الكتاب: لا سلام لفلسطين،الحرب الطويلة ضد غزة
المؤلف: هلغي باومغرتن
المترجم: محمد أبوزيد
الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات


وضعت هيلغي باومغرتن، أستاذة العلوم السياسية في جامعة بيرزيت لأكثر من ربع قرن، هذا الكتاب باللغة الألمانية مستهدفة فضاء مختلفا، يسود فيه عادة الانحياز للرواية الإسرائيلية، إما بسبب خلفيات استعمارية استعلائية وعنصرية، أو بسبب غياب صوت قوي للضحية (الفلسطينيون) يشرح حقيقة ما يحدث.

وهو، الكتاب، مع ذلك يمنح القارىء العربي فرصة للإحاطة تاريخيا بمجمل الأحداث المفصلية في نضال الشعب الفلسطيني وسعيه للتحرر وإنهاء الاحتلال.

تقول باومغرتن إن الكتاب وليد التأثر بالمقاومة الفلسطينية ضد عنف الاحتلال والتطهير العرقي في القدس الشرقية ، وردة فعل على حرب إسرائيل الطويلة ضد أهالي قطاع غزة. وكانت قد وضعته في العام 2021 لكنها عادت وأضافت إليه، في ترجمته العربية، مقدمة خاصة بعد أحداث "طوفان الأقصى" تتهم فيها الدول الأوروبية صراحة بالتواطؤ مع إسرائيل في حربها البشعة على القطاع، إذ أطلقت العنان لإسرائيل كي تدمر غزة وتقتل سكانها.. و"ألمانيا، كما هو الحال دائما، تشارك في ذلك متقدمة الصفوف"بحسب ما تقول.

وبينما تؤكد باومغرتن على مسؤولية إسرائيل، منذ العام 1948، عن عدد لا يحصى من جرائم الحرب ضد الفلسطينيين، وهي تدعو إلى جرائم حرب جديدة منذ أكتوبر، مدعومة من غالبية المجتمع الإسرائيلي ومصحوبة بتهليل من الغرب الاستعماري، فإنها تلفت بالمقابل إلى الموقف الغربي السلبي من الفلسطينيين، فهؤلاء "الذين يستخدمون حقهم المكفول في المقاومة ضد نظام استعماري، هم إرهابيون، ويتم في غضون ذلك مساواتهم  بالقاعدة وبالدولة الإسلامية (داعش)".

منطلق باومغرتن وحافزها لوضع هذا الكتاب كان أحداث مايو العام 2021 في القدس ثم في غزة، لكنها في الوقت ذاته تنتهز الفرصة للقيام "بعملية تنوير من خلال جذب الانتباه إلى الحقائق الماثلة في فلسطين التاريخية" منذ العام 1948. وتحاول شرح الأسباب التي تقف خلف أن إسرائيل تتصرف دائما وأبدا بوحشية أكبر من حرب إلى حرب، وفي الوقت نفسه تحقق دائما ما هو أقل.

وعبر صفحات الكتاب تتوقف باومغرتن عند أهم التنظيمات الفكرية و السياسية الفاعلة على الساحة الفلسطينية منذ العام 1948، من حيث النشأة التاريخية، والأدوار السياسية التي لعبتها، وفهم المواقف التي تمثلها اليوم، وحجمها وكيفية رسوخها في المجتمع الفلسطيني. كما تعرض لأهم التحولات السياسية التي شهدتها القضية الفلسطينية مثل اتفاقية أوسلو ، وموت ياسر عرفات والشيخ أحمد ياسين، وانتخابات المجلس التشريعي في عام 2006، التي حققت فيها حركة حماس انتصارا مدويا وصولا إلى سيطرة الحركة على غزة وحالة الانقسام التي سادت حتى اليوم.

النكبة والمقاومة

في الفصل الأول من الكتاب تقدم باومغرتن استعراضا تاريخيا لما شهدته فلسطين منذ العام 1948 وحتى العام 1967، فتلخص حيثيات إقامة دولة إسرائيل والدعم الذي تلقته هذه الدولة من القوى الغربية، وكيف كان ذلك هو الوجه الآخر ل"النكبة" التي حاقت بفلسطين والفلسطينيين، بعد أن ارتكبت بحقهم المجازر المروعة، وسلبت منهم أراضيهم وبيوتهم وممتلكاتهم، وهُجٍر ما يقرب من ثلاثة أرباع مليون فلسطيني فتحولوا إلى لاجئين بين ليلة وضحاها.

