الاست قائد الثورة السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي في محاضرته الرمضانية الثانية عشرة: قام الجانب الإيماني فيه أشياء كثيرة تساعد الإنسان على الاستقامة من رعاية الله سبحانه وتعالى إلى الأثر العظيم في رشد الإنسان ووعيه
تاريخ النشر: 25th, March 2024 GMT
الاستقامة في واقع الحياة تجعلك بعيداً عن الكثير من المزالق لأن مما يؤثر على الناس هي الأجواء التي توجد فيها خطوات للشيطان
الثورة /
أَعُـوْذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللَّهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.
الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمْ.
أيُّهَا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَات:
السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
نواصل الحديث على ضوء الآيات المباركة من (سورة الأعراف)، والتي ذكر الله فيها قصة آدم «عَلَيْهِ السَّلَام»، وتضمنت الكثير من الدروس والعبر المهمة، وعلى ضوء الآيات التي تحدثنا عنها بالأمس، يتبين لنا أن الشيطان- لعنه الله- يعتمد أسلوب الخداع للإنسان، وهو لا يعلم الغيب، الشيطان عندما يستهدف الإنسان، هو لا يعلم الغيب بالنسبة للإنسان، ولا يعلم ما يُسِّره الإنسان، ولكنه في وسوسته للإنسان يركِّز أولاً على ما هو معروفٌ عن الإنسان في غرائزه وشهواته، ورغباته الغريزية المعروفة عن الإنسان، وأيضاً يركز على واقع الإنسان؛ لأن الإنسان في واقعه، وظروف حياته، ومشاكله، واهتماماته، تظهر الكثير من أموره، مشاكله يظهر فيها ما هي الثغرات التي يمكن أن يَنْفُذ إليه من خلالها، كذلك الاهتمامات تتجلى في واقع الإنسان العملي، فيما يقوله وفيما يعمله، وهكذا يظهر الكثير من حال الإنسان، في أعماله، في أقواله، في اهتماماته، في أوضاعه، والشيطان يحاول أن يبحث عمَّا هي الطريقة التي يؤثِّر بها على الإنسان، فقد يشتغل على جوانب معينة، فلا يجد أنها مثَّلت ثغرةً على الإنسان، ويجد أنه لم يستطع التأثير عليه من خلالها، فيبحث عن وسيلة أخرى، عن طريقة أخرى؛ ولذلك عندما قال: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}[الأعراف: الآية17]، بمعنى: أنه سيبحث من جوانب متعددة، وهذا- كما ذكرنا سابقاً- تكتيكٌ من تكتيكات الشيطان، هو يركز على البحث المتكرر والمحاولات، ويطرق- كما يقال- كل الأبواب، يعني: يبحث من جهة معينة هل يستطيع التأثير عليك من خلالها، لم يستطع، فهو لم ييأس بعد، يبحث عن طريقة أخرى، قد لا ينجح في ظرف معين، فيبحث عن ظرف آخر؛ لأن أحوال الإنسان تختلف، بين يسرٍ، وعسرٍ؛ وسقمٍ، وصحةٍ؛ وغير ذلك، ورضى، وسخط؛ وغضب، وارتياح… وهكذا.
فهو على مستوى أحوال الإنسان قد يبحث عن الحالة التي يمكنه التأثير فيها على الإنسان أكثر، وظروف الإنسان ومشاكله، قد يحاول أن يجرِّب هنا، أو هنا، أو هنا، وهكذا، فإذا وجد ثغرةً على الإنسان حاول أن يستغلها إلى أقصى حد، الثغرة التي وجدها على أبينا آدم «عَلَيْهِ السَّلَام» وأُمِّنا حواء «عَلَيْهَا السَّلَام»، هو حاول أن يستغلها إلى أقصى حد بالنسبة لهما.
وقد يجد في واقع البعض من البشر أنه لا يستطيع التأثير عليهم في الإيقاع بهم نحو الفجور، والجرائم، والمفاسد الأخلاقية؛ لأنهم من ذوي التوجه الديني الجاد، فيحاول أن يلعب عليهم في اتجاههم الديني نفسه، إمَّا بالرياء، أو العجب، أو تلك الآفات التي تضرب القيمة الإيمانية للدين نفسه، لما تمارسه من الدين، لما تقوم به من الدين، لعباداتك، لأعمالك الصالحة، يوجِّه إليها ضربة كبيرة جداً بالرياء وبالعجب.
أو بالمحبطات، تنفق، والإنفاق فيه أجرٌ عظيم، ثم يدفعك إمَّا للرياء في ذلك، أو العجب في ذلك، أو أن تتبع ما أنفقت مناً، أو أذىً، أو غير ذلك، هكذا بقية الأعمال الصالحة.
أو يدفع بالبعض للتعبد بالضلالة، أو بالابتداع في الدين، أو بالغلو في الدين، أو بالقول على الله بغير علم، أو بالافتراء على الله كذباً، واحتساب ما ليس من دينه عليه، أو بتحليل ما حرَّم الله، أو بتحريم ما أحلَّ الله، أو غير ذلك، فهو يحاول أن يتَّجه إلى الإنسان من أي جهة.
أمَّا من يستميلهم بالشهوات والإغراءات، فهو يوقع بهم من خلال ذلك، وكثيرٌ من الناس يوقع بهم من خلال ذلك. البعض من خلال غضبهم، ثغرة الشيطان عليهم هي غضبهم وانفعالهم، وكثيرٌ من الجرائم، خاصةً جرائم الظلم، جرائم البطش، جرائم الجبروت، جرائم التعدي، جرائم كثيرة تأتي في حالات الغضب والانفعال، وهكذا، الأحوال المختلفة التي قد يستغلها الشيطان للإيقاع بالإنسان.
وصلنا إلى قول الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا}[الأعراف: من الآية23]، بعد أن أوقعهما في خطر المخالفة للنهي، الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» نهاهما أن يقربا تلك الشجرة، فبمجرد أن ذاقا من تلك الشجرة، وقعا في المشكلة، وأدركا أنهما وقعا في مشكلة كبيرة عندما جُرِّدَا حتى في تلك اللحظة من كل شيء، جُرِّدَا حتى من ملابسهما التي في الجنة، وشعرا أن الشيطان وجَّه لهما ضربة، سعى من خلالها لتجريدهما مما منحهما الله إياه من ذلك النعيم والعيش الرغد، وأيضاً على المستوى المعنوي، على المستوى المعنوي شعرا أنه ورَّطهما وخدعهما.
والشيطان هو يسعى في استهدافه للإنسان هو يسعى لأن تخسر أنت كإنسان، يريد أن يوقعك في الخسارة، وأن يجرِّدك مما منحك الله إياه، وأن يهبط بك عن مرتبة التكريم، التي كرَّمك الله بها، وأن يوجِّه إليك ضربة معنوية؛ ليشعرك بأنه استغفلك، وأنه أوقع بك، وأنه ورَّطك، يريد أن يُحِطِّمك معنوياً، وأنه- بحسب التعبير المحلي- [ضحك عليك]، وأن إرادتك ضعيفة، يريد أن يشعرك بالضعف، والعجز، والهزيمة، وأنه استغفلك، وأنه ورَّطك، فهو يسعى من كل الاتجاهات، يعني: يسعى إلى أن يوقعك في الخسارة، وأن يجردك مما منحك الله إياه، وأن يهبط بك عن مرتبة التكريم، وأن يشعرك بالضعف والعجز، وأن يشعرك بتفوقه عليك، أنه استغفلك، وحطمك، وأوقع بك… وهكذا، يريد أن يعيش نشوة الانتصار عليك.
