لم يمثل طوفان الأقصى، زلزالا سياسيا فقط لجهة إسقاط مقولة الجيش الذي لا يقهر لدولة الاحتلال، وإنما أيضا مثل سؤالا فكريا وثقافيا وفلسفيا لا يزال يتردد منذ عصر النهضة العربية الأولى، عن سر النهضة والتقدم..

صحيح أن طوفان الأقصى وما تبعه من حرب إسرائيلية موغلة في الإبادة والوحشية، هو في ظاهره معركة بين حركات تحرر وطني وشعب يتوق إلى الاستقلال والسيادة، وبين قوة احتلال ترفض الانصياع للقانون الدولي، لكن ما تبعه من اصطفاف دولي غير مسبوق ضد الشعب الفلسطيني هو ما أثار علامات استفهام كبرى، حول مفاهيم الحرية والقانون والسيادة والمساواة والحقوق وغيرها من القيم التي عملت الإنسانية على مدى تاريخها بإسهامات تراكمية في صياغتها.

.

الفيلسوف والمفكر التونسي الدكتور أبو يعرب المرزوقي يعمل في هذه المقالات التي تنشرها "عربي21" في أيام شهر رمضان المبارك، على تقديم قراءة فلسفية وفكرية وقيمية للقرآن الكريم والحديث النبوي الشريف باعتبارهما المرجعية الأساسية التي يبني عليها العرب والمسلمون إسهاماتهم الحضارية..

عن الجهاد والاجتهاد ومنهج نقد القرآن

قبل مواصلة البحث في مخمس النقود الموجهة إلى القرآن الكريم أريد أن أضيف ثلاث مسائل أخرى قياسا  على ما أضفته لتحليل مفهومي الجهاد والاجتهاد الأكبرين والأصغرين:

كبير وصغير فيهما مع أصل يجمع بينها ليؤسس الفروع الأربعة الأكبر والكبير والأصغر والصغير .

ويمكن تطبيق نفس الاستراتيجية في الكلام على أنواع الحمق التي فيها:

أصغر هو نقد الحديث
وأكبر هو نقد القرآن
وصغير هو وسائل الحمق الصغير
وكبير هو وسائل نقد الكبير

وأصل أنواع النقد هو زعم العلم المحيط في النظر والعقد والعمل التام في العمل الشرع أعني الجهل بما بينته المدرسة النقدية العربية والغربية كما بينت في الموازنة التي ختمت بها ترجمة المثالية الألمانية.

فالمعلوم أن كلمة جهاد لم ترد في القرآن الكريم إلا مرة واحدة بدلالة الاجتهاد في الجهاد بالقرآن. فتكون العلاقة بين الجهاد والاجتهاد مناظرة للعلاقة بين الحديث والقرآن، لأن الحديث هو اجتهاد الرسول خلال تبليغ القرآن بأداتي التربية (القرآن المكي) والحكم (القرآن المدني) المتخلصين : من الوساطة الروحية (أي تحريم الكنسية لأن العلاقة بين المؤمن وربه مباشرة) فهو أقرب إليه من حبل الوريد ما يغني عن الوسطاء بينهما، ومن الوصاية السياسية (أي تحريم تربب الحكام لأن الأمر السياسي يستمد شرعيته من إرادة الجماعة الحرة وحكمتها الراجحة وهو معنى الشورى).

ومن ثم فكما أضفت الكبير والصغير بين الأكبر والأصغر في حالتي الجهاد والاجتهاد وجعلت الأصل في المربع خامسا هو جوهر الرؤية القرآنية للحياة البشرية في دنياهم وفي أخراهم، فلا بد من إضافة الكبير والصغير في حالتي القرآن بين الأكبر والأصغر أي القرآن والحديث (جاهدهم به) والحديث (اجتهاد الرسول في التربية والحكم) فإن الكبير والصغير والأصل لتحديد الأصل في العلوم أدوات لتحقيق الأعمال غايات.