وهي في هذا السياق تورد استشهادات من مذكرات لشخصيات قيادية لاحقة للحركة الوطنية الفلسطينية، ومثقفين وأدباء فلسطينيين، يشرحون فيها جزءا من هذه التجارب"المؤلمة والصادمة"، مثل جورج حبش، أحد مؤسسي حركة القوميين العرب ولاحقا الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وصلاح خلف (أبو إياد) أحد مؤسسي حركة فتح، والأديب غسان كنفاني، وأستاذ العلوم السياسية إبراهيم أبو لغد. وتفند باومغرتن الدعاية الإسرائيلية عما حدث في العام 1948، التي "تؤدي دورا حتى اليوم في الخطاب الناطق بالألمانية"، مستعينة، تحديدا، بمصادر إسرائيلية توثق وتحلل أحداث النكبة، مثل الكتب التي وضعها ما يعرف ب"المؤرخون الجدد"، دون أن تغفل،طبعا، المصادر الفلسطينية. وتقول باومغرتنأن الفلسطينيين عاشوا بعد العام 1948 حياة من دون أي حرية، بغض النظر عن مكان وجودهم. وحتى النشاطات اليومية الأكثر بساطة كانت مقيدة. وجرت المحاولة بوسائل شتى لمحو هويتهم وإنزال مكانتهم إلى لاجئين مجهولين وبلا حقوق.

وبحسب مكان وجودهم فرضت عليهم هويات جديدة، فتم تعريفهم من جديد كلاجئين في لبنان، أو كعرب، أو كإسرائيليين، أو كأردنيين. إلا أن هذا لم يمنعهم من المقاومة المستمرة ضد كل ما فرض عليهم، فحاولوا منذ مطلع الخمسينات تنظيم أنفسهم سياسيا من جديد من خلال حركة القوميين العرب، ولاحقا من خلال حركة فتح.

ليست غزة بالنسبة إلى إسرائيل حقل تجارب لأسلحة جديدة وأدوات قمع جديدة فحسب، ففي غزة تختبر إسرائيل أيضا تلاعبها بالقانون الدولي الإنسانيتنتقل باومغرتن بعد ذلك للحديث عن الفترة الممتدة من حرب 1967 إلى الانتفاضة الأولى في العام 1987، وهي ترى أن تجارب الحكم العسكري للفلسطينيين في إسرائيل من عام 1948حتى عام 1966 تُنقل مباشرة إلى الحكم العسكري الحديث التأسيس في الضفة الغربية وقطاع غزة.

فمنذ العام 1967 تسيطر إسرائيل على فلسطين التاريخية كاملة، وبذلك أمكن الاستيلاء على بيوت الفلسطينيين وممتلكاتهم وتهجيرهم ومصادرة أراضيهم وبناء المستوطنات عليها. وتقول إن سنوات السبعينيات والثمانينيات تبدو كسلسلة متصاعدة من الهجمات ضد الوجود السياسي والوطني والبدني للفلسطينيين في المناطق المحتلة وفي الشتات على حد سواء." فقد بدأ ذلك مع أحداث أيلول (في الأردن) وبلغ أوجه في حرب 1982ضد منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان." ما جعل المنظمة تدرك أن الحل لا يوجد إلا في الأراضي المحتلة، ولذلك بدأت بالتركيز في عملها السياسي والتنظيمي هناك، "بغية النضال بشكل مشترك مع المجتمع الفلسطيني" وهو الأمر الذي أسفر في النهاية عن تفجر الانتفاضة الأولى.