فهما في تلك اللحظة، وهي لحظة صعبة عليهما، لحظة يشعران فيها بالخجل من الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، أنهما خالفا نهيه، ويتذكرا فيها أن الله قد حذَّرهما من عدوهما الشيطان الرجيم، ويعيشان التجربة: ما هو الفارق الكبير جداً بين الوهم الشيطاني، في أنَّ الأكل من تلك الشجرة يرتقي بهما ارتقاءً كبيراً، ليكونا مَلَكَيْن، وليكونا من الخالدين، وليحصلا على مُلكٍ لا يبلى، إلى أن يُجْرَّدا من كل شيء، هذا هو الفارق الحقيقي بين الوعد الإلهي والوهم الشيطاني:
الشيطان يقدم للناس وهماً وغروراً: {وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا}[النساء: من الآية120].
أمَّا الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» فيعدنا الوعد الحق، ويُنعم علينا بالنعم، ويُقَدِّم لنا ما يسمو بنا، يسمو بنا في إنسانيتنا، نرتقي، نحظى بالتكريم، نحظى بالقيمة الإنسانية والمعنوية العالية.
فهما في تلك اللحظة- وهي لحظة صعبة- جُرِّدا من كل شيء، والله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» ذكَّرهما في تلك اللحظة التي هما فيها، في حالة الخجل من الله، والحياء من الله، والندم الشديد على ما وقعا فيه، وشعورهما بأنهما انخدعا للشيطان، وليمينه الكاذبة، حينما حلف لهما اليمين الكاذبة، وغير ذلك، فهما أنابا إلى الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، ورجعا إلى الله.
{قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[الأعراف: الآية23]، تابا إلى الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، والله هداهما للتوبة، ولما يقولانه ليتوبا إلى الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، مثلما سبق في (سورة البقرة): {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}[البقرة: الآية37]، فهما رَجِعَا إلى الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» وهما يشعران بالندم، وبالتقصير، وبالخطأ، يعترفان بالخطأ، وهذا من التوبة: الندم الشديد على المخالفة، وأيضاً الاعتراف بالخطأ والتقصير، وفي نفس الوقت العزم على عدم العودة إلى المخالفة، {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا}؛ لأن الإنسان يظلم نفسه.
الإنسان بالمعصية هو لا يضر الله بشيء، هو يظلم نفسه، وما يترتب على المخالفة والمعصية من آثار وأضرار، تتحقق ابتداءً من لحظة وقوع الإنسان في المخالفة أو المعصية، فمثلاً: في واقعهما منذ أن وقعا في المخالفة، كان لذلك آثار وأضرار مباشرة على حياتهما؛ ولذلك لا يكون ما بعد المخالفة كما قبلها، وفي واقع الإنسان ليس ما بعد المعصية كما قبلها، على المستوى النفسي: الإنسان يتأثر على المستوى النفسي، ثم في واقع حياة الإنسان، الإنسان يتأثر في واقع حياته، المعاصي لها تأثيرات مباشرة على حياة الإنسان، وآثار سلبية مباشرة على حياة الإنسان، وهما لاحظا أنهما دخلا في مرحلة جديدة، ووضع مختلف تماماً عمَّا كانا عليه.
{قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}، وهما يدركان أن الخسارة ستكون بدون المغفرة والرحمة أكبر من خسارة تلك الفرصة، أو من خسارة ما كانا فيه في تلك الجنة، وفعلاً الإنسان يتعرض لمخاطر كبيرة في خسارته، قد تكون خسارة الكثير- وحتماً هي خسارة الكثير من الناس- أن يخسرا رضوان الله، أن يخسرا المكاسب الإيمانية في هذه الحياة على المستوى النفسي، وعلى مستوى الحياة الطيّبة، اللائقة بالإنسان كإنسان، وأن يخسر الإنسان رضوان الله في الجنة، كثير من الناس خسارتهم هي بهذا الحجم، يخسرون المكاسب الإيمانية للإنسان في هذه الحياة، على المستوى النفسي، وفي حياته الطيِّبة، وفي مستقبله في الآخرة: رضوان الله، والجنة، والسلامة من عذاب الله، من جهنم والعياذ بالله، فالخسارة هي الثمن الحتمي للمعصية، والنتيجة المترتبة عليها حتماً، فهما أنابا إلى الله بوعي، وندم، وشعور بالتقصير، وشعور بمخاطر المخالفة، والله تاب عليهما، ونجد أنهما كلاهما توجها إلى الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» مُعْتَرِفَين معاً بالمخالفة، وطَالِبَين للمغفرة والرحمة.
ولذلك لا صحة أبداً لما هو عند اليهود من مزاعم وتحريفات: أنَّ حواء «عَلَيْهَا السَّلَام» هي التي قامت بالدور المباشر في الإغواء لآدم، والإقناع له بالمخالفة، وأنَّ الشيطان عندما عجز عن التأثير على آدم تحوَّل إليها، فأثَّر عليها وأقنعها، ثم قامت هي بإقناع آدم، والإيقاع به في المخالفة. ليس ذلك صحيحاً، هو من خرافات اليهود، وهم قدموا في فلسفتهم، وفي رؤيتهم، وفي ثقافتهم، نظرة ورؤية عن المرأة غير مناسبة أبداً، نظرة مسيئة للغاية إلى المرأة وإلى دورها، واشتغلوا بناءً على ذلك، حتى في مساعيهم الدائمة لإغواء المرأة، والاستغلال لها لإغواء المجتمعات الأخرى، يعود ذلك إلى رؤية فاسدة لديهم وباطلة.
في واقع الحال، وفي كل موارد القصة في القرآن الكريم، يتجلَّى بوضوح أنَّ الشيطان ركَّز عليهما في الوسوسة لهما، وسوس لهما، هنا يقول: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ}[الأعراف: من الآية20]، وسوس لهما معاً، أقسم لهما معاً، ووقعا معاً في المخالفة، وتابا معاً إلى الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، ورجعا إلى الله، وغفر الله لهما كذلك.
بعد هذه المغفرة لم تعد المسألة كما كانت، حتى بعد المغفرة لهما من المخالفة، لم يبقَ وضعهما كما كان سابقاً؛ لأن الآثار المترتبة على المخالفة قد أصبحت لابدَّ منها، {قَالَ اهْبِطُوا}، الله قد غفر لهما فيما يتعلق بالمخالفة من جهة، لكن في بعضٍ من آثار تلك المخالفة، الآثار المترتبة عليها في الواقع، والظرف الذي هما فيه ستحصل، وهو الهبوط من تلك الجنة، والخروج منها.
{قَالَ اهْبِطُوا}، هذه المرَّة يأمرهم بالهبوط جميعاً، يأمر آدم وحواء، ويأمر الشيطان أيضاً، الشيطان طُرِد أولاً من بين الملائكة، بعدما طرد من بين الملائكة، وسكن آدم وزوجه حواء الجنة تلك، اتجه إليهما؛ بهدف الإغواء لهما، والإيقاع بهما في المخالفة للنهي الإلهي من أن يقربا تلك الشجرة، ثم طُرِد معهما من هناك، وجوده هناك بالنسبة له لم يكن فيه لا تكريمٌ له، ولا نعيمٌ له؛ لأن ظروفه، طبيعته، تكوينه، طريقة حياته تختلف عن الإنسان أصلاً؛ ولذلك ما هو نعيمٌ للإنسان ليس هو في نفسه نعيمٌ له هو؛ باعتباره من الجن.
