لم يذكر التاريخ حضارة ذو وجهة إنسانى كالحضارة الإسلامية، وأثار تكريمها للإنسان ورعاية الحيوان لم يُدونها المؤرخين وحسب، ولكنها ما زالت حاضرة وشاهدة فى طُرقات المحروسة إلى عصرنا الحالى، حيث الأسبلة التى كانت تُروى العطشان إنسانا كان أو حيوان، وتُخلد ذكرى صاحبها، وتُدرس اللغة والقرآن للأطفال، ولم تُشيد بإهمال أو بُخل ولكن ببراعة معمارية وزخرفة بديعة تُزين زوايا قاهرة المُعز.

الأسبلة هى جمع سبيل، والسبيل هو منشأة توفر مياه نظيفة فى سبيل الله بلا أجر، وتضعها أمام المسافر وأبناء البلاد من الفقراء، ويُشيدها أحد المُحسنين القادرين راجيًا الثواب من الله وحسن الِذكر فى الحياة والممات، وقد يُنشأ لأسباب سياسية كما حدث مع أشهر الأسبلة فى القاهرة «سبيل أم عباس» وهى والدة الخديوى عباس حلمى الأول، حيث أنشأته ليرتبط الخير فى أذهان العامة بذكر ولدها العباس، لأن المصريين لا يحبونه.

 

الوجه الإنسانى للحضارة الإسلامية

كان للحضارة الإسلامية السبق فى حقوق الحيوان ورعايته، والأسبلة لم تكن للإنسان وحسب، بل وصل الأمر لدرجة إنشاء أسبلة لسقية كلاب الشوارع، وكان أهل الله من الأولياء الصوفية يعملون على تذكية أنفسهم بغسل تلك الأسبلة الخاصة بالحيوانات بأنفسهم، وأرض ما بين النهرين فى مدينة دمشق، وهى المعروفة اليوم بأرض المعرض، هى أرض وقف للحيوانات الهرمة والمريضة والسائبة، بالإضافة إلى مجارى مياه مخصصة فى الأسبلة لسقية الخيول، فأبدعت الحضارة الإسلامية فى إنسانيتها وإيصال رسالة الإسلام من رحمة وعطاء.

 

أول سبيل فى الإسلام

هاجر المسلمين للمدينة المنورة، وبطبيعة الحال كانوا فى حاجة إلى مياه، وكان هناك بئر يُدعى «بئر رومة» يمتلكها رجلا يهوديًا ويبيعها للمسلمين بأسعار باهظة، فتمنى سيدنا محمد أن يشتريها أحد المسلمين ويجعلها فى سبيل الله للناس بلا ثمن، فقال صلى الله عليه وسلم:»: «مَنْ يَشْتَرِى بِئْرَ رُومَةَ فَيَكُونُ دَلْوُهُ فِيهَا كَدِلَاءِ الْمُسْلِمِينَ»، وهنا سارع الصحابى الجليل عثمان بن عفان رضى الله عنه إلى شرائها من المالك اليهودى وجعل البئر كلها للمسلمين وقفًا لله تعالى تفيض بمائها بغير أجر سوى أجر الله تعالى لصاحبها.

ومن هنا أصبحت تُعرف «ببئر عثمان بن عفان» وكان أول سبيل فى تاريخ الإسلام، وظل لسنوات منبعاً لسكان المدينة وزوارها، وفى بعض السنوات عانت من الإهمال، وحديثًا قامت السعودية برعاية البئر واستصلاح الأرض التى تقع فيها البئر للإستفادة منها فى زراعة النخيل، وتوزيع ثمره على المحتاجين، ليستمر وقف الصحابى الجليل حتى يومنا هذا، معروفًا باسم «مزرعة وبئر عثمان بن عفان» رضى الله عنه.

 

أسبلة المحروسة

مازالت مصر القديمة وخاصة منطقة الحسين وشارع المعز لدين الله الفاطمى فى ردائها التراثى من مبانى ومساجد تاريخية من عصور إسلامية مختلفة يتجاوز أقدمها التسعمائة عام، وهناك ما يزيد على ثلاثمائة سبيل عثمانى ومملوكى فى نواحى المحروسة، بقيت تُحف فنية وإرث حضارى وإنسانى لم يسبق له مثيل بين الحضارات، وغيرهم فى القدس وبلاد الشام وإسطنبول.

وكان أول ظهور لها بشكلها المعهود معماريًا وجماليًا فى العهد الأيوبى على يد بعض الأمراء وقف لله تعالى لسقاية المارة فى الطُرقات، وهذا رغم قسوة المماليك المعروفة، وانتشرت فيما بعد بشكل واسع فى العهد العثمانى، وكان يُرفق بها وقف من البساتين والأملاك لتُنفق عليها وعلى من يقوم بخدمتها.