أظهرت الانتفاضة الأولى استعداد المجتمع الفلسطيني ككل لمقاومة الاضطهاد، بحسب باومغرتن، لكن في حين سارت الانتفاضة الأولى على نحو خال من العنف، سادت الانتفاضة الثانية مقاومة استخدم فيهاالعنف المسلح، ومع ذلك لم تستطع أي منهما التغلب على الاحتلال الإسرائيلي ونظام الاستعمار الاستيطاني. تقول باومغرتن أن مفاوضات أوسلو مكنت ياسر عرفات والمنظمة من التخلص من وضعية المنبوذ، بعد وقوف عرفات إلى جانب صدام حسين في حرب الخليج، ومن التحول المفاجىء إلى سياسي ينشد السلام. علاوة على ذلك استطاعت المنظمة أن تعود إلى المناطق المحتلة بكامل أجهزتها بعد توقيع اتفاق أوسلو. لكن اتفاق "التعاون الأمني" حوّل القيادة الفلسطينية إلى شرطي في خدمة الاحتلال. ورغم محاولة عرفات "الانقلاب إلى الخلف" بعد أن أدرك أن الدخول في مفاوضات أوسلو كان غلطته السياسية الكبرى، فالحرب الإسرائيلية على الفلسطينيين منذ نهاية عام 2000 وفي سياق الانتفاضة الثانية، حالت دون ذلك وأدت في النهاية إلى وفاته المشبوهة.

حرب بلا نهاية

تشرح  باومغرتن الظروف المحيطة بالانتخابات المحلية التي شهدتها مناطق السلطة الفلسطينية في العام 2004، وصولا إلى انتخابات المجلس التشريعي في العام 2006 التي حققت فيها حماس فوزا كبيرا، وترى أن التحول الموعود نحو الديمقراطية، وإن كان تحت الاحتلال، ظل عالقا في بداياته.

فما آلت إليه الأمور بعد هذه الانتخابات كان مخيبا للآمال." الناس في الضفة الغربية وفي غزة يعيشون في دولة فصل عنصري ويواجهون احتلالا قمعيا، وكأن هذا لا يكفي، فراحت فتح في رام الله وحماس في غزة تقيمان في الداخل حكمهما السلطوي الخاص بكل منهما، رغم وجود اختلافات جوهرية بينهما؛ في رام الله يتعاون الرئيس محمودعباس باستمرار مع إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، وعلى النقيض من ذلك فإن قطاع غزة تحت حكم حماس محاصر بالكامل من الجيش الإسرائيلي. ولتحقيق تغيير في هذا الوضع الذي لا يحتمل لا ترى حماس بديلا آخر سوى المقاومة، سواء كانت مقاومة جماهيرية كما في مسيرات العودة منذ العام 2018، أم مقاومة مسلحة من خلال قصف إسرائيل بصواريخ مصنوعة محليا".

وخلال 15 عاما شنت إسرائيل أربع حروب على قطاع غزة، كل واحدة منها كانت أقوى تدميرا وأكثر كارثية على أهل غزة من سابقتها. تصف إسرائيل القطاع بأنه "كيان معاد" تحت حكم حركة إرهابية، وترى أنه يحق لها شن حرب عليه في أي وقت بذريعة "الدفاع عن النفس"، وأنه يجب هزيمة حماس مرة وإلى الأبد. تقول باومغرتن أنه يبدو واضحا أن إسرائيل لا تملك استراتيجيا سياسية للعلاقات مع الفلسطينيين وخاصة مع المجتمع الفلسطيني في غزة ومع حماس. فقد اختارت سياسة تشديد الاحتلال، والحرب الطويلة ضد الناس، التي أريد لها أن تكون حرب إبادة وحشية ، دمر خلالها الجيش، بكل قوته، كل ما اعترض طريقه إلى أهدافه، مطبقا ما يطلق عليه"عقيدة الضاحية" التي طبقها في حرب لبنان 2006.

وتستشهد بما كتبه الباحث الإسرائيلي جيف هالبر حول كيف تستخدم إسرائيل الفلسطينيين في غزة "أرانب اختبار" في استراتيجيتها الخاصة ب"تكييف" القانون الدولي، إذ تحاول إسرائيل ترسيخ مفاهيم جديدة  أو تسميات جديدة للمقاومين المقاتلين على غرار "أطراف فاعلة غير شرعية"، أو "إرهابيين" أو "متمردين"، أو "أطراف فاعلة غير حكومية" والسكان المدنيين الذين يدعمونهم، بهدف نزع الشرعية عن كل مقاومة، وحتى تتمكن من محاربة الفلسطينيين من دون عوائق. في السياق ذاته أعد كل من أسا كاشير، أستاذ الفلسفة وعلم الأخلاق في جامعة تل أبيب، والجنرال عاموس يادلين، رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية،"عقيدة جديدة للأخلاقيات العسكرية" على أساس عقيدتهما الخاصة بحرب عادلة ضد الإرهاب، حيث يكون للدولة مطلق الحرية في الحط من شأن خصومها بوصفهم ببساطة إرهابيين.

