خطر الذكاء الاصطناعي في تفكيك منظوماتنا الثقافية
تاريخ النشر: 26th, March 2024 GMT
لا مراءَ في أننا ندخل عصرًا جديدًا مع التطور التكنولوجي المذهل؛ عصرًا أصبح فيه الإنسان يجد في الذكاء الاصطناعي مَا بِهِ يبلغ مراتب عالية في الإبداع، سواء أكان هذا الإبداع علميًا تقنيًا، أم فنيًا أدبيًا. ويُخيَّل إلينا، ونحن في دهشة غامرة أمام اكتشافات هذا الذكاء اليومية المتسارعة، أننا نرتقي في سُلم الإنسانيّة إلى درجات أعلى نقترب فيها من تحقيق المتاع والاستقرار في الوجود.
بيدَ أن من ينظر مليًا في حال العالم وما يشهده من فتن وجوائح وحروب تجويع وإبادة، لا يلبث أن يتبين أنّ البشرية تدخل مرحلة أزمة خانقة على أكثر من صعيد، خصوصًا على الصعيد الأخلاقي.
يحقّ لنا أن نتساءل: هل نحن، بدخولنا زمن تكنولوجيا الذكاء الخارق الذي يفوق ذكاء الإنسان الفطري الطبيعي، ندخل في غفلة! الغفلة التي تسبق الأفول كما نفهم من كلام بعض القدامى، حيث يقولون: «من غفل أفل»؟ ولعل البواعث على هذا التساؤل كثيرة، منها أن التكنولوجيا أصبحت تُرسِّخ لدى الإنسان الإحساس بالتمكن في الكون، وهو الإحساس الذي يُورِّث شعورًا بالعظمة والقوة والجبروت، يُلْهي صاحبه عن تدبّر مكانته الطبيعية بين سائر المخلوقات.
أصبح بمقدور كل إنسان، مهما نقص حظه من هذه الفنون، أن ينافس المبدعين أصحاب الباع الطويل فيها. وهذا الأمر، حتى وإن كان في ظاهره يبدو إيجابيًا، محررًا للإبداع، فإن له انعكاسات كبيرة على العلاقة بين الموهبة الفردية الإبداعية والتراث الجماعي
لقد كان للفيلسوف الألماني «مارتن هايدغر» دور كبير في التنبيه لمخاطر الانسياق الأعمى وراء التكنولوجيا في سياقنا الحديث. ويعتبر كتابه: «سؤال التكنولوجيا» (Die Frage nach der Technik) من أهم الكتب التي حاولت أن تنفذ إلى جوهر التكنولوجيا الخاص بها، عوض الوقوف عند اعتبارها مجرد أداة مطواعة محايدة في يد الإنسان. فالتكنولوجيا عند «هايدغر» منظومة لفهم العالم، تستعصي على فهم الإنسان وتَحَكُّمه؛ وبهذا الاعتبار فهي تمثل خطرًا ومصدر قلق وجوديين.
يذهب «هايدغر» إلى القول؛ إن التكنولوجيا تمثل تهديدًا للوجود الأصيل، هذا الوجود الذي يكون فيه الإبداع الإنساني نتيجة تعاون وتشارك بين الإنسان والطبيعة؛ ذلك أن العقل، حين يصير تكنولوجيًّا، لا يفكر في الطبيعة سوى بوصفها موضوع قياس وتعديل واستغلال.
ويستفاد من حديث «هايدغر» أن التكنولوجيا، بوصفها منظومة عقلية قائمة بذاتها، لا تكترث بالوشائج القائمة بين الإنسان والكون، قدر اكتراثها بتحقيق الربح والمصلحة الماديين، إن على حساب الأرض، أو على حساب الآخرين.
إن ما نراه من مكتشفات تكنولوجية يومية متسارعة، يحملنا على الاعتقاد بأن التكنولوجيا دخلت بالفعل المرحلة التي صارت عندها تغير ملامح الوجود الأصيل، وتنذر بتمزيق الوشائج القائمة ليس بين الإنسان والكون فحسب، بل بين الإنسان وبين أخيه الإنسان كذلك. وحسبنا هنا أن نقف عند مثل واحد من الأمثلة الكثيرة المجلية لمخاطر المنظومة التكنولوجية على الوشائج الثقافية التي تربط الفرد المبدع ببيئته الثقافية والمجتمعية.
