اليوم السابع:
2025-04-30@20:11:10 GMT

غرائب القضايا.. ضحى من أجله ومات على يده

تاريخ النشر: 25th, March 2024 GMT

غرائب القضايا.. ضحى من أجله ومات على يده

قضايا غريبة وقعت وأثارت الجدل تحول فيها القاتل إلى برئ، والجاني إلى مجني عليه، ألغاز كشفتها التحقيقات، وأزال عنها الستار دفوع المحامين في ساحات القضاء، اليوم السابع يقدم على مدار 30 حلقة خلال شهر رمضان المبارك، أبرز هذه القضايا ووقائعها المُثيرة.


يروى هذه الحلقة المستشار بهاء الدين أبو شقة فى كتابه "أغرب القضايا".

.

ليلة لا أنساها عندما حضرت إلى مكتبى فتاة فى مقتبل العمر.. كان الحزن والكأبة يكسون وجهها ويعتصران عينيها التى أحمرت من كثرة البكاء.. كانت الكأبة واليأس يستبدان بقسمات وجهها، فضاعت مع كل ما سلف مسحة الجمال التى تبدو لأول وهلة عندما حلت غرفة المكتب.

طلبت منها أن تركن إلى الهدوء والسكينة حتى أستطيع أن أتفهم مشكلتها.. حاولت جاهدة أن تتماسك لكن الانفعال كان بادياً فى عينيها التى أحمرت من كثرة البكاء.

سألتها عن مشكلتها التى قدمت من أجلها.. ازداد بكاؤها، انفجرت الدموع من عينيها وانهمرت وكأنها المطر، وقالت وهى تنتحب: "مش معقول.. أنا مش مصدقة.. أنا كأنى عايشه فى كابوس مفزع.. والله ده ظلم.. ده حرام.. وسقطت مغشياً عليها".

بعد إجراء الإسعافات الأولية وبعد أن فاقت أصرت على الحديث:" خطيبى اتحكم عليه بالإعدام.. حيتشنق وأنا متأكدة أنه برىء، تصور إنسان برىء يعدم من غير ذنب لم يرتكب جريمة".

سألتها وقد أحسست من بريق عينيها ونظرات صوتها إصراراها على براءته، كيف تأكدت من براءته خصوصاً أن المحكمة قد حكمت بعد أن استعرضت الأدلة وأوجه الدفاع، وانتهت بإجماع الأراء على إدانته بالإعدام، خاصة أن حكم الإعدام له طبيعة خاصة وضمانات كبرى تفوق الضمانات فى قضايا الجنايات العادية.

فأجابت الفتاة: "إحساسى يؤكد لى أنه برئ.. نظرات عينيه لى أقنعتنى بذلك، وكلامه بعد النطق بالحكم.. طول عمرى ما هنساه.. منظر يستحيل هيفارق عينيه وهو بيقول لى :" أنا ميهمنيش الدنيا كلها.. كل اللى يهمنى إنت، باحلف لك بحبنا الطاهر إن أنا برئ.. إنا ما قلتلتش عمى.. كلى اللى يهمنى أنت.. صورتى قدام عينيك لازم تفضل حلوة زى ما هى.. الدنيا كلها ماتهمنيش.. قوليلى إنك مصدقانى، كلامك ده هو اللى حيهون عليها حبل المشنقة وحفارق الدنيا وأنا راض مادام أنتى راضية ومقتنعة ببراءتى".. لم تشعر بنفسها والدموع تملاء خديها وتبلل ملابسها.. قناعتها بصدق حديثه بلا حدود.

كان عليا ان اقرأ أوراق القضية جيداً.. كانت التهمة حسبما رصد فى تكييفها جريمة قتل عمد مع سبق الإصرار والترصد، كان القتيل عم المتهم الذى رباه.. فى حكم والده.. مما أثار الاشمئزاز من فعلته ودفع أهليته إلى التنصل والتبرؤ منه، بل والتحامل عليه والوقوف ضده وانتظار اليوم الذى يطهرون ثوب الأسرة الأبيض من دنسه.. يرونه معلقاً فى حبل المشنقة إرواءً لغليلهم وجزاءً وفاقاً لدم ذلك الرجل العظيم الذى لم يتوان يوماً فى إسعاده.