وبذلك تصبح المسائل سبعا وليست خمسا لأني اضفت الحمق الأصغر والحمق الأكبر حمقين كبير وصغير وأصلا لأنواع الحمق الخمسة والآن أمر إلى المسألة الثانية بعد المسألة الأولى التي عالجتها أمس. وسيأتي تعريفهما بعد الفراغ من الخمسة الموعودة سابقا.

المسألة الثانية

فما نص المسألة الثانية: "النوع الثاني (من النقد) يتعلق بنفي أصالته (القرآن) أي الزعم بكونه انتحالا: في الحالة الأولى رده إلى الأديان التي يعترف لها بالوحي ومن ثم فالنقد هو بيان المصدر المستمد من اليهودية والمسيحية".

وحتى من لا يؤمن بأي دين من نقدة القرآن والحديث من العربان فإن سكوته عليهما وجرأته على الإسلام علتهما مضاعفة: فالسكوت علته الجبن والجرأة علتها الترشح للنحوية بانتهازية ترضي الأصحاب نزعة الإسلاموفوبيا الغربية..

لن أطيل في علاج هذه المسألة لأني كتبت فيها بحثا مطولا وكان لسوء الحظ بالفرنسية. ولم أقدم على ترجمته لظني أن جل المثقفين العرب الميالين لهذا النوع من النقد لهم القدرة على الأقل على قراءة الفرنسية وحتى الكتابة بها. وقد يترجم في المستقبل.

 وسأكتفي هنا ببيان الحجج المستعملة لأثبات ما يسمونه انتحالا أو تناصا للجهل بوظيفة ما في القرآن من مثل هذه الشبائه عند من يجهلون أمرين في القرآن:

الأول هو عدم الانتباه إلى أن طبيعة الاستدلال القرآنية منافية تماما لطبيعة الاستدلال في الأديان التي يزعمون انتحال القرآن للمعاني الدينية منها فيكون القرآن قد انتحل ما ينفي نقده للتحريف في الرسالات السابقة.

الثاني هو منهج النقد القرآني للتحريف بمنطق "التصديق والهيمنة" الذي هو جوهر كل إثبات للحقيقة من وراء النقد. فإذا لم يميز الناقد بين ما يعده باطلا وما يعده حقا فهو ليس ناقدا بل هو مدع حيازة الحقيقة دون سواه.

فسواء في الفكر الفلسفي أو في الفكر الديني فإنه لا يمكن لطالب الحقيقة أن يدعي أنه حائز عليها وحده دون سواه إلا إذا نفى كون البحث عن الحقيقة وطلبها غاية كل البشر وأنها اجتهاد تراكمي الكل يصيب فيها ويخطيء.

سواء في الفكر الفلسفي أو في الفكر الديني فإنه لا يمكن لطالب الحقيقة أن يدعي أنه حائز عليها وحده دون سواه إلا إذا نفى كون البحث عن الحقيقة وطلبها غاية كل البشر وأنها اجتهاد تراكمي الكل يصيب فيها ويخطيء.والنقد وظيفته مراكمة الصواب سلبا بتحريره من الخطأ في حدود الاجتهاد بمنطق التصديق والهمينة أي المحافظة على ما يعده صادقا وتجاوز ما يعده كاذبا: وتلك هي غاية النقد الإيجابية.

والدليل هو استثناء الكلام في الغيب الذي يترك الحسم فيه إلى يوم الدين إذا كان مؤمنا أو لمستقبل البحث إذا كان ملحدا.

فيكون النقد الفلسفي والنقد الديني مشتركين في منهجية النقد ومختلفين بطبيعة تأجيل الحسم في ما لم يستطع الحسم فيه:

المؤمن يؤجله ليوم الدين المحدد بكونه نهاية الدنيا وبداية الآخرة والملحد للمستقبل اللامحدد لعدم إيمانه بيوم آخر وتسليمه بسرمدية العالم الشاهد.

