الأممية العالمية الثالثة والطريق الثالث
تاريخ النشر: 24th, March 2024 GMT
عدت إلى «الكتاب الأخضر» نسخة كنت أحتفظ بها منذ سنوات وعدت إليها، فتساءلت ماذا تبقى من الكتاب الأخضر وماذا عن نظريته الأممية العالمية الثالثة؟ لا يغيب العقيد إذ لا يمكن أن تستحضر الكتاب الأخضر دون أن يكون العقيد ماثلا أمامك، ولا يمكن أن تقرأ الكتاب الأخضر دون أن تتخيل العقيد بملابسه وشعره ونظارته، كما لا يمكن أن تقرأ «البيان الشيوعي» دون أن يبرز لك كارل ماركس بلحيته الكثة.
في صيف 1997 تبدأ الأخبار في التوارد وكأن شيئا ما يقترب من أممية العقيد التي بشر البشرية بها، فتأتي الأصداء من أوروبا وبالخصوص من بريطانيا عندما حملت الأصداء ظهور نظرية «الطريق الثالث» وإن بشكل مغاير عن نظرية العقيد الأممية العالمية الثالثة. دخل السرور والغبطة العقيد فرحاً وهو يسمع أصداء نظريته تأتي من البعيد وهناك جيل يقف على أهبة الاستعداد لاستلام الحكم. في الغرب انتصرت الديمقراطية الجديدة أو أحزاب اليسار أو اليسار الوسط؛ ففي لندن تبنى مرشح حزب العمال البريطاني توني بلير شعار (الطريق الثالث) في حملته الانتخابية الأولى عام 1997 والتي فاز فيها وأصبح رئيساً للوزراء. وفي ألمانيا انتصر غيرهاد شرويدر وفي الولايات المتحدة ظهر الديمقراطيون الجدد بوصول بيل كلينتون للحكم.
كل النظريتين تتوسمان البعد والنأي عن النظرية الرأسمالية بوصفها الأولى والنظرية الاشتراكية بوصفها النظرية الثانية. وربما الصدفة وحدها أو ربما تواردت أفكار أو لربما استنساخ، كل ذلك ليس بالمستبعد.
لكن المؤكد أن البون الشاسع والاختلاف والتناقض بين نظرية العقيد الأممية الثالثة والطريق الثالث، فبينما تقوم نظرية العقيد التي أسماها «الأممية الثالثة» بحسب ما جاءت في الكتاب الأخضر وهي نظرية في الأساس تقوم على ثلاثة محاور رئيسية أو هي حلول للمشاكل كما عبر عنها، الحل في المجال السياسي والحل في المجال الاقتصادي والحل في المجال الاجتماعي.
فمثلا في الجانب الاقتصادي يقدم حل بمحاربته التجارة والنشاط التجاري الرأسمالي الحر وتحريم الربح، فيقول مثلا في الكتاب الأخضر «إن الاعتراف بالربح هو اعتراف بالاستغلال» ويحصر النشاط الاقتصادي فقط في إشباع الحاجات الضرورية للناس ولا يصح الإنتاج بقصد الكسب ويدعو للعودة لنظام المقايضة وإلغاء النقود، ويرفض العمل بالأجر بل يعتبر الأجراء مهما تحسنت أجورهم هم نوع من العبيد. وفي الحل السياسي يقدم نوع من الديمقراطية الشعبوية تحت شعار «لا نيابة عن الشعب والتمثيل تدجيل» والحزبية إجهاض للديمقراطية والحزب هو قبيلة العصر، والاستفتاء تدجيل على الديمقراطية، والذين يقولون (نعم) والذين يقولون (لا) لم يعبروا في الحقيقة عن إرادتهم ولم يسمح لهم التفوه إلا بكلمة واحدة إما (نعم) وإما (لا) ويدعو إلى إلغاء التعددية والحزبية والحكم المركزي وسلطة البرلمان وينادي بأن الشعب يحكم نفسه بنفسه والديمقراطية الشعبية المباشرة وسلطة الشعب ومؤتمرات مندوبي الشعب وإلغاء منصب رئيس الدولة. كنت أناقش صديقي كيف ذلك فيقول لي إن القائد هو قائد الثورة والرمز وليس الحاكم أو رئيس الدولة! طيب.. دولة بلا رئيس فيقول لي الشعب هو الرئيس ولا سلطان عليه. والشريعة الطبيعية هي العرف والدين وأي محاولة لإيجاد شريعة غيرهما فهي باطلة. ويتكلم عن الدولة والأمة والأسرة والمرأة، والرجل وهناك أمور كثيرة.
