في عام 2019 وبمناسبة الذكرى المئوية لوفاته، أدرجت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) الشاعر العُماني أبو مسلم البهلاني (ناصر بن سالم الرواحي) ضمن الشخصيات المؤثرة عالميا، تقديرا لدوره الثقافي والإصلاحي الرائد.
كذا كان الخبر، فهناك دوران عميقان لأبي مسلم، دور ثقافي أدبي، ودور إصلاحي، ولذا فقد كانت للبهلاني مكانة شامخة عند العمانيين، يكاد لا يضاهيها أي شاعر، بل منهم من يقول إنه أعظم من شوقي أمير الشعراء، واعتبر ديوانه الشعري المطبوع في مطلع القرن العشرين أول ديوان شعري عماني يجد طريقه إلى المطابع الحديثة.
ناصر بن سالم بن عدَيّم الرواحي البَهْلانِيّ؛ المشهور بأبي مسلم (1277-1339هـ/ 1860-1920م)، وُلد في بلدة مَحرَم من وادي بني رواحة بسمائل، سنة 1277هـ/ 1860م، ولكان لبيئته الأثر الأول على شخصيته، فقد كان من بيت علم وفضل، فكان والده سالم بن عديم عالما فقيها، تقلّد القضاء للإمام عزان بن قيس على ولاية بهلا، كما كان جده عبدالله بن محمد قاضيا للإمام سلطان بن سيف اليعربي على وادي محرم فاستوطنها وبقيت ذريته بها.
وهكذا تلقى أبو مسلم تعليمه الأول على يد والده ببلدة محرم، فتعلَّم على يده كتاب الله وعلوم العقيدة، ثم أخذ مبادئ علوم العربية ومعه العلامة أحمد بن سعيد بن خلفان الخليلي (ت: 1324هـ/ 1906م) من الشيخ محمد بن سليّم الرواحي الساكن ببلدة السَّيْح من وادي بني رواحة، وكان يتردد على المحقق سعيد بن خلفان الخليلي (ت: 1287هـ/ 1871م) لطلب العلم.
هاجر أبو مسلم مع والده إلى زنجبار سنة 1295هـ/ 1878م، وعاد منها إلى عُمان سنة 1300هـ/ 1883م، وظل فيها حتى سنة 1305هـ/ 1887م، ثم عاد إلى زنجبار التي سكن فيها في حي مَلِينْدِي بالعاصمة، وكانت له رحلة وحيدة خارج عُمان وزنجبار لأداء فريضة الحج سنة 1306هـ/ 1889م.
عاصر ثمانية من سلاطين زنجبار فقد وصل في عهد السلطان برغش بن سعيد (1287-1305هـ/ 1870-1888م)، ومكث فيها حتى وفاته في 2 من صفر 1339هـ/ 15 أكتوبر 1920م. وفي زنجبار وجد كوكبة من العلماء مثل: العلامة عبدالله بن علي بن محمد المنذري والعلامة محمد بن سليمان بن سعيد المنذري، ووجد في زنجبار جوا علميا ساعده في القراءة والاطلاع على مختلف الكتب النفيسة في شتى العلوم، ولذا فقد كان للبيئة الزنجبارية وما عرفته من حراك ثقافي وفكري أثر جلي على شخصيته.
أما البصمة الثالثة فقد كانت لوظيفته، التي جعلته يتعمّق في علوم الدين مع الإلمام بأحوال العالم، حيث كان مقربا من السلاطين، فتقلّد القضاء في عهد السلطان حمد بن ثويني (1310-1314هـ/ 1893-1896م)، كما كان مستشارا للسلطان، وله فيه قصائد مدح، واستمر عمل أبو مسلم في القضاء حتى عهد السلطان علي بن حمود، كما صاحَبَ السلطان حمود بن محمد (1314-1320هـ/ 1896-1902م) في رحلاته إلى الأقطار الإفريقية الشرقية سنة 1316هـ/ 1898م وقيد هذه الأسفار في كتيب بعنوان: اللوامع البرقية في رحلة مولانا السلطان المعظم حمود بن محمد بن سعيد بن سلطان بالأقطار الإفريقية الشرقية. ثم طلب التقاعد من مهمة القضاء في عهد السلطان علي بن حمود (1320-1329هـ/ 1902-1911م)، وتفرَّغ للتأليف.
