عندما يكتب صاحب الإسلوب الرفيع / حسن فضل المولى عن: شيخ الزين
تاريخ النشر: 25th, March 2024 GMT
عندما يكتب صاحب الإسلوب الرفيع / حسن فضل المولى عن :
شيخ الزين ..
إسمٌ أنيس ..
فما أن يلامس سمعك ،
حتى ترتسم صورته أمامك وهو
قائم ( بالقرآن ) ،
فتغشاك راحة منه ،
و تغمرك محبة له ..
و هذا ما يسبغه عليك ( القرآن ) ،
فبقدر اقترابك منه ،
يكون صلاح حالك ،
و سكينة نفسك ،
و النور الذي يسعى بين يديك ،
و إقبال الناس عليك .
و الذي يحمل قدراً من ( القرآن )
بحق و قوة ، و صدق ،
يأتيك من تلقائه ما يريحك ،
فما بالك بمن يحمل كل ( القرآن ) ..
ليس بالأمر السهل أن تحفظ
عن ظهر قلب ( القرآن ) ..
و من الصعوبة بمكان أن تُبقي
على حفظك ( للقرآن ) ..
و الأصعب أن تتخلق ( بالقرآن ) ..
و بكل تأكيد ..
هنالك من يُيَّسِر الله لهم ذلك
و يوفقهم إليه ،
و هم درجات ،
بعضهم فوق بعض ،
يسعى نورهم بينهم ،
و يستضيىء به من هم دونهم ..
في كل ( رمضان ) ،
أقطع أن كثيرين كان يسعدهم ،
غاية السعادة ،
ذلك الاصطفاف الخاشع ،
خلف شيخ ( الزين ) بمسجد
( سيدة سنهوري ) ،
و هو يتلو ( القرآن ) بصوت ندي
و مليحٍ و منغم ..
و كل أولئك الذين كانوا يتقاطرون
من كل ناحية ،
و الذين يتابعون من على البعد ، يفتقدون في هذا الشهر ،
تلاوة ( شيخ الزين ) ،
في صلاة ( العشاء ) ، و ( التراويح ) ،
و ( التهجد ) ،
بفعل أشرار أشقياء ،
أخرجوا الناس من بيوتهم ،
و منعوا مساجد الله أن يُذكر
فيها اسمه ،
و سعوا في خرابها ..
و الناس إذ يُعَظِّمون ( القرآن )
بتجويد تلاوته ، فإنهم يُقبلون
بوَجدٍ و شغف على من يُرَتل
( القرآن ) ترتيلا ..
قال تعالى :
( وَ رَتِّلِ القُرآنَ تَرْتِيلا ) ..
يعني ..
و بيِّن القرآن إذا قرأته تَبْيينا ،،
و ترسَّل فيه تَرَسُلاً ،،
و اجعل بعضه على أثر بعض ،
على تُؤَدة ..
و الترتيل في اصطلاح علماء
( التجويد ) معناه ..
أن يلفِظ الحروف كما ينبغي
من غير إسراع ،
فكلما أنهى حرفاً جاء بالذي
بعده مع الإتيان بالحرف كما
ينبغي الاتيان بحقه ..
و حملة ( القرآن ) ..
ما أكرمهم إلا كريم ،
و ما احتقرهم إلا حقير ..
فمن أغناه الله منهم و أغدق
عليه ، فذلك بفضل ( القرآن ) ،
و من عاش منهم فقيراً أو مسكيناً ،
فبذلك قضى ( الرحمن ) ..
و في كلٍ خير ..
لذا فإن حق حملة القرآن علينا ،
أن نغبطهم ،
و نُقَدِّمهم ،
و نجلهم ،
و نُحسن بهم الظن ،
إذا ما اتقوا الله فيما حفظوا ،
و ابتغوا به إليه الوسيلة ..
و شيخ ( الزين ) ، يعتقل عقلك
و فؤادك و هو يتلو القرآن ،
و يحمل إلى وجدانك صدى
( أصوات ) ، عَمَرت حياتَك ،
و أضاءت نواحيك ..
أصوات تتعاقب عليك كل
أيام عمرك ..
و ترافقك منذ الصغر إلى
يومك هذا ..
فلكل منا حيث نشأ ، ( قارئ )
و أكثر ،
تظل ( تلاوتهم ) تلازمه
طوال سني عمره ..
و لكل منا قرَّاء يَجِد في الاستماع
إليهم راحة عظيمة ،
و يهاجر إليهم ..
