ابن رجيم؟! (قصة قصيرة من وحي المعركة)
تاريخ النشر: 26th, March 2024 GMT
في حفل بهيج أمام فرق الموت الذاهبة إلى غزّة، وقف خطيبا وزير ما يسمّى "الامن القومي لإسرائيل" الزعيم التوراتي النجيب المدعو ابن رجيم.. كان الجوّ شتويا مشمسا، الشمس تعلو بهامتها وتغدو بتؤدة وعنفوان نحو مركز السماء، نسائم هادئة تدغدغ غروره وتلهب مشاعره، شدّ جاكيته الأسود الكالح بكفّيه القويتين ليعانق قميصه الأبيض الذي يشعل النار في صدره، عدّل نظّارته ذات المكعّبات السميكة على عينيه بحزم، رمق صفوف الجيش الذي ينتظر كلماته ذات الرعد المزلزل، أصابته رعدة ذات نشوة يحبّها ويحب ما تنشره في صدره، أصابت سحب غضبه فثارت عواصف حقده المدفونة في أعماق أعماقه، بدأ كموج البحر، بدأ بصرخة هادئة ثم هاج صراخه وماج ليتحوّل إلى بحر متلاطم الأمواج، وليبلغ هديره عنان السماء:
"أحبّتي يا أبناء التوراة وموسى وداود وسليمان وجبرائيل، اسمعوني جيّدا لقد قلتها وسأقولها عاليا على الدوام، بكلّ شموخ وكبرياء، لكلّ من يقتل العماليق الجدد، هؤلاء أراذل الحيوانات، قتلهم وسحقهم من أعلى القربات، لن يرضى الله عنكم إلا إذا تخلّصتم من هذه الحثالات، يجب أن لا يرفّ لكم جفن ولا يخفق لكم قلب ولا تأخذكم شفقة ولا رحمة وأنتم تقتلون وتدمّرون وتحرقون.
رأى نفسه يطير ويرفرف بجناحيه فوق هذا الحشد، غرابا يرتفع عاليا ثم ينقضّ على فأر، يضعه بين منقريه ويمزقّه بمخالبه القويّة ثم يطرحه أرضا، تابع خطبته العصماء:
"مثلنا ومثلهم أيها السادة مثل الغراب والفأر، ماذا يفعل الغراب إذا وقع الفأر بين مخالبه؟ يا غربان العصر أبيدوا الفئران ولا تتركوا منها أحدا، لا يوجد ما يسمّى فلسطينيون، هؤلاء ليسوا بشرا وإنما مخلوقات خلقها الله لخدمتنا، وقد سأل أسلافكم الربّ: يا رب لم خلقتهم كائنات تشبهنا؟ فقال هم خدم لكم وخلقتهم على صورة تشبه صورتكم، كي تستأنسوا بهم وهي قائمة بأمركم. ولكم أن تتخلّصوا منها إذا فعلت ما لا يروق لكم".
رفع جنديّ يده، هزّ بن رجيم رأسه آذنا له بالحديث:
بصوت جهوريّ خطابيّ هتف مخاطبا الجمهور:
- أرجوكم إخوتي أن لا يصوّر أحدكم ما يجري هنا، هذا خطاب داخلي ليس للنشر.
ابتسم بن رجيم ابتسامة عريضة بلهاء وزعق:
- صوّروا وانشروا كما شئتم، نحن أمّة لا نحسب حسابا لأحد، عالم الجويم (الأغيار) كلّه في جيبتنا الصغيرة، ثم نحن نعتمد على قوتنا وبطشنا الشديد، نحن دولة نوويّة وفيها من سلاح الجوّ المتفوّق كمّا ونوعا ما يدمّر المنطقة، لا تقلق يا بنيّ اذهب وانتقم من هؤلاء أحفاد العماليق، تدرّبوا فيهم قتلا وتدميرا، هذا فقط بروفة لما هو قادم، وليعلم الذي لا يعلم، سنكتسح المنطقة كلّها وندمّرها عن بكرة أبيها، المهم اعملوا سلاحكم فيهم كما تعمل السكين في قطعة الكيك في احتفالات ميلادكم، اليوم أقدّم لكم قطاع غزّة قطعة كيك، افعلوا فيها ما يحلو لكم، وسّعوا خيالكم البطولي ومارسوا كلّ ما في داخلكم من قدرات على الإرهاب والترويع، لا تنسوا أننا نريد قطاع غزّة نظيفا من الصراصير والافاعي السامّة وكلّ الحشرات.
