فايز الشيخ السليك

قبل أن يرفع كثيرون حواجب الدهشة من كشف الوزيرة السابقة والقيادية الإسلامية سناء حمد، عن اجرائها لتحقيق مع بعض قادة اللجنة الأمنية لنظام الانقاذ حول سيناريو سقوط المشير عمر البشير، علينا العودة إلى الوراء قليلاً وقراءة الأحداث السياسية والعسكرية منذ مصالحة الإسلاميين بقيادة الدكتور حسن عبد الله الترابي، مع الرئيس الأسبق جعفر محمد نميري، في عام ١٩٧٧؛ انتهاءً بسيناريو تقلد الفريق عبد الفتاح البرهان قيادة المجلس العسكري الانتقالي ثم رئاسة مجلس السيادة في عام ٢٠١٩.


في هذا السياق لم استغرب شخصياً اجراء تحقيقات مع قيادات الجيش من قبل الحركة الإسلامية؛ سواءً كان من قادة مهمة التحقيق " سناء"، أم أمين حسن عمر. لقد سبق السيف العذل قبل سنوات، وكشف الترابي بنفسه، عبر حوار قناة الجزيرة الشهير معه عن مؤامرته الكبرى الرامية إلى تأسيس نظام عقائدي، وبدأ في نسج خيوط المؤامرة تلك في عام ١٩٧٧، عندما قرر الدخول في مصالحة النميري، وكان علي عثمان محمد طه، نائب الترابي، قد شبه تلك المصالحة بأنها " ليلة قدر الإسلاميين"، راجع المحبوب عبد السلام، كتاب "الحركة الإسلامية دائرة الضوء.. خيوط الظلام."
أقرَّ الترابي بإيمانه الذي لا يتزعزع في مقولة "أن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن"، وانطلاقاً من هذه المقولة نصب التنظيم الإسلامي شباكه حول قواعد وثكنات الجيش، وخصص مكاتب خاصة، وفرغ جنوداً ومدنيين للمشاركة في اصطياد من يرونه مناسباً لتوجههم، ولم تنته المهمة بالاستقطاب بل تشمل المهام عمليات لتصنيف الضباط على حسب ميولهم الفكرية والدينية، وأمزجتهم الشخصية، تمهيداً للتخلص من عشرات الآلاف من الضباط غير الإسلاميين في أكبر مجزرة شهدتها الخدمة العسكرية في تاريخ البلاد.
لقد استخدم التنظيم كل الحيل الماكرة لتحقيق غايته، والغاية لدى قادته تبرر الوسيلة، فتسلل إلى الثكنات تحت غطاء حملات المساندة للقوات المسلحة أثناء حرب الجنوب في عهد حكم الصادق المهدي، كان ظاهر تلك الحملات الدعم المادي والمعنوي، وباطنها إزالة الألغام والحواجز والموانع من الطريق للتحرك بسهولة، والتواصل المباشر مع خلايا التنظيم السرية وسط الجيش.
وعندما حدد التنظيم الإسلامي ساعة الصفر لتحركه العسكري في عام ١٩٨٩اختار أربعة ضباط مرشحين لقيادة الانقلاب، وكان البشير رابعهم، ضمَّت قائمة المرشحين لقيادة الانقلاب كل من العميد طيار مختار محمدين، الذي أسقط الجيش الشعبي لتحرير السودان طائرته الحربية في عام ١٩٨٨فاحترقت فوق غابات جنوب السودان، واللواء مهندس محمد الهادي مأمون المرضي، الذي استبعد عن الترشيح لأنه كان ضابطاً خارج الخدمة العسكرية، حيث يعتبره البعض من أوائل ركائز الحركة الإسلامية في الجيش، حيث كان من الدفعة رقم ( ١٢) في الكلية الحربية، التي تخرج منها سنة ١٩٦٠، وتدرج الرجل في الجيش حتى صار مستشاراً للمشير جعفر نميري.
تجاوز الترشيح اللواء المرضي، غير أنه تولى منصب وزارة الاشغال في أول حكومة شكلها عمر البشير، بعد انقلابه، و توفى المرضي، بعد يومٍ واحد من قدومه من أمستردام في العاشر من مايو ١٩٩٠ .
