جِلاس.. جليس “مسطبة” المطار في رحاب العزيز الجبار
تاريخ النشر: 26th, March 2024 GMT
في خضم الحرب الضروس التي أشعلها بسوس السودان (الجنجويد)، فإن كانت البسوس بنت المنقذ التميمية، وهي شاعرة جاهلية، مشعلة الحرب بين قبيلة تغلب بن وائل وأحلافها ضد بني شيبان وأحلافها من قبيلة بكر بن وائل! فالجنجويد أضرموا نار الحرب في السودان بتمردهم على الجيش. وإن كان الموت في حرب البسوس قاصراً على الرجال المحاربين، فبسوس السودان (الجنجويد) لم يُقصروا حربهم على الجيش الذي تمردوا عليه، بل امتد عدوانهم على عموم أهل السودان
، إلا الذين نجوا بأنفسهم من التهلكة بالفرار إلى أرض الله الواسعة، هجراً للمال والعمران!
لم يعد الموت يزلزل كيانات المبتلين به من السودانيين، فقد وطنوا أنفسهم على الاستعانة عليه بالصبر والصلاة، امتثالاً لقول الله تعالى: “يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ”.
فقد غيب الموتُ، الذي هو علينا حقٌ معلومٌ،
ومدركنا لا محالة، أينما كنا، سواء فررنا من هول حرب الجنجويد، كحُمرٍ مستنفرة فرت من قسورة أو ظللنا مرابطين داخل السودان! فكل نفسٍ ذائقة الموت، وإلى الله نرجع يوم القيامة، لقول الله تعالى: “كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ”، الأخ الصديق العميد ركن -معاش- محمد هاشم جِلاس (الدفعة 27- الكلية الحربية) في يوم الجمعة 2 فبراير (شباط) 2024، حيثُ كان مرابطاً في شندي بولاية نهر النيل. فقد نعى إلينا الناعي وشق علينا النبأ الأليم، أن جِلاس جليس “مسطبة” المطار في رحاب العزيز الجبار.
عرفتُ الأخ الصديق الراحل العميد ركن
-معاش- محمد هاشم جِلاس منذ مطلع تسعينات القرن الماضي، عندما كنت أتردد إلى القصر في زياراتي إلى السودان إبان عملي في صحيفة “الشرق الأوسط” في لندن، وتوثقت علائقي به خلال جِلسات المؤانسة التي كنا نرتادها ثلاثة أيامٍ في الأسبوع في “المسطبة” بالمطار، و”المسطبة” هذه ملتقىً لِما أسميتهم بالمكونين العسكري والمدني، برئاسة الأخ الصديق الفريق (طيار) مصطفى الدويحي، وإشراف الأخ الصديق العميد (طيار) -معاش- عثمان عفيفي (استوبر)، وثُلة من العسكريين وقليل من المدنيين. فهذه “المسطبة” وثقت العلائق بين مرتاديها، فمن هنا توثقت علائقي بصديقنا الراحل جِلاس. وكان نوارة جِلسة المؤانسة تلكم، لطرافة أحاديثه، ونوادر مواقفه، فكان فكهاً طريفاً، ورقيقاً لطيفاً. كان الحزن عليه من أهليه وأصدقائه ورفقائه ومعارفه، شديداً مؤلماً، فلا غروّ أن اختنق البعض عند سماعه هذا النبأ الأليم بالعبرات، وامتلأ موقع “المسطبة” في مواقع التواصل الاجتماعي بعباراتٍ حزنى، لأن “المسطبة” التي كانت تجمعنا للترافق إلى العزاءات، فرقتنا حرب الجنجويد -لعنهم الله- أيدي سبأ! وهذا التعبير -يا هداك الله- بحكم التركيب والمجاز كناية عن التفرق والانتشار في كل وجه كما تبدّد سبأ وقومه، وأصله من قصة سبأ والسيل العرم الذي خَرّب اليمن وفَرَّق أهلها – ثم جرى مجرى المثل وشاع استعماله وصار تعبيراً اصطلاحياً لخروجه عن معناه الأصلي إلى هذا المعنى البلاغي فصار له تأثير في النفس! ولكن أوردته هنا لتبيان أن حالنا في السودان مع هذا المثل، حقيقةً وليس مجازاً!