وليس من العسير معرفة طبيعة الاستدلال القرآني. فيكفي أولا الانتباه إلى ما يعاجز به أهل الجاهلية الرسول الخاتم لما يطالبونه بتقديم معجزات مثل الأديان السابقة وإلا فهو ليس رسولا بل شاعر ومجنون.

لكن ثانيا القرآن رد بما لو انتبه إليه الحمقى لما فهموا ما ظنوه منتحلات فالرسول الذي يستدل بغير المعجزات يكون وكأنه يكذب بنفسه ما يتكلم عليه عند الرسل السابقين الذين لم ينف عنهم المعجزات.

والجواب الصريح المبين لسخافة الحمقى موجود في القرآن الذي يحدد طبيعة الاستدلال بعدم خرق العادات ونظام الآيات الذي تعتمده الرسالة الخاتمة دون أن تنفي إمكانية أن تكون الرسالات السابقة قد اعتمدت الاعجاز الخارق للعادات.

فآية واحدة حددت نظام الاستدلال القرآني لتبين حقيقة الرسالة الخاتمة: يكفي قراءة الآية 53 من فصلت لمعرفتها: " ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾.

ليس في القرآن استدلال بالمعجزات بل الاستدلال مقصور على ما يريه الله للإنسان من آياته في الآفاق وفي الأنفس حتى يتبين أي حتى يعلم حقيقة القرآن.فليس في القرآن استدلال بالمعجزات بل الاستدلال مقصور على ما يريه الله للإنسان من آياته في الآفاق وفي الأنفس حتى يتبين أي حتى يعلم حقيقة القرآن.

لو كان للحمقى الذين يزعمون ما ورد في القرآن من كلام على الأديان الأخرى انتحالا أو تناصا ذوي عقل لفهموا أن ذلك دليل على أمرين يثبتان معنى الحكمة الراجحة في الخطاب القرآني:

1 ـ فهو ينفي الحاجة للمجزات التي تخرق العادات دون نفي إمكانها في الرسالات السابقة لأن ذلك من الغيب الذي يستحيل الحسم فيه..

2 ـ وهو يثبت أن الحاجة إلى النظام ابلغ في اقناع العقلاء واقدر على مخاطبة الإنسان ذي الإرادة الحرة والحكمة الراجحة من التخويف بالمعجزات.

والقرآن لم يكتف بذلك بل هو حدد طبيعة الآيات التي يريها الله للإنسان في الآفاق وفي الأنفس دون أن يقدمها له جاهزة لأن طلبها  بالبحث العلمي هو ما سيريه حقيقة القرآن ولن يجدها في القرآن بل في الآفاق وفي الأنفس ما يجعل القرآن موجها إلى البحث فيها في محلها وليس في آيات الرسالة:

فالآفاق هي إما الطبيعة المحيطة بالإنسان والقرآن صريح بأن الآيات فيها هي قوانين نظامها وهي خاضعة لمنطق رياضي: كل شيء خلقانه بقدر. الشمس والقمر بحسبان. إلخ..

أو هي التاريخ المحيط بالإنسان والقرآن صريح بأن الآيات فيه هي  سنن نظامه وهي خاضة لمنطق خلقي: أي سنن التواصل بين البشر بالأقوال الصادقة أو الكاذبة وسنن التبادل بينهم بالأفعال العادلة أو الظالمة.

والأنفس في كيان الإنسان هي البعد العضوي منه ويحددها القرآن صراحة بكونها متعلقة بشرط قيامه المستمد من الطبيعة أي من الهواء والماء والغذاء والدواء وأصلها أربعتها هو حصيلتها في آن أي المناعة العضوية.

وهي البعد الروحي منه ويحددها القرآن صراحة بكونها متعلقة بشرط قيامه المستمد من تراكم التجربة العلمية والعملية أي من التاريخ وهي البصيرة والسميعة والشميمة والذويقة واللميسة التي بفضلها إذا اجتمعت حقق الإنسان شروط قيامه الروحي بفضل الحصانة الروحية التي شرطها إرادته الحرة ليكون جديرا بالاستخلاف في الأرض بفضل اجتهاده بالحكمة الراجحة.