أما الأثر الرابع في شخصيته فهو الصحافة، فقد سطع نجمه كمؤسس لصحيفة «النجاح» -أول صحيفة عمانية- وهي صحيفة جامعة شبه أسبوعية، كانت تصدر في الشهر ثلاث مرات عن حزب الإصلاح في زنجبار، وظهر أول أعدادها في شوال 1329هـ/ 12 أكتوبر 1911م في أربع صفحات، وتوقفت عن الصدور في مطلع 1332هـ/ يوليو 1914م، وكتب مقالات في عدد من الجرائد، مثل: جريدة النجاح بزنجبار، وجريدة الأهرام بمصر. وبذلك أسهم مساهمة عظيمة في صنع حراك ثقافي وفكري للعمانيين في تلك الجزيرة، مما عمق من التواصل مع إخوانه المفكرين العرب.
ظل البهلاني مرتبطا بوطنه عُمان، مهتما بقضاياه، يفيض شعره حنينا أحيانا وأنينا أحيانا، وحماسة أحايين أخرى، وما انفك يخاطب عُمان والعمانيين في قصائده، غير منفصل عن قضاياهم السياسية والاجتماعية، ويتجلى ذلك في قصائده الاستنهاضية الداعية إلى الوحدة ولم الشمل ونبذ الخلافات، ومن أمثلة تلك الرسائل رسالة من أبي مسلم إلى الإمام سالم بن راشد الخروصي تضمنت الكثير من النصائح في السياسة الداخلية (الرفق بالرعية وإقامة العدل)، والسياسة الخارجية (إقامة العلاقات مع أمير نجد وأمراء الساحل وشريف مكة وإمام صنعاء) مؤرخة في 13 ربيع الثاني 1333هـ/ 27 فبراير 1915م، وقد كان الحنين يشده إلى عُمان، غير أنه توفي بعيدا عنها في بداية حكم الإمام محمد بن عبد الله الخليلي (1338-1373هـ/1920-1954م) تحديدا في 2 من صفر 1339هـ/ 15 أكتوبر 1920م، ودُفن في زنجبار.
تأمل في مقصورته التي عارض فيها مقصورة الشاعر العماني محمد بن الحسين بن دريد الأزدي، فاستطاع أن يوجِد من معارضاته أجواءه الخاصة، وهكذا جاءت القصيدة مشحونة بدعوات متكررة لقومه تحث على النهوض واليقظة والتمسك بالقيم الفاضلة على طريق السلف الصالح، شأنهم في ذلك شأن الآباء، والأجداد الذين شيدوا حضارة عظيمة، ومما قاله فيها:
أقول للبرق وقد أرقني
لهيبه أعلى ثنيات الحمى
سقيتَ أجراز البلاد فارتوتْ
وحظ قلبي منك إلهاب الجوى
أهفو إلى روح النسيم راجيا
إطفاء ما بالقلب من حر الصلا
أسلو بمن أهواهم وإن نأوا
وكيف يسلو دنفٌ بمن نأى؟
إذا تباشير مشيبٍ وضحتْ
لم تعذر المرء (متى) ولا (عسى)
وفي الصبا معتبةٌ وزاجرٌ
فكيف في الشيب إذا العود انحنى
ما ساءني الفائت إذ أكسبني
كنزا من الصبر وفوزا بالرضى
آليت لا تعلو يدي يد امرئ
يسفلها اللؤم ويطغيها الغنى
ما سرني من الثراء وفره
إن كان بين اللوم والحرص نما
أذل أعناق الرجال حرصهم
لا تستقيم عزةٌ على الكدى
كنا أباة الضيم لا يقدح في
صفاتنا الذل؛ ونقدح الصفا
كنا حماة الأنف لا يطمع في
ذروتنا الطامع في نيل الذرى
لا يطرق الوهن عماد مجدنا
وكم ثللنا عرش مجدٍ فكبا
فيا صباحاه وهل من سامعٍ
لصرختي؟ وهل يجيب من دعا؟
ندرس تاريخ الأولى تقدّموا
وحسبنا الله تعالى وكفى
همْ علّموا الدهر مراس قرنه
ثم انتهى بعد المراس مهتدى
همْ عقدوا بالعز عين همهم
فلا تداني ذلةٌ لهم حمى
وهم لكبّات الخميس حدها
وجدها وشدها والمحتمى
أسلافنا وما لنا من مجدهم
إلا حديثٌ بعدهم لا يفترى
عصائب الإسلام تلكم حالنا
وليس يخفى بالظلام ابن جلا
هلم فلنحذوَ حذوَ سعيهم
فليس للإنسان إلا ما سعى
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: عهد السلطان فی زنجبار أبو مسلم محمد بن فقد کان بن سعید
إقرأ أيضاً:
افتتاح المؤتمر السنوي الثاني لدارة الشعراء الأردنيين تحت شعار “دورة الشاعر الراحل عبدالمنعم الرفاعي”
صراحة نيوز- افتتح وزير الثقافة مصطفى الرواشدة، اليوم السبت، فعاليات المؤتمر السنوي الثاني لدارة الشعراء الأردنيين “دورة الشاعر الراحل عبدالمنعم الرفاعي”، الذي أقيم في المركز الثقافي الملكي، بمشاركة عربية.
