في نص له نُشِر في مرحلة متأخرة (المنطق، المدخل III)، وحَظي بشهرة كبيرة في ذلك الزمن -وربما لغاية اليوم!-، يُحدّد الفيلسوف الألماني كانط مجال الفلسفة من خلال ثلاثة أسئلة تتناول مشكلة عامة، هي مشكلة الإنسان. في حين، أن هذا المسار الذي اتخذه فيه، يُعدّ أكثر أهمية من تحديد مسألة المعرفة، ومسألة الأخلاق، ومسألة الغائية، باعتبارها الموضوعات الرئيسية التي تقتصر عليها الأسئلة الفلسفية (الكبرى)؛ إذ نجده يحصر مجموعة من الملكات التي -على الرغم من أنها لا تُعتبر بشكل عام محددة للاختلافات البشرية- تنطوي على السؤال عينه: الكوني -وإن جاء ذلك في اتجاهات مختلفة بالتأكيد-.
في الواقع، نجد أن الجميع متفقون على أن مسألة حدود المعرفة وأصلها، وبالتالي العلم أيضًا، تحدد مسألة الإنسان، وتنشرها في الاتجاه الأول، وهو الاستخدام النظري لقدراته الفكرية. أما إذا كانت مسألة الحدود هذه تتعلق بمسألة الأصل، فإن دراسة أصول المعرفة لا يمكن أن تستغني عن تحليل الخصائص الخاصة بالأحكام العلمية. لذا قد نسأل أنفسنا بعد ذلك ما هي الطروحات التي يمكن أن نعتبرها صحيحة، وعلى أي معايير يمكن أن نعتمد هنا؟ هذه هي المشكلة التي نحلها عادةً من خلال التمييز بين خاصيتين محددتين، خاصية الموضوعية وشمولية الموافقة الممنوحة لحكم من النوع العلمي. وبذلك يكون الكوني علامة الحقيقة وما يطمح إليه الإنسان في الاستخدام النظري لقدراته.
ولكن إذا كانت الفلسفة هي دراسة مصادر المعرفة وحدودها، أفليست هي أيضا، كما يتضح أيضًا من لهجات التقشف التي ميزت تعبيراتها الأولى في العصور القديمة، التساؤل الذي يؤثر على الاستخدام العملي لنشاط الفلسفة؟ أليست هي نوع من "معتقد"؟ كيف تحيا لتعيش بسعادة؟ ما هو معنى القيام بالواجب، (واجبنا)؟ هناك الكثير من الأسئلة التي يبدو أنها بدورها تشغل الكوني. لأنه -وقبل أي شيء- كيف تجيب على السؤال "ماذا عليّ أن أفعل"؟، وقبل كل شيء، ما هو معنى هذا السؤال، إذا لم نفترض مسبقًا ضرورة معرفة ما إذا كان من الممكن، نعم أم لا، تحديد قواعد الأخلاق العالمية، الكونية؟ يمكننا الرد بأن هذه الأخيرة ترتبط دائمًا بثقافة ما، أو بعصر ما. ولذلك يمكننا أن نرفض فكرة الأخلاق العالمية، التي تعطي القوة للأضعف والواجبات للأقوى. ولكننا لا نستطيع أن ننكر، من ناحية، أن المشكلة تحديدًا تكمن في معرفة ما إذا كانت الفكرة الأخلاقية كونية؛ ومن ناحية أخرى، فإن طرح مسألة عالمية الحقوق والواجبات ليس شيئًا آخر، في العمق، سوى مضاعفة مسألة الكونية من خلال مسألة وجود الجنس البشري. ومن هنا نرى، في الواقع، أنه ليس من المستغرب أن تظهر فكرة حقوق الإنسان حيث -على وجه التحديد- أسندت فكرة الإنسان الكوني، الذي شق طريقه، إلى المؤسسات السياسية واجب ضمان هذه الحقوق.