كانت القصة من بدايتها لشقيقين لا ثالث لهما.."أشرف" وشقيقه "سمير" الذى يكبره بحوالى ست سنوات عندما أصيب والدهما بمرض خطير أقعده عن العمل، أصبح لا يستطيع حراكاً.. فقد الأمل فى الشفاء، وأدرك الرجل أن أيامه- فى الحياة- معدودة، فلم ينس وهو يحتضر ولديه الصغيرين فأوصى أخاه " محمود" بهما وهو فى النزاع الأخير..أوصاه برعاية ولديه، وأن يعاملهما كما لو كانا من صلبه خاصةً وأن أمهما كانت أيضاً تعانى "كوكتيل" من الأمراض المستعصية.

ومات الرجل وترك أسرة لا تملك من حطام الدنيا شيئاً.. زوجة مريضة فى أمس الحاجة إلى العلاج والأدوية المستمرة.. وولدين أكبرهما فى العاشرة من عمره.. وكان شقيقه "محمود" من الطيبة والأصل عند حسن ظنه.. عمل بوصيته بل وأكثر، واعتبر نفسه أباً فعلياً لهما.. وكرس حياته من أجلهما وبدأ فى تعليمهما وأغلق على مشاعره بـ"الضبة والمفتاح"، وتزوج من أرملة شقيقه رغم علمه بمرضها ورغم ما كانت تعانيه من مراراة من هذا الزواج، وإحساس بالتقصير فى حقه وأنها لا تستطيع إسعاده كزوج شأن كل الزوجات، إلا أنها كتمت أحزانها فى داخلها، كان الرجل يحس بأحاسيسها ومشاعرها ويواسسها ويهون عليها.

كان يسهر بجوارها الليالى الطويلة ليقدم لها الدواء، كان صالحاً ورعاً تقياً، يرعى الله فى كل تصرفاته ويتقيه فى كل أعماله، لدرجة أنه طلب من ابنى شقيقه أن ينادياه ب"بابا محمود".. وظل يواصل كفاحه معهما ويقف إلى جوارهما ولا يبخل عليهما بأى شىء.

مرت الأيام وكبر الشقيقان وتخرجا من الجامعة، وماتت أمهما، وهى تدعوا له وتقدر شهامته وتعترف بمرؤءته وأنه لولا وقوفه إلى جوارهما هى وابنيها لدهمتهم عجلة الحياة.. وكتب عليهم الضياع. بعد وفاة الأم حزن الرجل كثيراً عليها، وقرر أن يحبس نفسه داخل "بوابة" حديدية وأيقن أنه جرب حظه فى الحياة، وأن السعادة نسبية يختلف مفهومها من شخص لاخر، وأن سعادته الحقيقية التى بات يراها تملاء عليه حياته هى ابنا شقيقه "اشرف" و"سمير"، فكان يرى أنه أب لهما بالفعل، وكانت كلمة "بابا" أشبه بالموسيقى التى تهتز لها أوتار قلبه.

ولكن السعادة لا تدوم، ففى الوقت الذى كان يسير به قارب الأيام فى نهر الطمأنينة والحب ظهرت "صخرة" عاتية اعترضت طريق القارب وقطعت عليه نشوة فرحته.. كانت تلك المرأة التى ظهرت فى حياة الأسرة فجأة فبدلت حالها رأساُ على عقب، تقابل معها مصادفة والشعر الأبيض يكسو رأيه.. كانت أشبه بالجليد الذى لا يذوب وبصمات الزمن التى لا ترحل..تركت أثارها على وجهه فملاأته بالتجاعيد.. هكذا كان حال الرجل عندما التقى بها.. كان قلبه خاوياً من الحنان، خالياً من الحب.. متعطشاً ينتظر أول كأس ترويه..أما هى فكانت أرملة مات زوجها فى حادث ولم ينجب منها أولاداً.