تقدّم رجل من حرّاسه ووضع أمامه هاتفا، تهلّلت أساريره، ثم هتف:
- مفخرة جديدة أيها الابطال، إخوانكم في غزة فتحوا النيران بكلّ أشكالها على آلاف الغوغاء الذين قدموا لأخذ أكياس الطحين من شاحنات المساعدات، أعادوهم لأبنائهم الجياع في أكياس.
قهقه عاليا ثمّ تابع:
- أبناؤهم بدل استقبال الطحين استقبلوا جثامين آبائهم.
"أمّا الخبر التالي فالناطق باسم جيشنا يقول إن هؤلاء دهستهم شاحنات المساعدات، شاحنات تدهس المئات من البشر؟ لم الكذب أيها الناطق، هذا بعد أن قتلتهم مدافع دبّاباتنا، يجب أن يهربوا إلى خارج القطاع ولا يهجّرهم إلّا أخبار القتل والدمار. وهذا ليس بجديد علينا، هكذا فعلنا في سنة 1948، مفاخر وبطولات كثيرة كانت السبب في هروب الناس وعلى رأسها مفخرة دير ياسين. سأكرّم هؤلاء الأبطال الذين يحيون تاريخ آبائهم الأحرار. هم الأوفياء لأبطال يستحقون التكريم ولهم منا كلّ الاحترام".
علت صرخات التشجيع والصفير والتصفيق وتشكّلت حلقات الرقص سريعا فور إنهاء ابن رجيم لخطابه، نزل عن المنصة وسط الهتافات الصاخبة التي كان أبرزها: الموت للعرب الموت للعرب. تهادى بين الراقصين ووزّع ابتساماته العريضة هنا وهناك، صافح كثيرا وعانق كثيرا، تداعت عليه الصحافة وكاميرات التلفزة، سحبه أحدهم لمقابلة تلفازية:
- ماذا عن المسجد الاقصى في رمضان؟
- تقصد جبل الهيكل، لا يوجد ما يسمّى المسجد الأقصى. عدد المصلين من الفلسطينيين المسموح لهم الوصول لجبل الهيكل يساوي صفرا، هذا المكان هو حق كامل لليهود.
- هذا من شانه سيّدي أن يغضب الجماهير العربية والمسلمة علينا. قد تتعرض "إسرائيل" لمخاطر أمنية، قد يؤدي منع الفلسطينيين من الصلاة إلى تفجير الأوضاع.
- جبل الهيكل خط أحمر، لن يسمح لأي فلسطيني من الصلاة فيه في هذا الشهر.
دوت صفّارة الإنذار منذرة بشرّ صواريخ قد اقترب، هرع ابن رجيم مع حرّاسه إلى الملاجئ، وهرب الناس هلعا كأنهم حمر مستنفرة.
