صعودا نحو أعالي نيكوس كازانتزاكس
تاريخ النشر: 26th, March 2024 GMT
لا سيرة ذاتية تضعك بين ثلاث صلوات نابعة من تصوف يوناني، إلا ما كتبه الروائي نيكوس في كتابه «تقرير إلى غريكو» قالا:
أنا قوس بين يديك يا إلهي فشدني لئلا أتفسخ.
لا تشدني كثيرا يا إلهي لئلا أتحطم.
شدني كثيرا يا إلهي فمن سيهتم لتحطمي!؟
منذ أن قرأت هذا الكتاب الذي ترجمه الراحل ممدوح عدوان عن الإنجليزية، وفي طبعة من إصدار الدار التي تحمل اسمه، وأنا أقتفي أثر هذا التقرير الذي وجهه «نيكوس» إلى جده غريكو الرسام، اقتفى أثر الدماء الذي تركه الكاتب كم يقول «الأثر الأحمر الذي خلفته قطرات من دمي» في سيرة لم تكن إلا صعودا مستمرا نحو السماء من جزر اليونان وتاريخه الطويل المعجون بالأساطير، والخرافات، والحروب والأبطال.
قبل أن أدخل إلى رحلة الصعود التي عايشتها مع الكتاب، عليّ التطرق للسبب الذي جعل الكاتب يوجه تقريره إلى جده «غريكو»، الذي نكتشفه منذ بداية الكتاب «ذلك أن غريكو، معجون من التربة الكريتية ذاتها التي عجنت، أنا منها، وهو قادر على فهمي من مكافحي الماضي والحاضر كلهم» يتمم سيرة الآثار الحمراء التي توارثتها الأجيال اليونانية. وليربط به سيرته مع أسلافه الكريتين وفكرة خلوده بهذا الرابط الممتد منذ القِدم، لأنهم مغروسون في ذاته ومتمثلون في كل شيء على أرض اليونان.
إن رحلة صعود «نيكوس» الروحية لم تكن سهلة كما يذكرها هو؛ على أن الدراجات الحاسمة التي أغنت فكره وتجربته كانت أربع -المسيح وبوذا ولينين وأوليس- فقد كانت رحلة كاتب قلبه في فمه وهو يصعد جبل مصيره الوعر، بكل ذلك الاختلاج والتبدلات في سيرته النابضة بالآلام والصعوبات تقدمت الرحلة حتى اليوم الذي أتم فيه الثائر والصوفي اليوناني كتابه، ظلت كلماته معلقة في الأفق الذي يثري كل قارئ بالتجربة، ويمنح دخولا متعددا إلى أبواب الأسئلة المتولدة من سيرة تتسم بالشقاء الروحي!
إنه تقرير يصعد رأسيا، ويسمو عميقا في الذات الإنسانية خليط من الفلسفة، والتاريخ الوطني اليوناني الكريتي، وتاريخ الإنسان وصراعاته، وهو يتسع مثل غالبية أعمال «نيكوس كازنتزاكيس»، وهي في ذاتها سيرة فلسفية وفكرية من أجل الخلاص الذي يبحث عنه كاتبها، وهو الشخصية الذكية والقلقة، المتصارعة دوما داخل الاحتدام الفكري الذي صاغته روحه الهشة وسط المتناقضات.
الكتاب يقع في واحد وثلاثين فصلا يتنقل بنا الكاتب بين محطات مختلفة عايشها، ليس كعبور سريع، ولكنه أثر كونه وصاحبه طوال حياته، شكل تطلعاته الشخصية، وحقيقته التي يجب أن يكون عليها وهو ابن التربة الكريتية، حتى اكتملت في تقريره الدامي وبينت مسائله الروحية التي أصبح عليها، ففي الفصل الأول «الأسلاف» يبين أنه ما بين النار والماء، أي بين البحارة وحروبهم-الأب- وبين المزارعين -أمه- ليصعد بسؤال الصعب «كيف أوفق بين هذين السلفين المتناقضين في داخلي؟» وهذه الحيرة التي عادلها بتناقضات الكون ذاتها حوله، غائرا تفاصيله الدقيقة لكي يحاول النجاة من هذا الاحتدام داخله.