وأشار الرواشدة، في كلمة ألقاها خلال حفل افتتاح المؤتمر الذي اختار شخصية دورته الشاعر محمد سمحان، إلى أن الشاعر الرفاعي ما يزال حيا بيننا من خلال نشيد العلم الذي كتبه في نهاية الثلاثينيات من القرن الماضي، ومن خلال قصائد مشهورة مثل “أيها الساري” و”الشهيد”، إضافة إلى ديوانه الذي حمل عنوان “المسافر”، ولم يكن مدونة لحياته فحسب، بل سجلا وشهادة للوطن.
وثمن وزير الثقافة عناوين الجلسات التي تتناول مفردات تتصل بتحولات العصر ولغته، ووظيفة الشعر ودوره في العالم المعاصر وتاريخه ومستقبل الإنسانية، مشيرا إلى أن هذه المفردات تشكل مفاصل مهمة للمشهد الثقافي والشعري العربي، بدءا من تأطير الموضوع الشعري وقضاياه، مرورا بالهيئات الثقافية والموروث الشعري، وأزمات الشكل والمضمون، والشعر العربي في الفضاء الرقمي، وصولا إلى مستقبل الشعر العربي.
وأكد أن هذه العناوين تحمل أسئلة مهمة، خصوصا في اللحظة العربية الراهنة التي ينفتح فيها المشهد على قطاع غزة لنشهد صور الدمار والقتل والمحو بعد أن سكتت المدافع.
وذكر بموقف الأردن القومي والعروبي من العدوان على غزة، وموقف جلالة الملك عبدالله الثاني، حامل شرف الوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس الشريف، بإدانته للحرب العدوانية، ودعوته إلى إيقاف آلة القتل، ورفضه للتهجير من الضفة الغربية أو غزة، ودعمه لكل الجهود التي من شأنها استمرار الجهد الإغاثي والإنساني الذي يقوم به الأردن لأهل غزة.
وقال الرواشدة، في الحفل الذي حضره وزير الثقافة الأسبق الأديب الدكتور صلاح جرار، ونائب رئيس رابطة الكتاب الأردنيين الباحث الدكتور رياض ياسين، إن الشعر العربي قديما كان يمثل “ديوان العرب”، بمعنى أنه احتوى على معارفهم وعلومهم وقيمهم ومناسباتهم، وأساليب معاشهم، وطريقة معرفتهم للوجود.
وأضاف في حفل افتتاح المؤتمر الذي سيستمر لـ3 أيام، ويتضمن جلسات مؤتمر نقدي وأمسيات شعرية، أن تطور المعرفة والتخصص وتنوع الحقول الإبداعية والحوار الثقافي ضمن منظومة المعرفة الإنسانية، جعل دور الشعر أعمق في تمثله لنداءات الروح مقابل صلابة العالم المادي وتوحشه، وفي تجسيد معنى الهوية، وتدوين رواية الإنسان والمكان في الفضاء الكوني الذي نزع عن الأشياء دلالتها وخصوصيتها وإنسانيتها.