 

التكوين المعمارى للأسبلة

التزم السبيل بطابع خاص لم يتغير كثيرًا حتى بعد تطور الأسبلة على مر العصور، حيث يتكون من بناء ضخم ذو طابقين، الأول صهريج مائى وهو بئر محفورة فى الأرض، وفيه تُخرن مياه النيل والأمطار، ثم الدور الثانى وهو حجرة من الرخام يمر عليها الماء ليكتسب البرودة وتُسمى «حجرة التسبيل»، ومنها تُرفع المياة بواسطة قنوات مخصوصة إلى فتحات النوافذ حيث صنابير المياه، وقد يُلحق بالسبيل كُتاب فى الطابق الثانى لتدريس اللغة العربية وتحفيظ القرآن الكريم لأصحاب الصف الإلزامى، وهنا يكون ذو وظيفة مزدوجة فيطلق عليه «سبيل وكُتاب».

ويقوم على خدمة السبيل «المزملاتي»، وهو موظف يُشترط فيه قوة البدن والنظافة وحسن معاملة المواطنين، وفى العصر العثمانى تطورت وظيفته وأصبح له مساعد يُدعى «السَّبيلجي» يقوم برفع الماء من البئر«الصهريج» وتعبئة الأحواض، وتفرغ المزملاتى إلى شباك التسبيل ومزج الماء بماء الورد والإشراف العام على خدمات السبيل.

 

الأسبلة بين الماضى والحاضر

انقطعت الأسبلة عن العمل بعد وجود شركات مياه توافرها بلا جهد، وكما نقارن بين الماضى والحاضر فى أسى ورِثاء بالغ على حاضرنا وواقعنا دائمًا فى أصغر التفاصيل، فالفارق بين السبيل قديمًا والآن عظيم، لا تقوى عين على إغفاله، فقد انتقلنا من تحفة معمارية بديعة مازالت تأخذ الأنفاس من روعتها، ومنشأه تعمل على رعاية الإنسان والحيوان وخدمات علمية إلى كتلة من الحديد الصامت بها صنبور مربوط بسلسلة تنتهى بكوب بلاستيكى أو ألومونيوم لمنع سرقته، وبعضها مُكهرب لكثرة السرقة، تفتقر كل الفقر إلى أبسط أشكال النظافة.

ومكتوب عليه بحروف مقطعة ورديئة «نرجو الدعاء للمرحوم فلان»، بدلًا من أبياتًا شعرية بأيدى خطاطين ونحاتين ذو مهارة كما كان فى حضارتنا السابقة، فتروى عطشك وروحك معًا وأنت تقرأ «يا وارد الماء الزلال الصافى.. إشرب هنيئا صحة وعوافى» أو بآيات الله وقوله تعالى: «إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا» أو قوله عز وجل: «ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا، عينا فيها تسمى سلسبيلا».

 

المصدر: بوابة الوفد

إقرأ أيضاً:

البحوث الإسلامية: الأزهر يمد جسور التواصل لتعميق فهم الشباب بهويتهم الإيمانية

واصلت اللجنة العليا للدعوة بمجمع البحوث الإسلامية فعاليات «أسبوع الدعوة الإسلامية الثاني عشر»، تحت عنوان: «لماذا الإيمان أولًا؟»، وذلك برعاية الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، حيث عقد ثاني أيامه بكلية التربية جامعة بنها، بندوة تحت عنوان: «الإيمان والهوية: من أنا؟ ولماذا أنا هنا؟»، بمشاركة نخبة من علماء الأزهر، وبحضور  عدد من قيادات وأعضاء هيئة التدريس بالكلية، وقد استهدفت الندوة ترسيخ الوعي بالقيم الوجودية والدينية لدى الشباب، من خلال مقارنة عميقة بين التفسيرات المادية والإيمانية للوجود، وكيفية صياغة الهوية الإيمانية القادرة على الصمود أمام التحديات العالمية المعاصرة.

أمين البحوث الإسلامية: الأزهر كان شريكًا في نصر أكتوبر البحوث الإسلامية يعلن فَتْح باب التقدُّم إلى المسابقة العامَّة للإيفاد في اللُّغات 2025/2026م

في بداية الندوة أعرب الأستاذ الدكتور أحمد حسن عاشور ، وكيل كلية التربية لشئون الطلاب، عن تقديره للدور المحوري للأزهر الشريف في التواصل مع الشباب، ومناقشة أفكارهم، مما يعزز فهمهم للمسائل الدينية والأفكار المتعلقة بالعقيدة، وحث أبناءه من طلاب الكلية على ضرورة استثمار هذا اللقاء في طرح كل الأفكار التي تدور بعقولهم، من أجل فهمها على الوجه الصحيح الذي جاء به الدين الإسلامي الحنيف.