لقد ابتكرت شركات التكنولوجيا نظام ذكاء اصطناعي أُطلِق عليه اسم (Dalle.E)، وهو اسم مشتق من كلمتين: اسم «سالفادور دالي»، الرسام الإسباني المشهور (Dali)، واسم «وول.ي» الروبوت، بطل فيلم (WALL.E). ويأتي اختيار الاسم للدلالة على معنى واضح، مفاده أن النظام المبتكر يروم بلوغ إبداع يكون نتيجة تفاعل الإنسان مع الآلة، أو تداخل بين ذكائهما، بحيث يستعصي الحسم إن كان العملُ المنجزُ هو فنًا إنسانيًا أم برمجةً تكنولوجية.
يكفيك أن تكتب كلمتين على الحاسوب، من قبيل «الطاولة» و «رأس»، أو «القرد » و « كتاب»، أو «السحب» و «النار»، أو أي كلمتين تختارهما، فتظفر بتراكيب فنية لهذه الكلمات لا حصر لها، فتختار من بين التراكيب ما تريد كي يدخل في ملكيتك الفكرية، حتى إنه بإمكانك أن تبيعه أو تتقدم به للتنافس في المنافسات الفنية وما شابه.
هذا الأمر يدعو للحيرة، ويحثنا على السؤال: هل هذا الإبداع من عند الإنسان، أم أنه من عند الآلة؟ أم أنه من عندهما معًا؟
هنا نفهم ما كان يرمي إليه «هايدغر» من وراء نقده للمنظومة التكنولوجية. عند التأمل في النظام المذكور ندرك أننا ندخل مرحلة جديدة صار الإبداع عندها عبارة عن شراكة وتفاعل بين الإنسان والآلة، بعد أن كان في الوجود الأصيل شراكة وتفاعلًا بين الإنسان والطبيعة، وبين الإنسان والثقافة.
هناك مخاطر كثيرة ملازمة للتكنولوجيا، لعل أَظْهَرها هو الخطر المتمثل في فقدان مناصب الشغل، كما يوضح ذلك «كارل بينيديكت فراي» (Carl Benedikt Frey) في كتابه القيّم: «فخ التكنولوجيا» (The Technology Trap ). غير أن خطر فقدان مناصب الشغل يعتبر خطرًا عارضًا قد يُقاوم بتوفير مناصب شغل جديدة. وهو يكاد يكون لا شيءَ مقارنة بالأخطار التي يمثلها الذكاء الاصطناعي بدخوله مرحلة المزج بين الإنسان والآلة.
صحيح أن مع هذا المزج يُوضَع حد لفنون الرسم الإيضاحي، مثلًا، ويصبح بمقدور كل إنسان، مهما نقص حظه من هذه الفنون، أن ينافس المبدعين أصحاب الباع الطويل فيها. وهذا الأمر، حتى وإن كان في ظاهره يبدو إيجابيًا، محررًا للإبداع، فإن له انعكاسات كبيرة على العلاقة بين الموهبة الفردية الإبداعية والتراث الجماعي.
قبل الخوض في نوع المضرة التي تلازم المزج بين الإبداع الإنساني-الآلي، يحسن بنا أن نقف هنا وقفة قصيرة مع الشاعر «ت. س. إليوت» ( T.S. Eliot ) بغرض استجلاء مفهوم الإبداع أولًا. يرى «إليوت »، صاحب كتاب: «التراث والموهبة الفردية المبدعة» ( Tradition and the Individual Talent )، أن على الفرد المبدع في مجال الشعر، مثلًا، أن يستوعب تراثه الشعري استيعابًا كاملًا، منذ «هوميروس» أول شاعر في هذا التراث.
فالفرد الموهوب المبدع، حسب «إليوت »، لا ينطلق من فراغ، إنما يصدر عن حسّ مشترك، ينحت صوره الشعرية من تفاعل مع الفضاء الثقافي الممتد في الزمن، ولا يوسع آفاق الإبداع، إلا بقدر ما يُثبت القدرة على الالتزام بالمعايير الذوقية المقررة. فالمقصود من كلام «إليوت » هو أن الفرد المبدع لن يكون مبدعًا إلا إذا أثبت قدرته على الذوبان في روح التراث.
يصدر «إليوت » عن قناعة مفادها أن الإبداع الحقيقي لا يأتي إلا تفاعلًا مع بيئة ثقافية، مثله مثل «هايدغر» الذي يصدر بدوره عن قناعة مفادها أنّ الإبداع في الوجود لا يأتي إلا تفاعلًا مع الطبيعة. ومقصود هذين الرائدين من روّاد الفكر والنقد في السياق الحديث الغربي هو التنبيه على خطورة الانسياق وراء الإبداع الفردي الذي يلازمه تشظّي المعنى واستقلال الحسّ الفردي عن الحسّ الجماعي المتفاعل مع الأرض والتراث.