ومع ذلك، هل يستطيع الإنسان الكوني -النظري والكوني -العملي أن يحجب هذه الملكة التي يظهرها الناس في كلّ مكان من خلال الطقوس والأديان، أي تمثيل الموت، موتهم الخاص. من هنا تأتي بالطبع مسألة الخلاص، أي كيف يُخلّص الإنسان نفسه. "فماذا إذن يمكنني أن آمل"؟ هذا هو السؤال الذي لن يتمكن أي إنسان، مدرك لمحدوديته، من الهروب منه. لكن أليس هذا السؤال، الذي ليس سوى سؤال غائي، وبالتالي سؤال الغائية، هو السؤال الذي يعيد الإنسان إلى السؤال الأكثر جذرية؟ أليس هذا هو السؤال المطروح حول معنى الوجود؟ ما الذي يمكن أن يكون أكثر كونية في الإنسانية من هذا التساؤل؟ ما الذي يقلق البشر بقدر ما يتعلق بالبحث عن المعنى، وما هو أكثر ما يخشونه إن لم يكن انهياره؟ وبالتالي فإن السؤال الغائي هو أيضًا، وربما أولاً وقبل كل شيء، سؤال التاريخ، وبالتالي سؤال الكوني. لأن التساؤل عمّا إذا كان للتاريخ معنى، إلى جانب عدم اكتماله ومآسيه واضطراباته، ألا يظل يبحث تحت أي ظروف يمكن له فيها أن يتخذ أهمية عالمية للإنسان؟ وهذا "ما يذهلنا في الموضوعات الفردية بشكله المتشابك وغير المنتظم" [كنط أيضا في ديباجته لمقالته "فكرة التاريخ العالمي من وجهة النظر السياسية الكونية"] فهل لا يزال من الممكن اعتبارها تعبيرًا عن تطور قدرات الجنس البشري؟ هل ينفذ التاريخ تصميمًا إلهيًا، أو خطة خفية للطبيعة، أم يجب علينا أن نعقد العزم على رؤية الفوضى والصوت والغضب والدم والخراب فقط؟ وهذا أيضًا هو الاتجاه الذي ينشر فيه الكوني مسألة الإنسان.
لذلك ليس من المستغرب أن تكون الفلسفة، منذ أفلاطون، ومن خلال تنوع الأسئلة التي تشغلها، اهتمت بمسألة الكوني بشكل كبير وشديد. في شكل الجوهر، أليس هذا هو ما يعبر عن الهوية غير القابلة للاختزال لهذا الموضوع أو ذاك من المعرفة، متجاوزًا تعارض الواحد والآخر؟ كيف يمكننا أن نعرف إن لم يكن عن طريق فصل أنفسنا عن أحداث جوهرية معينة وجمعها معًا تحت الكون العام الذي يتجاوزها؟ فيكون فعل المعرفة أولاً هو الذي يشتمل على إدراك الكلي تحت الخاص. في حين، أنه إذا كان من الممكن اعتبار هذا موضوعًا للمعرفة، أليس في المقام الأول ما يؤهل هذه الملكة التي نقول إنها مشتركة عالميًا، أي العقل؟ أليست هذه العالمية على وجه التحديد هي التي تدعم فكرة الحق غير القابل للتصرف في تطوير قدرات الفرد العقلانية والوصول إلى المعرفة؟ وهكذا، كان فلاسفة عصر التنوير، باعتبارهم ورثة مستحقين لكونية ديكارت العقلانية، هم الذين أعلنوا أن لكل إنسان، بطبيعته، حقا في المعرفة، وبالتالي أكدوا حق المعرفة في مواجهة السلطة. بينما، ما الذي يمكننا أن نبني عليه هذا الحق إن لم يكن التاريخ، الذي تتمثل مهمة الفيلسوف على وجه التحديد في إظهار أن له معنى؟ أولا، الوصول التدريجي والبطيء إلى التنوير. ثانيا، ظهور عصبة الأمم الحقيقية.