كانت ممشوقة القوام، حلوة الطلعة، بياض بشرتها المختلط بحمرة الوجه يزيدها فتنة وبهاء.. وقد كسا رأسها الشعر الأصفر.. كان أشبه بخيوط الذهب التى تهفهف على خديها.. والثوب الأسود – رغم قتامته- يزيدها حسناً وبهاء.. فنظر إليها ولم يستطع أن يقاوم النظرة الأولى.. ظل يختلس النظرات بلا وعى فقد نفذت نظراتها إلى قلبه البكر المتعطش إلى من يطفىء ظمأه.

استبد به الخيال وسبح به فى فضاء عريض وانهارت التساؤلات والتخيلات والأفكار على رأسه.. قارن بين نفسه وبينها.. بين الصبا والشيخوخة.. وتساءل والفكر يحطم رأسه .. هل من الممكن أن يجتمعا فى سلة واحدة؟


وبينما كان الرجل شارداً سابحاً فى أفكاره ونور الصباح بدأ بطل على الدنيا دون أن يدرى، عندما دخل عليه ابن شقيقه "سمير" يناديه أكثر من مرة "مالك يا بابا محمود.. سرحان فى إيه؟".

أحس الفتى أن عمه وقد كست الحمرة عينيه وذبلت جفونه من السهر.. أنه غير طبيعى وأن هناك ما يؤرقه فازداد فى سؤاله: فيه إيه يا بابا؟، إلا أن إجابته لم تكن مواكبة لحاله عندما أجاب "أبدا مفيش حاجة".. فقطع حديثه " لا فيه حاجة.. وحاجة مهمة شاغلة بالك بتفكر فيها.. انت علمتنا الصراحة.. قول فيه إيه يا بابا ممكن أساعدك؟.

تحدث الرجل وقد انفرجت أساريره على استحياء، لو قلت لك عاوز أتجوز حتضايق انت واخوك؟، فتبسم وهو يهدىء من روعه ويقول فى ثقة " كل اللى يهمنا أن نشوفك مبسوط وسعيد". ورغم تشجيع "سمير" لعمه بالزواج بل بارك زواجه حتى الارملة التى حدثه عنها رحب بها بل وأيده فى انها الزوجة التى ستسعده وتعوضه الايام الخوالى.. إلا أن "أشرف" كان على النقيض فى ذلك.. لقد توجس خيفة من تلك المراة .. كان يرى أن زواج عمه غير مناسب، فهى من "عجينة" أخرى غسر "عجينته"..إنها امراءة "سبور"تهوى "الشياكة" والمظاهر.. بينما عمه عاش حياته على نقيض ذلك.. منطوياً على نفسه، متفانياً فى إرضاء زوجته المريضة.

اعتبر "أشرف" أن إصرار العم على الزواج هو عصيان لتقاليد الأسرة خصوصاً أنه يكبرها بأعوام كثيرة، وأن جمالها الأخاذ يثير التساؤل والدهشة فى علة زواجها منه رغم أن كفتى الميزان غير متعادلتين، فجمالها وصباها وأنوثتها الفياضة تستطيع أن تتزوج الشاب المناسب لها.. أما وقد ألقت بشباكها على هذا التحو على عمه فقد وجدت فيه "صيداً" ثميناً أو بمعنى أخر "زواج مصلحة"، بعد أن سال لعابها أمام ثروته وممتلكاته التى جمعها بشقاء عمره.

وتم زواجهما.. بارك الاخ الأكبر هذا الزواج وأبدى سعادته وترحيبه به فكل ما يسعده يجعله فرحاً، يريد أن يرد له جزءاً يسيراً من جميل عمه عليه وعلى أخيه والمرحومة والدته.. لكن الأخ الأصغر أصر على تمرده ورفضه لهذه الزيجة وأعلنها صراحة وبملء فيه أنه رافض لهذه الزيجة غير المتكافئة.

