ذات يوم؛ وقبل أكثر من عقد كنت طالبا جديدا في الكلية، ولم تكن عندي رخصة قيادة فضلا عن امتلاكي لسيارة، ومما زاد الطين بلة أنني كنت قد دخلت في جمعيات مالية أهلية جراء الضغط الاجتماعي وبعض الأقارب والأقران، فهي أحلام زهرية (ستتخرج ويكون عندك وظيفة وتتزوج مباشرة أو تشتري سيارة جديدة بما جمعته من مبالغ)، وبسبب تلك الجمعيات -لا أتذكر فيم صرفت المبلغ، لكنني لم أتزوج بها قطعا- لم أتمكن حينها من استئجار مكان أريح فيه جسدي بعد يوم جامعي طويل.
حسنا، كان من الجيد أنني علمت أن ابن عمي يعمل على مقربة من الكلية، وكان من حسن الطالع أنه لا يزال أعزب بلا مسؤوليات تجعله لا يستطيع الوفاء بأخذي وردي معه لدى ذهابه وعودته من عمله. وافق ابن عمي إذن على أن أكون رفيقه اليومي في رحلته اليومية إلى مسقط البعيدة آنذاك. كان كل شيء يجري على ما يرام، لكن جدول الطلاب الجدد كان يشبه أحلام النائم عصرًا؛ فمحاضرة في الثامنة صباحا، تتلوها محاضرة في الخامسة عصرا، وما بين هاتين المحاضرتين؟ اللاشيء!. بدأت تلك السويعات تقتلني ضجرا؛ يا إلهي! سأنتظر كل هذا الوقت دون أن أجد خلاصا أو مهربا منه..
حينها، ولا أدري هل من حسن الطالع أم من شقاوة النفس أنني اخترت كتابا فكريا أقرؤه في تلك الفترة المضطربة جرَّاء ما يعرف بـ«الربيع العربي» وتداعياته. شرعت في القراءة إذن، وبشغف الحالم المنطلق إلى الحياة بصدر عار وكف صِفرٍ إلا من قلم وكتاب؛ قلتُ القراءة منقذتي!. لدى فراغي من قراءة الكتاب الذي كان سهلا في بعض أجزائه، موعرا في أجزاء أخرى، شعرت بنشوة لا تضاهيها نشوة. قلتُ، سأقرأ ألف كتاب!. نعم، فالطالب الذي كان يقرأ على فترات متباعدة كتابا هنا وآخر هناك، اكتشف أنه يستطيع قراءة الكتب في فترة وجيزة -مكره أخاك لا بطل- هروبا من التسكع مع الأقران المنفلتين أو هروبا من المقصف الكبير «الكانتين»، كي لا تأتي الساعة الخامسة وأشعر أنني نقعت ملابسي في قِدر مليء بالثوم والبصل وروائح مشكَّلة من المطبخ الذي كان يدير ذلك المقصف الجامعي. بل ربما كنت أهرب من المذاكرة!، فقد كانت بعض تلك الكتب تشبه من يريد خوض الحرب العالمية الثالثة بحِراب وسيوف مثلومة، كتب ومناهج عفا عليها الزمن وتجاوزتها المرحلة.
حسنا، مهما يكن السبب الذي دفعني لأن أشرع بالقراءة الجادة، فإنه -رغم وعورة الطريق- كان طريقا جديرا بأن يُسلك وتُكتَشف كهوفه ومغاراته. مثلت لي تجربة القراءة في ساعات انتظار ابن العم أولا، ثم القراءة في الطريق مِن وإلى الكلية؛ ملاذا جعل ذلك الهدير الهائج من الأفكار والآمال والأسئلة التي لا حد لها تهدأ قليلا. ربما لن تنتهي أسئلة الإنسان ما دام يتنفس بتاتا ألبتة، ولن تنتهي أسئلة القرّاء خصوصا حتى ولو أتوا على كل الكتب منذ فجر التاريخ حتى يومهم ذاك؛ لكن القراءة تشذِّب الأغصان المتطاولة المائلة على الشارع، فتبقى الثمرة يانعة مفيدة للاستهلاك داخل سور العقل حتى وإن لم يظهر على تلك الشجرة أنها كثيرة الأوراق للمارة خلف السور، ثم ما نفع الأوراق إن كانت لا تؤكل ولا يُستفاد منها؟
بدأ جرس القطار يدق مؤذنا بتحركه، والنداء الأخير لركوب الطائرة يملأ المطار؛ هل سيتراجع ذلك الشاب الذي اكتشف لذة القراءة ومتعة المعرفة؟ أم سيكمل الطريق بوعورته ويكتشف أشجار الثمار وأشجار الزينة في غابة القراءة الشاسعة؟ كان أمام مفترق طرق ضبابي، والقافلة توشك على المسير. قررتُ المجازفة، وسلوك الدرب الشائك، طمعا في اللآلئ المتناثرة خلف الأجمات وفي ثنايا الالتفافات الحادة في جبال الفكر، بل وفي الكنوز التي وجدتها في ديوان شعري أو رواية ضاهت ما شعرت به لسنوات، هكذا تفعل القراءة فعلتها بضحاياها، تمتعهم وتقتلهم في آن.
