لجريدة عمان:
2024-09-17@03:58:08 GMT

الاكتشاف الرهيب..

تاريخ النشر: 25th, March 2024 GMT

ذات يوم؛ وقبل أكثر من عقد كنت طالبا جديدا في الكلية، ولم تكن عندي رخصة قيادة فضلا عن امتلاكي لسيارة، ومما زاد الطين بلة أنني كنت قد دخلت في جمعيات مالية أهلية جراء الضغط الاجتماعي وبعض الأقارب والأقران، فهي أحلام زهرية (ستتخرج ويكون عندك وظيفة وتتزوج مباشرة أو تشتري سيارة جديدة بما جمعته من مبالغ)، وبسبب تلك الجمعيات -لا أتذكر فيم صرفت المبلغ، لكنني لم أتزوج بها قطعا- لم أتمكن حينها من استئجار مكان أريح فيه جسدي بعد يوم جامعي طويل.

فبحثت عن الخلاص الذي يعيدني إلى البيت ويوصلني إلى الكلية كل يوم، وكان ابن عمي ذلك المنقذ. فأن تجد من يوصلك مِن وإلى الكلية دون أن تدفع فلسا في وقت تعاني فيه تقشفا أشد مما تفرضه الحكومات خشية صندوق النقد الدولي؛ فتلك نعمة بالغة حينها.

حسنا، كان من الجيد أنني علمت أن ابن عمي يعمل على مقربة من الكلية، وكان من حسن الطالع أنه لا يزال أعزب بلا مسؤوليات تجعله لا يستطيع الوفاء بأخذي وردي معه لدى ذهابه وعودته من عمله. وافق ابن عمي إذن على أن أكون رفيقه اليومي في رحلته اليومية إلى مسقط البعيدة آنذاك. كان كل شيء يجري على ما يرام، لكن جدول الطلاب الجدد كان يشبه أحلام النائم عصرًا؛ فمحاضرة في الثامنة صباحا، تتلوها محاضرة في الخامسة عصرا، وما بين هاتين المحاضرتين؟ اللاشيء!. بدأت تلك السويعات تقتلني ضجرا؛ يا إلهي! سأنتظر كل هذا الوقت دون أن أجد خلاصا أو مهربا منه..

حينها، ولا أدري هل من حسن الطالع أم من شقاوة النفس أنني اخترت كتابا فكريا أقرؤه في تلك الفترة المضطربة جرَّاء ما يعرف بـ«الربيع العربي» وتداعياته. شرعت في القراءة إذن، وبشغف الحالم المنطلق إلى الحياة بصدر عار وكف صِفرٍ إلا من قلم وكتاب؛ قلتُ القراءة منقذتي!. لدى فراغي من قراءة الكتاب الذي كان سهلا في بعض أجزائه، موعرا في أجزاء أخرى، شعرت بنشوة لا تضاهيها نشوة. قلتُ، سأقرأ ألف كتاب!. نعم، فالطالب الذي كان يقرأ على فترات متباعدة كتابا هنا وآخر هناك، اكتشف أنه يستطيع قراءة الكتب في فترة وجيزة -مكره أخاك لا بطل- هروبا من التسكع مع الأقران المنفلتين أو هروبا من المقصف الكبير «الكانتين»، كي لا تأتي الساعة الخامسة وأشعر أنني نقعت ملابسي في قِدر مليء بالثوم والبصل وروائح مشكَّلة من المطبخ الذي كان يدير ذلك المقصف الجامعي. بل ربما كنت أهرب من المذاكرة!، فقد كانت بعض تلك الكتب تشبه من يريد خوض الحرب العالمية الثالثة بحِراب وسيوف مثلومة، كتب ومناهج عفا عليها الزمن وتجاوزتها المرحلة.

حسنا، مهما يكن السبب الذي دفعني لأن أشرع بالقراءة الجادة، فإنه -رغم وعورة الطريق- كان طريقا جديرا بأن يُسلك وتُكتَشف كهوفه ومغاراته. مثلت لي تجربة القراءة في ساعات انتظار ابن العم أولا، ثم القراءة في الطريق مِن وإلى الكلية؛ ملاذا جعل ذلك الهدير الهائج من الأفكار والآمال والأسئلة التي لا حد لها تهدأ قليلا. ربما لن تنتهي أسئلة الإنسان ما دام يتنفس بتاتا ألبتة، ولن تنتهي أسئلة القرّاء خصوصا حتى ولو أتوا على كل الكتب منذ فجر التاريخ حتى يومهم ذاك؛ لكن القراءة تشذِّب الأغصان المتطاولة المائلة على الشارع، فتبقى الثمرة يانعة مفيدة للاستهلاك داخل سور العقل حتى وإن لم يظهر على تلك الشجرة أنها كثيرة الأوراق للمارة خلف السور، ثم ما نفع الأوراق إن كانت لا تؤكل ولا يُستفاد منها؟