ورغم أن الأخ الأكبر كان متزوجاً ويقيم مع زوجته وابنه الصغير فى شقة بعمارة العم.. كان شقيقه الأصغر مازال يقيم مع عمه وزوجته، فقد أبى كرم العم وهو الذى اعتبره بمثابة ابن له أن بتركه ليعيش بمفرده بعد الزواج خصوصاً أنه كان قد تقدم لخطبة فتاة، وكان على مشارف عقد قرانه بها، فأيامه- مع عمه- معدودات لإعداده شقة الزوجية ليعيش فيها. كان الليل هادئاً عندما قطعت سكينته صرخات زوجة العم وهى تبكى بهستريا.. زوجى اتقتل..اتقتل وهو بيصلى.

كانت صرخاتها بلا وعى: أشرف قتل عمه..أنا شفته بيقتله بساطور على رأسه وهو بيصلى. تم إلقاء القبض على "أشرف" وهو لا يصدق هو ما حدث، واعتصم بالإنكار.

أكدت شهادة زوجة العم بتحقيقات النيابة أنها رأته وهو يهوى على رأس عمه وهو ساجد فى الصلاة ب "ساطور" كان فى يده. وكانت المفاجأة أن شقيقه الأكبر شهد ضده أيضاً، وأكد صحة ما قررته زوجة عمه، وأضاف فى التحقيقات أن شقيقه ناصب عمه فى العداء منذ أن فكر فى الزواج بل وهدده اكثر من مرة، وتوعده بانه سيقاوم هذا الزواج ولن يسمح باستمراره.

واستطردت الزوجة مضيفة :" أنها نجت من الموت بأعجوبة.. إذ هوى عليها بالساطور عندما فأجاته وهو يرتكب فعلته الشنعاءـ ولكن من حسن حظها اندفعت أمامه وهى تصرخ فلاذ بالفرار.

تم تقديم الاخ الأصغر للمحاكمة، وقضت محكمة أول درجة بإعدامه شنقاً.

كانت تلك هى وقائع القضية واحداثها حسبما سطرت أوراقها.

 







المصدر: اليوم السابع

كلمات دلالية: غرائب القضايا اغرب القضايا اخبار الحوادث

إقرأ أيضاً:

عندما يرسم الكاتب

القصيدة وعاء والشعر سائل... هذا ما وصلت إليه إليسا جابرت في مقالتها (شكل الفراغ- نحو تعريف للشعر)، تبدو الفكرة جذابة لدرجة الجزم بصحتها باعتبار الشعر كيانا أثيريا لا يقتصر تواجده على القصائد والنصوص الشعرية بل يتجاوزه ليتخلل القصص والروايات ويمتد ليشمل اللوحات والمنحوتات والعوالم الفنية تشكيلية مسرحية وسينمائية، ويمكن أيضا تلمس النفس الشعري حتى في التفاصيل اليومية الصغيرة، وبالقياس يمكن اعتبار تمايل الشّجرة وهجرة الطيور وعلاقة الموج بالشّواطئ كلها شعرا خالصا، فكأنّ الشّعر وجدانيات كثيفة وروحانيات صوفيّة مرهفة تعتمر الرّوح وتقدم نفسها بين أيدينا على شكل مفردات أو خطوط وألوان، رقصاً أو نغمات وموسيقى.

وهذا إذن السبب الرئيس وراء تمازج الفنون، حيث يندر أن نجد أديبا لم يحاول الرسم أو يقارب الغوص في عالم اللون، وبالمقابل تستهوي الرسام الكلمات وقد يقع في شرك الكتابة، العزف أيضا مجال عريض الأبواب للدخول ومحاولة إحلال العلامات الموسيقية مكان الأحرف المكتوبة لدى الأصابع، معظم هذه المحاولات تكون خاصة لا يطلع عليهم سوى دائرة ضيقة من المقربين، بينما تكون علنية عند آخرين، مما لا يجدون ضيرا في عرض نتاجهم.