اشترط الإسلاميون للالتحاق بالكلية الحربية بعد نجاح انقلابهم الحصول على تزكية من التنظيم الإسلامي الطلابي، أو الشبابي، أو لجان الأحياء، ومثلت الدفعة ( ٤٠ ) من طلاب الكلية الحربية رأس الرمح في الفتح الجديد باعتبار أنها أول دفعة التحقت بالكلية بعد استيلائهم على السلطة، وأطلقوا عليها اسم" الدفعة أربعين حماة الدين"؛ تأكيداً لغرس بذرةٍ جديدة .
ثم تلت دفعة " حماة الدين" بضعة دفعٍ أخرى من طلاب الكلية الحربية تحمل ذات الملامح والشبه، وسيماهم في وجوههم من اطلاق اللحي، والتخلي عن مظاهر الانضباط العسكري، وانكسار سلسلة تراتبية التعليمات والأوامر العسكرية، وتقديم الولاء للتنظيم قبل الولاء للوطن، وبالطبع يمكن استثناء نسبةٍ من الضباط الذين تسللوا إلى الجيش بعيداً عن الرافعة الإسلامية، لا سيما بعد اشتداد ضراوة القتال في جنوب السودان وشرقه، ففضل كثير من كوادر الإسلاميين الالتحاق بوزارة الخارجية بحثاً عن بهرجة العمل الدبلوماسي وأسفاره وعوائده، والصحف والإذاعة والتلفزيون، والعمل في مجال شركات النفط؛ هرباً من مناطق الهلاك في الجنوب، وتفادياً لنيرانها المستعرة حينها، وبحثاً عن السلطة والجاه رغم أنف الهتافات الحماسية " هي لله هي لله، لا للسلطة وللجاه".
عندما هبت رياح التغيير في ديسمبر، وحاصرت العواصف بيت النظام المتهالك، استبق جنرالات الحركة الإسلامية القوى السياسية بتشكيل مجلس عسكري انتقالي، أعلن الفريق أول عوض أبنعوف، بياناً في الحادي عشر من أبريل ٢٠١٩ بيان اللجنة الأمنية عزل البشير، رأس النظام والاحتفاظ به في ( مكانٍ آمن) ،وتنصيب ابن عوف رئيساً للمجلس العسكري الانتقالي، وتعيين رئيس هيئة أركان الجيش الفريق أول عمر عبد المعروف، نائباً له، أثار بيان ابنعوف، مخاوف الثوار، لا سيما عند اشارته إلى الاحتفاظ برأس النظام في مكانٍ آمن، كما أغفل البيان دور قوى الثورة ومكانها في الانتقال، بل أكد أن المجلس سوف يستمر لمدة عامين، ثم اجراء انتخابات عامة في البلاد.
وحدد البيان إجراءات لم تمس جوهر النظام الإسلامي وطبيعته الشمولية، وأتخذ رئيس اللجنة الأمنية ١٤ قراراً، متجاهلاً الغوص في جوهر الانتقال والثورة الشيء الذي يؤكد صعوبة تنازل الإسلاميين عن السلطة برغم تضحيتهم برأس النظام ، ويتسق هذا الإجراء دون شك مع سيناريو يسمى " تغيير منقار النسر"، و سبق أن كتبتُ عنه مقالاً في صحيفة " التغيير الإلكترونية" في يوم ٢٢ ديسمبر ٢٠١٨مع بداية الحراك الشعبي العظيم، وقلتُ " ليس ثمة شكوك في أن عرش البشير، اهتز اهتزازاً عنيفاً هذه المرة، مع أنه، خبر إدارة الأزمات؛ إلا أن ما يحمله في كنانته من سهامٍ هذه المرة لن تمكنه من قتل الناس جميعا، بل أنه سيكون عرضةً للمساومة بين أجنحة النظام، وكلما ضعفت شوكة المشير، كان قادة الأجنحة يتسابقون من أجل الفوز بورثته".
مثَّل أمر صعود وسقوط عوض ابنعوف، خلال ٤٨ ساعةً قصةً تعكس حجم الارباك داخل المنظومة الحاكمة، ولجنتها الأمنية في مواجهة عواصف وزلازل الشوارع الثائرة، وتوضح الحالة مستوى صراعات مراكز القوى وسط قيادات الحركة الإسلامية و الجيش والقوات الأمنية، لقد اتفق الجميع تحت ضغط الشارع على ذهاب البشير، انحناءً للعواصف، لكن كان الخلاف فيما بينهم حول كيفية تقسيم التركة، من يرث؟، وكيف يتم التعامل مع ثورة الشارع؟.