بدأتُ رحلة الألف كتاب حينها، لكنني وبعد فترة وجيزة اكتشفت «الكتالوج» الخاص بالقراءة (لا يهم عدد الكتب التي تقرؤها، المهم ما تجنيه من تلك الكتب، والأهم أن تقرأ الكتب المفيدة النافعة بتأن وتروٍ وتَفَكُّر ولو أخذَتْ من وقتك ما يعدل قراءة عشرة كتب). هنا اكتشفت أن العدد وهم، ليس مهما أن تقرأ ألف كتاب ولا مليون كتاب؛ المهم ما تجنيه من تلك الكتب، العدد مهم حين تدرك -وفقط حين تدرك- ماذا تقرأ، ولماذا تقرأ. تفتح القراءة للمرء آفاقا جديدة، وأعتقد أن القراءة كالحب تماما. يعرّفها الشعراء، المفكرون، الفلاسفة، المتدينون، البوهيميون والعاديون، لكل امرئ تعريفه للحب وفق معارفه التجريبية أو التي تحصَّل عليها من مصادر أخرى، فهي واسعة جدا، لا محدودة، وغير مُتَّفَق عليها؛ لكن الجميع يتفقون بأنهما -الحب والقراءة- لا يدخل فيهما امرؤ، ويخرج منهما كما دخل، مهما كانت تجربتهما.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
لم أكُن قطُّ طالبًا مجتهدًا!
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
قدم أحد أعظم الكُتَّاب الأحياء على وجه الأرض، الكاتب اليابانى العبقرى هاروكي موراكامي، سيرته الأدبية وخاصة فى الرواية، فى كتابه المهم "مهنتى هى الرواية"عندما سرد تجربته الشخصية،في حديثه عن المدارس كتب:
كان والداي معلِّمَيْن، وقد درَّستُ أنا عددًا من المقرَّرات في جامعاتٍ أمريكيَّة لكنِّي بصراحةٍ لم أحبَّ المدرسة في حياتي قطّ، ويؤلمني القول إنَّني حين أتذكَّر المدارس التي درستُ فيها، لا أجد الكثير من الذكريات السعيدة.. وقد اعتذر بذكاء بعدها واضعا بين قوسين كلمة (المعذرة)!
وأكمل حديثه بقوله: إنَّ مجرَّد التفكير في تلك المدارس يبعث فيَّ انزعاجًا شديدًا!.. على أيَّة حال، أتذكَّر أنِّي حين تخرَّجتُ أخيرًا في الجامعة شعرتُ بارتياح، وقلتُ في نفسي: "رائع! انتهتْ أيَّام الدراسة".. كأن حِملًا أُزِيل عن كاهلي.
