يبدو أن الخيال العلمي نفسه لم يعد قادرًا على مجاراة التطورات التكنولوجية المتلاحقة على أرض الواقع، فهناك عجز حقيقي في الأفكار التي يتم طرحها، سواء في الكتابات أو حتى في أفلام هوليود، عن شكل الحياة البشرية في المستقبل القريب، وكيف يمكن أن تؤثر عليها هذه التطورات التكنولوجية ، خاصة على المستوى الإنساني والإجتماعي،  لأن التقنيات الذكية التي تم إبتكارها ويتم تطويرها باستمرار قد تتعدى قدرة العقل أحيانًا على تخيل تبعاتها وتداعياتها على شكل الحياة البشرية.

العقل الجمعي للذكاء الإصطناعي سيكون عن قريب أذكى وأسرع من العقول البشرية بملايين المرات، وبمجرد إدراكه هذه الحقيقة سوف يتعامل مع البشر بدونية شديدة، فهم أقل منه ذكاءً ومهارة، ويرى البعض أنه لا سبيل للحفاظ على الإدراك البشري إلا من خلال تطوير القدرات البشرية كي تساير قدرات الذكاء الإصطناعي، من خلال زرع شرائح ذكية داخل العقول والأجساد البشرية تُحسّن من أداء عملها ووظيفتها في مواجهة قدرات الذكاء الإصطناعي، وبذلك نضمن استمرار بقاء الجنس البشري في مواجهة الذكاء الإصطناعي.
لقد اقترب الوقت الذي سيكون فيه الإنسان هو "التقنية" أو "الأداة" التي ستخضع قريبا للتطوير والإبتكار، فالوتيرة التي تسير بها الثورة الصناعية الرابعه متسارعة للغاية بصورة أكبر مما كنا نتوقع. وعلى ما يبدو أن هذه الثورة التي بدأت منذ عقد من الزمان مدفوعة بتطوير تقنيات الذكاء الإصطناعي وإنترنت الأشياء والويب والإتصالات اللاسلكية قد أوشكت على الإنتهاء، وأصبحنا على أعتاب ثورة صناعية خامسة، أرى أنها ستكون الثورة الأخيرة في هذه الحقبة من الحضارة الإنسانية لتعلن بذلك نهاية عصر وبداية فجر جديد لحضارة مختلفة تماما عن سابقتها تسمى حضارة السايبورج ، تلك الحضارة التي تختلف تماماً عن الحضارات السابقة التي عرفتها الإنسانية، فقد ينتج عن الإنسجام التام بين الآلات وبعضها، وبين الذكاء البشري والذكاء الاصطناعي نوعا جديدا من المعرفة (البشرية - الإصطناعية)، تبتكر أنواعا مختلفة من الفنون والآداب والموسيقى والعادات والتقاليد. هذه الحضاره الجديد ستكون الغلبة فيها بلا شك للإنسان الهجين، ذلك الإنسان المزيج بين البشر والذكاء الإصطناعي من خلال دمج شرائح ذكية في مخ الإنسان تعمل على تطوير قدرات العقل البشري وإكسابها مهارات لم تكن موجودة من قبل.
ومن هنا تبدأ مرحلة جديدة من الحياة "النصف بشرية"، التى يعامل البشر فيها أنفسهم معاملة الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية، ويتم تصنيفهم لأجيال حسب خصائص وقدرات الشرائح الذكية المدمجة فيهم، كل حسب شريحته الذكية التي يتحكم فيها في النهاية قدرات هذا الشخص المالية على شراء الشريحة الأحدث والأسرع.

ولعل الهدف الرئيسى من هذه الثورة الصناعية الخامسة المستقبلية المحتمله هو دمج البشر والتكنولوجيا معا بعناية، ما يضمن أن كليهما يعملان بشكل وثيق ما يمهد الطريق لظهور نسخ معدلة تكنولوجيا من البشر، تلك النسخ الهجينة التي تندمج فيها التكنولوجيا بالأعضاء الحيوية للإنسان فتصبح مكونًا رئيسيًّا من الجسد البشري، يختلط فيه اللحم بالسيليكون، والعقل بالأسلاك، والإدراك بحالة شحن البطارية فيظهر لدنيا جيل جديد من البشر يستطيع أن يتذكر أدق التفاصيل ، ويعمل أطول فترة ممكنة دون كلل أو ملل، جيل لا تتأثر قراراته بالعواطف أو المشاعر، ولا يشعر بالإرهاق أو الألم فى حالة مستجدة على الوجود الإنساني.
 أسئلة كثيره تجول فى خاطرى عن مدى إمكانية أن يحقق التطور التكنولوجى تقدما حقيقيا في تعديل الجنس البشري عن طريق الشرائح الذكية المدمجة بالعقل البشرى لكي يصبح الإنسان خارقا بالفعل. كما تراودنى أسئلة أكثر حول كيفيه تأمين هذه الشرائح من الإختراق وما هو الحال إذا تم إختراقها بالفعل وتمت سرقة جميع الأفكار والذكريات والمعلومات الموجودة عليها فى رأس أحدهم؟ وهل ستُترك جميع المعلومات محفوظة فقط بالرأس البشري أم أننا سنحتفظ بنسخة إحتياطية منها على خوادم خارجية بداعي التطوير والتحسين وهل يمكن أن يتم ذلك دون حتى أن نستأذن صاحبها؟ وما هى من الضمانات أن الشركات المطورة لهذه الشرائح لن تتجسس على الشريحة بنفسها وتسرق أفكارنا؟ .