و هم عشرات ،
و مئات ،
و ألوف من الحفظة و القراء ،
الذين أضاؤوا بين ( السموات )
و أرض ( السودان ) بنور ( القرآن ) ..
فمن منا لم يمتلىء بصوت
الشيخ ( عوض عمر الإمام ) ..
و من منا لم لم يسكن لصوت
الشيخ ( صديق أحمد حمدون ) ..
و لكلٍ طريقته و حلاوته ..
الشيخ ( عوض عمر الإمام ) ،
في تلاوته قوة ، تحسهُ وهو
ممسك بك ،
يسرع ثم يبطئ ،
و يعلو و يهبط ،
و يقبض و يبسط ،
و أنت في نشوة و استغراق
وخشوع ..
و الشيخ ( صديق أحمد حمدون ) ،
يأتيك صوته في منتهى العذوبة
و السلاسة و الرقة ، فيحملك إلى الملكوت الأعلى قريراً هانئاً..
و أذكر هنا شيخنا ،
( الخليفة أحمد مجذوب الكتيابي ) ،
رحمه الله ، و الذي تعلقت كأشد
ما يكون التعلق بنداوة صوته
و طراوته و عذوبته ..
و كل من يقرأ كلامي هذا ،
سيذكر عدداً غير قليل من
( القرَّاء ) الذين يأنس إليهم
و يرتاح ..
و نحن السودانيين ، آذاننا
و أفئدتنا ، كلِفة و مفطورة على
حب المُرَتلين ( القرآن ) ترتيلا ..
نتابعهم في الجهات الأربع ،
نتابعهم من خلال ( المذياع ) ،
و ( أشرطة الكاسيت ) ،
قبل أن تعم ( الشاشات ) ،
و يشتعل الكون ( إنترنتاً ) ..
و الأقرب إلى وجداننا ( مصر ) ..
فتجد من يستمع إلى الشيخ ( الحصري ) ،
وتجد آخرين الشيخ ( المنشاوي ) ،
و كثيرين الشيخ ( عبدالباسط عبدالصمد ) ..
و هم كُثُر ..
و اليوم ..
تشتد المتابعة لأئمة الحرمين
الشريفين ..
الشيخ ( عبدالرحمن السديس ) ،
و الشيخ ( سعود الشريم ) ،
و الشيخ ( سعد الغامدي ) ..
و هم كُثُر ..
و أنا ، أكرمني الله بالصلاة بمسجد
الرسول ﷺبالمدينة المنورة ،
لما يقارب الأربعة أعوام ،
خلف شيخ القراء
( علي عبدالرحمن الحذيفي ) ،
و رغم مرور أكثر من ثلاثين عاماً ،
فلا أزال أجد صدى تلاوته ،
يملأ عليَّ الآفاق ..
آفاق نفسي ،
و الآفاق من حولي ..
و إني لأسمعه و أحسه و أراه ..
( شيخ الزين ) إنسان بسيط ،
ودود ،
هين ..
تدعوه فيستجيب بسماحة ،
و تستقرئه تبركا و تذكيرا ،
فيتلو عليك ما تيسر ..
و إذا لقيته فإنه يُقبل عليك
بحرارة و مودة ..
مرة ترافقنا إلى دعوة أحد
الأصدقاء ،
كنت سعيداً بصحبته ..
و قبل أن ينفض السامر استجاب
لرجاء صديقنا صاحب الدار ،
بأن يتلو علينا ( سورة يوسف ) ..
و كحال كل من يقرأ هذه
السورة ، لم يتوقف إلا عند
خاتمتها ..
( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ
لِّأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا
يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي
بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ
وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) ..
نعم ..
فيها عبرة لأولي الألباب ..
إذ أنها السورة التي بدأت بالرؤيا ،
و انتهت بتحقيقها ،
و كأن الله يخبرنا أن الأحلام في متناولنا ،
و أن ننتظر اليسر بعد العسر ،
و العودة بعد الغياب ،
و الفرح بعد الحزن ،
و الفرج بعد اشتداد الكرب ،
و العلو والرفعة بعد الضعف ،
و أن لا نيأس و إن طال العهد
و انقطع ،
( اذهبوا فتحسسوا من
يوسف ) ..
و كيف أن الصراع بين الخير
و الشر محسوم في النهاية ..
محسومٌ لمعاني الخير ،
و محسومٌ لمقاصد الخير ،
و محسومٌ لصُنَّاع الخير ..
لا تطغيك اللحظة ،
و لا تُهِينك اللحظة ..