{قَالَ اهْبِطُوا}، الكل، {قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ}[الأعراف : 24]، أصبحت مسألة العداوة مسألة لا فكاك منها؛ لأن الشيطان هو في واقع الحال عدوٌ مُبِينٌ، بَيِّنُ العداوة، شديد العداء، وحاقدٌ جداً لآدم وحواء، ولذريتهما، فهبوطهم من تلك الجنة التي كانا فيها إلى الوضع العادي في الأرض، ليواصل آدم وحواء حياتهما، ويبدأا مشوارهما فيما بعد، في التناسل والذرية وغير ذلك، مما تطورت به واتسعت به ظروف حياتهما مع ذريتهما، لكن أصبح هذا الوجود مقترناً بهذا الصراع: صراع بين الخير والشر، صراع بين آدم وذريته مع الشيطان، ومع الشياطين الذين يوالون الشيطان ويتجهون معهم، أصبح الصراع حتمياً، أصبح جزءاً من الواقع، أصبح لا مفر منه ولا مناص منه؛ لأن الشيطان هو يحمل عقدةً شديدةً وعداوةً شديدة للإنسان كإنسان.
{بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ}، عداءٌ ليس فيه مصالحة، وليس فيه هدنة، وليس له وقتٌ محددٌ فقط، بل يستمر ما دامت الحياة هذه موجودة، وما دام الإنسان موجوداً، وليس فيه حياد، هذا العداء لا يمكن لأحدٍ من البشر أن يعلن الحياد، يقول: [أنا لن أكون مع أبي آدم، ومع الاتجاه البشري الذي يعاديه الشيطان]، ويريد أن يتصالح- مثلاً- مع الشيطان أو يحايد، لا حياد في هذا العداء، ولا مصالحة، ولا هدنة، عداءٌ مستمر، والشيطان يباشر استهدافه للإنسان، الإنسان إذا غفل، وتجاهل هذا العدو، وترك المجال لهذا العدو؛ إنما معنى ذلك: أنه يمكِّن ذلك العدو منه، ومن التأثير عليه. الشيء المهم في هذا العداء: أنَّ مفتاح النصر، أو الهزيمة، موجودٌ لدى الإنسان، إمَّا أن يتَّجه الاتجاه الصحيح، ويتولى الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، ويكون في إطار ولاية الله، ويتحصن في موقع الإيمان، وهذا سيساعده على الانتصار، وعلى هزيمة الشيطان؛ وإلَّا فهو معرضٌ للهزيمة، وهزيمة خطيرة جداً، {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ}.
{وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}[الأعراف: من الآية24]، الأرض هي مستقركم، وفيها حياتكم، وهذا إلى حين، إلى أجلٍ معيَّن؛ لأن الإنسان جاء إلى هذه الحياة، وعلى أساس وجود مؤقت، وحياة مؤقتة، وإلى أجلٍ مسمى، إلى أجلٍ مسمى، فالوجود على هذه الحياة هو لفترة معينة، والأرض هي ميدان هذا المعترك بين الإنسان والشيطان، وبين الخير والشر، في واقع الإنسان نفسه، {مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}، إلى زمن معيَّن ينتهي ثم تنتهي هذه الحياة.
{قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ}[الأعراف: من الآية25]، في هذه الدنيا، في هذه الأرض، في هذه الأرض حياتكم، ومستقركم، ومعيشتكم، وتعيشون فيها المسؤولية، وتعيشون فيها هذا المعترك مع عدوكم الشيطان الرجيم، {وَفِيهَا تَمُوتُونَ}[الأعراف: من الآية25]، فالإنسان يحيا في هذه الأرض، ويموت فيها، {وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ}[الأعراف: من الآية25]، يوم القيامة، تُخرَجُون من تربتها للحساب والجزاء، ثم تخرجون منها إلى دار الجزاء، فهي لحياتكم، ولمماتكم، ولحسابكم، ولبعثكم ونشوركم.
وهبط آدم واستقر في هذه الحياة هو وحواء «عَلَيْهَا السَّلَام»، استقرا في الأرض، وقد أخذا تجربةً مريرة، تجربةً جعلتهما في حالة من اليقظة، والانتباه، والحذر الشديد من الشيطان الرجيم، ولكن الشيطان اتَّجه إلى ذريتهما، لم يعد لديه فرصة، هو أوقعهما في مخالفة في مستوى معين، في ظروف، وملابسات معينة، وخداع، ولم يكونا قد أخذا تجربة، وتفاجأا بيمينه، لم يتوقعا أن يحلف يميناً فاجرة، فكانا منه فيما بعد ذلك على حذرٍ تام، وهو اتَّجه إلى ذريتهما؛ ولهذا يتوجَّه الخطاب لذريتهما: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}[الأعراف: الآية26].
في الوقت الذي يحاول الشيطان أن يجرِّد بني آدم مما منحهم الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» من النعم، ومن التكريم، ومن المكانة المعنوية، ومن القيمة المعنوية، ويحاول أن يكون الإنسان بشكلٍ مخزٍ، ومفضوح، ومحطم، وبائس، وسيء، هي الصورة التي يريد الشيطان أن يراك عليها: أن يراك كإنسان محطماً، قد فقدت القيمة المعنوية، هبطت عن مرتبة التكريم، بائساً، ضعيف الإرادة، وأن يراك منغمساً في المفاسد، والأشياء الدنيئة، التي تهبط بك عن كرامتك وقيمتك الإيمانية والإنسانية، فالله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» قد أنعم على بني آدم بما فيه سترهم، وجمالهم، ووقايتهم، وكرامتهم؛ ولذلك نجد أنَّ الشيطان حتى في استهدافه لآدم وحواء يريد أن يجرِّدهما من كل شيء، حتى من الملابس، من المرتبة التي هما فيها في التكريم، من ذلك النعيم، والحياة الطيِّبة والمريحة، وهو يسعى بنفس الهدف تجاه بني آدم، يريد أن يجرِّد الإنسان من القيمة المعنوية، القيمة الإيمانية، أن يهبط به عن مرتبة التكريم، أن ينزله إلى منزلة هابطة، دنيئة، يكون فيها في حالة معاصٍ وخزي، أن يراك منكسراً، منكسر الإرادة، أن يراك أيضاً في حالةٍ بائسة.
الله يقول: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ}[الأعراف: من الآية26]، يعني: لستركم، لتكونوا مستورين، لستر عوراتكم، الشيطان يريدك أن تكون مفضوحاً، مكشوف العورة: المعنوية، وغير المعنوية، يريد أن يراك في وضعية مخزية، الشيطان يريد أن يراك في وضعية مخزية، بعيدةً عن التكريم الذي كرَّمك الله به.
أمَّا الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» فقد هيَّأ لك في هذه الحياة ما يسترك، يستر عورتك، ويستر معائبك، ويقيك من المخازي، يقيك من أن تكون في وضعية سيئة، مخزية، فعلى مستوى الستر للإنسان، الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» من ضمن نعمه الكبرى على الإنسان: نعمة الملابس والستر، الإنسان بالملابس يستر نفسه، يستر عورته، وهذا من التكريم للإنسان، بل ومما يميزه عن بقية الحيوانات، التي عوراتها مكشوفة، فمن التكريم للإنسان أن يمنحه الله الملابس، التي يستر بها عورته.
وأيضاً مع الستر للعورة، الإنسان بالملابس نفسها يتزين، هي زينة للإنسان، وذات طابع جمالي للإنسان، والله هيَّأ للإنسان ذلك، أن تتوفر له الملابس، وأن تكون ذات طابع جمالي، وزينة للإنسان، وفي نفس الوقت وقايةً للإنسان، وقايةً لجسمه، الإنسان يتوقى بالملابس من البرد، يتوقى من الحر، بل تطوَّرت الملابس في حياة البشر، ليكون لديهم ملابس لأغراض كثيرة، ولمهام متعددة: فلديهم من الملابس- مثلاً- في هذا العصر: ملابس للغوص، ملابس لرجال الإطفاء، السترة الفضائية… ملابس لمهام متنوعة ومتعددة، فالملابس التي يستر الإنسان بها عورته، هو تكريمٌ كبيرٌ له؛ كي لا يكون حاله كحال بقية الحيوانات، وفي نفس الوقت وقاية للإنسان، وذات طابع جمالي، وهذا شيء معروف في واقع البشر، عالم الملابس عالم واسع جداً.
{يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا}[الأعراف: من الآية26]؛ لأن فيه جانب الزينة، جانب الجمال، جانب الستر، فيه تكريم للإنسان، {وَلِبَاسُ التَّقْوَى}[الأعراف: من الآية26]؛ لستر المعايب، من الأمور المخزية، من التصرفات السيئة، من الأعمال الرذيلة، من مذام التصرفات والأخلاق، من الأشياء الدنيئة، وهو شيء لابدَّ منه، وإلَّا لم يكن لبقية الملابس قيمة، ولا أهمية، الشيطان يكشفها عن الإنسان من دون لباس التقوى.
التقوى هي ذات أهمية كبيرة جداً، تقيك- كلباس عظيم- تقيك من الأعمال المخزية، من التصرفات المهينة، المسيئة، الدنيئة، التي تلطِّخ سمعتك، وشرفك، وكرامتك، وعرضك، وتسيء إليك، وهي ذات خطورة كبيرة على الإنسان، الإنسان إذا لطَّخ كرامته بالأعمال المشينة، أو التصرفات المخزية والدنيئة؛ هو يسيء إلى نفسه، يسيء إلى نفسه، فالجانب المعنوي بالنسبة للإنسان له أهمية كبيرة جداً، في قيمته الإنسانية، في منزلته الإيمانية، في علاقته بالله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، في مستقبله في الآخرة؛ ولذلك يقول الشاعر وهو يذكِّر الإنسان بأهمية هذه الحقيقة:
مَا بَالُ نَفْسِكَ تَرْضَى أَنْ تُدَنِّـسَهَــــــــا
وَثوبُ نَفْسِكَ مَغْسُولٌ مِنَ الدَّنَسِ
تَـرْجُو النَّجَاةَ وَلَمْ تَسْلُكْ مَسَالِكْهَا
إِنَّ السَّـفِينَـــــــةَ لَا تَجــــــــرِي عَلَى اليَـبَسِ
الإنسان قد يستحي على نفسه أن تكون ملابسه ملطَّخة بالقاذورات، والأشياء السيئة، والأشياء التي هي رجس، أو نجاسات، أو قذارات، فنفسك كذلك، كرامتك كذلك كإنسان، لا تلطَّخها بالأعمال السيئة، بالأعمال الدنيئة، بالتصرفات التي هي من الرذائل المسيئة إلى كرامتك، لباس التقوى يحميك من ذلك، يحمي لك كرامتك الإنسانية، إيمانك، ويبقى لبقية الملابس القيمة مع لباس التقوى.
والشيطان يريد أن يجرِّد الإنسان من هذا وذاك، الشيطان يسعى لتجريد الناس حتى من ملابسهم؛ ولذلك عندما يلاحظ الإنسان الجهد الهائل لأولياء الشيطان، في مسعاهم لتجريد الناس من ملابسهم، جهد كبير جداً، عمل لإضلال الناس على المستوى التثقيفي، والدعائي، والإعلامي، والتأثير على آرائهم، على تفكيرهم، على ثقافتهم؛ لنشر ثقافة العُرِي في الدنيا، في أوساط البشر، يريدون أن يجرِّدوا الناس من ملابسهم، ابتدأوا بالنساء، وأصبحوا ناجحين إلى حدٍ كبير في كثيرٍ من البلدان، في تجريد النساء من ملابسهن، وكشف عورَاتِهِن، والكشف عن مواطن الفتنة في الجسد، واتَّجهوا إلى الرجال، اتجهوا إلى الرجال كذلك، بل وأصبح هناك أيضاً أنشطة كثيرة ينفِّذونها في بلدان كثيرة من العالم، ومناسبات يخرجون فيها في حالةٍ من العري الكامل، والكشف الكامل للجسد، كحال بقية الحيوانات، ألعوبة بيد الشيطان، وإساءة إلى الكرامة الإنسانية، وتنكُّر للكرامة التي منح الله الإنسان إيَّاها، تنكُّر عجيب جداً!
الله شرَّف الإنسان، وأكرمه، عندما أنعم عليه بما يستر به عورته، هذا من التكريم للإنسان، وهم في هذا العصر يسعون إلى كشف الإنسان، إلى كشف هذا الستر، وإلى أن يحوِّلوا واقع الإنسان كحال بقية الحيوانات، بدون هذه الميزة الرائعة، التي منَّ الله على الإنسان بها؛ فالإنسان بحاجة إلى لباس التقوى.
وأمَّا لباس النعمة أيضاً لستر الجسد، وستر العورات، وزينة الإنسان، فهو أيضاً من النعم التي أنعم الله بها على البشر، وهي نعمة متوفرة بشكلٍ عجيب، وللأجيال، وأصبحت عالماً بكله (عالم الملبوسات)، في وفرتها، في أنواعها، مع أنهم- بالنسبة لأولياء الشيطان- يحاولون التَّلَعُّب فيها، بشكل لا تبقى لها هذه القيمة في الستر للإنسان، والوقاية للإنسان، والتكريم للإنسان، يلعبون بها فيما يتعلق بالموضات، ويربطون البعض منها في تصميمها بالطريقة التي تتنافى مع المهمة الأساسية للستر، بل ومع حتى الجانب الجمالي، ويحاولون أن يربطوها برموز وإشارات ترمز إلى الرذيلة، إلى الفساد، إلى ما يتنافى مع لباس التقوى، الذي يتكامل به الإنسان: إذا اجتمع له لباس التقوى، مع هذا اللبس الذي أنزله الله، وأوجده الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، وأنعم به على البشر، ليكون لهم زينة، ووقاية، وستراً، وتكريما.
{ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يَا بَنِي آدَمَ}[الأعراف: 26-27]، يا بني آدم، خذوا التجربة من أبيكم وأمكم، من آدم «عَلَيْهِ السَّلَام»، استفيدوا من تجربة آدم، ومن تجربة أُمِّكُم حواء، واحذروا من الشيطان؛ كي لا يوقِع بكم، كي لا يخدعكم.
{يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا}[الأعراف: من الآية27]، فهو أيضاً يريد أن يجرِّدكم من كل شيء، يريد أن تكونوا كبقية الحيوانات، لا قيمة لكم، لا تتميزون بهذه الميزة الرائعة، التي هي من أجل تكريمكم، ويريد أن يلطِّخكم بالأعمال الدنيئة، والتصرفات الرذيلة والسيئة، التي تترتب عليها أضرار عليكم، ومخاطر عليكم، ويريد أن يهبط بكم عن مرتبة التكريم، التي منَّ الله بها عليكم.
{يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ}[الأعراف: من الآية27]، الشيطان {يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ}: جنوده، وأعوانه، وجماعته، {مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ}.