لقد أدت توازنات القوى داخل اللجنة الأمنية، وقوة ضغط الشارع إلى الإطاحة بمجلس الفريق أول عوض بن عوف، وأشارت مصادر عليمة إلى أن قيادات من الحركة الإسلامية عقدت اجتماعاً بمزرعة رئيس البرلمان السابق أحمد إبراهيم الطاهر، وأوصت بتولي الفريق عبد الفتاح البرهان، رئاسة المجلس العسكري ، و بعد قبوله للتكليف أصر البرهان، على ضرورة موافقة قائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو " حميدتي"، لتولي منصب نائب قائد المجلس العسكري، عملية التحقق من المعلومات تحفظ أحد القياديين الإسلاميين على صدق الرواية، ورجح أن يكون ما حدث من ابدال وإحلال بين ابنعوف، والبرهان، حدث عن طريق تيار محدد، لا عن طريق كل قيادة التنظيم، حيث يتعذر وقتها وجود قيادة موحدة للحركة الإسلامية.
أما رجل المخابرات الفريق الفاتح عروة، فلم يستبعد وجود " جماعة داخل التنظيم كانت تحفز المظاهرات للضغط على البشير، لحصول تغيير" واستطرد عروة، خلال لقاء على قناة يوتيوب مع سعد الكابلي، قائلاً " لكنهم كانوا يريدون التغيير بطريقتهم". مشيراً إلى أن جهات أوعزت للِّجنة الأمنية باستلام السلطة، لكنهم لم ينجحوا في السيطرة على الثورة"، ونفى عروة، أن تكون الثورة" مصنوعة" وشدد بأنها " كانت ثورة حقيقية".
هذا ما أكدته الأمواج الهادرة خلال اعتصام الملايين بميدان القيادة العامة منذ السادس من أبريل ٢٠١٩، برغم محاولة مليشيات كتائب الظل فض الاعتصام بالقوة عبر عدة محاولات فاشلة، إلا أن صمود الجماهير؛ وبمساعدة من بعض صغار الضباط أحبط محاولات اللجنة الأمنية للسيطرة ، فاضطر الإسلاميون إلى تعديل خططهم، واستخدام تكتيك الانحناء للعاصفة، ثم البدء في اتخاذ تدابير أمنية للصدام، و ابتدأت تلك التدابير بتبني أسلوب " الصدمة" في مجزرة فض اعتصام القيادة العامة، ثم تدبير انقلاب أكتوبر ٢٠٢١، وأخيراً خوض بحرب ١٥أبريل ٢٠٢٣.
لذلك ليس من الصحيح قراءة مشاهد الفترة الانتقالية بعيداً عن هذا السياق بتعقيداته الكبيرة، وعقباته الواضحة التي وضعها العسكريون في طريق الانتقال، ولإفشاله استخدموا كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة، بما في ذلك التحالف التكتيكي مع القوى المدنية انحناءً للعواصف الشعبية، والسعي الدؤوب لاختطاف العمل التنفيذي، وصناعة الانفلات الأمني عن طريق " تسعة طويلة" والحملات الإعلامية الممنهجة ضد رموز الانتقال المدنيين، وخلق شروخ وسط القوى المدنية.
من الواضح أنَّ سناء حمد، قصدت إرسال رسالة إلى العالم مضمونها " نحن من نمتلك قرار وقف الحرب أو استمرارها"؛ كما لا يستطيع أحد إعادة ترسيم المشهد السياسي بمعزلٍ عنا، والملاحظ أن تصريح القيادة سناء حمد، يتطابق مع موقف سابق أعلنه الأمين العام للحركة الإسلامية علي كرتي، بتشديده على " رفض الهدنة مع الدعم السريع". قبل كل ذلك يبقى السؤال هل من استقرار من غير جيش واحد وطني قومي مهني، غير خاضع للأدلجة؟

faizalsilaik@gmail.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الحرکة الإسلامیة اللجنة الأمنیة فی عام

إقرأ أيضاً:

ديمقراطية ضد الديمقراطية عند مارسيل غوشيه ماذا تعني عند الشيوعي السوداني

الملاحظ عندنا في الساحة السودانية أن الأغلبية من النخب السودانية و لأسباب داخلية سببها تركيزهم على الإنكفاء على المحلي جعلهم لا يتأثرون بما لحق العالم من تغيّر هائل في المفاهيم و خاصة في القرن الأخير و هذا ما جعل ساحة الفكر في السودان سهلة الإختطاف من قبل أسيري التربية الحزبية و شتان ما بين التربية الحزبية و الزج و التعبية السياسية و بين مراكز البحوث و ما تخرج به من أفكار تكون نتيجة بحوث عميقة.
