سيكولوجية الشعوب.. علاقات من التباين والتكامل
تاريخ النشر: 24th, March 2024 GMT
في هذه المناقشة أتتبع ثلاث علاقات حيث أقيّم أهميتها فيما يذهب إليه مفهوم «سيكولوجية الشعوب/ الجماهير» وهذه العلاقات الثلاث تتباين في مواقف، وتتكامل في مواقف أخرى، وقد تنفرد بخصوصياتها وفق التعريف في مواقف ثالثة، وذلك كله بناء على توظيفها، أو استثمارها، أو النأي عنها بمسافة محددة لمراقبة تفاعلاتها الطبيعية المعتادة، والذي يحكم كل ذلك هو النتائج المترتبة من هذه الممارسات «السلوكيات» أو التفاعلات في هذه الجوانب المختلفة، وتتبين هذه العلاقات الثلاث في الفهم الواعي للمفاهيم الناتجة أو التي تتضمنها هذه السيكولوجية ومن هذه المفاهيم: علم النفس، وعلم النفس الاجتماعي، وعلم النفس الجماعي، وكل هذه العلوم الثلاثة لها تعريفاتها الخاصة - حسب المصادر العلمية الموثقة لها - ولأن المناقشة هنا لا تذهب إلى التعريفات العلمية والاصطلاحية لها، وإنما تبحث كما جاء أعلاه في تماس العلاقات التي بينها، لتصل في الخاتمة إلى الواقع الذي نعيشه، وهو الأساس الذي يحفز المتابع لأن يتطرق إلى مناقشة مثل هذه العلاقات التي تجتمع لتقدم هذه الـ «سيكولوجية» على أنها مادة تنبض بالحياة، وليست فقط مجرد مفهوم علمي مغيب عن واقعه، ولعل في هذه المناقشة شيئا من تفتيت الكتل المفاهيمية، وشيئا من تبسيطها للمهتم والمتابع، سواء نسبت إلى الجماهير «سيكولوجية الجماهير» كحالة خاصة أو نسبة إلى المجتمعات أو الشعوب «سيكولوجية الشعوب» كحالة عامة، أو حالة إنسانية، تهم الفرد والمجتمع على حد سواء.
فعلم النفس ذا الخصوصية الفردية، مرورا بعلم النفس الاجتماعي الذاهب إلى تجاوز الفردية إلى حيث المجموعات الإنسانية «الشعوب» وصولا إلى علم النفس الجماعي إلى حيث التوظيف الممنهج في التوجيه والسيطرة، سواء أكان هذا التوجيه إيجابيا، أو سلبيا، يكون ذلك خاضعا للرسالة التي يمسك بزمامها الموجه للشعوب/ الجماهير، ومن ضمنهم قادة الرأي، ومن هم على شاكلتهم.
وهذه التشكيلة أو التوليفة يجمعها المفهوم الجامع «السيكولوجية» والتباين بين هذه المفاهيم الثلاثة يحدث في وسائل وآليات التوظيف، فما يتطلب من الفرد فعله، غير ما يتطلب من الجمهور فعله، وغير من يحكم ذلك كله، ويحدد ذلك نوع الرسالة، وفي كلا المفاهيم الثلاثة (علم النفس وعلم النفس الاجتماعي وعلم النفس الجماعي) خصوصيته في التعامل، وليس يسيرا إطلاقا أن تستخدم نفس الأدوات لمعاملة هذه المفاهيم الثلاثة للحصول على نتائج معينة لموضوع واحد تستخدم فيه هذه الأدوات الثلاثة والاستثناء الوحيد هنا للحالات الإنسانية الشاملة، وإذا كان الفرد - على سبيل المثال - يمكن السيطرة عليه بوسائل التهديد والترغيب وفق الظرف فإن الجمهور يبقى في حكم الاستحالة أن يواجه بنفس ذات الوسائل، وأما فيما يخص التكامل فهنا المسألة تخضع للقاسم المشترك بينها، وهو الإنسان، وبالتالي فأينما تحل الإنسانية في حالاتها المختلفة، تتكامل هذه المفاهيم لتعبر عن صورة واحدة، ولا يحدث الاستثناء هنا إلا عند المفهوم الثالث «(علم النفس الجماعي) الخاضع لقادة الرأي ومن في شاكلتهم.