بدأ جرس القطار يدق مؤذنا بتحركه، والنداء الأخير لركوب الطائرة يملأ المطار؛ هل سيتراجع ذلك الشاب الذي اكتشف لذة القراءة ومتعة المعرفة؟ أم سيكمل الطريق بوعورته ويكتشف أشجار الثمار وأشجار الزينة في غابة القراءة الشاسعة؟ كان أمام مفترق طرق ضبابي، والقافلة توشك على المسير. قررتُ المجازفة، وسلوك الدرب الشائك، طمعا في اللآلئ المتناثرة خلف الأجمات وفي ثنايا الالتفافات الحادة في جبال الفكر، بل وفي الكنوز التي وجدتها في ديوان شعري أو رواية ضاهت ما شعرت به لسنوات، هكذا تفعل القراءة فعلتها بضحاياها، تمتعهم وتقتلهم في آن.

بدأتُ رحلة الألف كتاب حينها، لكنني وبعد فترة وجيزة اكتشفت «الكتالوج» الخاص بالقراءة (لا يهم عدد الكتب التي تقرؤها، المهم ما تجنيه من تلك الكتب، والأهم أن تقرأ الكتب المفيدة النافعة بتأن وتروٍ وتَفَكُّر ولو أخذَتْ من وقتك ما يعدل قراءة عشرة كتب). هنا اكتشفت أن العدد وهم، ليس مهما أن تقرأ ألف كتاب ولا مليون كتاب؛ المهم ما تجنيه من تلك الكتب، العدد مهم حين تدرك -وفقط حين تدرك- ماذا تقرأ، ولماذا تقرأ. تفتح القراءة للمرء آفاقا جديدة، وأعتقد أن القراءة كالحب تماما. يعرّفها الشعراء، المفكرون، الفلاسفة، المتدينون، البوهيميون والعاديون، لكل امرئ تعريفه للحب وفق معارفه التجريبية أو التي تحصَّل عليها من مصادر أخرى، فهي واسعة جدا، لا محدودة، وغير مُتَّفَق عليها؛ لكن الجميع يتفقون بأنهما -الحب والقراءة- لا يدخل فيهما امرؤ، ويخرج منهما كما دخل، مهما كانت تجربتهما.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

جرمين عامر تكتب: الإنفلونسر.. إسفنجة المعرفة

هو ذاك الشخص الذى يعرف كل شىء عن كل شىء، ويكيبيديا متحركة، يعيش فى عالم موازٍ من الورق والكلمات، يتمتع بمهارة «الإسفنجة» فى امتصاص الحبر والكلمات ليُخرج لنا مزيجاً من المعرفة والعلم والحكمة، ويؤثر على جموع المتابعين عبر منصات السوشيال ميديا.

يطلقون عليه بالإنجليزية: «دودة كتب»، وبالإندونيسية «برغوث كتب»، وبالرومانية والإسبانية والبرتغالية «فأر المكتبة»، وبالألمانية «جرذ قارئ»، وبالفرنسية «شارب الحبر»، وبالدنماركية «حصان قراءة».

القراءة عنده مزاج مثل قهوة الصباح، يراجع الكتب وينشر المعرفة ويحفز المتابعين على القراءة والمناقشات الفكرية، ويحرص على الأمانة العلمية، فيذكر مصادر المعلومات.

زعموا أن المواطن العربى لا يقرأ، فجاء تقرير المؤشر العالمى للإنجاز الثقافى NOP World Culture Score Index الصادر عن شركة Statista الألمانية المتخصصة فى بيانات السوق والمستهلكين بالاشتراك مع صحيفة إندبندنت البريطانية 2021، ليؤكد بطلان هذه الادعاءات، لتحتل مصر المركز الخامس بمعدل قراءة بلغ 7:30 ساعة أسبوعياً، بينما جاءت السعودية فى المرتبة الـ11 بمعدل بلغ 6:46 ساعة أسبوعياً.

سبقت مصر والسعودية فى مؤشرات قراءة الشعوب كل من الهند فى المركز الأول وتايلاند فى المركز الثانى والصين فى المركز الثالث، فى حين جاءت الولايات المتحدة فى المركز الـ23 بمعدل 5:42 ساعة أسبوعياً.

مفاجأة مدهشة ومفرحة أكدتها زيادة عدد أعضاء نادى القراء المحترفين، وهى رابطة على فيس بوك تضم 150 ألف عضو، 80% منهم تتراوح أعمارهم ما بين 18 - 35 عاماً، وتجمع الرابطة بين جميع الأطراف القائمة على عملية القراءة بداية من الكاتب مروراً بالناشر ووصولاً للقارئ. وفى السبع سنوات الأخيرة، ظهر فى مصر عدد من الإنفلونسر «إسفنجة المعرفة»، اختاروا لأنفسهم مجال تلخيص الكتب، شاركوا قراءاتهم مع متابعيهم على وسائل التواصل الاجتماعى، ومن أشهرهم أحمد الغندور صاحب بلوجات «الدحيح».