ساحتنا الفكرية السودانية مختطفة من قبل تياريين و أغلب أتباهما سليلي تربية حزبية و أسيري زج و تعبية سياسية مجافية لفكر مراكز البحوث و هما تيار أتباع الحركة الإسلامية السودانية و تيار أتباع الشيوعية السودانية بنسختها المتحجرة و نجحا في خلق درع واقي لا يشبه إلا الستار الحديد بين الغرب و الشرق أيام الحرب الباردة هذا الستار الحديد منع ساحة فكرنا السوداني من أن تتنفس على أنسام العالم الخارجي و لهذا السبب كانت النتيجة هذا الإختناق الفكري و نتيجته كساد فكري يمتد على مدى قرن كامل يفصل بيننا و بين تطور العالم الحديث.
الغريب تيار الإسلام السياسي السوداني النابع من عداءه الدائم للغرب و أفكاره المنتصرة للحرية سببها أن قوة تيار الإسلام السياسي لا تتجدد إلا بأن تجعل من الغرب و أفكاره عدو أبدي و خاصة في منطقة عربية إسلامية تقليدية لم تكن فيها يوم الحرية مطلب شعبي بسبب تاريخ سطوة نظم الشرق الإستبدادية و يلتقي معهم الشيوعي السوداني في عداءه للغرب في تاريخ رأسماليته ذات العلاقة الطردية مع النظم الديمقراطية و عكسية علاقتها مع الشيوعية كنظام شمولي بغيض لا تقل بشاعتها عن النازية و الفاشية.
و لهذا السبب عجزت الاحزاب الشيوعية في الوطن العربي بأن تصل الى مستوى وعي الاحزاب الشيوعية في الغرب و قد أيقنت من نمط الإنتاج الرأسمالي بعد إعادة إكتشاف أفكار غرامشي و يظل كساد أتباع الشيوعية في السودان و يظهر في عداءهم للفكر الرأسمالي و هذا ما يجعلهم تحت مرمى مدافع عالم الإجتماع التونسي الطاهر لبيب و كذلك مدافع عالم الإجتماع الفلسطيني هشام شرابي وهما يوضحان أن العالم العربي التقليدي ما زال محاصر بين أتباع الأيديولوجيات المتحجرة كالشيوعية في العالم العربي و كذلك بين أتباع أحزاب اللجؤ الى الغيب و هم في السودان أتباع أحزاب المرشد الكيزاني و الامام الأنصاري و الختم.
و الشيوعيون و الكيزان لا يفتح فكرهم إلا على نظم شمولية معادية للحرية و الديمقراطية الليبرالية التي قد أصبحت تمثل التاريخ الطبيعي لظاهرة المجتمع البشري و لهذا يقول الطاهر لبيب من المضحك أن يكون المثقف العضوي في العالم العربي و الإسلامي التقليدي خارج من بين صفوف أتباع الأيديولوجيات المتحجرة و أتباع اللجؤ الى الغيب و هذا ما هو حاصل في ساحتنا السودانية حيث نجد الشيوعي السوداني و الكوز و هما يسدان أفق الفكر في السودان بضجيجهما الإسلاميين بكذبة إسلامية المعرفة و الشيوعيون بنهاية التاريخ و إنتهاء الصراع الطبقي و الأثنيين يجمع بينهما ايمانهما بالمطلق في زمن النسبي و العقلاني و كرهما للديمقراطية الليبرالية و قد أصبحت تمثل مسيرة الإنسانية المنفتحة على اللا نهاية بعكس غائية و لاهوتية الفكر الشيوعي الذي ينتهي كدين بشري و يبشر بغاية نهاية التاريخ و نهاية الصراع الطبقي كجنة أرضية موازية لجنة الكوز السماوية بفكره الغائي اللاهوتي الديني.