وفي هذه الصورة يختزل المفهوم من صورته العامة «الجماعي» إلى محدد الفرد المتحكم فيه وكما جاء في التعريف: أن «علم النفس الجماعي هو الذي يبحث عن مسألة الجاذبية الساحرة التي يمارسها القادة على الشعوب، وهو الذي يشرح السلوك الجماعي للأفراد عندما ينخرطون مع المجموعات ويقومون بأفعال لا يعونها إلا بعد أن يتفيقوا» - حسب: https://ar.wikipedia.org/wiki
وكأن هذا التعريف يشير هنا إلى مفهوم آخر، وهو مفهوم (عقلية القطيع) ولو أن هذا المفهوم الآن «عقلية القطيع» قد سقط، أو أسقط، فالجمهور أصبح نوعيا إلى حد كبير، وإن حاول قادة الرأي ومن في حكمهم أن يجيروا رسائلهم، ويناوروا فيها، متجاوزين هذا التنوع الجماهيري، في قبول أو رفض رسالة ما، فهذا لن يتحقق بعد اليوم، وقد فضحت وسائل التواصل الاجتماعي هذه المناورات كلها، ولنا في حرب غزة أصدق الأمثلة على قدرة الجماهير - في مجاميعها - على تجاوز قادتها في توجيههم نحو أجندات السياسة فقط، والتنصل من المشروع الكبير وهو الإنسانية في أنقى صورها، وعلينا أن نعيد إلى الذاكرة تلك المشاهد، والتي لا تزال حتى اللحظة ماثلة في تلك الحشود الممتدة في أغلب الدول، ومنها الدول المشاركة فعليا في حرب غزة، كالولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، وغيرها، هذه الحشود خرجت من منازلها الدافئة واستوطنت الشوارع الممتدة والمعبأة بالثلوج، والأمطار، وشدة البرودة، كل ذلك لكي تتقاسم مع الشعب الفلسطيني معاناته الذي تحاربه أنظمتهم القمعية المتجردة من إنسانيتها دافع هذه الشعوب في ذلك القاسم المشترك «الإنسانية» وهو ما يتجلى في أروع صوره في هذه المشاهد التي تبهج النفس، وتؤكد أن الإنسان المتهم بإملاءات المادة على قراراته وتصرفاته وسلوكياته، غير صحيح، حيث لا تزال الإنسانية تحافظ على مخزونها الكبير من المثل والقيم والاحتكام إلى العقل والمنطق بغض النظر عن الانتماءات الثانوية من الأعراق، والألوان، والديانات، والمذاهب الشتى.
فالذات الفردية المحكومة بتعريف علم النفس على أنها ذاتية التفاعل والتأثير، وأنها «المنزوية على ذاتها» هي اليوم من تتصدر في مشروع المقاطعة التجارية لكل الشركات والمنتجات التي تدعم سلطة الاحتلال، وهي التي تقرر ما تشتريه، وما لا تشتريه، ليس بينها وبين قرارها أي كان قدره، وسلطته، وتسلطه، ولذلك نقرأ أن بعض الشركات أغلقت أبوابها وهي داخل الدول المشاركة في الحرب من جراء المقاطعة لبضائعها ومنتوجاتها من قبل الفرد، وإذا قدر لعلم النفس الاجتماعي أن يبحث في العلاقات والسلوكيات القائمة بين المجموعات، فهذه هي المجموعات تتآزر فيما بينها بين الشرق والغرب في القضية الفلسطينية وعلى وجه الخصوص «حرب غزة» وإلا فما الذي يدفع بمجموعة إنسانية في أقصى شمال الكرة الأرضية أن تنتصر لمجموعة إنسانية في الشرق الأوسط، تنتهك حقوقها على مرأى ومسمع من العالم كله وترفض جملة وتفصيلا مبررات العدو، فيما يذهب إليه من إبادة جماعية للشعب الفلسطيني الأعزل، بل وترفض مبررات قادتها وساساتها في مشاركتهم، وحرصهم على هذه الإبادة، ويبقى هنا البعد الثالث في هذه السيكولوجية وهو علم النفس الجماعي، كما جاء في التعريف أعلاه، وهو المنفرد بخصوصية التعريف والتأثير في آن واحد، وبالتالي وإن شكل هذا المفهوم التفرد والتميز ضمن هذه المجموعة السيكولوجية، إلا أنه حتى التفرد لن يكون منعزلا عن الجماعة الإنسانية التي يديرها، أو يترأس هرمها، فالقدرة الهائلة للشعوب ليس يسيرا تجاوزها، سواء في التجارب الديمقراطية الحقيقية وهي النادرة في هذا العالم، أو في التجارب الديمقراطية الشكلية وهي الغالبة فالمجموعات الإنسانية عندما تنتفض لن يكون لانتفاضتها سقف محدد عندها فقط هي من يحدد هذا السقف، حتى تكتب كلمتها بالخط العريض عندئذ، والحياة مليئة بمثل هذه الصور التي يخلدها التاريخ بأحرف من نور، ولا تزال الصورة تعيش تألقها الإنساني الجميل، نعيشها ونشاهدها في تجارب الشعوب على امتداد الكرة الأرضية.