كان الراحل محمد هاشم جِلاس مولعاً بالعسكرية منذ صباه، إذ كان يتعجل إكمال مراحله التعليمية، مشرئباً إلى الكلية الحربية، ولما كان من مواطني حي كوبر بالخرطوم بحري، ومنزل أهليه يُجاور منزل أسرة الرائد عمر حسن أحمد البشير آنذاك. وفي تصريحات صحافية، أكد الراحل محمد هاشم جِلاس علاقته بالبشير، حيثُ تربطه به علاقة جيرة بدأت منذ عام 1976 بحي كوبر في الخرطوم بحري. وعندما قرر تحقيق حُلمه القديم، وذلك من خلال الالتحاق بالكلية الحربية، كان الرائد عمر حسن أحمد البشير قد زكاه لدخول الكلية الحربية، وبعد تخرجه في الكلية الحربية نُقل إلى سلاح المظلات، ووجد هناك جاره الرائد عمر البشير فأطمئن لذلك كثيراً واستبشر خيراً في وجوده بسلاح المظلات مع الرائد عمر البشير، ولم يفارقه حتى نقل العميد البشير من المظلات إلى ربكونا في عهد السيد الصادق المهدي -يرحمه الله- والتي عاد منها رئيساً للبلاد!
يُجمع أبناء الدفعة (27) بالكلية الحربية، أن محمد هاشم جِلاس من الضباط المتميزين، وكان عالي الهمة، وشديد الحماسة لإنفاذ واجباته العسكرية، ومبادراً في أداء واجباته العسكرية، وكان طيب المعشر، وحسن المعاملة، وكان هميماً في تقديم العون لأهليه ومعارفه، وسمحاً لطيفاً في تعامله مع الناس أجمعين. ولم يكن يتوان في خدمة أهل كوبر، فهو معهم في أفراحهم وأتراحهم. وعلى الرغم من كثرة مشاغله، عندما لجأوا إليه أهل كوبر، لرئاسة لجنة تسيير نادي كوبر الرياضي، وافق لهم على الفور، وبذل لهم الجهد والمال في سبيل رفعة ذاكم النادي وازدهاره. وبالفعل في عهد رئاسته بلغ نادي كوبر الرياضي شأواً عظيماً، وبات مهدداً لقطبيّ الكرة السودانية الهلال والمريخ، ولم تقتصر نجاحاته على كرة القدم، فجعل من النادي موئلاً للثقافة وداراً لاجتماع أهل كوبر الذين بدأوا يترددون إلى النادي زُمراً وفرادى.
عمل العميد ركن -معاش- محمد هاشم جِلاس مديراً لمكتب الرئيس عمر البشير منذ اليوم الأول للإنقاذ، لما يزيد عن عقد من الزمان. وعندما سُئل عن تميز علاقته بالبشير وجعلته يتسنم هذا المنصب المهم في القصر والقيادة العامة للجيش، على الرغم من أنه لم يكن جزءاً من التنظيم العسكري للإسلاميين، ولم يكن الكثير منهم مرتاح لوجوده في دهاليز السلطة، وبالقرب من موئل صناعة القرار، فهو يشير إلى أن السر يكمن في جيرته للبشير في حي كوبر! فإن كانت “عُشرة الأيام” جعلت الرئيس الراحل جعفر محمد نميري يتذكر عُشرة الأيام مع أول دفعته في الكلية الحربية اللواء عوض أحمد خليفة، فيُعيده إلى الخدمة العسكرية، فتندر عليه أصحابه بأن “عُشرة الأيام” أعادته إلى الخدمة العسكرية! أما فقيدنا جِلاس فإن جيرة حي كوبر جعلت البشير يستمسك به طوال عقد من الزمان أو يزيد! أما عن خروجه من القصر، فيروي ذلكم بنفسه، “خرجت بإرادتي.. وعندما قررت ذلك ذهبت إلى الرئيس وقلت له: لم يعد لديّ أية رغبة للعمل في القوات المسلحة أكثر من ذلك، ثم قدمت استقالتي بالمكتب وظلت معلقة لمدة عام ونصف العام والرئيس يرفض التوقيع عليها وإحالتي للمعاش إلى أن تم ذلك. وأعتقد أن العمل شاق ومرهق في هذه المهنة، خاصة وأن (أي زول عنده مشكلة، كان الرئيس يقول ليهو أمشي لي محمد هاشم)”.