و عليه نجد في ساحتنا السودانية كثر من النخب السودانية تعتقد أن النظام الرأسمالي و نمط الإنتاج الرأسمالي سيزول و ستختفي النظم الرأسمالية و ستختفي النظم الديمقراطية و سيخرج الغرب الرأسمالي من التاريخ و هذا كلام مضحك و محزن لأنهم لم يقولوا لنا ما فائدة عودة النظم الشمولية البغيضة و ماذا ستستفيد البشرية من عودة النظم الشمولية بعد زوال النظم الديمقراطية و إنهيار النظام الرأسمالي؟
الذي يجعلك أن تكون هادئ عند سماع قولهم أي عندما يتحدثون عن زوال الرأسمالية أنك تتذكر أنهم لم يدخلوا التاريخ بعد و بالتالي حكمهم على خروج الغرب الرأسمالي من التاريخ حكم باطل فيدخلوا التاريخ أولا كمفارقين لمجتمع إسلامي عربي تقليدي و بعدها فليحكموا على خروج الغرب من التاريخ لتحل بعده نظم الإستبداد الشرقي.
و هنا وجب التذكير بأفكار ماكس فيبر و حديثه عن عقلانية الرأسمالية و إستدل على عقلانيتها بأنها لم تظهر بعد في المجتمعات التقليدية كمجتمعنا السوداني و هذا يجعلنا نحيل القارئ الى أفكار ماكس فيبر الغائبة عن ساحة فكرنا السوداني و قد مر عليها قرن كامل من الزمن و كيف نجح الشيوعي السوداني و الكوز في السودان بحجبهما الساحة السودانية من إشعاع مفهوم عقلانية الرأسمالية بستارهما الحديدي و بالتالي قد أصبحت أغلبية النخب السودانية تتحدث عن إنهيار النظام الرأسمالي بلا أدنى خوف من أن مثل هذا الحكم يدخلك في جوقة الرجال البلهاء و غياب مفهوم عقلانية الرأسمالية من ساحتنا السودانية يجعلك من ضمن المصدقيين بأن للإسلاميين إقتصاد إسلامي يمكنه تحقيق العدالة بمعادلات سلوكية معروفة في معادلات نمط الإنتاج الرأسمالي و هيهات.
على أي حال عقلانية الرأسمالية فيها تصبح الديمقراطية ليست نظم حكم فحسب بل فلسفة لدراسة ظاهرة المجتمع البشري و توضيح كيفية تجسيد فكرة العيش المشترك وفقا لمعادلة الحرية و العدالة و فيها أيضا يصبح الفكر الديمقراطي الليبرالي بديلا للفكر الديني و بالتالي لا يمكنك الحديث عن الديمقراطية و أنت متمسك بأي خطاب ديني أي دين و لا يمكن أن تحقق علاقة الفرد المباشرة بالدولة بغير فصل الدين عن الدولة و عليه أن العالم يسير وفقا لمعادلة الحرية و العدالة و لا تتحقق إلا على أفق النظام الرأسمالي و نمط الإنتاج الرأسمالي و يجهل كثر من النخب السودانية أن تاريخ البشرية لأول مرة في التاريخ قد أصبح تاريخ واحد بعد ظهور الثورة الصناعية و دخولنا الى الطلب العالمي لكي نكون جزء من الإقتصاد الرأسمالي مسألة زمن لا غير.
و عليه نرجع لعنوان المقال و هو مجهود فكري قام به عالم الإجتماع الفرنسي ميشيل غوشية و فيه يوضّح كيفية خروج الرأسمالية من أزماتها التي تدخل فيها من بين فترة و أخرى و هو من المعجبين بفكر ماكس فيبر و خاصة في فكرة الإقتصاد و المجتمع في ظل الدولة الحديثة و متتبع لكيفية حدوث الإختناقات الإقتصادية و كيفية إعادة التوازن للإقتصاد و بالتالي التوازن الإجتماعي من أجل إستمرار الفعل الإجتماعي و روح قوانينه في العقد الإجتماعي و عليه تصبح إختناقات الرأسمالية الدورية ما هو إلا دليل على حيوتها و الدليل أنها تخرج في كل مرة أكثر قوة و ضرب مثل في كيفية خروج الرأسمالية من الكساد الإقتصادي العظيم بفكرة التدخل الحكومي و فكرة خلق الطلب بدلا من العرض الذي يخلق الطلب و كيف كانت فكرة التدخل الحكومي نقطة فاصلة بين فلسفة تاريخ تقليدية و فلسفة تاريخ حديثة غائبة من ساحتنا السودانية الى يومنا هذا و هذا ما يجعل كثر من النخب السودانية موقنة من إنهيار الرأسمالية كما يردد الشيوعيون على الدوام هذه الأسطوانة المشروخة.