ولهذه العلة تجد القرآن يصف فاقدي البصيرة والسميعة والشميمة والذويقة واللميسة بأنهم صم بكم عمي لا يعقلون ولا يرجعون.

والمعلوم أن الحاستين الأوليين ـ البصر والسمع ـ تتعلقان  بالنظر والعقد خاصة وأن الحاستين المواليتين ـ الشم والذوق ـ تتعلقان بالعمل والشرع خاصة وأن الحاسة الأخيرة مشروطة فيها جميعا.

فلا يمكن للبصر ولا للسمع ولا للشم ولا للذوق أن يحصل أي منها من دون تلامس بين الآيات التي توجد خارج الإنسان والآيات التي توجد في كيان الإنسان. ومن أراد أن يفهم ذلك جيد الفهم فلينظر في سر تواصل الحياة أي الجنس.

فالجنس من حيث هو أسمى وظيفة عضوية وروحية في كيان الإنسان لا يبلغ ذروته إلا إذا اجتمعت فيه كل الحواس في العملية الجنسية أي "الارجاسم" باعتباره اجتماع البصر والسمع والشم والذوق واللمس ولذلك يسمي  القرآن فعل الحب الجنسي لمسا ومسا ويعتبره أكبر جزاء في الآخرة بعد رؤية وجه الله بالبصر إذ يصبح حديدا.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير القرآن قراءة الخطاب القرآن خطاب قراءة تاويلات أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة فی القرآن فی الفکر الحسم فی ما یعده على ما

إقرأ أيضاً:

كيف كانت طبيعة ووظائف الدولة في فترة الحكم التركي؟

بقلم: تاج السر عثمان

فارق دنيانا البروفيسور حسن أحمد إبراهيم والذي كانت له إسهامات مميزة في ميدان تخصصه في التاريخ الحديث والمعاصر، ولفت نظري مساهمته المتميزة التي اطلعت عليها عن فترة الحكم التركي - المصري في السودان أثناء بحث كنت أعده عن " التاريخ الاجتماعي لفترة الحكم التركي - المصري في السودان"، الذي نشر في كتاب فيما بعد عن مركز محمد عمر بشير ٢٠٠٦.
كانت مساهمة البروف المرحوم حسن أحمد إبراهيم بعنوان"محمَّد علي في السُّودان: دراسة لأهداف الفتح التُّركيِّ- المصريَّ"، والتي صدرت في كتاب عن دار النشر بجامعة الخرطوم (دون تاريخ)، له الرحمة والمغفرة.
نعيد نشر هذه المقال عن طبيعة ووظائف دولة الحكم التركي - المصري في السودان (١٨٢١ - ١٨٨٥).