تقول باومغرتن إن كاشير ويادلين يستندان إلأى الحق في الدفاع عن النفس الذي على أساسه تُشرعن جميع الأعمال التي يقوم بها الجيش ، لكن هذا الحق مكفول فقط للدول. تقوم الاستراتيجيا الخاصة باستخدام القانون لتحطيم العدو ونزع مشروعيته، أي استراتيجيا الحرب بواسطة القانون، ببساطة على قاعدة أساسية: يعيد المرء مرارا وتكرارا القيام بأعمال غير شرعية إلا أنه يبررها المرة تلو الأخرى بمبادىء جديدة "لأخلاقيات عسكرية". "ليست غزة بالنسبة إلى إسرائيل حقل تجارب لأسلحة جديدة وأدوات قمع جديدة فحسب، ففي غزة تختبر إسرائيل أيضا تلاعبها بالقانون الدولي الإنساني".

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب الكتاب غزة الفلسطينيون الاحتلال احتلال فلسطين غزة كتاب عرض كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة المجتمع الفلسطینی الانتفاضة الأولى منذ العام 1948 فی العام من خلال فی حرب فی غزة

إقرأ أيضاً:

قراءة إناسية في نشأة الدولة الإسلامية الأولى

الدراسات الحديثة المهتمة بنشأة الدولة الإسلامية قدمت العديد من الأطروحات عنها، ركز معظمها على لحظة الصراع الذي جرى بين المسلمين ومناوئيهم.. سواء في مكة كقريش، أم المدينة كالأوس والخزرج واليهود، أم القبائل التي دخلت بنفسها في حروب مع المسلمين، وأثر ذلك في نشأة الدولة، دون أن تسبر جذور المجتمع العربي ذاته.

من الدراسات العميقة التي بحثت نشأة الدولة الإسلامية في بواكيرها الأولى كتاب «من المَيسِر الجاهلي إلى الزكاة الإسلامية.. قراءة إناسية في نشأة الدولة الإسلامية الأولى» لمحمد الحاج سالم، وأصله رسالته في الدكتوراه، صدر عن دار المدار الإسلامي عام 2014م. وقد أهداني المؤلف مشكورًا نسخة ممهورة بتوقيعه: (الأخ الصديق خميس العدوي.. كي نعيد قراءة تأريخنا وديننا بعين أخرى. مع مودتي البالغة.. أخوكم محمد الحاج سالم، بيروت في 20/ 1/ 2018).

عالج الباحث الموضوع انطلاقًا من فكرة النظام الاقتصادي ببنيته الأساسية وهي الدين، وتوسع كثيرًا في التدليل على فكرته ببناء «نظام المَيسِر الجاهلي» معرفيًّا، حيث لم يرد قبله ذكر لهذا النظام إلا نادرًا ومحدودًا، فعمله مبتكر، وقد دعّمه بمئات الأدلة والاقتباسات، حتى تحولت فكرته من أشتات في كتب كثيرة: القرآن والشعر الجاهلي والسيرة والتاريخ والأدب، إلى نظرية متكاملة في كتاب جامع. وإن كان من ملاحظة أذكرها فهي ضخامة الكتاب، التي تأخذ القارئ إلى شُعب شتى، ولتمام الفائدة فينبغي لصديقنا الحاج سالم، أو غيره من المهتمين بالموضوع، أن ييسرها بمختصر غير مخل، حتى تنتشر الفكرة وتعم الفائدة.

الدراسة.. بحثت في جذور نشأة الدولة عبر فكرة «اللَّقاحية»؛ أي عدم السماح بتشكل سلطة سياسية على العرب، فهناك معتقدات وطقوس وممارسات تقف خلف «الحالة اللَّقاحية»، فكان على الإسلام وهو «يؤسس لدولته» أن يقوم على أعقاب «الدين الجاهلي» الحاضن لهذه اللَّقاحية، وهو ليس أفكارًا عابرة، أو معتقدات ساذجة، وإنما بُنية عقدية عميقة اجتماعيًا؛ شملت مناحي «الحياة الجاهلية»، جاء في مقدمة الكتاب: (إن هذا البحث ينخرط في سياق توجه نظري مفاده أن لا وجود لحقل ديني مستقل بذاته يمكن الحديث عنه وحوله بصفته تلك، فما من حقل ديني إلا وهو يتضمن إشكالات هي التي تحدد في المقام الأخير اتجاهه ومواقفه، وما من حقل ديني يروم أو يدعي التجديد إلا وهو يتخذ شكله الاجتماعي من خلال تلك المواجهة بين الرهانات الجديدة التي أفرزته بقدر ما بشّر بها، والرهانات القديمة التي أرهصت بولاته) [ص16].