وشارك في الندوة الدكتور أحمد همام، مدير عام الإعلام الديني بمجمع البحوث الإسلامية، حيث أكد أن الدين الإسلامي هو منهج متكامل يرسخ العلاقة الروحية بين الإنسان وخالقه، ويتمثل ذلك في التزام الفرد بمسؤولياته وتكليفاته الشرعية، قال تعالى: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾، ثم أعقبها بآية التخفيف والتيسير ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾، دلالة على المنهج الرباني القائم على الرحمة، موضحا  أن الإيمان هو الرد المنطقي الوحيد على الأسئلة الوجودية الكبرى المتعلقة بالغاية من الخلق، وهو ما يتناقض جذريًا مع التفسير المادي الذي يرى الوجود وليد الصدفة والعشوائية، كما أشار إلى أن هذا الارتباط الوثيق بالخالق يمنح المؤمن أساسًا عميقًا للسكينة والاستقرار النفسي، مما يشكل صمام أمان داخليًا.
وشدد همام على أن الإيمان ليس مجرد عبادات، بل هو نظام قيم يمنح الشاب هويته وقواعده الراسخة والمتوازنة، ويعد هذا تحصينًا ضروريًا لمواجهة ضغوط وتحديات العولمة ووسائل التواصل الاجتماعي، التي تسعى لطمس الهويات، ونشر الاستهلاك المفرط، وتغريب الأجيال، لهذا تميز الإسلام بمفهوم الوسطية، بوصفه المنهج الذي يوازن بين الروح والمادة، ويرفض التطرف المادي والفكري على حد سواء.
كما أوضح أن عبادة الله تعالى حق مفروض ومطلق له سبحانه، وتتجلى دلالات هذه العبادة في الالتزام بأوامره والانتهاء عن نواهيه، وأكد أن هذا الالتزام ليس قيدًا، بل هو المصدر الحقيقي للسعادة والطمأنينة؛ فعندما يحسن العبد عبادة ربه، يتحقق لديه التوازن النفسي والروحي الذي يجعله محصنًا ضد الفراغ الروحي واليأس، وهو ما يمثل أكبر تحد في العصر المادي الذي يسعى لإفراغ حياة الفرد من معناها العميق، لذلك، فإن الإيمان هو البوصلة التي توجه السلوك وتضبط الانفعالات، وتؤسس لرؤية واضحة للكون والحياة، مما يحول دون الانسياق وراء قيم الاستهلاك الزائلة. 
واختتم مدير الإعلام الديني حديثه بالتأكيد على أن مهمة الأزهر الشريف هي مد جسور التواصل لتعميق هذا الفهم لدى الشباب، وإعادة ربطهم بأصل هويتهم الإيمانية لتجنب الوقوع في فخ الأفكار المتطرفة أو المنحرفة التي تستغل هذا الفراغ الروحي.

فيما تحدث الأستاذ الدكتور عماد العجيلي، أستاذ العقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر، عن هوية الأمة الإسلامية التي تميزها عن غيرها من الأمم، مبينا أننا نمر بمرحلة تتسارع فيها وتيرة تطور الأفكار والتغيير، وهو ما نتج عنه حربًا فكرية شرسة موجهة بشكل مباشر نحو عقول الشباب المسلم بهدف السيطرة عليها، مستغلة أسئلة خلق الإنسان ومصيره، حيث يحاول بعض الفلاسفة بث إجابات زائفة في عقول الشباب، تقوم على فرضيات باطلة مثل أن الكون جاء صدفة بلا غاية (كنظرية التطور)، في محاولة لقطع الصلة بين الخلق وخالقهم، لأن الإسلام يمثل الحصن الفكري المنيع، بما يقدمه من إجابات شافية ومقنعة لكل هذه التساؤلات الوجودية، ما يجعله الدرع الواقي لأفكار وعقول شباب الأمة.
وأضاف العجيلي، أن القرآن الكريم كشف مراحل خلق الإنسان بدقة متناهية، بدءًا من النطفة، ثم العلقة، فـالمضغة، وهو ما توصل إليه العلم الحديث لاحقًا، وهو ما يعد دليلاً قاطعًا على أن الحق سبحانه وتعالى زودنا بإجابات شافية تحصن عقولنا وتمنعها من الوقوع فريسة للأفكار العابثة التي تحاول التشكيك في عقيدتهم، مبينًا أن الحق  -سبحانه وتعالى- خلق الإنسان لعبادته، ووضع له منهجًا شاملاً يضمن تكريمًا حقيقيًا لإنسانيته؛ ومن ثم فإن كل تعاملاتنا اليومية هي جزء لا يتجزأ من هذه العبادة، لهذا نجد الشريعة الإسلامية وضعت منهجًا  ينظم جميع جوانب حياتنا، وبالتالي، فإن محاولات خلخلة عاداتنا وقيمنا الدينية ليست سوى غزو فكري  يستهدف إضعاف وتذويب هويتنا الإسلامية، مما يستوجب اليقظة والتمسك بهذا المنهج الإسلامي.
وفي الختام، شدد الدكتور العجيلي على ضرورة أن يتمسك الشباب  بالفهم العميق للإيمان، كونه الضمانة الوحيدة لتكوين هوية قوية وواعية وقادرة على تحقيق هدف وجودنا في هذه الحياة، لأن الإيمان يوفر البوصلة الأخلاقية التي تمكنهم من التفريق بين الحق والباطل، وبين ما هو نافع وما هو ضار، في ظل التدفق الهائل للمعلومات والأفكار عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