قد يكون الإنسان في ظروف معينة، وهو منهمك في التفكير، ومستغرق في التفكير، ولكن التفكير السلبي، التفكير السيء، الذي ينحرف به نحو معصية معينة، الذي يؤجج فيه الميول والمشاعر نحو معصية معينة، أو الانفعال والغضب الذي أيضاً يجره إلى معصية أخرى، تلك الأحوال قد يأتي الشيطان ليوسوس له، والشيطان أصبح له جنود كُثُر، وأعوان كُثُر، وقد يكونون بالملايين، وينتشرون في شتى أقطار الأرض لاستهداف الناس، فالبعض من الناس قد لا يتنبه أنه في تلك اللحظة التي يتصور أنه فيها لوحده، منهمكٌ في التفكير، وقد يكون إلى جانبه في تلك اللحظة شيطان، أو حتى أكثر، في بعض الحالات يتعاون مجموعة من الشياطين، وهم يوسوسون لشخص معين، فيحاولون أن يؤثِّروا عليه، ففي الحالة التي لا ترى فيها إلى جانبك شياطين، لا تتوقع أنه ليس هناك من يوسوس لك، أنت لا تراهم، أنت لا تراهم؛ ولذلك قد يتواجدون عندك وأنت لا تراهم، ولا تتوقع أنك في تلك الحالة، في تلك الوساوس، أصبحت متأثراً بوساوس الشيطان، قد تتصور أنَّ تلك هي رؤيتك الخالصة، تفكيرك الشخصي الخالص، من دون أيِّ مؤثرات أخرى، وكثيرٌ من الأعمال السيئة، من التوجهات الخاطئة، سواءً التي يُقْدِم بها الإنسان على معصية معينة في انتهاك لمحرمات، أو التي يقصِّر الإنسان فيها في أعمال ومسؤوليات، أو يخلُّ بشيءٍ من أوامر الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»؛ لأن المعصية تأتي تجاه الأمر الإلهي، وتجاه النهي الإلهي، فالإنسان قد لا يتوقع أنه خضع لتأثير الشيطان، لوساوس الشياطين، قد لا يتوقع ذلك، ولكنه في الواقع تأثر بوساوس الشياطين، في موقفه ذلك- الموقف السلبي الخاطئ- كان متأثراً بوساوس الشياطين، في قراره الخاطئ ذلك كان متأثراً بوساوس الشياطين، في تقصيره ذلك تأثر بوساوس الشياطين.
الإنسان عرضة للتأثر بوساوس الشياطين، ولو كان لا يراهم، فهم قد يأتون إليه، ويجدون الفرصة؛ لأنه فتح لهم النافذة، أو فتح لهم الباب، إمَّا الأبواب أو النوافذ، كيف تفتح لهم الأبواب والنوافذ؟ عندما تتجه أنت في تلك الحالة السلبية: إمَّا في التفكير السلبي، أو الحالة النفسية السلبية، أنت حينها تفتح لهم النافذة أو الباب، وهم يأتون ليشاركوك في تلك الأجواء، ويزيدون من تأجج المشاعر التي تتحرك فيك في تلك اللحظة، من مشاعر شهوة، أو مشاعر غضب، أو تلك الحالة من التفكير التي استغرقت فيها من التفكير السلبي الخاطئ؛ فالإنسان عليه أن يدرك أنه قد يخضع لوساوس الشياطين من حيث لا يتوقع؛ لأنه لم يرهم، فكن في يقظة، كن متنبهاً، إذا وجدت نفسك أصبحت تفكر تفكيراً سيئاً، بعيداً عن منهج الله، عن تعليماته؛ فلتنتبه، فلتحذر، الشياطين حولك، يوسوسون لك، انتبه، لا تبقى غافلاً عنهم.
{إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ}[الأعراف: من الآية27]، الشياطين يعتمدون على الوسوسة للإنسان، والإنسان لا يراهم، وقد يتصور أنه صاحب توجُّه خالص، لم يخضع فيه لتأثير الشياطين؛ لأنه لم يرهم، والواقع مختلفٌ تماماً، ولكن هناك نقطة هامة جداً: مهما كانت طريقة الشياطين وإمكاناتهم في الوسوسة بالنسبة للإنسان، والتأثير على الإنسان، فلا تصل إلى درجة أن تسلبك قدرة اتخاذ القرار الصحيح، والتماسك في الاتجاه الصحيح.
الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» قدَّم ختاماً مهماً لهذا الدرس، هو قوله: {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ}، الإيمان الواعي، الراسخ، الصادق، هو صلة يصلنا بالله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، ونحظى من خلاله برعاية الله، بتوفيقٍ من الله، بتثبيتٍ من الله، بتسديدٍ من الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، برعايةٍ واسعة من الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، يخرجنا من الظلمات إلى النور، يجعل لنا فرقاناً، يساعدنا، يثبتنا في اللحظات الصعبة والحرجة، الصلة الإيمانية بالله صلة مهمة وعظيمة.
وأيضاً البرنامج الإيماني بنفسه، برنامج فيه تزكية للنفس، كلما زكت نفس الإنسان؛ كلما ارتقت عن المؤثرات التي يستغلها الشيطان ضد الإنسان.
جانب الوعي أيضاً؛ لأن الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» أتاح للإنسان في الحلال، وأتاح للإنسان في الاتجاه الصحيح، ووعد الإنسان في مستقبله في الآخرة فوق ما يحتاج إليه، وفوق مستوى طموحه ورغباته، ما ينشد إليه الإنسان من الرغبات والطموحات، الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» وعدك في الآخرة بأكثر، بل بما هو فوق مستوى طموحك ورغباتك، وفي الدنيا تنال في إطار الحلال والخير، وما يعطيك الله، ما هو كافٍ للإنسان.
والرشد، أيضاً في إطار البرنامج الإيماني، الإنسان يكتسب الرشد والتوازن.
ولباس التقوى، التقوى هي توجد عند الإنسان حالة توازن، وحالة ضبط للشهوات والغرائز، توازن في الشهوات والغرائز، وحالة انضباط؛ وبالتالي تساعد الإنسان على الاستقامة؛ فتجتمع أمور كثيرة في الجانب الإيماني: صلة مع الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، نحظى فيها برعاية من الله، بمعونة، بتثبيت، يزيدنا هدى، يزيدنا نوراً، يثبِّتنا، يعيننا، يساعدنا، يحبب إلينا الإيمان، يزيِّنه في قلوبنا، يكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان… إلى غير ذلك.
جانب أيضاً في واقع الحياة: الاستقامة في واقع الحياة تجعلك بعيداً عن الكثير من المزالق؛ لأن مما يؤثَّر على الناس، هي: الأجواء التي توجد فيها خطوات للشيطان، توجد فيها مفاسد، معاصٍ، توجد فيها دواعٍ أكثر، تؤجج لدى الإنسان الميول إلى المعاصي أو المفاسد، فالجانب الإيماني فيه أشياء كثيرة تساعد الإنسان على الاستقامة: من رعاية الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، إلى الأثر العظيم في رشد الإنسان ووعيه وزكاء نفسه، إلى الأعمال الصالحة، إلى تَجَنُّب الكثير من الأعمال السيئة التي تؤثِّر على الإنسان، إضافة إلى أنَّ الإنسان يكتسب في إطار البرامج الإيمانية- ومنها: الصيام- قوة العزم، قوة الإرادة، والتوازن في مسألة الغرائز والشهوات، التوازن والانضباط، بدلاً من أن يكون الإنسان متهوراً في ذلك، وبدون ضوابط، ومنفلتاً في ذلك، يكون متوازناً عند مستوى معين، وهذا له أهميته، وأثره الكبير على الإنسان، والشيطان لا يعلم الغيب، ولا يمتلك أن يقسر الإنسان قسراً؛ فلذلك يقول الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ}[الأعراف: 201-202]، ويقول: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ}[النحل: 99-100].
نكتفي بهذا المقدار…
وَنَسْألُ اللَّهَ «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإِيَّاكُم لِمَا يُرْضِيهِ عَنَّا، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهَدَاءَنَا الأَبْرَار، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّج عَنْ أَسرَانَا، وَأَنْ يَنْصُرَنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء.
وَالسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
المصدر: الثورة نت
إقرأ أيضاً:
قراءة فكرية في التغيرات الكبرى التي صنعها السيدُ حسين بدرالدين الحوثي
يمانيون ـ كامل المعمري
بمراجعة الأحداث الكبرى التي عصفت بالمنطقة العربية على الأقل خلال العقود الأخيرة، وتحديدًا منذ الخمسينيات نجد أن مشروعًا واحدًا، بتفرده وبنائه العميق، قد خرج من الركام كحالة استثنائية، لا تشبه في تكوينها ولا في مسارها أي مشروع آخر، إنه المشروع الذي انطلق من أعماق جبال مرّان، في محافظة صعدة شمالي اليمن، لكن حاملًا رؤية قرآنية عادت من جديد، متجاوزةً للإطار التقليدي الذي حدّدته أيديولوجيات السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي.
لقد كان العام 2003 نقطة تحول فارقة في التاريخ الحديث للمنطقة؛ ففي الوقت الذي كانت فيه الهيمنة الأمريكية تخترق العالم العربي والإسلامي تحت مظلة “الحرب على الإرهاب”، خرج الشهيد القائد حسين بدر الدين الحوثي برؤية قرآنية حادة الملامح وواضحة المقاصد، تقلب المعادلة.
رفع شعارًا أدهش الجميع بجرأته وبساطته في آن واحد: “الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام”، لم يكن هذا الشعار مُجَـرّد صياغة خطابية، بل كان إعلانًا عن مسار سياسي وثقافي جديد، يهدف إلى إعادة تشكيل وعي الإنسان اليمني وإحياء روحه النضالية المفقودة في ظل سنوات من التبعية والضياع السياسي.
مميزات المشروع القرآني:
ما يميِّزُ المشروعُ القرآني منذ انطلاقته، أنه لم يكن مُجَـرّد رد فعل محلي على أزمة سياسية أَو اجتماعية داخلية، بل كان جزءًا من رؤية أوسعَ تستهدف إعادة توجيه بُوصلة العداء نحو الأعداء الحقيقيين للأُمَّـة: الهيمنة الأمريكية والإسرائيلية، كانت هذه الرؤية ضرورية في وقت اختلطت فيه الأوراق، وتداخلت فيه التحالفات بين أنظمة عربية خاضعة تمامًا للإملاءات الأمريكية وأُخرى غارقة في مستنقع التطبيع مع “إسرائيل”.
جاء المشروع القرآني ليعيد صياغة وعي الفرد والجماعة، متجاوزًا حدود الجغرافيا اليمنية، ليطرح نفسه كبديلٍ حضاري شامل للأُمَّـة العربية والإسلامية، هذه الرؤية لم تكن معزولةً عن الواقع، بل كانت استجابة واعية للمخاطر التي بدأت تلوح في الأفق مع احتلال العراق وتفكيك بنية الدولة الفلسطينية ومحاولة الهيمنة الكاملة على مقدرات المنطقة.
منذ البداية، أدرك أنصار هذا المشروعِ أن معركتهم ليست ظرفية، بل وجودية لذلك، كانت المواجهة مع النظام السابق تتجاوز البعد العسكري لتصل إلى حرب قيم ومعانٍ، فبينما كان النظامُ اليمني السابق يسعى بكل أدواته إلى إخضاع المشروع، مدفوعًا بإملاءات أمريكية وسعوديّة، كان هذا المشروع يزداد صلابة، مستمدًا قوته من رؤية إيمانية جعلت من التضحية عنوانًا للصمود.
لقد أرادت أمريكا أن تقضيَ على هذا المشروع في بداياته الأولى وذلك عبر دعم النظام الذي شن حربًا ظالمة عام 2004 انتهت تلك الحملات العسكرية الكبيرة باستشهاد القائد المؤسّس الشهيد حسين بدر الدين الحوثي، الذي أراد أن يقدم للأُمَّـة تجربة يمنية في إطار المشروع القرآني، وباستشهاده ظلت فكرة المشروع حية في قلوب ثلة من المؤمنين الذين واصلوا تحمُّل المسؤولية تحت قيادة السيد العلم القائد عبدالملك بدر الدين الحوثي “حفظه الله”.
لقد خاض النظام السابقُ سِتَّ حروب متتالية ضد هذا المشروع حتى نهاية عام2009، حَيثُ استُخدمت كُـلُّ أدوات القمع والتدمير لإخماد هذه الحركة في مهدها، لكن وكما يحدث دائمًا مع الحركات ذات الطابع القرآني، كانت كُـلّ ضربة توجّـه إليها سببًا في اتساعها وانتشارها.
الثورة التحرّرية تزيدُ قوة وصلابة التحَرّك:
جاءت ثورة الـ 21 من سبتمبر 2014 كتتويج لمسار طويل من الصمود والمقاومة، ومثلت الثورة لحظة فارقة في تاريخ اليمن الحديث، حَيثُ بدأت مرحلة الخروج من التبعية الكاملة للوصاية السعوديّة والأمريكية، حينها أدركت القوى الكبرى أن المشروع القرآني لم يعد مُجَـرّد تهديد سياسي أَو عسكري، بل تحول إلى نموذج يلهم الشعوب الأُخرى في المنطقة.
شن التحالف بقيادة السعوديّة، والإمارات والولايات المتحدة وبريطانيا، وبمشاركة 17 دولة حربًا عدوانية على اليمن في مارس 2015، استهدفت كُـلّ مقومات الحياة تجاوزت الحرب 350 ألف غارة جوية، وخلّفت عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى، ناهيك عن الدمار الاقتصادي والاجتماعي الذي لم يشهد له اليمن مثيلًا في تاريخه الحديث وحصاراً خانقاً، لكن وعلى الرغم من وحشية العدوان، الذي استمر لقرابة عشر سنوات، خرج الشعب اليمني من هذه الحرب أكثر صلابة وإصراراً على التمسك بمشروعه.
كان سر هذا الصمود يكمن في قدرة المشروع القرآني على توظيف كُـلّ التحديات كأدَاة لبناء وعي جديد، يجعل من المعاناة وقودًا للصمود ومن التضحيات أَسَاسًا للنصر.
وما يجعل هذا المشروع حالة استثنائية هو شموليته، فهو ليس مشروعاً سياسيًّا محدودًا بظرف أَو مرحلة، بل هو رؤية حضارية متكاملة تهدف إلى بناء الإنسان الواعي بمسؤوليته تجاه نفسه ومجتمعه وأمته.
كما أن الثقافة القرآنية التي يقوم عليها المشروع ليست مُجَـرّد شعارات أَو نصوص نظرية، بل هي أدَاة لإعادة تشكيل القيم والسلوكيات، بما يتناسب مع التحديات الراهنة.
إن هذه الرؤية هي التي مكنت الشعب اليمني من تحويل الحرب إلى فرصة للنهوض، فبينما كان العالم يتوقع انهيار اليمن تحت وطأة الحصار والعدوان، ظهر الجيش اليمني كقوة تمتلك رؤية واستراتيجية، قادرةً على تغيير المعادلات، وكانت الرؤية القرآنية بمثابة خارطة طريق لإعادة توجيه بوصلة العداء نحو الأعداء الحقيقيين للأُمَّـة، بعيدًا عن التبعية والانهزامية التي سيطرت على الكثير من الأنظمة والشعوب العربية والإسلامية.