وعاد بذاكرته إلى البدايات قائلا: بصراحة، منذ المرحلة الابتدائيَّة وحتى الجامعة، لم أكُن قطُّ طالبًا مجتهدًا!.. فالمدرسة الثانويَّة التي التحقتُ بها في «كوبي»، مدرسةٌ كبيرةٌ تضمُّ أكثر من ستِّمئة تلميذٍ في كلِّ صفّ.. لم أكن مُجِدًّا في دراستي لسببٍ بسيط، وهو أنَّ الأمر كان مملًّا.. لم أكن مهتمًّا بالدراسة، وكانت هناك أشياءٌ أخرى كثيرةٌ في هذه الحياة أمتع من الدراسة مثل قراءة الكتب، والاستماع إلى الموسيقى، والذهاب إلى السينما، والسباحة في البحر، ولعب البيسبول وغيرها.. في ذلك الوقت كانت القراءة بالنسبة إليَّ أهمَّ من أيِّ شيءٍ آخر. وغنيٌّ عن القول إنَّ هناك أطنانًا من الكتب أكثر إثارةً من أيِّ كتابٍ مدرسيّ.. وفي منتصف المرحلة الثانويَّة تقريبًا، بدأتُ أقرأ الكتب الإنكليزيَّة بلغتها الأصليَّة. لم تكن لغتي الإنكليزيَّة ممتازة، لكنِّي كنتُ أريد أن أقرأ الروايات بلغتها الأصليَّة، أو الكتب التي لم تُترجَم بعد إلى اليابانيَّة، ولذلك اشتريتُ كومةً من الكتب الإنكليزيَّة من محلٍّ لبيع الكتب المستعملة قرب ميناء «كوبي»، من تلك المحالِّ التي تبيع الكتب بالوزن، ورحتُ ألتهمها من الغلاف إلى الغلاف، حتى إن لم أفهم كلَّ شيء.. في بداية الأمر كان دافعي هو الفضول، لكنَّ القراءة بالإنكليزيَّة أصبحت بعد ذلك شيئًا أكثر ألفةً كما أظنّ، واستطعتُ أن أقرأ الكتب الإنكليزيَّة بسلاسة.. التهمتُ شتَّى أنواع الكتب في نهمٍ شديد، وكأنِّي أهيلُ الفحم على فرنٍ مشتعل... كنتُ منشغلًا في كلِّ يوم، أستمتع بكتابٍ تلوالآخر، فأهضمها (وفي كثيرٍ من الحالات لم أكن أهضمها جيِّدًا) حتى لم يَعُد لديَّ وقتٌ للتفكير في أيِّ شيءٍ آخر.. أخال أحيانًا أنَّ هذا كان أمرًا مفيدًا لي، فلو أنِّي كنتُ قد نظرتُ أكثر في الأوضاع حولي، وتفكَّرتُ مليًّا فيما بها من تناقضاتٍ وخداعٍ واصطناع، وانغمستُ فورًا في السَّعي إلى أشياءٍ لا يمكنني قبولها.. كما أنَّ القراءة الواسعة ساعدت في رؤية الأشياء من منظوراتٍ مختلفة، وأعتقد أنَّ هذا كان مهمًّا للغاية بالنسبة إليَّ في سنِّ المراهقة... فقد خَبِرتُ جميع العواطف التي صوَّرتْها الكتب وكأنَّها عواطفي أنا، وسافرتُ بخيالي عبر الزمان والمكان، ورأيت شتَّى المناظر المذهلة، وسمحتُ للكلمات بشتَّى أنواعها أن تمرَّ عبر جسدي تمامًا. وهكذا.. صار منظوري للحياة أكثر توليفيَّة، أو بعبارةٍ أخرى يمكنني القول إنَّني لم أكن أنظر إلى العالم من المكان الذي كنتُ واقفًا فيه فقط، بل استطعتُ أن أتراجع إلى الوراء قليلًا وأنظر نظرةً «بانوراميَّةً» أوسع...
وقال محدثا لمن يقرأ له: إن كنتَ تنظر دائمًا إلى الأشياء من منظوركَ وحدك، ستجد العالم يتقلَّص ويتيبَّس جسدك، وتثقل خطواتُك، وتعجز عن الحركة...لكنَّكَ إذا استطعتَ أن تنظر إلى مكان وقوفك من منظوراتٍ أخرى (أي إذا استطعتَ أن تستودع وجودك نظامًا آخر)، فسوف يصبح العالم بالنسبة إليكَ عالمًا ثلاثيَّ الأبعاد، وأكثر مرونة.. وبرأيي فإنَّ هذه الرشاقة في النظر مهمَّةٌ جدًّا ما دمنا نعيش في هذا العالم، وقد كانت هذه واحدةً من أكبر المكافآت التي وجدتُها في القراءة.