مخاطر بيئية تهدد عودة السودانيين لمنازلهم بأم درمان
تاريخ النشر: 25th, March 2024 GMT
تحضيرا لاستقبال السودانيين العائدين إلى منازلهم التي هجروها تحت وقع المعارك العنيفة التي استمرت لأكثر من 11 شهرا، شرعت حكومة الخرطوم بالتنسيق مع الجيش السوداني ووزارة الصحة والمنظمات والمتطوعين في إزالة الجثث من وسط أم درمان، ثاني أكبر مدينة في السودان.
وخضعت أجزاء واسعة من مدينة أم درمان مؤخرا للجيش بعد اشتباكات مستمرة مع قوات الدعم السريع التي كانت تسيطر على أم درمان القديمة ومقر الإذاعة والتلفزيون، وأظهرت الصور الملتقطة للمعارك سقوط أعداد كبيرة من القتلى، علاوة على دمار واسع لحق بالمواقع التي استهدفها الجيش بالمسيّرات في أثناء ملاحقته عناصر الدعم السريع.
وحسب ناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي، فإن ما لا يقل عن ألف جثة تم جمعها خلال الأيام الماضية في أحياء بأم درمان، بينما لم تصل الفرق الطبية والعسكرية لمواقع أخرى في أم درمان القديمة يتردد أن بها أعدادا كبيرة من الجثث المتحللة لقوات الدعم السريع، مما يفاقم من التلوث وانبعاث الروائح الكريهة.
ورغم التطمينات التي تسعى السلطات السودانية لبثها وسط المواطنين وتحفيزهم للرجوع بتأمين مواقع عديدة في أم درمان وإعادة قوات الشرطة والمرور الأسواق والمحال التجارية للعمل وفتح المصارف، فإن خبراء في البيئة أطلقوا تحذيرات جدية من خطورة تشجيع العودة للمناطق السكنية قبل اتخاذ حزمة تدابير تؤكد صلاحية المنازل والأعيان المدنية للحياة ومن دون تعريض العائدين لمخاطر جسيمة.
وتتلخص المخاوف البيئية من التلوث الحاد الذي لحق بالمواقع التي شهدت مواجهات ضارية استخدمت خلالها جميع أنواع الأسلحة المميتة بنحو يتطلب آليات لقياس مستوى السموم التي لحقت بالهواء والأرض والمياه قبل استقبال المواطنين وعودة الحياة لطبيعتها.
ويتحدث الخبراء عن تشبع الهواء بتفاعلات الرصاص والقذائف الكثيفة التي أطلقت في سماء العاصمة لعام كامل، علاوة على تدمير واسع أصاب المعامل والمختبرات في المستشفيات والكليات الطبية، وجميعها كانت تحتوي على عينات لبكتيريا وفيروسات محفوظة بمواصفات علمية محددة، لكنها فسدت بفعل انقطاع التيار الكهربائي وتسربت وباتت مهددا صحيا وبيئيا في غاية الخطورة.
وطبقا لشهادات حصلت عليها الجزيرة نت من عائدين إلى أم درمان القديمة لتفقد منازلهم بعد سيطرة الجيش، فإن تراكم الجثث وتزايد الكلاب والقطط الضالة أدى لوضع بيئي كارثي تصعب معه عودة الأسر والحياة بشكل طبيعي، وتحدثوا عن انبعاث الروائح وتهدم جزئي لبعض المنازل بما يهدد ما تبقى، إلى جانب تناثر القذائف غير المتفجرة داخل المنازل وفي عديد من المواقع التي اتخذتها قوات الدعم السريع مقرا لعملياتها القتالية.
وبجانب الوضع البيئي المتردي، يواجه العاملون في القطاع الصحي مهددات أمنية، إذ دانت وزارة الصحة -في بيان- استهداف قوات الدعم السريع هذا الأسبوع فريقها الذي كان يعمل على جمع الجثث قرب مستشفى التجاني الماحي بأم درمان، مما أدى لمقتل سائق عربة الطوارئ وإصابة آخرين.