من جهته، ألقى رئيس دارة الشعراء، الشاعر تيسير الشماسين، كلمة في الحفل الذي قدمته الشاعرة الدكتورة وفاء جعبور، قدم خلالها شكره لوزارة الثقافة على ما توفره من دعم للدارة على مختلف المستويات، كما شكر إدارة مهرجان جرش للثقافة والفنون على دعم الدارة وإشراكها في فعاليات المهرجان بدورتيه العام الماضي والعام الحالي.
بدوره، أعرب الأمين العام للاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب ورئيس النقابة العامة لاتحاد كتاب مصر الدكتور علاء عبد الهادي، عن سعادته وجوده في هذا المؤتمر، بصحبة عدد وازن من الشعراء والنقاد في الأردن، موطن الجمال ومعهد القصيد.
وقال إن المؤتمر يأتي في ظرف عربي يسود فيه الالتباس ويعلو فيه صوت المحتل الإسرائيلي ويمتد في ظله، مؤكدا باسم الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب ثبات رؤية المثقف العربي إلى القضية الفلسطينية بصفتها القضية المركزية التي تأتي على رأس القضايا العربية قاطبة.
ونوه بأن هذا المؤتمر يعد لبنة من لبنات كثيرة تسهم في إقامة وعي المواطن العربي وثقافة الحوار والجمال وتشييد الانتماء في زمن الالتباس، حيث يصبح الحفاظ على ثوابت الضمير الثقافي العربي مهدا لأي انتماء ووعي ثقافي حقيقي، وفي مقدمة هذه الثوابت القضية الفلسطينية.
وأشار إلى أن الشعر هو طاقة التجديد الكامنة في أية لغة، والتي لا يكتشفها أو يستدعيها في حضورها الآخاذ إلا الشاعر، مشيرا إلى أن هناك الكثير من يكتبون الشعر، لكن الشعراء قلة كما كانوا على مر التاريخ.
من جانبه، أشار رئيس اتحاد الكتاب والأدباء الأردنيين الشاعر عليان العدوان، إلى التعاون القائم بين الاتحاد والدارة، منوها بأن الدارة تضم مجموعة من الشعراء الأردنيين الذين يعتز بهم الاتحاد.
وقدم الشاعر محمد سمحان، شكره للدارة على اختيارها له شخصية هذا المؤتمر، مشيدا بجهود الدارة في إعلاء قيمة الشعر ورعاية الشعراء.
وألقى قصيدة وجدانية من الشعر العمودي بعنوان “بعد الثمانين”.
وفي ختام حفل الافتتاح، كرم الوزير الرواشدة، يرافقه الشاعر الشماسين، شخصية المؤتمر الشاعر سمحان بدرع الدارة، كما كرم بدرع الدارة عددا من الشخصيات الداعمة.
وكانت الفعاليات استهلت بأولى جلسات المؤتمر التي أدارها الأديب الدكتور صلاح جرار، وحملت عنوان “تأطير المشهد الشعري”، وشارك فيها الدكتور علاء عبد الهادي، بورقة بعنوان “تحولات الشعر العربي بين الكلاسيكية والحداثة وما بعدها – الكتلة النصية والتفات النوع الشعري”، والشاعر والناقد العراقي الدكتور وليد صراف، بورقة بعنوان “ملامح المشهد الشعري العربي: الاتجاهات والمدارس والتيارات”، والشاعر والناقد الدكتور عطا الله الحجايا، بورقة معنونة بـ”السياقات السياسية والاجتماعية وأثرها في التجربة الشعرية”.
وفي الجلسة الثانية التي حملت عنوان “الهيئات الثقافية والموروث الشعري” وأدارها الباحث الدكتور رياض ياسين، شارك فيها الباحث عاقل الخوالدة، بورقة بعنوان “مبادرات رسمية وأهلية في صون التراث الشعري وتوثيقه”، والقاص والباحث الدكتور مخلد بركات، بورقة بعنوان “ترويج الشعر في برامج النشر والمهرجانات والجوائز”، والباحثة الإماراتية الدكتورة فاطمة الصايغ بورقة معنونة بـ”تحديات المؤسسات الثقافية في نقل الموروث الشعري إلى الأجيال القادمة”.