من جانبه أكد الشيخ يوسف المنسي، عضو الأمانة العليا للدعوة، أن الدين الإسلامي يمثل الحصن الحقيقي لعقول الشباب، لكونه يمتلك الإجابات الشافية واليقينية للأسئلة الوجودية الكبرى التي تدور في أذهانهم، وهذه الإجابات لا تترك مجالاً للشك أو التذبذب، على عكس ما يمكن أن يحدث في بعض فروع العلوم التجريبية التي تتغير نظرياتها باستمرار وتعتمد على الفرضيات المؤقتة، لأن القرآن الكريم هو الدستور العقائدي الأعظم، فبما أن الأمر يتعلق بالإيمان بالخالق وما يدور في ذهن الشباب حوله، كان لابد أن يكون الخطاب كلام الله المباشر ليمنح اليقين المطلق، ويتميز الخطاب القرآني بأسلوب فريد يخاطب العقل والفطرة معًا؛ فهو يدعو إلى التفكير والتأمل التدريجي، مستخدماً دلائل محسوسة وملموسة من واقع الحياة، مشيراً إلى أن هذه الدعوة للتدبر في الكون المحسوس هي أكبر دليل على تكريم الإسلام للعقل ومواءمته مع المنهج العلمي القائم على الملاحظة.

يذكر أن فعاليات «أسبوع الدعوة الإسلامية الثاني عشر» الذي تنظمه اللجنة العليا للدعوة بمجمع البحوث الإسلامية بالتعاون مع «جامعة بنها»  بدأ أمس الأحد ١٢ أكتوبر ويستمر حتى يوم الخميس ١٦ أكتوبر، ويتضمن سلسلة من الندوات التي تهم الشباب مثل: «الإيمان والهوية»، و«تحديات الإيمان في العصر الرقمي»، و«الإيمان والحياة»، و«الإيمان وتحقيق الأهداف». ويأتي تنفيذ هذه الأسابيع في إطار حرص الأزهر الشريف على مد جسور التواصل مع شباب الجامعات، وترسيخ وعيهم بالقيم الدينية والوطنية، وتحصينهم من الأفكار المنحرفة والمتطرفة، بما يسهم في بناء جيلٍ واع ومستنير يحمل رسالة الوسطية والاعتدال.

مقالات مشابهة

  • على سبيل الأمل.. يبقى الصلح خير
  • حين تغيب المودة والرحمة.. يصبح الزواج مجرد بريستيج أمام المجتمع..
  • “تيكا” التركية ترمم سبيل ماء السلطان عبد الحميد الثاني في لبنان
  • حكم الحجامة والتداوي بها في الشريعة الإسلامية
  • هل منع العطاء يعد من الابتلاء؟.. الأزهر يوضح
  • مباراة لإحياء الأمل تعود في عام 2026 لتواصل إرثٍ من العطاء تجاوز 19.5 مليون دولار لصالح الأعمال الخيرية
  • البحوث الإسلامية: الأزهر يمد جسور التواصل لتعميق فهم الشباب بهويتهم الإيمانية
  • على غرار الرومان والإغريق.. هل الحضارة الأميركية آيلة للسقوط؟
  • قيادات جامعة الأزهر يفتتحون ندوة "الإسلام حضارة بين التأصيل والمعاصرة واستشراف المستقبل"
  • قيادات جامعة الأزهر يفتتحون ندوة الإسلام حضارة بين التأصيل والمعاصرة بكلية الوافدين