أسئلة أخلاقية وتنظيمية كثيرة تثير مخاوفى، قبل أن تكون أسئلة علمية، لا بد من الإجابة عنها أولًا، فالإنسان كائن إجتماعي بطبعه، كيف يمكن حذف مشاعر معينة من قائمة خياراته بهذه السهولة؟ وهل تتحمل طاقة الإنسان النفسية هذا الكم الرهيب من الذكريات والأفكار والنظريات والإدراكات ؟ وماذا يحدث إذا استطاعت مجموعة من البشر إمتلاك هذه التقنية الثورية، هل سيتركون الباقي يتمتعون بالحق في اقتنائها؟ أم سيتم حرمانهم منها بدواعٍ أخلاقية مزعومة كي يستأثروا منفردين بالسلطة؟

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: الذکاء الإصطناعی

إقرأ أيضاً:

هل تغيير سلوك البشر أمراً ممكناً؟

قبل عدة أيام كنت في نقاش سريع مع أحد أعضاء العائلة الكريمة حول “تأثير المناطق الملاصقة بشركة أرامكو وعملياتها على سلوك منسوبيها وعائلاتهم”.

فبعد 95 سنه من تأسيسها وبالتحديد عام 1930، اكتسبت المناطق القريبة من عمليتها الكثير من الخصائص الإيجابية على سبيل المثال وليس الحصر، محبة القراءة والدقة بالتوقيت وطريقة التحدث العلمي واللباس العملي وسياقة المركبات بشكل مثالي واستراتيجيات التفكير بحلول بديلة للمشاكل والكثير الكثير من الإيجابيات التي ساهمت في بناء التنمية.

فمنذ تأسيسها، ساهمت بتغيير سلوك أكثر من 60,000 من منسوبيها بالإضافة إلى الأعداد الهائلة من عائلتهم في ذاك الوقت. فتخيل معي منشأه واحدة قامت بتغيير عدد كبير من سكان المملكة العربية السعودية من تطور وفتح آفاق فكرية جديدة. قد يتفق معي الكثير، فنحن والعالم بأسره يعيش ويتجهز حالياً لحقبة وسلوك مختلف لما بعد عصر الذهب الأسود.

وللتوضيح أكثر دعونا نأخذ التجربة السنغافورية على سبيل المثال: تعاونت الحكومة مع فريق مسؤول عما يعرف بـ “الرؤى السلوكية” للمواطنين، الذي يطلق على أفراده اسم “وحدة التحفيز”، المعنية بتطبيق “نظرية التحفيز” على السياسات الحكومية، وهي النظرية التي فاز عنها ريتشارد ثالر بجائزة نوبل.

وتقوم هذه النظرية على فكرة مفادها أن الناس يمكن توجيههم لاتخاذ قرارات أفضل من خلال سياسات بسيطة وغير ملحوظة، دون مصادرة حريتهم في الاختيار. وتولى مهمة النهوض بسنغافورة رئيس الوزراء الراحل لي كوان يو. إذ أدرك كوان يو أن سنغافورة لن تزدهر إلا بتغيير شامل.

وذكر في حوار مع جريدة “نيويورك تايمز”: “نحن نعلم أننا لو سرنا على نهج الدول المجاورة سنموت، فنحن لا نملك شيئا بالمقارنة مع ما يمتلكونه من موارد. ولهذا، ركزنا على إنتاج شيء مميز وأفضل مما لديهم، وهو القضاء تماما على الفساد، واختيار الكفاءة أصحاب المناصب والنفوذ بناء على الجدارة والاستحقاق. ونجحنا”.

ولكن سنغافورة ليست الدولة الوحيدة التي تحفز الشعب على اتخاذ القرارات الأنسب، فقد حاولت أيضا ما يزيد على 150 حكومة حول العالم اتخاذ إجراءات وسياسات تدخلية لتوجيه سلوكيات شعوبها في وجهة معينة.

إذ استطاع مركز طبي في قطر، على سبيل المثال، أن يزيد نسبه المشاركة في المسح الشامل لمرض السكري بإجراء فحوصات السكري للناس خلال شهر رمضان، لأن الناس صائمون على أي حال، وبهذا لن يضطروا للامتناع عن الأكل قبل تحليل الدم. وكان هذا القرار ملائما وفي الوقت المناسب، وهما ركنان رئيسيان في السياسة التدخلية الناجحة لتوجيه سلوكيات الناس.