أنت في قمة ضعفك قد يُحْدِث
الله أمراً فتقوى و تشمخ ،
و أنت في أوج قوتك قد يُحْدِث
الله أمراً فتضعف و تتلاشى ..
سيدنا ( يوسف ) ، عليه السلام ..
و هو صغير ،
يرى في المنام أحد عشر كوكباً
و الشمس و القمر له ساجدين ،
و يقص رؤياه على أبيه فيأمره ،
( لا تقصص رؤياك على إخوتك )
ذلك أن الكيد قد يأتيك من أقرب
الناس إليك ..
في وقتها يبدو الأمر و كأنه ضرب
من الخيال الشاطح ..
و بعدها ..
الإخوان يغيظهم حب أبيهم
له من دونهم ،
و يتآمرون عليه ..
( اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً
يَخْلُ لكم وجه أبيكم ) ،
إنها الأنانية في أبشع تجلياتها ،
و إنه الإجرام في أقبح صوره ،
و أقبح الإجرام الذي يرتكبه في
حقك شقيق أو صديق أو
رفيق طريق ..
و هو سلوك مركوز في البشر
منذ ابني آدم ..
( و طوَّعت له نفسُهُ قتل أخيه
فقتله فأصبح من الخاسرين ) ..
و ينَفِّذون جريمتهم النكراء بأن
جعلوه في غيابة الجب ،
و هو وضع يتلازم فيه الضعف
مع ظلمة القاع ، فيتضاءل أي
أمل في السلامة و النجاة ..
و يقدِّر الله أن يلتقطه عابرون
للطريق ،
ويبيعونه بثمن بخس ، دراهم
معدوادات ، مع زهد فيه ،
و عدم حرص عليه ..
و ياترى ..
كيف لو علم يومها هؤلاء
الزاهدون فيه ما سيصير إليه ،
من رفعةٍ و علو شأن !!
و لولا ما يحجبه الله عنا ، لتغيرت
نظرتنا إلى كثيرين ، باعتبار
ما سيصيرون إليه ،
رفعةً ،
أو انحطاطاً ..
فلو كشف الله لنا المآلات ،
لرأينا أيَّ عُلُو ينتظر هذا الضئيل
الصغير ،
و أي هاوية سحيقه تنتظر
هذا المتغطرس الشرير ..
و ( عزيز مصر ) الذي اشتراه ،
يوصي امرأته بأن تكرمه و تحسن
معاملته ، لعله ينفعهم أو يتخذونه
ولدا ..
و تراوده التي هو في بيتها ،
بكل نزق ، و تهور ، و شبق ،
و اشتهاء ..
و هي من هيَّ ،
جمالاً و مكانة ..
و هو من هوَ ،
شباباً و وسامةً ..
و هذا نوع من الابتلاءات التي
التي يصفق لها (إبليس) و يرقص ،
فلا يصمد أمامها خلق كثير ..
و لكن ، هذا سيدنا ( يوسف ) ،
عليه السلام ..
( قال رب السجنُ أحبُّ إليَّ مما
يدعونني إليه ) ..
و مكث حبيساً في ( السجن ) سنينا ..
و من ( السجن ) ،
و بعد أن حصحص الحق ،
و تجلى ما آثره الله به من فضل ،
و علَّمَه من تأويل الأحاديث ،
ها هو يقوم على خزائن الأرض ،
( مكينٌ أمين ) ،
و ( حفيظٌ عليم ) ،
و يتبوأ من الأرض حيث يشاء ،
و أحد عشر كوكباً و الشمس
و القمر له ساجدين ..
لقد حاز كل أطراف التمكين ،
و التمَلُّك ، و الإجماع ، و السطوع
و السلطان المطلق ،
و هو في هذه العلياء ، لم يسعى
للثأر لنفسه ، و ترَفَعَ عن كل
مالحق به من ضرٍ و أذى و كيد ..
( قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ
اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) ..
و في سورة ( يوسف ) من الدروس
و العبر و العظات ، ما علِمنا منها
و ما لم نعلم ..
و هو شأن كل سورة ، و كل آية
و كل حرف ، من كلام الله عز
وجل ..
و القرآن يعطيك و يفتح عليك ،
من كنوزه و أسراره و فيوضاته ،
بقدر احساسك به ، و أنت تقرأه
و تستمع إليه ..
احساسك ،
أنه كلام الله إليك أنت ،
و أنت المخاطب به ..