التجربة اليمنية في إطار المشروع القرآني:
وفي لحظة فارقة من تاريخ المنطقة، حَيثُ الهيمنة الأمريكية والإسرائيلية على أوجها، وحيثُ الأنظمة العربية تتهاوى واحدة تلو الأُخرى في مستنقعات التطبيع أَو التبعية، كان المشروع القرآني كحالة استثنائية غير مؤطرة، هذا المشروع الذي تعرض حاملوه لأبشع أنواع الحروب في العصر الحديث حاضراً وبقوة في الحرب العدوانية الإسرائيلية الأخيرة على غزة التي استمرت قرابة خمسة عشر شهرًا؛ ليخوض مواجهة مباشرة مع أعداء الأُمَّــة بدءًا من فرض الحظر البحري على الكيان الإسرائيلي؛ الأمر الذي أَدَّى إلى دخول اليمن في معركة بحرية استمرت قرابة العام في مواجهة البحرية الأمريكية والبريطانية التي حاولت حماية سفن العدوّ الإسرائيلي، حَيثُ تم شن عدوان جوي على اليمن إلَّا أن الجيش اليمني سجل موقفًا قويًّا وشجاعاً ليتفاجأ الأمريكي كيف يمكن لقوة صاعدة أن تعطل قدرات الأسطول البحري الأمريكي وتنتصر في معركة على قدرات دول كبرى عسكريًّا.
إلى جانب ذلك استطاعت اليمن إطلاق الصواريخ الفرط صوتية والمسيّرات على المدن الفلسطينية المحتلّة وهو ما أذهل الأعداء والعالم، ويكاد المرء لا يصدق أن شعباً يرزح تحت وطأة الحصار والحرب منذ ما يزيد عن عقد، يستطيع أن يقوم بكل ذلك بل والسؤال الأهم كيف يمكن لشعب فقير ومحاصر أن يصنع صواريخ فرط صوتية وبالستية تضرب أهدافاً متحَرّكة ومسيّرات متطورة، متناسين أن المشروع القرآني لا يقف عند حدود بل يتجاوز ذلك إلى التصنيع العسكري وبناء القدرات العسكرية وفي كُـلّ المجالات، وأنه مشروع إرادَة وإيمَـان.
لقد سجل الشعب اليمني حالة فريدة واستثنائية على مستوى العالم والمنطقة رغم إمْكَانياته البسيطة في إسناده لغزة بالموقف العسكري الذي كان غير مسبوق، سواءً في المعركة البحرية ضد العدوان الثلاثي أمريكا وبريطانيا والكيان الصهيوني، والهجمات البرية بالصواريخ والمسيّرات التي لم تتوقف طوال عام ونيف باتّجاه المدن الفلسطينية المحتلّة.
على الجانب الآخر نفير عسكري غير مسبوق، مسيرات راجله عسكرية، ودورات تأهيل وتدريب لمقاتلين جدد تجاوز عددهم قرابة 600 ألف مقاتل، ومئات المناورات العسكرية، وفي المسار الشعبي حشود مليونية أسبوعيه في كُـلّ المحافظات المحكومة من المجلس السياسي الأعلى وحكومة التغيير والبناء، ناهيك عن الوقفات والنكف القبلي الذي كان بشكل يومي، والتبرعات لغزة والفعاليات والندوات المتعلقة بالقضية الفلسطينية، وفي الجبهة الإعلامية حراك غير مسبوق، رافق انتصارات كبيرة في البحر والبر والجو، إضافة إنجازات تمثلت في إزاحة الستار عن أسلحة نوعية صاروخية ومسيّرات وغير ذلك.
هكذا هو المشروع القرآني يفرض على كُـلّ منتمٍ إليه التحَرّك الجاد والعمل والثقة بالله وعدم الاستكانة، وبهذا الوعي والنفير استطاع اليمن أن يبرز كقوة إقليمية مؤثرة وفاعلة لا يمكن تجاوزها، تفرض معادلات كبرى أمام أقوى جيوش العالم.
نجح اليمن انطلاقًا من المشروع القرآني في إيصال رسالة قوية مفادها أن الشعوب العربية قادرة على المواجهة رغم كُـلّ التحديات، وأن القضية الفلسطينية تظل قضية مركزية للأُمَّـة العربية والإسلامية، بل وأعاد تعريف دور الشعوب في الصراعات الكبرى.
وبكل هذه المعطيات، فَــإنَّ ما حدث في البحر الأحمر يعكس بوضوح كيف تحول المشروع القرآني إلى لاعب رئيسي في معادلات القوة الإقليمية، من هنا، من هذا الشريط المائي الاستراتيجي، تتحدى اليمن الهيمنة الأمريكية بشكل مباشر، وتعيد صياغة مفاهيم السيادة التي حاولت القوى الكبرى طمسها، إنهم يدركون في تل أبيب وواشنطن، أنهم لا يواجهون جيشًا بالمعنى التقليدي للكلمة، بل يواجهون حركة متكاملة، عمقها وعي شعبي يستمد جذوره من مشروع رسخ في أذهان الناس، وأن كرامتهم ليست قابلة للمساومة.
لقد فشلت محاولات احتواء هذا المشروع، ليس لأَنَّ القوة العسكرية عاجزة عن ذلك، بل لأَنَّهم يقفون أمام سد منيع من الوعي الذي لا يتزعزع، والصمود الذي لا ينكسر.
المشروعُ القرآني في اليمن حالة استثناء:
وما يثير الاهتمام أكثر هو هذه القدرة الفريدة للمشروع على الاستمرار والنمو وسط التحديات، فكل حرب شُنت عليه كانت بمثابة وقود جديد يدفعه إلى الأمام، وكلّ محاولة لإخماده لم تكن إلا خطوة جديدة في مسار ترسيخ حضوره، نحن أمام حالة استثنائية، حَيثُ يتحول القمع إلى سبب للاستمرار، والحصار إلى مصدر للقوة.
إن القوة التي تُهمل بناء الوعي، مهما عظمت أدواتها العسكرية والسياسية، تسقط أمام أول اختبار حقيقي، هذه العبارة التي تعكس جوهر الصراع بين المشاريع العربية التي تعثرت، والمشروع القرآني في اليمن الذي ظل شامخاً رغم كُـلّ الحروب والتحالفات الدولية.
إن التجارب العربية في مواجهة الهيمنة الغربية، بدءًا من القومية الناصرية مُرورًا بالاشتراكية البعثية وُصُـولًا إلى حركات الإسلام السياسي، تكشف عن نمط متكرّر من الإخفاقات، حَيثُ ظلت الشعارات تضج على السطح بينما كان الأَسَاس هشًّا لا يصمد أمام التحديات.
المشروع الناصري بقيادة جمال عبدالناصر كان رمزًا للتحرّر في الخمسينيات، لكنه اصطدم بواقعه في نكسة 1967، واعتمد على تحالفات خارجية مع الاتّحاد السوفيتي وأهمل بناءَ وعي شعبي مسلح بالحرية والمسؤولية.
النظام البعثي في العراق كذلك، رغم هيمنته على المشهد لعقود، انهار سريعًا في مواجهة الغزو الأمريكي عام 2003، إذ كان يعتمد على حزب أوحد منفصل عن تطلعات الجماهير.
حتى المشاريع الثورية التي ظهرت مع موجة التغييرات الحاصلة منذ مطلع العام 2011، مثل تجربة الإخوان المسلمين في مصر، تعاملت مع السلطة كغنيمة سياسية بدلًا من كونها أدَاة لتحرير الإرادَة الوطنية.
على النقيض، المشروع القرآني في اليمن يمثل استثناءً جذريًّا لهذه الحلقة من الإخفاقات، لقد أسس هذا المشروع دعائمه على منظومة إيمانية عميقة تستند إلى نصوص القرآن الكريم كمصدر للتشريع والحركة؛ مما جعله قويًّا لا يتأثر بأية مؤامرات، بينما كانت المشاريع العربية تستورد الأيديولوجيات من الخارج وتبني عليها سياساتها.
ولقد أعاد المشروع القرآني تعريف المقاومة كواجب ديني ووطني، واستحضر قوة الهوية في معادلة الصراع، فكان أحد أبرز عوامل نجاح المشروع القرآني هو رفضه التبعية لأية قوة خارجية.