وضع كارثيمن جانبه، يصف الخبير في شؤون البيئة البروفيسور طلعت دفع الله الوضع في أم درمان القديمة بالكارثي، ويرى في حديثه للجزيرة نت أن الدعوات لعودة السكان من دون تخطيط وتوفير الخدمات فيها زيادة للمعاناة، ولن تجد آذانا صاغية.
ويتابع "الوضع البيئي كارثي، ليس فقط بسبب مخلفات الموتى ولكن من مخلفات القذائف والرصاص، فهناك تلوث في الهواء والمياه وتلوث ضوضائي جراء أصوات المدافع القذائف وحركة المسيرات، إضافة إلى آثار أخرى لم يتم رصدها بطريقة مهنية لانعدام الأمن".
ويشدد دفع الله على أهمية تحرك منظمات المجتمع المدني حال استتباب الأمن وأن تتضافر جهود الأجهزة الرسمية لنظافة المخلفات والتخلص من بقايا المخلفات العسكرية وتوفير الكهرباء والمياه وخدمات الاتصال، وتهيئة المؤسسات التعليمية والخدمية والصحية، ومن ثم الدعوة للعودة وبطريقة منظمة.
وتطرق الخبير البيئي إلى التدمير الذي طال المستشفيات المحتوية على العينات المعملية والمواد الخطرة والآثار الوخيمة المترتبة على ذلك، علاوة على تدمير التصريف الصحي بجانب تسرب الإشعاعات التي قال إنها لم تحصر بعد لعدم وجود الأجهزة والكوادر المدربة، لافتا إلى أن انقطاع الكهرباء والمياه تسبب كذلك في تلوث كبير أصاب حتى الأغذية.
ويضيف أن "الوضع يحتاج إلى خطة طوارئ عاجلة للرصد العلمي الدقيق للآثار، وإشراك ذوي الاختصاص والجهد الرسمي والشعبي ممثلا في منظمات المجتمع المدني كأذرع مهمة داعمة للعمل الرسمي، خاصة منظمات الأمم المتحدة والمنظمات الأخرى التي بها كوادر مدربة للتعامل مع هذه الحالات".
ولا يغيب الوضع بخطورته هذه عن المسؤولين في وزارة الصحة الاتحادية، إذ يؤكد مسؤول رفيع في الوزارة للجزيرة نت الانتهاء من إعداد خطة متكاملة للتعامل مع الأوضاع في المستشفيات والمختبرات عبر لجنة الطوارئ الصحية، مشيرا إلى أن الخطة أجيزت باللجنة العليا للإسناد برئاسة والي الخرطوم وبدأ تطبيقها الخميس الماضي.
تحوطات واجبةفي السياق، ينصح الأستاذ والباحث في قضايا البيئة والكيميائيات الخطرة الفاتح يسن بأن تكون عودة المواطنين تدريجية بعد التأكد من صلاحية المواقع وفحصها على يد فرق متخصصة من سلاح المهندسين، للتأكد من عدم زراعة ألغام حول المساكن والأحياء، وأن تعمل فرق من سلاح الكيمياء على البحث عن احتمالات وجود مواد مشتعلة وقذائف غير متفجرة في المنازل والأعيان التي كان يقيم فيها عناصر المليشيا، كما يجب نشر أفراد من شرطة الدفاع المدني للتأكد من صلاحية المباني وعدم تعرضها للانهيار وسلامة خطوط الكهرباء وغيرها.
ويشدد يسن، في حديثه للجزيرة نت، على ضرورة إجراء قياسات لجودة المياه والهواء ويتحدث عن أن دخول فصل الصيف يمكن أن يكون عاملا حاسما في تنقية الأجواء من الميكروبات، لكنه لا يمنع الاحتياط بالتعامل مع الواقع.