يأمرك أنت ،
و ينهاك أنت ،
و يعلِّمُك أنت ،
و يقصص عليك القصص أنت ،
فإذا قرأت ( القرآن ) بهذا الاحساس
و اليقين ، نلت حظاً عظيماً ببلوغ
درجة ( الاحسان ) ..
قالوا ..
( إذا أردت أن يكلمك الله فعليك
بقراءة القرآن ،
و إذا أردت أن تكلم الله فعليك
بالدعاء ،
و إذا أردت أن تكلم الله و يكلمك
فعليك بالصلاة ) ..
و عندما فرغ شيخ ( الزين ) ،
من تلاوة سورة ( يوسف ) ،
و عاد إلينا ،
و عُدنا إلى بعضنا ،
بدا و كأنه قد أفرغ قلوبنا من
كل ضيق و كدر ،
و غسل نفوسنا من كل هم
و حزن ..
و صِرنا ،
و مِلء ُجوانحنا ..
( و لا تيأسوا من رَّوْحِ الله إنه لا
ييأس من رّوْحِ الله إلا القومُ
الكافرون ) ..
و الحمدلله ..
حسن فضل المولى ..
٢٤ مارس ٢٠٢٤ ..
المصدر: موقع النيلين
إقرأ أيضاً:
في أمان الله
عبدالمعين بن مريسي الحارثي
عندما رفع أذان العشاء من يوم الثلاثاء الموافق 1946/8/19هـ صعدت الروح الطاهرة؛ روح أخي محمد بن مريسي الحارثي إلى السماء، تحيط بها عناية الله ورعايته. كان أبناؤه وإخوانه يحيطون به، ويتناوبون على وداعه وتقبيل رأسه واحدًا تلو الآخر، ولم يكن هناك شواهد احتضار، أو أنين أو معاناة؛ بل كان محياه مضيئًا، وهو يستقبل ضيفًا من السماء. شكرًا لله على لطفه، وشكرًا لمن أمره الله بحملها والصعود بها إلى بارئها.
وهكذا طويت صفحة تحمل إثراءً ثقافيًا علميًا وأدبيًا، ورحل من كرسّ حياته لخدمة التعليم وطلابه.
رحل الناقد والأديب والشاعر، بعد أن كان فارسًا متميزًا في تجديد الحركة الأدبية والنقدية في العالم العربي، وتؤكد أبحاثه ومؤلفاته على أنه جامعة نقدية أدبية، ساهمت في تجديد وتطوير المشهد الثقافي والأدبي.
رحل عراب الأندية الأدبية والمنابر الإعلامية.. عندما يصعد ويتحدث يعلو التصفيق من جمهور المثقفين وطلاب العلم؛ احترامًا وتقديرًا لشخصية أحبوها، وحضروا من أجلها؛ لينهلوا من علمه، ويستمتعوا بحديثه، وعندما يكون محكمًا أو ناقدًا يشير إلى جماليات النصوص أولاً، ثم يستعرض النصوص الضعيفة متجردًا من المجاملات وبأسلوب رائع في ظل دائرة الاحترام، وبعيدًا عن التقليل من الجهود.
كان له حضوره خارج الوطن، وكان يوظف الثقافة الأدبية لتعريف الشعوب؛ بما تقدمه الدولة من دعم الثقافة العربية والعالمية. شارك في الكثير من المؤتمرات العلمية في العديد من عواصم العالم.
رحل عميد أسرتنا، وترك لنا إرثًا معرفيًا ومسؤولية اجتماعية؛ سوف نعمل جاهدين على أن نضيف ما يجملنا منه عندما نلقاه. كيف لا، وهو قدوتنا ومعلمنا والشخصية التي من الصعب أن نملأ مكانها.
رحل رجل المواقف وصاحب العلوم الغانمة والمكانة الرفيعة، صاحب الأيادي البيضاء، يحمل من القيم والصفات أجلها، ينصر المظلوم ويغيث الملهوف ويكرم الضيف.
هكذا هم العظماء عندما يختارهم الله إلى جواره، تتناول سيرتهم الأقلام، وتتردد أسماؤهم على المنابر، ويعبر الشعراء والأدباء والمؤثرون بما تجود به أفكارهم عن هؤلاء، الذين كرسوا حياتهم لتعزيز القيم ونشر الفضيلة.
اللهم إني أسألك أن تكرم ضيافته بجوارك، اللهم إني أسألك أن تعلي مكانته في الجنة كما أعليت مكانته في الدنيا.
وداعًا أبا مشهور في أمان الله.