أبي لا يتكلم إلا نادرا وأمي قديسة، من هذه التناقض عنون الفصلين التاليين -الأب والأم- ليرسم ملامح أسرته التي تكون في كنفاها، وكأنه يعيد التناقض الأول المتصارع داخله، حتى إنه يتساءل «كيف استطاعت أمه أن تحس إلى جانبها شهيق الأسد وتنهداته خمسين عاما، دون أن يتحطم قلبها؟» وحده نيكوس يطرح السؤال، ويصغي إلى الجواب الذي لا يأتي في حينه!
نقطع مع هذه السيرة المبهرة الزمن، من الصراع التركي اليوناني الذي أثر في حياة الكاتب إلى أبعد حدود كما يقول في الفصل السابع: «فلولا هذا الصراع لاتخذت حياتي مجرى مختلفا» لأن الصراع كان يحتدم داخل «نيكوس» منذ الصغر بشكله المرئي أو المحسوس، الذي ينمو مع مخاوفه وتساؤله عن الحب والفضيلة. تتسع الحياة من حوله حتى باع «نيكوس» ألعابه ليشتري كتاب «حياة القديسين» شحذته قصصهم، وأشعلت طرف الفتيل الروحي داخله وجعلته يقوم برحلات عديدة بحثا عن الحقيقة وعن ذاته التي تتوق إلى الصعود! في يونان يقول: «حين يرتحل اليوناني في اليونان تتحول رحلته بهذه الطريقة المصيرية إلى بحث مضن عن واجبه» وفي سينا كتب: «شعرت قلبي ينبض بشكل متناغم، إن الخروج من أرض العبودية قد بدأ، إننا نعبر الصحراء. وأن هناك درجات أخرى يجب أن يُكافح ليصل لها، فترك صديقه القسيس وصعد».
تستمر السيرة في الصعود الدامي، ولا تترك للقارئ حيزا كي ينفلت من تتبع مسير هذا الكريتي، الذي هو خليط متعدد عجنته الأرض اليونانية والأساطير وحكايا القديسين، ليصبح الروائي الذي كتب «زوربا اليوناني» و«الإخوة الأعداء» وغيرها.
أحمد بن محمد العلوي كاتب عماني.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
الشيخ ياسين البكري.. سيرة صاحب الصورة الشهيرة في معركة أسوار القدس
واحدة من الصور التي التقطها المصور المقدسي خليل رصاص (1926 ـ 1974) كانت صورة مؤثرة لكتيبة المقاتلين التي دافعت عن سور القدس، يتوسطهم شيخ يؤشر بإصبعه إلى شيء خارج السور الشرقي للمسجد الأقصى، حيث يمتد من باب الأسباط وحتى نهاية سور المسجد الأقصى، كان الشيخ ياسين البكري أحد المجاهدين في القدس الذين ساهموا في صناعة جزءا مهما من تاريخ المدينة، ومن ذاكرة معارك أسوار القدس عام 1948 التي تعتبر معارك فارقة في تاريخ الصراع..
ولد الشيخ ياسين صادق رشيد البكري في مدينة الخليل بالضفة الغربية عام 1904.
وتلقى علومه الابتدائية في الكتَّاب، ثم التحق بمدرسة شرعية في المدينة كان الطلاب يدرسون فيها علوم الدين واللغة العربية، وأصبح بعد تخرجه منها مؤهلا للالتحاق بالأزهر الشريف.
البكري أثناء دراسته في الأزهر الشريف.
سافر ياسين البكري إلى مصر في أوائل عشرينيات القرن الماضي والتحق بالأزهر الشريف حيث تخرج منه في أواخر عام 1929 ونال شهادة "العالِميّة"، وهي الشهادة الأعلى التي كان يمنحها الأزهر للخريجين. في نفس العام عاد إلى مدينة الخليل، ولكنه لم يلبث أن انتقل عام 1930 إلى مدينة القدس حيث عمل مدرسا في "مدرسة المسجد الأقصى" الكائنة حينئذ في حي عقبة المفتي القريب من الحرم القدسي الشريف.