اولا - شكلت دولة الحكم التركي تطورا جديد في مسار الدولة السودانية : دولة كرمة ، نبتة ، مروى، النوبة المسيحية، الفونج والفور. وتلك الدول كانت مستقلة وكانت نتائج تطور باطني. ولكن الجديد أن السودان خلال فترة الحكم التركي (1821م-1885م)عرف دولة تابعة خاضعة للاحتلال الأجنبي ضمت رقعة واسعة في البلاد،بعد ضم دارفور والمديريات الجنوبية الاستوائية، أعالي النيل ، بحر الغزال.
وكانت تلك الدولة مفرطة في المركزية وما جاءت نتاجا لتطور باطني، بل تم زرعها من الخارج وعلى نمط الدولة في الإمبراطورية العثمانية التي كانت بقيادة الأتراك والألبان المتحالفين مع كبار الملوك المحليين والعلماء والفقهاء المرتبطين بجهاز الدولة وكبار العسكريين من المماليك أو قادة الجيوش من المرتزقة وكانت دولة مدنية رغم إنها كانت استبدادية وتقوم على القهر.
ثانيا - كانت دولة الحكم التركي في السودان تمثل تحالف الحكام العسكريين والمدنيين (أتراك ، مصريين، أوربيين) وزعماء العشائر وكبار الملاك والتجار وكبار العلماء والفقهاء المرتبطين بجهاز الدولة وبعض القيادات والزعامات الدينية، وهذه الدولة في مضمونها كانت طبقية، بمعنى أنها كانت تعبر عن مصالح هذا التحالف الطبقي الحاكم.
وكان من مهام هذه الدولة نهب واعتصار واستنزاف الفقراء من الرعاة والمزارعين وصغار الملاك لاستخلاص اكبر قدر ممكن من الضرائب منهم، بينما كان كبار الملاك في ذلك التحالف الحاكم أما معفياً من الضرائب أو يتهرب منها بالرشوة وكانت وظيفة هذه الدولة أيضا قمع الانتفاضات والثورات ضد النظام، كما كانت وظيفتها أيضا هي تنظيم تصدير الفائض الاقتصادي إلى الخارج أو تنظيم كل القدرات الاقتصادية والبشرية وتوظيفها في خدمة مصالح الطبقات الحاكمة في مصر.
وكانت دولة الحكم التركي، بمعنى آخر، امتداداً أو ذراعاً حاكماً للتحالف الطبقي الحاكم في القاهرة الذي كان بدوره يقهر ويقمع الشعب المصري ويمتد هذا القهر ليشمل شعوب ومستعمرات إمبراطورية محمد علي باشا واعتصارها بهدف تحقيق التراكم اللازم لتحقيق أهداف محمد علي الاقتصادية والعسكرية .
ثالثا - باحتلال محمد علي للسودان عرف السودان لأول مرة نمطاً جديدا من الدولة هو نمط الدولة المدنية العصرية والتي عرف فيها السودانيون بذور التعليم المدني الحديث والقضاء المدني ، وبذور نمط الإنتاج الرأسمالي ، واتساع دائرة العمل المأجور والتعامل بالنقد ، واقتلاع المزارعين من أراضيهم والقذف بهم أو الهجرة إلي مناطق أخري من السودان اوخارج السودان ، إضافة لاتساع السوق الداخلية بعد اتساع رقعة السودان خاصة بعد ضم سواكن ودار فور والمديريات الجنوبية ألي بقية أنحاء السودان مما أدى إلى اتساع التجارة الخارجية والداخلية وارتباط السودان بالسوق العالمي ، وبالتالي عرف السودانيون كامتداد أوسع للتحولات التي بدأت تحدث أيام الفونج المدن التجارية وبداية تفكك وتحلل النظام القبلي ، وظهرت طرق صوفية أوسع واكبر من الطرق التي كانت سائدة أيام الفونج مثل الختمية التي ضمت اتباعاً من شمال وشرق السودان وكردفان وبعبارة أخرى بدأ يشهد السودان بداية بذور تكوين القومية السودانية أو الدولة القومية السودانية.
رابعا - شهدت دولة الحكم التركي توسعا في زيادة مساحة الأراضي الصالحة للزراعة ، مما أدى إلي زيادة المحاصيل الزراعية في الأسواق ، فنجد أن الحكومة في هذه الفترة تجلب عدداً من خوليه الزراعة ، وتعمل على تطوير زراعة القطن وتشق القنوات للتوسع في زراعة الأحواض وتشجيع تعمير السواقي وترسل الطلاب إلى مصر للتعليم والتدريب الزراعي وتجلب المحاريث لحراثة الأرض وتعمل على بناء المخازن في المراكز الرئيسية على طول الطريق إلى مصر لتوفير مياه الشرب لتسهيل الحركة التجارية وتصدير المواشي بشكل خاص كما اهتمت الحكومة بإدخال محاصيل نقدية جديدة مثل الصمغ، السنامكي ،والنيلة . الخ. واهتمت بالثروة الحيوانية وجلبت الفلاحين والعمال المهرة في الزراعة واهتمت بالتقاوي المحسنة والأشجار المثمرة واهتمت بمكافحة الآفات مثل الجراد .