وبشأن التعامل مع الجثث، يرى الباحث ضرورة أن تتم عمليات الجمع في الصباح الباكر، وأن يتم الدفن بشكل جماعي وفي مكان خال من الملوثات الكيميائية ومن الزراعة والمياه والنفايات العضوية، وأن تحاط المقبرة بمواد عازلة من الجهات الأربع وتحتوي مستقبلا لعصارة الجثث لمنع التلوث والتسرب للمياه الجوفية وللأرض نفسها.
وينوه يسن في هذا الاتجاه إلى أن توقف شبكات المياه عن الضخ لفترة طويلة يجعلها معرضة للبكتيريا والطحالب بما يستوجب زيادة جرعات التعقيم عند إعادتها للعمل.
معضلة الكلابوإلى جانب الوضع البيئي المثير للقلق، تبرز مشكلة الكلاب والقطط التي اتخذت من الجثث المتناثرة طعاما على مدى 11 شهرا، وهو ما يجعل احتمالات إصابتها بمرض السعار مرجحا لحد كبير، ويثير وجودها وسط الأحياء السكنية قلقا بالغا بعد أن تحولت إلى حيوانات متوحشة، ويقول خبراء إن جيلين من الكلاب والقطط التي ولدت في أشهر الحرب الطويلة لم يألفوا البشر، واستطعمت أعضاء بشرية بما يعضد فرضية مهاجمتها العائدين إلى منازلهم.
ويقترح الباحث الفاتح يسن -في هذا السياق- استعمال مصائد ضخمة لجذب الكلاب الضالة وتعقيم أماكن وجودها وقتل المتوحش منها، ثم دفنها بعيدا عن مصادر المياه والزراعة.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: رمضان 1445 هـ حريات قوات الدعم السریع أم درمان القدیمة فی أم درمان
إقرأ أيضاً:
الدعم السريع ترقص في احتفال على الجماجم والأشلاء
تحصد آلة القتل الفتاكة لمليشيا الدعم السريع أرواح الأبرياء من المدنيين والأهالي البسطاء في قرى ولاية النيل الأبيض بوسط السودان وتُسيل دماءَهم بالرصاص والقذائف المضادة للدروع التي يطلقها عليهم بصورة عشوائية جنودُ مليشيا الدعم السريع بلا رحمة وبلا تفريق بين كبار السنّ والنساء والأطفال والمرضى وذوي الاحتياجات الخاصة.
ويقول بيانٌ صادرٌ من وزارة الخارجية السودانية الثلاثاء 18 فبراير/ شباط، إن 433 مدنيًا، بينهم أطفال رضّع لقوا مصرعهم في هجمات لمليشيا الدعم السريع على قرى بولاية النيل الأبيض، فيما وصفته (بأسلوب المليشيا المعتاد في الانتقام من المدنيين العزّل في القرى والبلدات الصغيرة).
بينما تحدث هذه المشاهد المأساوية الموغلة في القتامة والبشاعة والفظاعة والفظاظة والغلظة والقسوة، يبدو مشهد سوداني آخر نقيضًا لذاك المشهد المأساوي، تدور أحداثه على خشبة مسرح آخر خارج حدود الدولة السودانية المثخنة بجراح حرب ضروس، أوقعت عشرات الآلاف من القتلى ومئات الآلاف من المصابين والمفقودين، وملايين النازحين داخل السودان، ومثلهم من اللاجئين خارج السودان.
المشهد الآخر الذي تتزامن أحداثه مع تلك الأحداث الدرامية الدامية في ولاية النيل الأبيض، هو مشهد ثُلة من السياسيين وزعماء أحزاب سودانية في منافيهم الاختيارية خارج البلاد من الموالين لمليشيا الدعم السريع والمناصرين لها سياسيًا بزعامة (حمدوك)، وهم يرقصون داخل إحدى قاعات المؤتمرات الأنيقة في كينيا، وهم مبتهجون ويهتفون فرحين بشعارات وأهازيج تمجد قائد مليشيا الدعم السريع المعروف بحميدتي الذي ارتكبت قواته تلك المجازر البشعة، وتسببت في أسوأ حرب شهدها السودان في تاريخه الحديث، من أجل الوصول إلى السلطة.