في كتابه (الطريق الثالث) بشر أنطوني غيدنز ببداية عصر جديد عندما اجتاحت نظرية الطريق الثالث أو النظرية العالمية في أواخر القرن الماضي واجتاحت أوروبا وأمريكا كموجة جديدة تدعو إلى اعتماد منهجاً وسطياً بين الرأسمالية التي زادت توحشها وبين الاشتراكية الهامدة السائرة في ركب الانحلال والاندثار. وفي سنة 1998 مثلت منعطفا مهما في أوروبا وأمريكا إذ تبنت الكثير من الأحزاب اليسارية نهج الطريق الثالث. وحسب دعاة نظرية الطريق الثالث بأنها ظهرت عندما كانت المجتمعات الغربية تعاني من المشكلات الرئيسية كانفلات الأسواق والبطالة وتفسخ الأسرة وعجز الرأسمالية عن إيجاد الحلول للأزمات التي يعيشها الغرب بشكل عام نتيجة (لسلوك الرأسمالية المتوحشة والشيوعية الهدامة). وقدم أنطوني غيدنز الذي يعتبر الأب والمرشد الأيديولوجي لتوني بلير قدم الخطوط العريضة والعامة لنظرية الطريق الثالث في كتابه والتي تقوم أساساً على التوفيق بين الخط الطريق الذي يقوم على سيطرة الدولة على وسائل الإنتاج وإدارة الجوانب الأساسية في الاقتصاد، وبين الطريق الثاني الذي بموجبه تتخلى الدولة عن التدخل في تسيير الاقتصاد وإطلاق اليد للسوق لينظم نفسه بنفسه والمنافسة وحرية الاشتغال.
عملياً كان لنظرية الطريق الثالث إخفاقات كثيرة وتعرضت للنقد ويرى نقادها بأنها لم تختلف عن الرأسمالية العالمية وكل من نادى بها سقط في وحل التوحش والاستغلال والفساد والنهب فحكومة توني بلير في بريطانيا التي لم تختلف عن حكومات المحافظين، بل أصبحت أكثر راديكالية كما ذكر أليكس كالينيكوس بروفسور الفلسفة الاجتماعية بجامعة يورك البريطانية وملف كتاب (ضد الطريق الثالث).
وفي المقابل لم تخرج نظرية العقيد عن عباءة الاشتراكية والشيوعية وهي في الحقيقة خليط بين الإسلام والعادات والتقاليد والاشتراكية والرأسمالية، ومستقاه من الفكر الاشتراكي الشيوعي وإن بلمسة معدلة بما يتوافق مع فكر العقيد والفكر الإسلامي والعربي وهي بالتالي تدخل ضمن النظرية الاشتراكية أو (الطريق الثاني) صهرت كلها لتخرج في بوتقة واحدة تحت مسمى (النظرية العالمية الثالثة أو الأممية الثالثة) تضمنها الكتاب الأخضر، وهي في مجملها أفكار طوباوية يكسر فيها العقيد الكثير من المرتكزات وقد لا تتوافق مع المسلمات الأساسية للحياة.
الحقيقة الماثلة للعيان إن التوحش الذي يخيم على العالم جراء الممارسات المتغطرسة للرأسمالية والأمبريالية العالمية، وأن للسياسة القول الفصل وهي من يعيد ضبط الإيقاع ولا شيء غير ذلك، فأمام السلطة وشهوتها والقوة والمصالح، فلا نظرية الطريق الثالث ولا الأممية الثالثة ولا الوسطية، كلها انتهت كممارسة إلى الرأسمالية العالمية المتوحشة والتهمت كل النظريات لا وسطية ولا غيرها وبقيت تلك الأفكار حبيسة الكتب والنظريات والتنظير في المناسبات لا غير.
د. بدر الشيدي كاتب وقاص عماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: العالمیة الثالثة
إقرأ أيضاً:
الحصادي: على البعثة الأممية الاستفادة من لقاءات أعضاء النواب والدولة
قال عضو مجلس الدولة، منصور الحصادي، إنه “على البعثة الأممية في ليبيا الاستفادة من لقاءات أعضاء مجلس النواب والأعلى للدولة “تونس، القاهرة، بوزنيقة”؛ لإنهاء الانقسام الحكومي”.
وأضاف الحصادي، في تغريدة عبر حسابه على إكس، أنه يجب الاستفادة من هذه اللقاءات لـ “تحقيق الهدف الأسمى، وهو تجديد الشرعية من خلال الانتخابات البرلمانية والرئاسية”.
وختم داعيًا “البعثة إلى حضور الاجتماع القادم بين المجلسين داخل الوطن بمدينة درنة”.
الوسومالحصادي