كان الراحل محمد هاشم جِلاس اجتماعياً بطبعه، يُحب التفكه والمؤانسة، فلا غروّ أن توسعت معارفه ولم تقتصر على رفقاء السلاح من العسكريين، بل امتدت صداقاته واتصالاته وعلائقه بالمكون المدني داخل السودان وخارجه.
أخلص إلى أنه من الضروري، أن نتذكر في كل حين وحين، هاذم اللذات، ونكثر من ذكره، تصديقاً لما أخرجه ابن حبان في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: “أكثروا ذكر هاذم اللذات، فما ذكره عبدٌ قط وهو في ضيقٍ، إلا وسعه عليه، ولا ذكره وهو في سعةٍ، إلا ضيقه عليه”. والهَيْذامُ هو الأكول. ولذا قال أبو إسماعيل الحُسين بن علي بن محمد بن عبد الصمد المعروف بالطغرائي:
ما أضيق العيش
لولا فُسحة الأمل
ولم يجد الشاعر العربي كعب بن زُهير بن أبي سُلمى، سوي تذكر الموت في ثنايا التماسه للعفو من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-حين قال:
كل ابن أُنثى وإن طالت سلامتُهُ
يوماً على آلةٍ حدباءَ محمولُ
وختاماً، أسأل الله تعالى أن يتقبل الأخ الصديق العميد ركن -معاش- محمد هاشم جِلاس قبولاً طيباً حسناً، اللهم أنزل عليه شآبيب رحماتك الواسعات، ودثره بعميم المغفرات، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من خطاياه كما يُنقى الثوب الأبيض من الدنس، وأعذه من عذاب القبر، ومن عذاب النار، وألهم آله وذويه وأصدقاءه ومعارفه وعارفي فضله وإحسانه الصبر الجميل.
ولنستذكر في هذا الصدد، قول الله تعالى: “وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّه كِتَابًا مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِين”.
إمام محمد إمام
i.imam@outlook.com
المصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: الکلیة الحربیة العمید رکن الرائد عمر الله تعالى
إقرأ أيضاً:
السكوري : بفضل العمل الجبار للحكومة سيرتفع الحد الأدنى للأجور من 3000 إلى 4500 درهم
زنقة 20. الرباط
أكد وزير الإدماج الاقتصادي والمقاولة الصغرى والتشغيل والكفاءات، يونس السكوري، أن المتوسط الشهري الصافي للأجور سيمر من 8.237 درهم سنة 2021 إلى 10.100 درهم بحلول سنة 2026.
وأوضح في كلمة بمناسبة فاتح ماي، أن قيمة الحد الأدنى الصافي الشهري للأجور في القطاع العام كانت خلال الخمس سنوات الأخيرة 3.000 درهم ، مؤكدا أنه ، وبفضل العمل الذي قامت به الحكومة تنفيذا لتعليمات صاحب الجلالة الملك محمد السادس ،نصره الله، و اعتناء بمجموعة من طبقات الموظفين والموظفات، سيمر الحد الأدنى من 3000 درهم إلى 4.500 درهم.
من جهة أخرى، شدد السيد السكوري على أنه تم التوصل في عدد من القطاعات إلى اتفاقات قطاعية بسبب الحيف الذي مس عددا من الفئات، مشيرا في هذا الصدد إلى قطاع التعليم، حيث كان من الضروري تعبئة ميزانية مهمة بلغت اليوم 17 مليار درهم خاصة بالأسرة التعليمية.