تبدّلت الأيام بسرعة ودار الزمان دورة من دوراته المديدة، أحضروا بن رجيم من السّجن إلى محكمة الجنايات الدولية ليحاكم كمجرم إبادة جماعية، أنكر كل التهم الموجّهة إليه، لبس لباس حمل وديع ومثّل على أنه كان من دعاة السلام والمحبّة والوئام، أخرج له النائب العام تسجيلا مصوّرا لفيديو ذاك الزمان، يوم كان يطرب على الهتاف: الموت للعرب الموت للعرب ويوم خطب على أبواب غزة في الجنود.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مدونات مدونات فلسطينيون إسرائيل إسرائيل فلسطين مجازر عنصرية مدونات مدونات مقالات مقالات مقالات مقالات رياضة سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
استثمار النفس
«لقد عجز البشر عن علاج الموت والبؤس والجهل، لقد قرروا أن يجعلوا أنفسهم سعداء، وألا يفكروا فـي الأمر»
من خلال هذه الملاحظة، يُسلط الفـيلسوف الفرنسي باسكال الضوء على الأسباب التي تجعل البشر -حسب رأيه- يقضون أوقاتهم فـي الاستمتاع، أي استثمار أنفسهم بلا حدود فـي العمل حتى لا يضطروا إلى مواجهة العدم الذي هو جوهر وجودهم. تستحضر جميع المصطلحات المستخدمة هنا فكرة الحرمان أو النقص، والموت الذي يشير إلى نهاية الحياة البشرية، والبؤس الذي يثير الحرمان المادي، ولكن قبل كل شيء، الحرمان الأخلاقي، وأخيرا الجهل الذي يشير إلى عدم قدرتنا فـي الوصول إلى حقيقة مؤكدة، وأيضًا، فـي مواجهة هذا العدم، وفـي مواجهة محدودية وجودهم، لم يجد الناس أي حل آخر سوى الترفـيه عن أنفسهم، أي الابتعاد عمّا يعتبر مصدرًا للكرب بالنسبة إليهم، ولهذا السبب يكرسون أنفسهم بكل إخلاص لمختلف الأنشطة، وأحيانًا إلى حدّ الإرهاق.
وذلك لأن الترفـيه الذي يشير إليه باسكال هنا لا علاقة له بالمتعة. يجب علينا فـي هذا الحيّز، أن نفهم المصطلح بمعناه الحرفـي، فالأمر يتعلق بالابتعاد عن الجوهر، وعدم النظر وجهًا لوجه إلى ما يشكل حالتنا. وهكذا، فإن العمل بالنسبة إلى العديد من إخواننا من البشر هو ترفـيه، ولكن الأمر نفسه ينطبق على أوقات الفراغ أو الرياضة أو أي نشاط آخر يجذب انتباهنا ويمنعنا من مواجهة هشاشة وجودنا.
ولكن هل هذه الطريقة فـي فهم الحياة البشرية من الزاوية السلبية هي الطريقة الوحيدة الممكنة؟ ألا يعني التفكير فـي الموت بالضرورة اتخاذ موقف الإنكار؟
إذا كنا لا نستطيع أن نفكر فـي الموت، فربما يكون ذلك ببساطة؛ لأنه -كما يعلمنا أبيقور- الموت ليس شيئًا بالنسبة لنا. لذلك، إذا كان الموت لا شيء، فهو ببساطة غير قابل للتفكير؛ لأنه -بكل بساطة- لا يوجد شيء للتفكير فـي الموت. ومن ناحية أخرى، ما يمكن أن نفكر فـيه هو الحياة، وهي بالتأكيد حياة فانية ومحدودة لا نعرف متى ستنتهي، ولكنها حياة، ما دامت موجودة، فهي قبل كل شيء تأكيد لقوتنا من الوجود، من رغبتنا فـي تأكيد أنفسنا فـي الوجود. وبهذا المعنى، فإن فكر أبيقور ليس بأي حال من الأحوال رفضًا لمواجهة الحالة الإنسانية، والحكمة التي يعلنها لا علاقة لها بالترفـيه الباسكالي.
إذا كان الموت لا شيء بالنسبة لنا، فـيجب علينا مع ذلك أن نضع فـي اعتبارنا دائمًا أننا فانون، وإذا لم نتمكن من التفكير فـي الموت الذي هو لا شيء، فـيجب أن نكون واعين بفنائنا إذا أردنا أن ننجح فـي حياتنا. وهذا هو السبب الذي دفع أبيقور إلى تعليم تلميذه مينوسيوس ضرورة التفلسف. الفلسفة هي الطريق الذي يؤدي إلى السعادة، الطريق الذي يسمح لنا بالتفكير وطرح الأسئلة على أنفسنا حول ما يستحق المتابعة حقًا فـي الوجود لتحقيق الحياة الطيبة، فليس من المبكر جدًا أو المتأخر جدًا الانخراط فـي مثل هذه الممارسة. فـي هذا، يوافق أبيقور، إلى حدّ ما، مع النصيحة التي قدمها ماركوس أوريليوس فـي كتابه أفكار للعيش كل يوم كما لو كان هو اليوم الأخير. الذي يمكن تفسيره على أنه تعبير عن الحاجة إلى عيش كل لحظة دائمًا باعتبارها إنجازًا مملوءًا وكاملًا لوجودنا الذي ربما يمكن أن يقترب من الاستغلال اليومي الذي أوصى به الأبيقوريون اللاحقون لأبيقور نفسه.