إذًا؛ لم تنشأ الدولة في الإسلام من فراغ.. بل إثر نظام كان قائمًا، تشكلت له معتقداته وطقوسه عبر تاريخ الجزيرة العربية، أسماه الحاج سالم «المَيسِر الجاهلي». ولأن من طبيعة الحياة التغيّر، وإفراز مسار جديد من الأحداث؛ فإن المجتمع العربي دخل في جدل المعتقدات التي أفرزت واقعًا جديدًا، فرض نفسه بآليات جديدة، وبمعتقدات جديدة أيضًا، هذه المعتقدات كما يراها مؤلف الكتاب ليست من قبيل استنساخ المعتقدات؛ كما يرى بعض الدارسين بأنها نسخة معدّلة من اليهودية أو النصرانية.. بل هي «تطور جدلي» من الموروث العربي السائد. وبنظري؛ بناءً على هذه الرؤية لا يمكن استبعاد اليهودية والنصرانية من مكونات الموروث العربي، والقرآن خير شاهد على ذلك.

«من المَيسِر الجاهلي إلى الزكاة الإسلامية».. كتابٌ عملَ على تجميع الشظايا المتفرقة لمعتقدات المَيسِر الجاهلي، ذلك الدين الذي كان يمارسه العربي قبل الإسلام. لقد كانت عملية التجميع شاقة، استطاع الحاج سالم بجدارة وبجهد مضن، عبر البحث في بطون الكتب وأشعار العرب وآدابهم وأيامهم، أن يبني معمار دين طمسته معارف المسلمين اللاحقة، وعملت على تناسيه عن قصد وغير قصد، يقول الحاج سالم: (فإن عملنا الأساسي يستهدف في المقام الأول إثبات كلية ظاهرة المَيسِر الجاهلي في العموم، وغائيتها السياسية الخافية على وجه الخصوص، ومن ثمة اختبار فرضيتنا الزاعمة بأن المَيسِر كان إوالية لَقاحية تتكامل فيها جملة أبعاد دينية واجتماعية واقتصادية، وتتضافر للعمل بفاعلية على منع تركّز سلطة سياسية، وانبثاق نصاب سلطوي منفصل عن المجتمع هو الدولة) [ص:58].

السؤال: كيف استطاع المَيسِر الجاهلي أن يمنع انبثاق الدولة؟ ثم ما الدافع الذي أدى إلى انبثاقها في الإسلام؟

يرى الحاج سالم أن ذلك جرى عبر نظام المَيسِر، (ويعرّف البخاري المَيسِر بأنه القداح يستقسمون بها في الأمور؛ أي بمعنى الأزلام) [ص:152]، ومن المَيسِر انبثق القمار، وهو لعبة يشارك فيها المياسير؛ الذين هم من أصحاب الغنى واليسر، يقوم كل واحد منهم باختيار قدح، ثم يدفعون بأقداحهم إلى «رجل متأله عدل»، يلقيها فيخرج القدح الفائز. وجعلوا لكل قدح عددًا من الإبل ينحرها المياسر، قد يصل عددها إلى مائة بعير، ولم يكن القمار قبل الإسلام عيبًا، بل كان من الدِّين، و(الدِّين كان المحور الأساسي الذي تدور عليه الحياة الجاهلية) [ص:289]، و(كثيرًا ما عاب شعراء الجاهلية الممتنع عن الدخول في المَيسِر عن بخل ولؤم، وسمّوه «البَرَم»، وذموه في أشعارهم ونعتوه بخسيس الصفات كالنذالة والحقارة والخسة والدناء، في مقابل مدح المياسرين) [ص:305].

