«الأسبلة».. منابع العطاء والرحمة فى الحضارة الإسلامية
تاريخ النشر: 24th, March 2024 GMT
لم يذكر التاريخ حضارة ذو وجهة إنسانى كالحضارة الإسلامية، وأثار تكريمها للإنسان ورعاية الحيوان لم يُدونها المؤرخين وحسب، ولكنها ما زالت حاضرة وشاهدة فى طُرقات المحروسة إلى عصرنا الحالى، حيث الأسبلة التى كانت تُروى العطشان إنسانا كان أو حيوان، وتُخلد ذكرى صاحبها، وتُدرس اللغة والقرآن للأطفال، ولم تُشيد بإهمال أو بُخل ولكن ببراعة معمارية وزخرفة بديعة تُزين زوايا قاهرة المُعز.
الأسبلة هى جمع سبيل، والسبيل هو منشأة توفر مياه نظيفة فى سبيل الله بلا أجر، وتضعها أمام المسافر وأبناء البلاد من الفقراء، ويُشيدها أحد المُحسنين القادرين راجيًا الثواب من الله وحسن الِذكر فى الحياة والممات، وقد يُنشأ لأسباب سياسية كما حدث مع أشهر الأسبلة فى القاهرة «سبيل أم عباس» وهى والدة الخديوى عباس حلمى الأول، حيث أنشأته ليرتبط الخير فى أذهان العامة بذكر ولدها العباس، لأن المصريين لا يحبونه.
الوجه الإنسانى للحضارة الإسلامية
كان للحضارة الإسلامية السبق فى حقوق الحيوان ورعايته، والأسبلة لم تكن للإنسان وحسب، بل وصل الأمر لدرجة إنشاء أسبلة لسقية كلاب الشوارع، وكان أهل الله من الأولياء الصوفية يعملون على تذكية أنفسهم بغسل تلك الأسبلة الخاصة بالحيوانات بأنفسهم، وأرض ما بين النهرين فى مدينة دمشق، وهى المعروفة اليوم بأرض المعرض، هى أرض وقف للحيوانات الهرمة والمريضة والسائبة، بالإضافة إلى مجارى مياه مخصصة فى الأسبلة لسقية الخيول، فأبدعت الحضارة الإسلامية فى إنسانيتها وإيصال رسالة الإسلام من رحمة وعطاء.
أول سبيل فى الإسلام
هاجر المسلمين للمدينة المنورة، وبطبيعة الحال كانوا فى حاجة إلى مياه، وكان هناك بئر يُدعى «بئر رومة» يمتلكها رجلا يهوديًا ويبيعها للمسلمين بأسعار باهظة، فتمنى سيدنا محمد أن يشتريها أحد المسلمين ويجعلها فى سبيل الله للناس بلا ثمن، فقال صلى الله عليه وسلم:»: «مَنْ يَشْتَرِى بِئْرَ رُومَةَ فَيَكُونُ دَلْوُهُ فِيهَا كَدِلَاءِ الْمُسْلِمِينَ»، وهنا سارع الصحابى الجليل عثمان بن عفان رضى الله عنه إلى شرائها من المالك اليهودى وجعل البئر كلها للمسلمين وقفًا لله تعالى تفيض بمائها بغير أجر سوى أجر الله تعالى لصاحبها.
ومن هنا أصبحت تُعرف «ببئر عثمان بن عفان» وكان أول سبيل فى تاريخ الإسلام، وظل لسنوات منبعاً لسكان المدينة وزوارها، وفى بعض السنوات عانت من الإهمال، وحديثًا قامت السعودية برعاية البئر واستصلاح الأرض التى تقع فيها البئر للإستفادة منها فى زراعة النخيل، وتوزيع ثمره على المحتاجين، ليستمر وقف الصحابى الجليل حتى يومنا هذا، معروفًا باسم «مزرعة وبئر عثمان بن عفان» رضى الله عنه.