إعلانيرقص هؤلاء ويتمايلون على أنغام وألحان وأغانٍ تنبعث من بين أركان القاعة الأنيقة فرحًا واحتفاءً بما يرونه إنجازًا تحقق تتويجًا لثلاثة وعشرين شهرًا من القتل وسفك الدماء وانتهاك الأعراض والتهجير القسري وتدمير البنى التحتية، التي ارتكبت بحق مواطنيهم وأهليهم بيد حليفهم العسكري؛ الدعم السريع.
إنه (الميثاق السياسي) المحتفى به والإنجاز الذي كان مهرُه عشراتِ آلاف الجماجم والأشلاء وأنهارًا من الدم المسفوح ظلمًا بغير حق، وأحزانًا متراكبة بعضها فوق بعض تئن بها صدور ذوي الضحايا من الثكالى والأرامل واليتامى والحرائر اللاتي فقدن أغلى ما يملكن على أيدي وحوش وذئاب في ثياب بشر أتوا كما قالوا كذبًا وزورًا من أجل جلب الديمقراطية والحكم المدني بزعمهم.
الميثاق السياسي المحتفى به والذي تأجلت مراسم التوقيع عليه، سيصبح أساسًا ومرجعية لتشكيل حكومة موازية للحكومة القائمة التي عجزوا عن إزاحتها ونزع الشرعية عنها بقوة السلاح طوال أشهر الحرب، وهذا هو مبعث فرحهم وابتهاجه.
فبعد أن كان الهدف حكم السودان كله من شرقه إلى غربه، ومن شماله إلى جنوبه، انكمش هذا الهدف وتقلص ليصير مجرد حكومة افتراضية كل وزرائها خارج حدود السودان، حكومة (جوالة) بلا أرض وبلا جماهير، حكومة وزراؤها بلا أعباء حقيقية، أيديهم ملطخة بدماء الضحايا، ولا تستطيع أقدامهم أن تطأ أرض السودان خوفًا وخشية ورهبة من مصير معلوم.
حكومة موازية بلا مقاعد في المحافل الإقليمية والدولية ولا تحمل هوية ولا تاريخًا ولا ثقافة، حكومة مصنوعة وسياساتها معلّبة تخدم مصالح صانعيها ولا شأن لها بمصالح السودان وشعب السودان.
إنها متلازمة حبّ السلطة حتى وإن أتت على الجماجم والأشلاء وأنين الضحايا، لا يهم ما دامت أنها تأتي، حتى وإن جاءت محمولة على أكف أيادٍ أجنبية مردت وتمرّست على نشر الخراب والدمار والموت حيثما حلّت، فأصبح ذاك شغلها الشاغل ومهنتها التي تدفع في سبيل مزاولتها أموالًا طائلة كان يمكن أن توجّه نحو الإعمار والتنمية والبناء والازدهار، فتقوى بها صلات القربى وتوثّق عُرى الأخوّة وروابط حسن الجوار .
إعلانإن أكثر الأسئلة إلحاحًا وإلحافًا والتي تدور في أذهان السودانيين الذين تلاحقت عليهم الأرزاء، وتكالبت عليهم المصائب والمحن جراء هذه الحرب المصنوعة القادمة من وراء الحدود، ولا يجدون لها جوابًا، هي: لماذا كل ذلك؟ .. ولا جواب.
ما هي الجناية التي اقترفتها أيديهم في حق أولئك الذين يصدرون لهم الموت والدمار والخراب؟
هل من المعقول أن يكون كل ذلك من أجل التسلية؟
هل من المعقول أن يكون كل ذلك من أجل (لا شيء)؟!
ولا جواب..
ولربما الفاعل نفسه لا يعرف الجواب.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outline