والصورة تتكامل في تقاطعات مشاهدها المختلفة بين سلوك الفرد الذي يكون مغلوبا على أمره في مواقف معينة وبين سلوك الجماعة عندما تمتحن في إراداتها في مواقف معينة أيضا حيث تؤخذ على حين غرة، فتقع في مصيدة الإغراءات، والتنازلات، وبين قدرة قادة الرأي ومن في حكمهم على تجيير القناعات للوصول إلى أهداف أخرى غير معلنة للطرفين السابقين، وإذا كان هذا قد حصل في الماضي «غالبا» عندما كانت الشعوب تعيش على ما تيسر لها من مصادر الوعي القليلة، فأتصور أن الوضع تغير اليوم تماما، حيث أصبحت الجماهير هي التي تحدد الأهداف، وتفرضها على صانع القرار، بصورة واضحة لا لبس فيها، ولا غول، ولا التفاف، وهذا مما يساعد صاحب الأمر الحكيم على اتخاذ القرار المناسب، والصائب، بما يعود من نتائج بالخير العميم على الجميع، ومعنى هذا ختاما فإن الـ «بانوراما» التي تشكلها الـ «سيكولوجية» عميقة المعنى، واسعة التأثير، كحال كثير من المفاهيم في حياتنا اليومية.
أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفي عماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: النفس الاجتماعی هذه المفاهیم وعلم النفس فی مواقف فی هذه
إقرأ أيضاً:
بطريرك الروم الأرثوذكس بسوريا: في الصوم الكبير يناجي كلٌّ منا الله
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
وجّه يوحنا العاشر بطريرك أنطاكية “سوريا” وسائر المشرق للروم الأرثوذكس إلى رعاة وابناء الكنيسة الأنطاكية المقدسة كتب فيها في الصوم الكبير يناجي كلٌّ منا رب الخلاص وسيد الحياة والموت ويقول له ومن عمق النفس: يا رب ارحم. في الصوم الكبير المقدس تمضي النفس إلى الختن، إلى العريس السماوي الذي تنهض وإياه وتتلمس فجر قيامة.
وتابع، في الصوم الكبير ترافق النفس عريسها المسيحَ الإله. ترافقه وتناجيه في مسلك توبةٍ يتكلل بدرب آلامٍ ويتكحل بانبعاثٍ من قبرٍ فارغ.
وأكمل، ومن آحاد التهيئة تستلهم هذه النفس مسيرة توبةٍ فتناجي المسيح من على أعتاب الصوم وتحني له ركبة القلب وتتأمل وإياه، من الغد في أحد مرفع اللحم، حظَّ من لم يصنع رحمةً ومن لم يرأف بالقريب كما وتتأمل نصيبَ من صنع الرحمة. تناجي الختن وتتأمل معه في أحد الغفران ذاك الفردوس المفقود الذي خسرته البشرية مع أول الجبلة آدم.
أضاف، ومع انطلاقة الصوم، تتأمل النفس جمال وبهاء استقامة الرأي في أحد تكريم الأيقونات التي تنقلنا من عالم اليوم إلى أبديةٍ نتلمس نورها على وجوه القديسين. وإلى الأحد الثاني تسير هذه النفس لتتعلم إكرام القديسين الذين تلقوا نعمهم وقداستهم من ذاك القدوس الأوحد. وفي الأحد الثالث منتصف المسيرة تعود هذه النفس لتتأمل عود الصليب وذاك المعلق عليه محبةً ببشريةٍ هجرته ولم يهجرها. ومع يوحنا السلمي تلهج في سلك الفضائل وتسلك إلى أن تلاقي خبرة مريم المصرية وتتعلم معها أن التوبة هي الأساس أولاً وأخيراً في مسيرة الصوم الكبير أي مسيرة التوبة.
تابع بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس يقول كل ذلك، كي تلاقي ختنها المسيح وتستقبله داخلاً فيها ومعها إلى أورشليم العلوية فتفرش له أغصان النفس وتدخل معه آلامه الخلاصية وتناجيه في جنازهِ مسيحاً حياةً دائساً الموت، وبُعيد ذلك، نوراً ورباً قائماً من بين الأموات وواهباً الحياة للذين في القبور.
وختم بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس البطريرك يوحنا العاشر رسالته بمناسبة زمن الصوم بالقول هذه مسيرة الكنيسة وهذا دليلها لنفس كلٍّ منا لنسلك صحبة هذا الختن السماوي. الصوم هو مسيرة توبةٍ ومسيرة رحمةٍ تُترجم أفعالاً. نرفع صلاتنا في هذه الأيام المباركة ونسأل رب الرحمة وإله الرأفات أن يرسل رأفاته إلى العالم أجمع ويبارك الجميع ويديم في القلوب رجاءه الصالح ويغرس في النفوس بلسم عزائه الإلهي ويزرع في الكيان البشري شيئاً من رويّته ونورانيته ويسكت بجبروت صمته ظلامَ هذا العالم المتأجج حروباً وخطفاً وغلياناً وتكفيراً. نسأله أن يضم راقدينا إلى صدره القدوس ويطلع عليهم نور رحمته ويرسل الطمأنينة إلى النفوس والديار هو المبارك والممجد أبد الدور.