حين نفهم مقصود «إليوت» و «هايدغر»، نكون قد فهمنا نوع المضرّة التي تلازم تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، كما هي متجلية في برنامج « Dalle.E » وأشباهه. إن هذا البرنامج، الذي يجعل من الإبداع تفاعلًا بين الإنسان والآلة، عوض أن يظلّ تفاعلًا بين الإنسان والطبيعة أو الإنسان والتراث، يبلغ بالفرد المبدع المنتهى في التحرر من قيود الحسّ والذوق الثقافيين المشتركين، وذروة الانفصال عن الطبيعة.
فإبداع الإنسان- الآلة لا يتقيد بمعايير موضوعة سلفًا للإبداع الفني، بل ينطلق من فكرة مجردة كي يبلغ فكرة أخرى أكثر تجريدًا. هذا فضلًا عن أن صبيب هذا الإبداع لا ينضب، بحيث يستطيع الفرد ذو الحظ القليل في فنون الرسم، أن ينجز من الأعمال الفنية في ساعة واحدة، ما يتطلب من الفنان المقتدر سنة من الجهد.
فالتجريد من جهة، والوفرة من جهة ثانية، يعتبران عاملين من العوامل التي تساهم في تشظي المنظومة الفنية الإنسانية المرتبطة بالأرض والثقافة والتراث. فالأعمال الإبداعية المنجزة من الإنسان-الآلة تولد مع معايير جديدة. وهذا ما يخرج بالفن من دائرة الإبداع الثقافي، أي الذي ينضبط بضوابط ثقافية تصبغ عليه المعنى، إلى دائرة الإبداع الفردي المشخصن.
فمع الذكاء الاصطناعي ندخل مرحلة تاريخية جديدة، يتحول فيها الإبداع الفني إلى مجرد تطبيقات رقمية، وعندها يكون بمقدور كل فرد أن يتحول إلى مبدع فيكتفي بإبداعه مستغنيًا عن إبداعات الآخرين. أو إن شئت قلت؛ إن الذكاء الاصطناعي هو اليوم بصدد الانتقال بالإنسان إلى مرحلة يصير عندها مبدعًا ومستهلكًا في نفس الآن، يستهلك ما يبدع.
لا جدال في أن لهذه التكنولوجيا وجوهًا قد تحسن بها؛ لكنّ لها وجوهًا أخرى تسمج بها وتقبح. فالذكاء الاصطناعي، بتحويله الإبداع الفني إلى مجرد برنامج أو تطبيق رقمي، يساهم في تفكيك الثقافة، وينتقل بالإبداع الإنساني من مرحلة التفاعل مع الأرض والمكان والثقافة، إلى مرحلة التفاعل مع الآلة، حيث يصبح كل شيء إبداعًا، وحيث يُصبغ المعنى على أشياء لا معنى لها.
وهكذا يزيدنا الذكاء الاصطناعي ابتعادًا عن ذواتنا وعن الوجود الأصيل، كما يزيدنا انفصالًا عن التراث، وعن الحسّ المشترك، فنصبح عرضة لتأثير كلمات وصور عابرة ليس لها من قرار.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: رمضان 1445 هـ حريات الذکاء الاصطناعی بین الإنسان تفاعل مع تفاعل ا الذی ی
إقرأ أيضاً:
بفضل الذكاء الاصطناعي.. رجل مشلول يُحرك الأشياء بإشارات دماغه
تمكن باحثون في جامعة كاليفورنيا في سان فرانسيسكو من تمكين رجل مشلول من التحكم في ذراع آلية من خلال جهاز ينقل الإشارات من دماغه إلى جهاز كمبيوتر.
ووفق "مديكال إكسبريس"، كان الرجل قادراً على الإمساك بالأشياء، وتحريكها، وإسقاطها بمجرد تخيل نفسه وهو يقوم بالأفعال.
عمل الجهاز، المعروف باسم واجهة الدماغ والحاسوب (BCI)، لمدة 7 أشهر قياسية دون الحاجة إلى تعديل، بينما، حتى الآن، لم تعمل مثل هذه الأجهزة إلا ليوم أو يومين فقط.