سنسترق النّظر هنا لنشاهد تجارب عدد من الكتّاب الذين لم تكن علاقتهم بالفن علاقة سرية، بل رسموا بالتوازي مع عملهم الكتابي وعرضوا نتاجهم بمعارض فنية أو عبر صفحاتهم على وسائل التّواصل الاجتماعي، وقد استخدمت مصطلح ـ استراق النظر ـ عن قصد لأن السمات العامة لمحاولات الكاتب أن يقترب من عالم الفن كانت تتسم بخجل ووجل طفوليين أجبرت بعض الكتاب على محاولة إخفاء إنتاجهم الفني ولعل أشهرهم كان كافكا الذي خبأ رسوماته عن الأنظار، يقول جوستاف يا نوخ في كتابه «حوارات مع كافكا» إنّه حين شاهد كافكا يرسم، أخفى الرسومات عنه، لكنه سمح لجوستاف برؤيتها فيما بعد، وأضاف: «هذه الرسومات ليست بريئة كما تبدو لأول وهلة. إنها بقايا رغبة قديمة وعميقة» فكأنها ما ترسب في الأنا ولم تستطع الكتابة إخراجها، تقنيا كانت هذه الرسوم بسيطة بالحبر الأسود ذاته الذي كان يكتب به كافكا قصصه ورواياته لكن تكثيفها ورشاقة خطوطها هما سمتاها المميزتان، وكأن هذه الرسومات امتداد لما يكتبه من أدب، ويذكر الناقد الفني فيليب هارتغان أن هذه الحركات السريعة والتعبيرات البسيطة تحوي الكثير من الاقتصاد في الرسم يمكن للرسامين التعلّم منه. الخطوط هنا تعكس ثقةً وقوة لم تكونا واضحتين في شخصية كافكا، وكالعادة النتاج الفني يفضح بعض التّفاصيل الدّاخلية العميقة والتي ربما حتى الفنان نفسه لا يعرفها عن نفسه، حجمها الصغير يشي بخوف وحياء من تجربة الرّسم، وذاك ليس غريبا على فرانز كافكا الذي كان يتأخر بنشر نتاجه الأدبي، حتى أن أشهر أعماله (المسخ) انتهى من كتابتها في 1912 ولم تنشر إلا بعد 1915.

أما رامبو الشّاعر الفرنسي المغامر الذي لجأ للرمز والسريالية في شعره فقد رسم أيضا مجموعة من اللوحات رافقت أسفاره ورحلاته لمدن كثيرة، وكانت لوحاته مائية هادئة المزاج خلافا لشعره الذي شكّل انقلابا في الشعر الفرنسي، فكانت تمثّل السكون الذي يربض خلف غضبه وثورته المستمرة، وقد تكون مطالعة شعر رامبو مع مشاهدات لوحاته فسحة جديدة تزيد من عمق الشعر وتقدم مسارات لقراءة شعرية أكثر غنى.

بالطبع لا نستطيع إغفال جبران خليل جبران الذي عرف عالميا ككاتب أكثر من كونه رساما مع أنه قضى حياته يكتب ويرسم في آن واحد، وقد بدأ حياته رساما! وترك خلفه حوالي 700عمل ما بين تقنية الفحم والألوان المائية، وكان يعتبر الرسم فعلا لا يحتاج الوعي كالكتابة يقول عن ذلك: «عندما أعكف على الرّسم وأنتج شيئا جيدا قليلا أو يستحق التقدير يجيء ذلك على غير وعي مني، وأنا على خلاف ذلك في كتاباتي فأنا أعرف عما أكتب في حين أنني أجهل لم أرسم أو أصور» إذن كان الفن عنده هروبا من قيود الوعي وراحة للعقل، حيث كان بإمكانه أن يرسم ما يعتمر في لاوعيه دون رقيب.