بعد إغلاق المدرسة في أواخر ثلاثينيات القرن الماضي انتقل للتدريس في "المدرسة الإبراهيمية".
وفي تلك الفترة انخرط في النشاط السياسي والوطني واشترك في ثورة فلسطين الكبرى التي وقعت ما بين عامي 1936 و1939. فألقت سلطة الانتداب البريطاني القبض عليه في أثناء الثورة وأودعته السجن الشهير بـ "سجن المزرعة" بالقرب من مدينة عكا، فلبث في ذلك السجن عامين ونصف. وعندما اندلعت الحرب عام 1948 انضم البكري إلى مجموعة من المجاهدين في تشكيل حركة "الجهاد المقدس".
وكلفته قيادة "الجهاد المقدس" بقيادة فريق من المجاهدين كانت مهمتهم الدفاع عن البلدة القديمة من القدس.
وخاض عدة معارك على أسوارها وحول الأسوار، فضلا عن المعارك الهجومية التي خاضها مع المجاهدين في مواجهة العصابات الصهيونية في الأحياء الغربية من القدس، ومن أشهرها معركة "القطمون" ومعركة "البقعة" ومعركة "المونتفيوري".
ويخبرنا المؤرخ عارف العارف في موسوعته حول النكبة أن العرب وافقوا على السماح للصهاينة بنقل جرحاهم من البلدة القديمة، حيث حقق الفلسطينيون والعرب هناك انتصارات هامة، وقد تم نقل الجرحى بإشراف الشيخ ياسين البكري، وهو ما يشير إلى دوره القيادي في البلدة القديمة، حيث قاتل على رأس كتيبة مكونة من 80 مقاتلا فلسطينيا بقيادة حافظ بركات (أبي الفيلات) وكان الشيخ البكري مساعده في القيادة.
وستنتهي المعركة في البلدة القديمة على عكس كل المعارك بانجاز نسبي، حيث ستسقط "حارة اليهود" بيد الفلسطينيين في 28 أيار/مايو من عام 1948 ويجري التفاوض على إخلاء الحي وتسليمه للجانب العربي، وكان الشيخ ياسين أحد المفاوضين إلى جانب كامل عريقات وفاضل رشيد العراقي والدكتور عزت طنوس وآخرين.
بعد أن وضعت الحرب أوزارها التحق الشيخ البكري بالعمل أماما ومدرسا في المسجد الأقصى المبارك حتى وفاته.
كان الشيخ ياسين شاعرا، ولكنه في غمار انخراطه في العمل السياسي والوطني والجهادي انقطع عن نظم الشعر، ولكن بعد تجاوزه الستين من عمره فاضت قريحته الشعرية فنظم قصيدة في مدح النبي سماها "البكرية في مدح خير البرية" جاءت في أكثر من مائتين وخمسين بيتا نشرت في كتيب طبع في حياته.
الشيخ ياسين البكري.
وتواصل نظمه الشعر فأنجز ديوانا مخطوطا كانت كل قصائده شعرا سياسيا ووطنيا.
في عام 1971 أصيب الشيخ يس بمرض عضال عانى منه سنتين كاملتين حتى توفاه الله.
وتوفي في عام 1973، ودفن في مقبرة باب الرحمة في القدس، وتقع عند السور الشرقي للمسجد الأقصى حيث تمتد من باب الأسباط وحتى نهاية سور المسجد الأقصى.
المصادر:
ـ مقابلة مع ابنه الشاعر فوزي البكري، أجريت المقابلة في حزيران/يونيو 2020، في بيته في البلدة القديمة في القدس.
ـ بهجت أبو غربية، "مذكرات المناضل بهجت أبو غربية 1916-1949: في خضم النضال العربي الفلسطيني"، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، 1993، ص 48
ـ عارف العارف، "النكبة: نكبة بيت المقدس والفردوس المفقود 1947-1949. الجزء الأول من قرار التقسيم 29/11/1947 إلى بدء الهدنة الأولى 11/6/1948"، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، 2012، ص 85.
ـ فادي عاصلة، "الشيخ ياسين البكري مقاتل فوق سور القدس"، مدونة خزائن، 11/6/2020.