لقد اعتمد المشروع القرآني على مبدأ الاستقلالية في القرار السياسي والاقتصادي، فتبنى اقتصاد المقاومة من خلال التصنيع العسكري المحلي والاكتفاء الذاتي الزراعي، وهو ما حرّره من هيمنة البنك الدولي وشروط القوى الكبرى، هذا الاستقلال منح المشروع القرآني مرونة عالية في التعامل مع التحديات، حَيثُ لم يعد رهينة لقرارات اللاعبين الدوليين.
المشروع القرآني أَيْـضًا قلب معادلة الجيش والدولة، بينما انهارت جيوش عربية نظامية؛ لأَنَّها قاتلت كجيوش موظفين، نجح المشروع القرآني في تحويل الشعب اليمني إلى جيش شعبي مقاتل يدافع عن قضيته من منطلق عقائدي، والمسيرات المليونية في اليمن لم تكن مُجَـرّد استعراض للقوة، بل كانت مدرسة جماهيرية لصناعة وعي مقاوم يتحدى أدوات الاستعمار والعدوان.
الأهم من ذلك، كُـلّ المؤامرات التي استهدفت المشروع القرآني تحولت إلى وقود يزيد من قوته، اغتيال السيد حسين بدر الدين الحوثي في 2004 لم يكن نهاية المشروع، بل كان بدايةً لمرحلة أوسع، على عكس المشاريع العربية التي كانت تنهار بمقتل قادتها أَو بتغير الظروف الدولية، حَيثُ نجح المشروع القرآني في تحويل رموزه إلى أيقونات نضال تتجاوز الزمان والمكان.
اليوم، تعجز القوى الكبرى عن كسر المشروع القرآني؛ لأَنَّه لا يقبل التفاوض على ثوابته؛ لأَنَّ ما يميزه عن غيره هو فهمه العميق لمعركة الوعي، حَيثُ أدرك أن الصراع مع الهيمنة الغربية ليس على الأرض فقط، بل على شرعية الرواية الحضارية، فالغرب قدم نفسه كحضارة نهائية، والمشروع القرآني رد بإحياء نموذج ديني يثبت قدرة الأُمَّــة على إدارة دولتها بعيدًا عن التبعية، بينما حوَّلت الأنظمة العربية الدين إلى شعارات أَو طقوس فردية، أعاد المشروع القرآني القرآن إلى مركز الحياة كمنهج ودستور حركة.
مشروع لم يؤطر:
قبل عَقدَينِ من الزمن، لم يكن أحد يتوقع أن يقفَ مشروعٌ ناشئ في وجه منظومة دولية تملك أقوى أدوات القمع والسيطرة، ولكن المشروع القرآني، كما أثبتت التجربة، لا يقوم على حسابات القوة التقليدية بل يرتكز على بناء الإنسان الواعي، القادر على مواجهة التحديات بفكر ثاقب وإيمان صلب، لذلك فَــإنَّ أية محاولة لفهم هذا المشروع من خلال عدسات السياسة التقليدية ستخفق في إدراك عمقه وتأثيره.
المثير في تجربة المشروع القرآني هو أنه لم يأتِ من رحم الأنظمة، ولم يُؤطَّر ضمن الأيديولوجيات التقليدية التي أسقطتها الأحداث، إنه مشروع خرج من الناس وإليهم، يتغذى على احتياجاتهم، ويستمد قوته من إيمانهم، لذلك فشلت الولايات المتحدة وبريطانيا و”إسرائيل” في كسره؛ لأَنَّهم لا يواجهون جيشًا تقليديًّا أَو حركة سياسية عابرة، بل يواجهون حالةَ وعي جماعي راسخة وسدًّا منيعًا من الصمود والإرادَة.
إن هذا المشروع يقدم للأُمَّـة نموذجًا مختلفًا، ليس لأَنَّه تحدى القوى الكبرى فحسب، بل لأَنَّه أثبت أن النصر لا يتطلب أدوات القوة التقليدية، ويمكن لشعب محاصر أن يصنع معادلة جديدة، يمكن لوعي مستمد من القيم القرآنية أن يتحدى أعتى الإمبراطوريات.
اليوم، عندما ننظر إلى المشهد العربي، لا نجد مشروعاً آخر استطاع أن يصمد أمام الهيمنة الأمريكية والإسرائيلية بهذا الشكل، فالأنظمة التقليدية إما انهارت أَو استسلمت، والمشاريع الأُخرى تلاشت في زحام المصالح الدولية، وحده المشروع القرآني الذي يحمله اليمنيون استطاع أن يقدّم نموذجًا متكاملًا، يجمع بين المقاومة الشعبيّة، والصمود العسكري، والوعي الثقافي.
إن هذا المشروع لم يظهر من فراغ؛ بل جاء لحكمة ربانية على يد شهيد وقائد ينتمي لمدرسة آل البيت كاستجابة تاريخية لواقع متراكم من التحديات الداخلية والخارجية التي تواجهها الأُمَّــة الإسلامية.
والثقافة القرآنية كانت العمود الفقري الذي أسّس عليه هذا المشروع، حَيثُ عمل على بناء وعي جمعي قادر على مواجهة أعقد المعادلات الإقليمية والدولية وبالتالي تحول هذا الوعي من مُجَـرّد أدَاة دفاعية إلى حالة هجومية تسعى لإعادة تعريف العلاقة بين الشعوب وقوى الاستكبار العالمي.
في النهاية، يمكن القول بثقة إن المشروع القرآني الذي يمثل تجربة فريدة لليمن، أثبت أنه أكثر من مُجَـرّد حركة مقاومة، إنه نموذج متكامل لإعادة بناء الأُمَّــة على أسس الوعي والإيمان، رؤية تتجاوز اللحظة الراهنة لتضعَ أُسُساً جديدةً لبناء أُمَّـة إسلامية قوية، تمتلكُ استقلالية القرار، وتحملُ رسالةً إنسانية متجاوزة للهُويات الضيقة والانتماءات العابرة.
هذه الرسالة، المستمدة من القرآن الكريم، تعيد للإنسان مكانته المركزية كفاعل ومسؤول عن تغيير واقعه، وتحمل في طياتها قيم العدل والسلام التي غُيبت طويلًا في ظل الهيمنة الاستعمارية والتبعية.
إنه مشروع يتحدى الهيمنة ليس بالسلاح فقط، بل بفكرة، بفهم عميق لمعنى الحرية والكرامة، وهذا هو الدرس الأهم الذي يمكن للأُمَّـة أن تتعلمه من التجربة اليمنية، فالقوة الحقيقية ليست في السلاح، بل في الوعي والإرادَة والانطلاق من القرآن وما يجب أن يفهمه الجميع أنه ليس مشروعًا يمنيًّا بل قرآنيًّا جامعاً، خارطة طريق للأُمَّـة لمواجهة أعداء الإسلام والإنسانية.
ولا سبيل للأمتين العربية والإسلامية للخروج من حالة الانحطاط والذل والخضوع للهيمنة الأمريكية والصهيونية إلا بهذا المشروع القرآني الذي يواصل حمله السيد القائد عبدالملك بدر الدين الحوثي، في محاضراته وخطاباته للأُمَّـة، انطلاقاً من مسؤوليته الدينية، وسيأتي اليوم الذي تصدح فيه كُـلّ الأُمَّــة بالصرخة وتتبناها كشعار للمواجهة، فهذه الصرخة التي صدح بها القائد المؤسّس الشهيد حسين الحوثي، وأرادها لتكون مشروع كُـلّ الأُمَّــة وستكون كذلك.
المصدر: المسيرة