أدونيس الشاعر أدخل الفن التشكيلي أيضا لعالمه ومزجه مع الشعر ليس على المستوى المعنوي فقط بل أننا عندما نشاهد رسومه نجدها محاطة بكلمات وأشعار لـ(المتنبي، المعري، النفري...) وكأنهما -الشّعر والفن- كيانان يحتفل كل منهما بالآخر، رسم بالحبر الأسود رسوما رمزيّة مختزلة تشبه رسوم الإنسان القديم على جدران الكهوف، كما أنها تحمل مسحة طفولية بعفويتها وفطريتها وعن ذلك يقول أدونيس في أحد تصريحاته: (... في فني أبحث عبر شيخوختي عن طفولتي المفقودة التي اقترب حزنها من حلم الفرح) اللون الأحمر كان حاضرا كذلك في العديد من رسومه بقوته ووضوحه يمنح اللوحة قوة ويسحب الانتباه إليها، حينها يبدأ المتلقي بقراءة الكلمات وتأمل التفاصيل البارزة في العمل فقد استخدم أدونيس الكولاج أيضا ليضيف مواد متنوعة ويصنع بذلك عملا بتقنية خاصة به وقد أسمى أعماله بـ(اللوحات الرقيمة) فهو يريدها أن تشبه الرّقم، وقد بدأ بتنفيذها بعد مروره بمراحل لم يستطع خلالها القراءة أو الكتابة فخطر بباله السؤال التالي: لم لا أعطي ليدي نوعا من الحرية لأعرف ما يمكنها أن تصنع، فكانت بداية الدخول للتجربة التّشكيلية.

وهذا السبب يتشابه عند الكثيرين فعند التوقف أو التردد عن التعبير بالأداة التي احترفوها يفرحون بامتلاك أداة مختلفة تحتوي على ذات الخواص، وهو سلوك طبيعي يشبه سلوك السواقي التي تباشر في حفر مسار جديد عندما تعترضها عقبة جيولوجية، فتنشر الجمال والخضرة في جغرافيا جديدة، كأن تخونك لغتك، فتنساب لغة جديدة تمنحك القدرة على نقل رؤاك وأفكارك بعناصر شكلية هذه المرة.

وهذا ما لجأ إليه الشاعر والمترجم أحمد. م. أحمد الذي شغلته الترجمة في فترة عن إبداعه الشّعري، وصارت كلماته مسخّرة لترجمة نتاج الآخرين، وبدأت مشاعره (الغضب، اليأس، الترقب...) تتراكم فوق صدره، فبدأ بالرّسم وكان طوق النجاة، خرجت لوحاته للجمهور ناضجة فكان أشبه بطفل خطا خطواته الأولى بثقة، لم يحبُ لم يتأرجح ببداية سيره!.

من ناحية الشكل نجد هذه الأعمال تنتمي للمدرسة الفطرية يرسمها بطريقة طفولية –وهذا تبريره عند الفنانين الأكاديميين مختلف عن تبريره لدى الداخلين عالم الفن حديثا.

فهنا يرجع استخدام هذا الأسلوب لرغبة عارمة للتعبير والبوح عن شعور كامن دون أن يلقي بالا بالطرق الأكاديمية في الرسم؛ المواضيع عند أحمد شائكة معقدة تفاجئ المتلقي بكثرة التفاصيل، فيحتاج المشاهد لوقت طويل حتى يلم بالعناصر ويحصي الألوان المستخدمة، فيجد نفسه في مأزق التفسير الشاق ولا يلبث أن يكتفي بالتذوق.

الأعمال عبارة عن مساحات لونية كتيمة لا فراغات بيضاء تسمح لها بالتنفس، الألوان قوية جريئة حيوية ودرجاتها قاتمة، تتوزّع بتواتر مدروس أحيانا وعشوائي غالبا يشي باختلاط المشاعر، فخلف كل لون خلجة من خلجات مشاعره يسكبها على سطح اللوحة دفقةُ واحدة، ليكسبها حياة وجمالا ينافس فيها الفنانين، وليزيد لوحاته غنى يضمنها مقاطع من شعره أو جمل ترجمها ليخرج عمله الفني مشكلا على طريقة فريده يختص بها دون سواه.