عُرف أحمد الغندور أو «الدحيح» بمحتوى متميز وأسلوب يمزج بين المعرفة والعلم يقدمهما بروحه المرحة، يستخدم تقنية عرض الأفكار والمعلومات السريعة حتى يجذب المتابعين ويحافظ على يقظة ذهنهم، وأحياناً كثيرة يلجأ إلى أسلوب السرد القصصى والمشاهد التمثيلية القصيرة واستخدام الملابس والإضاءة حتى يقرّب الصورة أكثر وأكثر لذهن المتابعين.

كذلك الكاتب الصحفى عمر طاهر الذى يقوم بعرض وتلخيص الكتب بأسلوبه الساحر، وله عدد من البلوجات على السوشيال ميديا تحمل اسمه، ينتقد الكثير من الموروثات الثقافية فى المجتمع المصرى، ويعتمد على أسلوب السرد القصصى وعقد المقارنات.

ولأن الثقافة والمعرفة ينبوع لا ينضب، تشجع عدد من منصات السوشيال ميديا للدخول فى مجال تلخيص الكتب والتحفيز على القراءة ونشر المعرفة، فظهرت منصات مثل «كتبى» و«اقرأ معى» تعلن عن بداية مرحلة أكثر تطوراً. تسمح للإنفلونسر «إسفنجة المعرفة» بتقديم محتوى ومراجعات للكتب فى مجالات أكثر تخصصاً، مثل، صفحة «بيريف فرغيف» Brief X Rghif التى تخصصت فى تناول كتب التنمية البشرية وعلاقات العمل ونشر ثقافة العمل الجماعى.

وعلى رأى المثل الشعبى: «كل شيخ وله طريقة» تنوعت أساليب الإنفلونسر «إسفنجة المعرفة» فى مجال تلخيص الكتب واختيار مناهج العرض وتحديد الجمهور والشريحة العمرية المستهدفة استناداً على أرقام ومؤشرات المتابعين، فالبعض ركز على القضايا والأفكار الأساسية للكتب وعرضها بطريقة مبسطة وسهلة الفهم، فى حين يتبع آخرون من الإنفلونسر «إسفنجة المعرفة» أسلوب العرض والتلخيص المفصَّل للكتاب، ليعطى القارئ فكرة تفصيلية عن فصول الكتاب المختلفة وكأنه يقرأه بنفسه، ولكن بشكل موجز، وأحياناً يقوم «إسفنجة المعرفة» بتحليل أو نقد للكتب مع إضافة تعليق يتضمن رأيه الشخصى فيجعل تجربة العرض والمراجعة أكثر فاعلية بينه وبين المتابعين.

وتربَّع أسلوب السرد القصصى على قائمة تعددية أساليب عرض المحتوى للإنفلونسر «إسفنجة المعرفة» فيقوم المؤثر بتلخيص الكتب وعرضها بطريقة سردية تشبه القصة، ليشد انتباه الجمهور ويجعل الملخص أكثر متعة للمتابعين.

ولأننا نعيش عصر الصورة والفيديوهات كوسيلة أساسية للتواصل والتعبير عن الأفكار، وجد الإنفلونسر «إسفنجة المعرفة» فى مجال التلخيص البصرى، والإنفوجرافيك، والفيديوجراف، كذا البودكاست، ملعباً جديداً، يقدم من خلاله محتوى أكثر ديناميكية وجاذبية، بغرض الوصول إلى نوعية الجمهور الذى يفضل الاستماع أو المشاهدة بدلاً من القراءة، والأمثلة عديدة، منهم حسام هيكل، وأيضاً بودكاست «كتب خارجية» لعمر شمس الدين.

* عضو اتحاد الإعلاميين العرب

مقالات مشابهة

  • مجلس النواب ينهي مناقشة القراءة الثانية لمقترح تعديل قانون الاحوال الشخصية
  • بعد القرارات الجديدة لـ «التربية والتعليم».. أصحاب ‏المكتبات: الإقبال ضعيف على الكتب الخارجية والخاسر دور ‏النشر
  • حسن الجزولي: حينما ادعيت كاذبا أنني صاحب العربة وليس جمال محمد احمد
  • تنسيق الكلية التكنولوجية المصرية الألمانية بأسيوط 2024.. الأقسام والمصاريف
  • القراءة مع صديقٍ من الدرجة الثانية.. البابا فرنسيس متحدثاً عن الأدب
  • جرمين عامر تكتب: الإنفلونسر.. إسفنجة المعرفة
  • 14200 متطوعة يتولين تنظيم وتأمين واستقبال وخدمة ضيفات رسول الله في ساحة الكلية الحربية
  • خطوط السير للفعالية النسوية للمولد في الكلية الحربية .. صنعاء
  • المجلات والصحف الإلكترونية في العراق وتغيير عادات القراءة
  • كيف تسهم القراءة في تقليل التوتر والقلق