وذكر باتفاقات أواخر سنة 2023 التي مكنت من صرف الزيادة العامة للأسرة التعليمية ب 1500 درهم والتي همت 330 ألفا من الموظفين والموظفات بمن فيهم أطر التدريس، بالإضافة إلى مجموعة من التعويضات من قبيل التعويضات الخاصة بالزيادة في قيمة التعويض عن الرتبة 3 وما فوقها للمرتبين في الدرجة الممتازة، والتي استفاد منها ما يناهز 12 ألف موظفة وموظفا بمن فيهم أطر التدريس.
وأكد أن نسبة التنفيذ بلغت 80 في المائة بالنسبة للاتفاق الأخير المبرم في دجنبر 2023، مشيرا إلى أن الحوار القطاعي ما زال مستمرا لتتبع جميع ما تم الالتزام به ” بهدف تصحيح وضعية لم تكن في محلها و رفع الحيف الذي كان يطال أسرة التعليم”.
أما بالنسبة لقطاع الصحة، والذي ” أعطى الكثير بالنسبة للمغرب”، فقد بلغت الكلفة المالية الإجمالية للحوار الاجتماعي بهذا القطاع 3,5 مليار درهم، مبينا أن الموظفين و الموظفات في القطاع استفادوا من زيادات خاصة بالممرضين بلغت 500 درهم و زيادة خاصة بالأطر الإدارية.
كما تم ، يضيف الوزير، تحسين مسار الترقيات والرفع من قيمة التعويض عن الأخطار المهنية لفائدة الأطر التمريضية والإدارية و التقنية، مشيرا إلى أنه تم “لأول مرة، اعتماد هذا التعويض لفائدة الأساتذة الباحثين التابعين لوزارة الصحة و الحماية الاجتماعية، وهو ما تم اعتماده في مرسوم تمت المصادقة عليه في المجلس الحكومي للاسبوع المنصرم”.
بالاضافة إلى ذلك، تم إقرار نظام أساسي خاص بهيئة الملحقين العلميين بوزارة الصحة تضمن زيادة صافية مقدارها 1800 درهم في الأجرة الشهرية بأثر رجعي ابتداء من فاتح يناير 2023 مقسمة على 3 أشطر.
وأبرز السيد السكوري أن الحكومة، في مقاربتها للقضية الاجتماعية، قامت بعدد من الإصلاحات المهمة حتى يؤدي المستشفى وظيفته، لا سيما مع الورش الملكي الخاص بتعميم الحماية الاجتماعية الرامية لتحقيق استفادة المواطنين و المواطنات من نفس سلة الخدمات سواء من لهم القدرة على أداء الاشتراكات أو الاشخاص المسجلون في النظام التضامني « AMO TADAMOUN ».
ولدى تطرقه للتعليم العالي، أشار إلى أن تكلفة الحوار القطاعي بلغت تقريبا 2 مليار درهم، حيث استفاد، على سبيل المثال، الأساتذة الباحثون البالغ عددهم تقريبا 15000 من الزيادة في الأجور إسوة بعدد من القطاعات.
وتوقف السيد السكوري عند المشروعين الملكيين المهمين الخاصين بالدعم الاجتماعي المباشر، والدعم المباشر للسكن. فبالنسبة للمشروع الأول، سجل الوزير أن “عدد الأسر المستفيدة منه بلغت 3,9 مليون أسرة في سائر أرجاء الوطن حسب مسطرة واضحة و دقيقة كيفما أرادها جلالة الملك نصره الله”، لافتا إلى أن ميزانية هذا الورش بلغت ما يقارب 27,1 مليار درهم مع نهاية سنة 2025، لتنتقل ابتداء من سنة 2026 إلى 29,4 مليار درهم.
أما الدعم المباشر للسكن ، فقد شدد الوزير على أنه ومنذ إطلاق هذا المشروع المهم يناير 2024 ، تم تسجيل نحو 130.00 طلب، شكلت طلبات المغاربة خارج أرض الوطن تقريبا 25 في المائة منها، مشيرا إلى أن الميزانية الشاملة التي تم صرفها لتنزيل هذا البرنامج بلغت 3,5 مليار درهم في انتظار معالجة الطلبات الأخرى التي تتقاطر على هذا البرنامج الملكي الهام.