أسبلة المحروسة
مازالت مصر القديمة وخاصة منطقة الحسين وشارع المعز لدين الله الفاطمى فى ردائها التراثى من مبانى ومساجد تاريخية من عصور إسلامية مختلفة يتجاوز أقدمها التسعمائة عام، وهناك ما يزيد على ثلاثمائة سبيل عثمانى ومملوكى فى نواحى المحروسة، بقيت تُحف فنية وإرث حضارى وإنسانى لم يسبق له مثيل بين الحضارات، وغيرهم فى القدس وبلاد الشام وإسطنبول.
وكان أول ظهور لها بشكلها المعهود معماريًا وجماليًا فى العهد الأيوبى على يد بعض الأمراء وقف لله تعالى لسقاية المارة فى الطُرقات، وهذا رغم قسوة المماليك المعروفة، وانتشرت فيما بعد بشكل واسع فى العهد العثمانى، وكان يُرفق بها وقف من البساتين والأملاك لتُنفق عليها وعلى من يقوم بخدمتها.
التكوين المعمارى للأسبلة
التزم السبيل بطابع خاص لم يتغير كثيرًا حتى بعد تطور الأسبلة على مر العصور، حيث يتكون من بناء ضخم ذو طابقين، الأول صهريج مائى وهو بئر محفورة فى الأرض، وفيه تُخرن مياه النيل والأمطار، ثم الدور الثانى وهو حجرة من الرخام يمر عليها الماء ليكتسب البرودة وتُسمى «حجرة التسبيل»، ومنها تُرفع المياة بواسطة قنوات مخصوصة إلى فتحات النوافذ حيث صنابير المياه، وقد يُلحق بالسبيل كُتاب فى الطابق الثانى لتدريس اللغة العربية وتحفيظ القرآن الكريم لأصحاب الصف الإلزامى، وهنا يكون ذو وظيفة مزدوجة فيطلق عليه «سبيل وكُتاب».
ويقوم على خدمة السبيل «المزملاتي»، وهو موظف يُشترط فيه قوة البدن والنظافة وحسن معاملة المواطنين، وفى العصر العثمانى تطورت وظيفته وأصبح له مساعد يُدعى «السَّبيلجي» يقوم برفع الماء من البئر«الصهريج» وتعبئة الأحواض، وتفرغ المزملاتى إلى شباك التسبيل ومزج الماء بماء الورد والإشراف العام على خدمات السبيل.
الأسبلة بين الماضى والحاضر
انقطعت الأسبلة عن العمل بعد وجود شركات مياه توافرها بلا جهد، وكما نقارن بين الماضى والحاضر فى أسى ورِثاء بالغ على حاضرنا وواقعنا دائمًا فى أصغر التفاصيل، فالفارق بين السبيل قديمًا والآن عظيم، لا تقوى عين على إغفاله، فقد انتقلنا من تحفة معمارية بديعة مازالت تأخذ الأنفاس من روعتها، ومنشأه تعمل على رعاية الإنسان والحيوان وخدمات علمية إلى كتلة من الحديد الصامت بها صنبور مربوط بسلسلة تنتهى بكوب بلاستيكى أو ألومونيوم لمنع سرقته، وبعضها مُكهرب لكثرة السرقة، تفتقر كل الفقر إلى أبسط أشكال النظافة.
ومكتوب عليه بحروف مقطعة ورديئة «نرجو الدعاء للمرحوم فلان»، بدلًا من أبياتًا شعرية بأيدى خطاطين ونحاتين ذو مهارة كما كان فى حضارتنا السابقة، فتروى عطشك وروحك معًا وأنت تقرأ «يا وارد الماء الزلال الصافى.. إشرب هنيئا صحة وعوافى» أو بآيات الله وقوله تعالى: «إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا» أو قوله عز وجل: «ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا، عينا فيها تسمى سلسبيلا».
المصدر: بوابة الوفد
إقرأ أيضاً:
وزير العدل يحسمها.. هل يتم إخلاء سبيل الموقوفين خلال الساعات المقبلة؟
أشار وزير العدل هنري خوري إلى أن المجلس العدلي بدأ بتلقي طلبات لإخلاء سبيل.
وأكد في حديث تلفزيوني أن لا صحة لكل ما يتم تداوله عن إخلاء سبيل الموقوفين خلال الساعات القليلة المقبلة.