محمد الحاج سالم.. يذهب إلى أن العرب كانوا يعيشون في «حالة لَقاحية»، ولا يرتضون أن تكون عليهم سلطة، ولا قانون فوقهم، إلا أعراف القبيلة وتقاليدها، وأما شيخ القبيلة فلا سلطان له عليهم. ودوره فيهم أنه ممثلهم وحامي حماهم، ولا ينال هذه المنزلة إلا بالشجاعة والكرم، وكيلا يكون لشيخ القبيلة سلطة؛ فإن عليه أن يكون من المياسرين، فيدخل في القمار لكي تتبدد ثروته، فإذا خسر فعليه أن يدفع، وإذا ربح أطعم به الفقراء والمحتاجين، وليس له أن يأخذ من اللحم شيئًا، (وهذا ما يشير إليه الزمخشري أيضًا، إذ يركز على أن الأغنياء كانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء ولا يأكلون منها) [ص:295].

هكذا استطاع العرب بنظام المَيسِر في فترتهم اللَقاحية أن يمنعوا انبثاق الدولة بمنع تجمّع الثروة في أيدٍ قليلة تسود عليهم بيسرها. ولما جاء الإسلام حرّم المَيسِر، لأجل أن تحل محله الزكاة، لكيلا يكون دُولة بين الأغنياء، ويقصد بالزكاة الصدقات، وجعلها بيد «رئيس الدولة» فينفقها في وجوهها: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ) [التوبة:60].

أما السبب الذي أدى إلى انبثاق الدولة؛ فيطرح الحاج سالم فكرة أن المجتمع أصبح بذاته يحمل مشروع دولة، وقد حاول العرب بالمَيسِر أن يحافظوا على «لَقاحيتهم»، بيد أنهم فشلوا [ص:57-58]. والسبب الآخر.. هو أن أطراف الجزيرة العربية خضعت للدول المجاورة (كخضوع الغساسنة في الشام للروم في بيزنطة، واللخميين في العراق للساسانيين في فارس، وقبائل عربية من اليمن للحبشة أو لفارس) [ص:51].. بل جرت محاولة إقامة مُلك في مكة كما ذكروه عن عثمان بن الحويرث المعروف بالبطريق. فكان قد حان وقت قيام الدولة، والذي عمل النبي محمد على تأسيسه بـ«أسلمة المجتمع الجاهلي».

(لقد انبنت حركة الأسلمة التصاعدية للمجتمع الجاهلي باتجاه بناء الدولة الإسلامية، عبر ما يمكن وصفه بجدلية هدم وبناء مؤسسية، ارتكزت على ثلاثة متغيرات؛ هي: التحريم والإقرار والتغيير. تم بموجبها إنشاء مؤسسات بديلة لمؤسسات جاهلية قديمة؛ شُجبت ورُفضت وبالتالي هُدمت، أو إقرار مؤسسات موجودة على حالها، أو إدخال تحويرات على مؤسسات موجودة بما يتماشى مع متطلبات الدولة الإسلامية الناهضة) [ص:25]، وبالتالي؛ لم يحرّم الإسلام المَيسِر لذاته، وإنما لأنه جزء من منظومة عقدية دينية قديمة، كانت تمنع قيام الدولة، وأبدلها بالزكاة، أي الصدقات لتكون محور قيام الدولة.

خميس العدوي كاتب عماني مهتم بقضايا الفكر والتاريخ ومؤلف كتاب «السياسة بالدين»

مقالات مشابهة

  • قراءة في كتاب: محمود محمد طه وقضايا التهميش في السودان «5- 5»
  • مقررة أممية تتهم المجتمع الدولي بالتقصير إزاء مأساة غزة
  • التفاعل المُعقَّد بين الأدب والعلم والنظام الرأسمالي
  • قراءة في كتاب: محمود محمد طه وقضايا التهميش في السودان (5/5)
  • 3 كتب إماراتية في قائمة الشرف للمجلس الدولي لكتب اليافعين
  • نتنياهو ضد الجنرالات.. المعركة على مستقبل إسرائيل.. قراءة في كتاب
  • ثلاثة كتب إماراتية في قائمة الشرف للمجلس الدولي لكتب اليافعين لعام 2024
  • قراءة إناسية في نشأة الدولة الإسلامية الأولى
  • سموتريتش: مستوطنة جديدة مقابل كل اعتراف بالدولة الفلسطينية
  • المملكة المتحدة تعارض إعلان إسرائيل شرعنة خمس بؤر استيطانية في الضفة الغربية