ولكن رغم تلك التحسينات التي أدخلتها الحكومة بهدف تطوير القوى المنتجة في الزراعة والإنتاج الحيواني الا أن الضرائب الباهظة التي كانت الحكومة تفرضها على المزارعين والرعاة أدت إلى هزيمة هذا الهدف، فقد هجرالاف المزارعين سواقيهم في الشمالية ، كما هرب الاف الرعاة بمواشيهم إلى تخوم البلاد ، هكذا نجد أن سياسة الحكومة التي كانت تعتمد على القهر والضرائب الباهظة أدت إلى انخفاض الإنتاج الزراعي والحيواني، وبالتالي أدي ألي تدهور الأحوال المعيشية وأدي ذلك ألي المجاعات والأمراض والخراب الاقتصادي وغير ذلك مما شهده السودان في السنوات الأخيرة للحكم التركي- المصري.
خامسا - شهدت تلك الفترة قيام صناعات جديدة مثل صناعة البارود وصناعة النيلة وصناعة حلج القطن و صناعة الذخيرة كما تطور قطاع الخدمات حيث تطورت المواصلات (بواخر نهرية) إدخال التلغراف ، كما تم تحسين ميناء سواكن وتم توصيل خط السكة الحديد إلى مدينة وادي حلفا (الشلال).
سادسا - عرفت دولة الحكم التركي التفاوت الطبقي وكان التركيب الطبقي للدولة يتكون من : الحكام وكبار موظفي الدولة الأجانب والمحليين ،زعماء ومشايخ الطرق الصوفية، الجنود، المزارعون، العمال والموظفين المأجورين، الرقيق.
سابعا - حول سمات وخصائص التشكيلة الاقتصادية- الاجتماعية لدولة الحكم التركي نلاحظ الآتي:-
(أ) كانت تشكيلة تابعة، ولم تكن مستقلة على نمط التشكيلات السابقة الرأسمالية في السودان لممالك السودان القديم وفي العصور الوسطى.والمقصود بتشكيلة تابعة : أن كل النشاط الاقتصادي والاجتماعي في تلك الفترة كان موظفاً لخدمة أهداف دولة محمد علي باشا في مصر، وبالتالي تم إفقار السودان وتدمير قواه المنتجة (المادية والبشرية) وكان ذلك جذراً أساسياً من جذور تخلف السودان الحديث.كما اتسعت تجارة الرقيق.
(ب) أرتبط السودان بالسوق الرأسمالي العالمي عن طريق تصدير سلع مثل : الصمغ العربي ، العاج ، والقطن. الخ.
كما شهد السودان خلال تلك الفترة غرس بذور نمط الإنتاج الرأسمالي في السودان على الأقل في سمتين أساسيتين من سمات نمط الإنتاج الرأسمالي هما :
*اتساع عمليات التعامل بالنقد والعمل المأجور بعد اقتلاع المزارعين من سواقيهم وأراضيهم.
*الارتباط بالتجارة العالمية.
(ج) التحولات التي أحدثها نظام الحكم التركي محدودة (الاقتصاد ، التعليم ، الصحة، المواصلات. الخ).وظل الجزء الأكبر من النشاط الاقتصادي في السودان خلال تلك الفترة حبيس القطاع المعيشي ( التقليدي) وظلت قوي الإنتاج وعلائق الإنتاج بدائية ومتخلفة.
ويمكن القول أن السودان في تلك الفترة شهد تدمير أو خسارة للتشكيلة الاجتماعية القديمة دون كسب تشكيلة اجتماعية أرقى، وهذه العملية شبيهة إلى حد ما بتدمير الاستعماريين البريطانيين لنمط الحياة القبلي القديم في الهند والتي وصفها ماركس بقوله " أن سكان الهند خسروا عالمهم القديم دون كسب لعالم جديد " .
ثامنا - شهدت تلك الفترة تراكمات كمية من الانتفاضات والثورات ضد النظام ما أن تندلع انتفاضة ويتم إخمادها حتى تندلع أخري من جديد، وأدت تلك التراكمات الكمية من الانتفاضات إلى تحول كيفي في الثورة المهدية.
هكذا نجد جذور الثورة السودانية الحديثة التي ترجع إلى فترة الحكم التركي وبداية قانونها الأساسي الذي يبدأ بمقاومة النظم الاستبدادية بأشكال وصيغ مختلفة ويتم تتويجها بالانتفاضة الشاملة التي تطيح بالنظام ، على ان عنف ووحشية دولة الحكم التركي هي التي ولدت الانتفاضة الشعبية المسلحة في الثورة المهدية.
تاسعا - كما شهدت هذه الفترة غرس بذور الثقافة الحديثة، التعليم المدني الحديث ، القضاء المدني، الطباعة ، الصحافة ،بدايات المسرح، وبدايات استقلال فن الشعر الغنائي عن الدين وعن نمط الغناء التقليدي (الدلوكه) الذي كان سائداً أيام الفونج.