وهذا ما تفتقده لغاية اليوم.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: ا إذا کان یمکن أن من خلال
إقرأ أيضاً:
«أبوظبي الدولي للكتاب».. «مجتمع المعرفة.. معرفة المجتمع»
أبوظبي (الاتحاد)
تتزامن الدورة الرابعة والثلاثون من معرض أبوظبي الدولي للكتاب، التي تنطلق فعالياتها اليوم 26 أبريل وحتى 5 مايو 2025، في مركز أدنيك أبوظبي، مع تخصيص عام 2025 عاماً للمجتمع في دولة الإمارات تحت شعار «يداً بيد»، وذلك «بهدف تعزيز الروابط داخل الأسر والمجتمع من خلال تنمية العلاقات بين الأجيال وتهيئة مساحات شاملة ترسخ قيم التعاون والانتماء والتجارب المشتركة، إضافة إلى الحفاظ على التراث الثقافي. وتشجيع جميع من يعتبر دولة الإمارات وطناً له على الإسهام الفاعل في المجتمع من خلال الخدمة المجتمعية، والتطوع، والمبادرات المؤثرة التي تُرسخ ثقافة المسؤولية المشتركة، وتدفع عجلة التقدم الجماعي.
ويركز «عام المجتمع» على إطلاق الإمكانيات والقدرات لدى الأفراد والأسر والمؤسسات عبر تطوير المهارات، ورعاية المواهب، وتشجيع الابتكار في شتى المجالات، ومنها ريادة الأعمال والصناعات المستقبلية مثل الذكاء الاصطناعي، وغيرها من الأولويات الوطنية لدولة الإمارات، بما يحقق نمواً شاملاً وأثراً إيجابياً مستداماً يسهم في قصة بناء الوطن».
وانسجاماً مع هذه الأهداف النبيلة والأصيلة، تحمل النسخة الجديدة من «أبوظبي للكتاب» شعار «مجتمع المعرفة... معرفة المجتمع»، مما يجعلها نسخة استثنائية وحافلة بالفعاليات والمبادرات التي ترسخ الترابط والقيم الأصيلة والترابط وتمكين المجتمع.
وفي حديثه لـ «الاتحاد»، قال الدكتور علي بن تميم، رئيس مركز أبوظبي للغة العربية: «حرصنا في برامج معرض أبوظبي الدولي للكتاب هذا العام على التنوع الثقافي لإرضاء مختلف الاحتياجات المعرفية، ومخاطبة شرائح المجتمع كافة، لترسيخ مفاهيم عدة من ضمنها تعزيز اللغة العربية، والارتقاء بالوعي، وتشجيع الأفكار وتحفيز الابتكار. وتم اختيار العالِم الموسوعي ابن سينا، الشخصية المحورية، بوصفه ظاهرة فكرية عظيمة قدّمت للبشرية نتاجاً فكرياً ثرياً بات مرجعاً في الطب والعلوم والفلسفة في القرون الوسطى. من جهة أخرى، تمثل الحكاية جزءاً لا يتجزأ من تراث الشعوب، والثقافة القديمة التي بنت عليها حضارتها، لكن كتاب (ألف ليلة وليلة) يعد من أكثر كتب الحكايات الأدبية شهرة واهتماماً ونقداً. ولعل تسميته (كتاب العالم) لهذه الدورة من المعرض، يساعد على اكتشاف الأفكار، واستشراف التطور الذي حدث لأدبيات الشعوب، وبناء رؤى مستقبلية لهذا الأدب أو ذاك. كما أن الخيال غير المنقطع في السرد القصصي المتداخل بين الوقائع والأساطير، المتفرد في خصائصه اللغوية أو البنائية، يحفّز المواهب والمبدعين على تخليق فن أدبي أو حكائي مبتكر».