أما تجربة القاص والرّوائي إسلام أبو شكير فكانت مختلفة، فقد أتقن دور الفنان التشكيلي، وقرّر الرسم بطريقة أقرب للواقعية، تطورت تجربته شيئا فشيئا فصارت لوحاته الواقعية دقيقة لحد كبير، رسم تفاصيل يومية كوب الشاي، قارورة الماء، سلة الغسيل، الكنبة... وغيرها، لينتقل في مرحلة أخرى للوحات تعبيرية تحمل الكثير من الأفكار (الموت، الهجرة، الوحدة...)، فنجد المشانق مدلاة من السماء في إحداها، وقاربا مكتظا بالهاربين يرسو على الرمال وكأن البحر الذي كان الفرصة الأخيرة المتاحة أمامهم جف وتركهم لمصيرهم، تتقاطع هذه المواضيع مع مواضيع أعماله الأدبية التي تحفر عميقا في الصعيد الإنساني، لكنها تطل للمتلقي بزي مختلف محافظة على الحس الجمالي الذي لا يغيب مهما كانت المواضيع قاسية.

بالطبع هنا مررنا على عينات اختيرت بشكل عشوائي من قائمة تطول من الكتّاب والشعراء من عصور مختلفة وانتماءات متباينة، ممن لجأوا إلى الفن التشكيلي ليكون نافذتهم على العالم، فقد أرادوا وسيلة أخرى غير الكلمة تترجم ما يجول داخلهم، فرحّب بهم الفن التشكيلي وفتح أمامهم أبوابه ومنحهم أسراره، وذلك لأنهم حقّقوا أهم الشروط ليكون الفن فنا وهو الصدق في العاطفة وبالتأكيد الرغبة في التعبير عما يجول في النفس والتي لولاها لما كانوا دخلوا عوالم الرسم أصلا، وأعتقد أن وجودهم في عوالم الأدب والشعر تجعلهم مطلعين أكثر من سواهم على أهمية الفن، لذا كان سعيهم (بشكل واع أو عفوي) لإنتاج أعمال إما جمالية صرفة، أو فكرية مباشرة، أو فلسفية معقدة هو الدافع المباشر للرسم.

أما الدافع غير المباشر الذي يجعل الفنان يعود كلّ يوم ليمسك قلمه وريشته، أو يعجن طينه ويحمل إزميله هي المتعة التي تتركها ممارسة الفنّ والراحة التي تستقر في الرّوح بعد تفريغ الشحنات السلبية، هذه المتعة تجعل كل من يمسك قلما يرسم وحتى إن لم يكن موهوبا، والكتب المدرسية غير مثال على ذلك، فالرسم كان وسيظلّ حبل النّجاة من الملل الذي يملأ بعض الحصص المدرسية!

بسمة شيخو كاتب سورية متخصصة في الفن التشكيلي

مقالات مشابهة

  • منتدى الأمن بالدوحة يستعرض جهود الوساطة القطرية في القضايا العالمية
  • الرئيس السيسي يؤكد ضرورة الحفاظ على المواقف الإفريقية الموحدة تجاه القضايا الدولية
  • عاجل. الكرملين: مقترح زيلينسكي لوقف إطلاق النار لمدة 30 يومًا غير ممكن دون تسوية جميع القضايا العالقة​
  • عندما تكون أقصي الطموحات هي إيقاف الحرب !!..
  • عندما يرسم الكاتب
  • الجديد يجتمع بمشايخ وأعيان بلدية شحات لبحث عدد من القضايا
  • لجان سورية لبنانية مشتركة لحل القضايا العالقة
  • خبراء الوكالة الذرية في طهران لمناقشة القضايا الفنية مع اقتراب جولة جديدة من المحادثات
  • السيسي يبحث مع البرهان الوضع في السودان وعدداً من القضايا الإقليمية
  • تجري اليوم.. من أبرز المتنافسين في انتخابات كندا؟ وما القضايا المتصدرة؟