وتعتمد واجهة الدماغ والحاسوب على نموذج الذكاء الاصطناعي، الذي يمكنه التكيف مع التغيرات الصغيرة التي تحدث في الدماغ، عندما يكرر الشخص حركة - أو في هذه الحالة، حركة متخيلة - ويتعلم القيام بذلك بطريقة أكثر دقة.
وظيفة تشبه الحياةوقال الدكتور كارونيش غانغولي أستاذ علم الأعصاب في الجامعة: "إن هذا المزج بين التعلم بين البشر والذكاء الاصطناعي هو المرحلة التالية لهذه الواجهات بين الدماغ والحاسوب". "هذا ما نحتاجه لتحقيق وظيفة متطورة تشبه الحياة".
وكان المفتاح اكتشاف كيفية تحول النشاط في الدماغ يوماً بعد يوم، حيث يتخيل الرجل المشارك في الدراسة مراراً وتكراراً القيام بحركات معينة.
وبمجرد برمجة الذكاء الاصطناعي لمراعاة هذه التحولات، فقد عمل البرنامج لعدة أشهر في كل مرة دون تعديل، كما يوضح هذا الفيديو.
مراحل التقاط إشارات الدماغودرس غانغولي كيف تمثل أنماط نشاط الدماغ لدى الحيوانات حركات معينة، ورأى أن هذه التمثيلات تتغير يوماً بعد يوم مع تعلم الحيوان.
واشتبه في حدوث نفس الشيء لدى البشر، ولهذا السبب فقدت أجهزة الدماغ والحاسوب الخاصة بهم بسرعة القدرة على التعرف على هذه الأنماط.
لذا، عمل غانغولي وزمليه الدكتور نيكيلش ناتراغ مع مشارك في الدراسة أصيب بالشلل بسبب سكتة دماغية قبل سنوات، لم يستطع التحدث أو الحركة.
وكان لديه أجهزة استشعار صغيرة مزروعة على سطح دماغه يمكنها التقاط نشاط الدماغ عندما يتخيل الحركة.
ولمعرفة ما إذا كانت أنماط دماغه تتغير بمرور الوقت، طلب غانغولي من المشارك أن يتخيل تحريك أجزاء مختلفة من جسده، مثل يديه أو قدميه أو رأسه.
على الرغم من أنه لم يكن قادراً على الحركة فعلياً، إلا أن دماغ المشارك كان لا يزال قادراً على إنتاج الإشارات الخاصة بالحركة عندما يتخيل نفسه يقوم بها.
وهنا سجل جهاز BCI تمثيلات الدماغ لهذه الحركات من خلال أجهزة الاستشعار الموجودة في دماغه.
ووجد فريق غانغولي أن شكل التمثيلات في الدماغ ظل كما هو، لكن مواقعها تغيرت قليلاً من يوم لآخر.
من الافتراضي إلى الواقعوطلب الباحثون بعد ذلك من الرجل أن يتخيل نفسه يقوم بحركات بسيطة بأصابعه أو يديه أو إبهامه على مدار أسبوعين، بينما سجلت أجهزة الاستشعار نشاط دماغه لتدريب الذكاء الاصطناعي.
ثم حاول الرجل التحكم في ذراع ويد آلية. لكن الحركات لم تكن دقيقة للغاية.
لذلك، جعل غانغولي الرجل يتدرب على ذراع روبوتية افتراضية أعطته ملاحظات حول دقة تصوراته. وفي النهاية، جعل الذراع الافتراضية تفعل ما يريده أن تفعله.
وبمجرد أن بدأ في التدرب على ذراع الروبوت الحقيقية، لم يستغرق الأمر سوى بضع جلسات تدريب حتى ينقل مهاراته إلى العالم الحقيقي.
وكان بإمكانه جعل الذراع الآلية تلتقط الكتل، وتديرها، وتحركها إلى أماكن جديدة. وكان قادراً حتى على فتح خزانة، وإخراج كوب، ووضعه أمام موزع المياه.
وبعد أشهر، كان الرجل لا يزال قادراً على التحكم في الذراع الآلية بعد "ضبط" لمدة 15 دقيقة للتكيف مع كيفية انحراف تمثيلات حركته منذ أن بدأ في استخدام الجهاز.
ويقوم الباحثون الآن بتحسين نماذج الذكاء الاصطناعي، لجعل الذراع الآلية تتحرك بشكل أسرع وأكثر سلاسة، ويخطط لاختبار واجهة الدماغ والحاسوب في بيئة منزلية.
وبالنسبة للمصابين بالشلل، فإن القدرة على إطعام أنفسهم أو الحصول على شربة ماء ستغير حياتهم.