عاشرا - عرف السودانيون خلال فترة الحكم التركي المصري الملكية الخاصة للأرض وبيع الأراضي ورهنها وتوريثها حسب الشريعة الإسلامية والأعراف، وكان ذلك من التطورات التي شهدها السودان في ملكية الأراضي وتعبيراً عن ارتباط السودان بالنظام الرأسمالي العالمي .
كما عرفت التشكيلة الاجتماعية انماطاً مختلفة من الإنتاج التي كانت سائدة في التشكيلات الاجتماعية السابقة مثل : نمط الإنتاج البدائي، و نمط الإنتاج العبودي ونمط الإنتاج الإقطاعي، ولكن الجديد هنا كما أشرنا سابقاً أن السودان عرف البذور الأولى لنمط الإنتاج الرأسمالي والذي نشأ مع اتساع التعامل بالنقد والارتباط بالتجارة العالمية وتحول قوة العمل إلى بضاعة، واقتلاع آلاف الفلاحين من أراضيهم نتيجة للقهر والضرائب الباهظة .

أهم المراجع:-
1/.بشير كوكو حميدة: ملامح من تاريخ السودان في عهد الخديوي إسماعيل (مطبوعات كلية الدراسات العليا بحث رقم "10"1983م).
2/ تاج السر عثمان الحاج : التاريخ الاجتماعي لفترة الحكم التركي ، مركز محمد عمر بشير 2006م.
3/ حسن أحمد إبراهيم : محمد علي في السودان ، دار جامعة الخرطوم للنشر، بدون تاريخ ، رسالة ماجستير.

alsirbabo@yahoo.co.uk  

مقالات مشابهة

  • القرآن..البوصلة الحقيقة للأمّة
  • رئيس الدولة يستقبل عدداً من العسكريين الإماراتيين الفائزين بمسابقة القرآن الكريم التي أقيمت في السعودية
  • محمد بن زايد يستقبل العسكريين الإماراتيين الفائزين بمسابقة القرآن الكريم التي أقيمت بالسعودية
  • الشمس ليس لها شعاع.. علامات الاستدلال على ليلة القدر من السنة النبوية
  • كيف كانت طبيعة ووظائف الدولة في فترة الحكم التركي؟
  • خلاف أميركي - لبناني حول طبيعة لجان التفاوض
  • هل يجوز قراءة القرآن من المصحف في صلاة التراويح؟ الإفتاء تجيب
  • تركيا الأولى عالميا ضمن الدول التي يصعب فيها امتلاك منزل!
  • هل ثواب قراءة القرآن من الهاتف أقل من المصحف الورقي؟.. الإفتاء تجيب
  • الكشف عن طبيعة إصابة عوار