وحول مسألة «الإبداع الإنساني والمجتمع» وتفاعله مع العلوم المتقدمة، قال الدكتور علي بن تميم: «الإبداع الإنساني هو أحد أهم أدوات تقدم المجتمعات وازدهارها. وهو في الوقت ذاته انعكاس للمجتمع الحضاري المتطور. فتبنّي أي مجتمع للثقافة والإبداع يضمن له تحقيق التنمية المستدامة، فكيف إذا تنوعت الثقافات وتعددت في المجتمع. ولا شك أن تعدد الثقافات من الميزات المهمة لمجتمع الإمارات، لذا يحرص معرض أبوظبي الدولي للكتاب، على إظهار تنوع الثقافات، ويتيح لأبناء المجتمع فرص التفاعل مع ثقافات مختلفة، بهدف توسيع آفاقهم المعرفية، ويدفع بهم نحو مزيد من التعايش والتسامح وقبول الآخر واحترام اختلافاته الثقافية، ويعمل عبر برامجه المتنوعة وفعالياته المختلفة، على إثراء المجتمع بالإبداع والابتكار والمعرفة، عبر مسارين، هما: التعرف إلى ثقافة وإبداع الآخر، وتقديم ثقافتنا وإبداعنا للآخر، مع تكريس الحفاظ على هويتنا الوطنية وتراثنا الثقافي وإبداعنا الإنساني، واستخدام التكنولوجيا الحديثة بما يخدم هذا التراث والإبداع والثقافة، وأيضاً بما يعزز جسور التواصل والتفاهم المتبادل مع الثقافات المختلفة».
وفي إجابته عن سؤال: كيف يمكن للحوارات والنقاشات وتوفير مصادر متعددة للمعرفة، أن توسع مفهوم «مساحات إبداعية مجتمعية»، تؤمن بالمخيلة الأدبية والشعرية والشعبية والعلمية، قال الدكتور علي بن تميم: «الإيمان بالمخيلة الأدبية والعلمية، هو تقديرٌ للخصوصية والبصمة والهوية. وهو لا يمنع استثمار فرص التعرّف إلى الآخر، ولا يلغي أهمية الاستفادة من تجاربه وخبراته. فالتواصل يعني التبادل المعرفي، لا النقل والاقتباس، والسرد الإنساني مهم جداً، سواء صدر عن إمارتي أو عربي أو غربي، لأنه يمثّل خلاصة تجارب وخبرات ومعارف. لهذا يحرص معرض أبوظبي الدولي للكتاب، على استقطاب كبار الأكاديميين والمفكرين والأدباء والخبراء التقنيين، ويستضيفهم في برامجه الحوارية، للاستماع إلى آرائهم المفيدة والاطلاع على تجاربهم الفريدة، التي توفر لجمهور المعرض مصادر متعددة ومتجددة، فالتطور على الصعد كافة، يبدأ بالكلمة والفكرة، وهما معاً يكوّنان ركيزة أساسية لبناء ثقافة المجتمعات الإنسانية».
يذكر أن معرض أبوظبي الدولي للكتاب هذا العام يحتضن 1.400 جهة عارضة من 96 بلداً، ويقدِّم برنامجاً متكاملاً يتضمَّن نحو 2.000 فعالية ونشاط، لتلبية اهتمامات القرّاء والمفكّرين والناشرين وصُنّاع المحتوى، ما يعزِّز دوره منصة عالمية للحوار الثقافي، ويرسِّخ مكانة أبوظبي وجهة دولية رائدة للتبادل المعرفي والإبداعي، ويعكس الرؤية الاستراتيجية لدولة الإمارات العربية المتحدة في الاستثمار في الثقافة، ودعم صناعة الكتاب والنشر، وتعزيز الحوار بين الحضارات.
وتحتفي الدورة الحالية من المعرض بالعالِم الموسوعي «ابن سينا» شخصية محورية، تزامناً مع مرور ألف عام على إصدار كتابه «القانون في الطب».
وتحلُّ ثقافة دول حوض الكاريبي ضيف شرف على دورة هذا العام، في خطوة تعكس التزام دولة الإمارات بتعزيز الشراكات الثقافية العالمية، وتقديم تجارب معرفية غنية تُسهم في تعميق التبادل المعرفي بين الشعوب، ما يرسِّخ مكانة أبوظبي وجهة رئيسة للتلاقي الثقافي والفكري.