنظم ملتقى الابتكار المؤسسي وإدارة التغيير
العُمانية/ نظمت وزارة العمل اليوم بمسقط أعمال الملتقى الرابع للابتكار المؤسسي وإدارة التغيير، تضمن ختام النسخة الثالثة من "المنظومة الوطنية للابتكار المؤسسي وإدارة التغيير" التي تسعى إلى تطوير الأداء الحكومي والارتقاء بجودة الخدمات في الجهاز الإداري للدولة، وذلك تحت رعاية سعادة السيد سالم بن مسلم البوسعيدي وكيل وزارة العمل لتنمية الموارد البشرية.
وتضمنت النسخة الثالثة من المنظومة ممارستين لمجموعة أوكيو وهما "الثقافة المؤسسية"، و"ممارسة التحسين المستمر"، كما استعرضت المنضومة بحثًا علميًّا بعنوان "استراتيجية التمكين في إدارة رأس المال الفكري".
وشهدت أعمال الملتقى الذي تنظمه وزارة العمل استعراض مشروع "حوكمة إدارة التغيير في القطاع الحكومي"، شاركت فيه (10) جهات حكومية، وهي مبادرة استراتيجية تهدف إلى إرساء إطار عمل مستدام لحوكمة إدارة التغيير في مختلف المشروعات والمبادرات الحكومية.
وقال محمد بن مبارك الكلباني، مدير عام التطوير وضمان الجودة بوزارة العمل في كلمة له إن أعمال الملتقى اليوم تشهد تتويج مرحلةٍ من مراحلِ العملِ المنطلقة من رؤية عُمان 2040، مُحرّكها الأساسيُّ الدفع قُدُمًا بالابتكار المؤسسي في الوحدات الحكومية وبناء إطار مؤسسي للشراكة وإدارة التغيير.
وأضاف أن المنظومة الوطنية للابتكار المؤسسي وإدارة التغيير تبنت 3 ممارساتٍ من أحدث الممارسات والأساليب الإدارية ذات الأثر الإيجابي في رفع الأداء وتحسين بيئات العمل، بالإضافة إلى توظيف بحث علمي لباحث عُماني، سيرًًا نحو إدارة حكومية عمادها الاستدلال والاسترشاد بالمنهجيات والبراهين العلمية. ونتج عنها تدريب ما يزيد عن (95) من الكفاءات بالجهاز الإداري للدولة.
وتخللت أعمال الملتقى تقديم عرض مرئي لمحطات النسخة الثالثة من المنظومة وتجارب التطبيق في المؤسسات الحكومية التي تنوعت مخرجاتها بين نشر الوعي بالممارسات الإدارية والتمكين المعرفي والخطط التطبيقية المفصلة الساعية لتحسين الإجراءات وأنظمة العمل، وترسيخ أواصر التواصل والتكامل بين الوحدات الحكومية من خلال العمل المشترك على هذه المبادرات التطويرية التي تسهم في الارتقاء بمؤشرات الإجادة المؤسسية لمختلف الوحدات.
وتهدف المنظومة إلى تعزيز التكامل بين مختلف القطاعات، من خلال بناء نظام فاعل لتبادل المعرفة وأفضل الممارسات الإدارية بين القطاعين الحكومي والخاص، بما يواكب أحدث الاتجاهات والمناهج الإدارية الحديثة.
وتسهم المنظومة في توثيق وتعميم البحوث والدراسات التي تُعنى بتطوير الأداء الإداري، وتبنّي النماذج الرائدة المطبقة محليًّا لنقلها إلى الجهات الحكومية الأخرى، إلى جانب تقديم مسارات تضمن استدامة الابتكار فيها.
وتضمن الملتقى توقيع مذكرات تعاون بين وزارة العمل وكل من شركة الشوامخ للخدمات النفطية وشركة ويذرفورد لمعدات الزيت للشرق الأوسط وذلك في مجالات التدريب التخصصي والتطوير وتأهيل رأس المال البشري واتفاقية مع الجمعية العُمانية للسينما لترسيخ التعاون مع مؤسسات المجتمع المدني، في مجالات تبادل الخبرات والتدريب والإنتاج المشترك.