علاوة على ذلك، للتغلب على الخوف من الموت، يجب علينا الاستجابة لضرورة التفلسف وبالتالي نكون قادرين على تنفـيذ العلاج الرباعي الذي يتلخص مذهبه فـي البيانات الأربعة التالية:
1) لا ينبغي أن نخاف من الآلهة.
2) لا ينبغي أن نخاف من الموت.
3) السعادة متاحة.
4) يمكن التغلب على الألم.
المشكلة هي أن هذا العلاج الرباعي ربما يكون أيضًا سمًا رباعيًا ـــ إذ أن مصطلح فارماكون يشير فـي اللغة اليونانية إلى العلاج والسُمّ ـــ لذلك من الضروري استخدامه بتمييز، وإلا فسيكون هناك خطر قوي فـي تحويل عقيدة المتعة إلى زهد منكر لمتعة الحياة نفسها. إن الأبيقورية ليست فـي الواقع دعوة إلى متعة غير محدودة؛ وهذا التفسير ليس أكثر من صورة كاريكاتورية ابتكرها أولئك الذين سعوا إلى تشويه سمعتها. يبحث الأبيقوري أولاً عن المتعة فـي الراحة من أجل تحقيق الطمأنينة- غياب متاعب الروح- ولهذا السبب يكفـي لأبيقور أن يرضي الجوع والعطش، وأن يعيش محاطاً بالأصدقاء ليكون سعيدا. لذا فإن القليل من الخبز والجبن مع إبريق ماء يمكن أن يكون كافـيًا لإسعاد الرجل الحكيم. ومع ذلك، إذا كانت كافـية، فهذا لم يمنع أبيقور فـي أي وقت من الأوقات الاستمتاع بأطباق أكثر حساسية إذا أمكن للمرء الحصول عليها؛ من ناحية أخرى، فهو يعلم عدم الشكوى عند نقصها. ولهذا السبب يمكن أن يكون العلاج الرباعي أيضًا سمًا رباعيًا؛ لأنه إذا أسيء تفسيره فقد يُفهم على أنه زهد.
ينضم أبيقور هنا إلى سبينوزا الذي يدين فـي مقترحه الخامس والأربعين من كتاب الأخلاق الرابع منتقدي اللذة الذين يصفهم بالحاسدين لدعوتنا للاستمتاع بمتع الوجود باعتدال، أي من دون الذهاب إلى أبعد من الاشمئزاز، بمعنى آخر عن طريق تجنب تحويل المتعة إلى معاناة:
«أقول: على الإنسان العاقل أن يعيد خلق نفسه ويعيد خلقها، بأكل الطيبات وشربها باعتدال، وكذلك باستعمال الروائح الطيبة للنباتات الخضراء، والزينة، والموسيقى، والألعاب التي تنمي الجسم، والمسارح وغيرها. أشياء من هذا النوع يمكن لأي شخص استخدامها من دون أي ضرر للآخرين».
هل ينبغي لنا أن نرى فـي هذه الأنشطة أن سبينوزا يوصي هنا بدعوة للترفـيه وهي مثلما يقول لنا باسكال: إنها مجرد مسكن لبؤس وجودنا؟ قد يكون هذا إساءة فهم لفكرة سبينوزا التي، بعيدًا عن كونها إنكارًا لحالتنا كبشر، هي قبل كل شيء تعبير عن قوة الحياة ذاتها، وهي قوة محدودة بالتأكيد؛ لأننا جميعًا سنستسلم للأسباب الخارجية التي تهاجمنا والتي ستقودنا إلى الموت. وبهذا المعنى، لا ينكر سبينوزا البعد المأساوي للوجود الإنساني الذي يحاول التغلب عليه من خلال فلسفة «ليست تأملًا فـي الموت، بل فـي الحياة».