وجربت بعض المدن في أيسلندا والهند والصين رسم خطوط ثلاثية الأبعاد لعبور المشاة، يخيل لك أنها تطفو فوق الأرض، لتحث قائدي المركبات على تخفيف السرعة.

وفي المملكة المتحدة، يتلقى الناس خطابات لتشجيعهم على دفع ضرائبهم، يُذكر فيها أن أغلب دافعي الضرائب يلتزمون بدفعها في موعد استحقاقها، وحققت هذه الخطابات نتائج إيجابية، لأنها استخدمت العادات الاجتماعية كوسيلة لترغيب الناس في الاقتداء بالآخرين.

وقد تُصادف في سنغافورة بعض الإشارات البسيطة التي يراد بها التأثير على سلوكيات الناس وقراراتهم. إذ توضع مثلا سلال النفايات بعيدا عن محطات الحافلات لفصل المدخنين عن سائر الركاب. وتكشف لك إيصالات الكهرباء والغاز استهلاكك للطاقة مقارنة باستهلاك جيرانك.

كما وضعت الأجهزة والمعدات الرياضية بالقرب من مداخل ومخارج المساكن الحكومية لتذكير الناس بممارسة الرياضة باستمرار.

وتنتشر على رصيف محطة القطار أسهم خضراء وحمراء لتيسير نزول الركاب من القطار. وإذا اخترت التنقل بالقطار خارج أوقات الذروة، أي قبل السابعة صباحا، سيقل ثمن التذكرة.

ووضعت الحكومة في مقدمة أولوياتها تشجيع الناس على اختيار البدائل الغذائية الصحية، لا سيما بعد أن أشار استطلاع قومي للرأي أن ستة من بين كل عشرة سنغافوريين يأكلون في المطاعم أربع مرات على الأقل أسبوعيا.

وفي هذا الإطار، وضعت الحكومة برنامج لحث الشركات العاملة في مجال الأغذية والمشروبات على تقديم بدائل صحية، فضلا عن أن بعض الأماكن توفر البدائل الصحية بسعر أقل من الأطعمة الشعبية التقليدية.

وبعد النجاح المبهر الذي حققه البرنامج القومي لـ “عدد الخطوات”، الذي يحث الناس على ممارسة التمرينات الرياضية من خلال تطبيق مجاني لتتبع خطوات وحركة المستخدمين، في مقابل جوائز مادية وعينية، سُجل اسم البرنامج كعلامة تجارية.

وماذا عن مستقبل السياسات الداخلية في سنغافورة؟ يرى فريق “إنوفيشن لاب”، لدى إدارة الخدمات الحكومية الذي يصمم سياسات وخدمات عامة تناسب متطلبات المواطنين والجهات المعنية في سنغافورة، أن المستقبل للحكومة الرقمية.

ويقول المتحدث باسم الفريق إن المواطنين يتوقعون أن يلحق قطاع الخدمات الحكومية بالقطاع الخاص، أو يتفوق عليه، إذا طبق السياسات الرقمية. إذ تُستخدم في القطاع الخاص بالفعل أجهزة روبوت الدردشة والتواصل بتقنيات الواقع الافتراضي أو المعزز.

وعندما عاودت النظر إلى هذه المدينة الكبيرة المزدحمة، أنستني أضواؤها البراقة، ومبانيها الشاهقة المكونة من 30 طابقا، أن كل هذه المباني وربما أيضا هذه الأرض، في بعض المناطق، لم تكن شيئا قبل 50 عاما فقط.

وبالرغم من أن البعض قد لا يحبذ هذا الشكل من أشكال التعاقد الاجتماعي الوثيق بين الدولة والمواطن، فإن أحدا لا يُنكر أن سنغافورة خططت بحكمة لمستقبلها. واستطاع هذا البلد الصغير أن يصنع نهضته بنفسه من خلال توجيه سلوكيات الناس وتصميم البدائل بحذر لحثهم على اختيار ما يناسب مصلحتهم.

مقالات مشابهة

  • منتدى حقوقي يستنكر التراجعات الحقوقية التي شهدها المغرب
  • مستشار حكومي:وزراء فاشلين فاسدين في حكومة السوداني جراء المحاصصة التي ارهقت الدولة
  • سيدي بلعباس.. حجز ما يفوق قنطارين من اللحوم غير الصالحة للاستهلاك البشري
  • حتى لا تذهب البشرية إلى نهاية تاريخها
  • فتاة: ليه السواق يضحى بعربيته عشان ميخبطش إنسان ويموت حيوان؟.. علي جمعة يجيب
  • «أبناء بروميثيوس: تاريخ البشرية قبل اختراع الكتابة»
  • برلمانيون يشيدون بتوجه الحكومة للارتقاء برأس المال البشري في الريف
  • برلماني: توجيه 28% من حياة كريمة للارتقاء برأس المال البشري يعزز التنمية
  • ميار الببلاوي تكشف سر شطور .. رفيقها الجديد في الذكاء الاصطناعي
  • هل تغيير سلوك البشر أمراً ممكناً؟