مارسيل غوشيه في جهده الفكري في ديمقراطية ضد الديمقراطية يتحدث عن أن السياسة تمثل شرطا إنسانيا و يفتح مارسيل غوشيه ثالوث السياسة و علم الإجتماع و الفلسفة و فيه يصبح السياسي متقدم على المؤرخ التقليدي و القانوني التقليدي و بالتالي يصبح السياسي هو القائم على فكرة الشرط الإنساني و بالطبع مارسيل غوشيه لا يقصد المعنى المبتذل للسياسي في السودان بل يتحدث عن السياسي الذي يحقق فكرة العدالة و الحرية في قيم الجمهورية و مواثيق حقوق الإنسان وفقا للفكر الليبرالي الذي يجسد فكرة العقد الإجتماعي عند كل من كانط و جان جاك روسو و منتسكيو و الى آخرهم أي من حاول أن يحي فكرة العقد الإجتماعي و هو جون راولز في نظرية العدالة.
و جمعيهم لم نصادف لهم حديث أو قول عن إنهيار و إختفاء النظام الرأسمالي كما نجده عند النخب السودانية و خاصة الشيوعي السوداني و هو قابض على بعض من كل الفكر الغربي أي معجب بماركسية ماركس و غاضب على بقية الفكر الغربي الليبرالي الذي إنتصر على ماركسية ماركس يوم إنهيار جدار برلين و عليه ينتظر الشيوعي السوداني بفارغ الصبر إنهيار نمط الإنتاج الرأسمالي و هيهات.
المهم في الأمر مارسيل غوشيه في ديمقراطية ضد الديمقراطية يتحدث بأن ديالكتيك زماننا مفتوح على اللا نهاية و أن المجتمع الحديث متغير تابع لمتغير مستقل تمسك مصاعبه على تلابيب بعضها بعض و لكن عقلانية و أخلاقية الفرد كفيلة بإعادة التوازن للإقتصاد و المجتمع عبر الشرط الإنساني المتمثل في السياسة التي تعيد نمط الإنتاج الرأسمالي الى حقول مغنطيسية معادلة الحرية و العدالة و هي وحدها القادرة على تفسير ظاهرة المجتمع البشري بعيدا عن ماركسية ماركس و بعيدا عن أوهام الكوز في دولة الإرادة الالهية لأن مارسيل غوشيه يوقن بأننا في زمن مجد العقلانية و إبداع العقل البشري و نضوجه و قدرته على إعادة خلق بشرية في حدود مقدرات عقلنا البشري و بعيدا عن شطحات رجال الدين من كل شاكلة و لون.

taheromer86@yahoo.com  

مقالات مشابهة

  • الوجود العسكري الأمريكي في سوريا.. ماذا يخطط ترامب بشأن الـ2000 جندي؟
  • الجيش الروسي: واشنطن تكثف نشاطها البيولوجي العسكري في إفريقيا بعد نقله من أوكرانيا
  • ما أسباب عودة نشاط حزب البشير؟
  • النظام العسكري يشن حملة إعتقالات لنشطاء #مانيش_راضي لإخماد ثورة الجزائريين
  • السوداني يؤكد على اعتماد الكفاءة في التصدي للقيادات الأمنية
  • بعد سيطرة الجيش السوداني عليها.. ماذا تعرف عن قاعدة الزرق؟
  • السوداني يشدد: لا اعتبار آخر لغير المهنية في توزيع المسؤوليات الأمنية
  • ديمقراطية ضد الديمقراطية عند مارسيل غوشيه ماذا تعني عند الشيوعي السوداني
  • مؤشر إيجابي.. ماذا تشهد الأسلاك الأمنية؟
  • علي الحاج يفجر تصريحات نارية ويهدد قيادة الجيش ويكشف المستور ومن أشعل الحرب وأسقط نظام البشير ويعترف :نحن الإسلاميين يجب ان نكفر عن سيئاتنا