يرى البعض أن العلاقات الحميمة مع إسرائيل أو العدائية لها، تدخل فى إطار الدبلوماسية وميزان التفاوض تجنباً لويلات الحروب وزعزعة الاستقرار، من هذه الرؤية يكون الوقوف على أرضية المصالح ومعادلات المكاسب والخسائر هو المعيار الأوحد والأشمل والأدق لتقييم تلك العلاقات، ويكون هذا المعيار أيضاً هو مسار الإجابة عن السؤال: من المنتصر ومن المهزوم؟ وبتغيير صيغة السؤال من مفردات الحرب إلى لغة المصالح يصبح: من الرابح ومن الخاسر؟
وبعيداً عن الإجابات التى تنبع من العاطفة أو تخرج من عقليات تخضع لعملية الخوف أحياناً والرقابة الذاتية أحياناً أخرى، يقول ريتشارد نيكسون «يناير 1913 - أبريل 1994» الرئيس السابع والثلاثون للولايات المتحدة الأمريكية إن ما نفعله خارج جلسات التفاوض لا يقل أهمية عما نفعله داخلها، ومن البديهيات أنك لا تستطيع أن تكسب على مائدة المفاوضات أكبر مما تستطيع أن تكسبه فى ساحات المعارك.
وإذا كانت الاختلافات بين روسيا «الاتحاد السوفيتى سابقاً» والولايات المتحدة لا تندرج كما يقول «نيكسون» تحت بند سوء التفاهم الذى تعالجه مواقف وإجراءات تكتيكية، وإنما هى اختلافات جذرية وأساسية فى العقائد والمصالح والنوايا مما يجعل هذا الصراع مستمراً، فإن هذا المفهوم ينطبق تماماً على العداء بيننا كعرب وبين الكيان المحتل، وزد عليه أن هذا العداء ناتج عن احتلال أرض وإبادة شعب وانتهاك سيادة.
هذه الحالة من الاختلافات الجذرية وضع «نيكسون» ثلاث نقاط أساسية للتعامل معها وهى: الردع والمنافسة والتفاوض، لتصبح تلك النقاط ركائز الإجابة عن السؤال البديهى الذى يدخل فى صيغة الماضى المستمر: ما الذى يجب أن نفعله إذن؟
فى استراتيجية التفاوض يرى «نيكسون» أنه: «سنكون بحاجة إلى تطوير القدرة على وضع مقترحات تحقق أهدافنا وتخلق فى الوقت ذاته ضغوطاً سياسية على السوفيت لقبول شروطنا، ويعنى هذا فى الجوهر تقديم عرض لا يريد الجانب الآخر أن يقبله لكنه يشعر بأنه لا يستطيع أن يرفضه، نحن بحاجة لأن نقدم إلى الكرملين خيارات مصاغة بحيث يؤدى رفضها إلى الإضرار بالاتحاد السوفيتى سياسياً، ولكن قبولها يتعارض مع غرائز موسكو، فإن رفضها زعماء الكرملين نحقق مكسباً فى المنافسة السياسية، وإذا قبلوا ما نعرضه فإننا نحقق أهدافنا».
هذا المبدأ تستخدمه إسرائيل والولايات المتحدة ضدنا لكسب المزيد من الوقت وكغطاء لارتكاب المجازر وعمليات الإبادة فى غزة، فنرى ونسمع عن مبادرات وقف إطلاق النار، والحديث عن هدنة وما يرادفها من مفردات، بل وزد عليه ما ذكره «نيكسون» فى تلك الاستراتيجية بأن يكون أسلوب التفاوض هو التحدث بلين والتصرف بخشونة، بعكس ما يفعل الكثيرون الذين يتحدثون بخشونة ويتصرفون بلين! .. علامة التعجب من عندى.
فهل هذا ما يحدث خلف الكاميرات وداخل الغرف المغلقة؟ فنرى بنود استراتيجية التفاوض السابقة هى ركائز دبلوماسية الإبادة الممنهجة فى غزة، فيتم الحديث عن مفاوضات ومساعدات إنسانية لشعب يموت فى صمت، وأطفال نهشهم الجوع فصاروا هياكل عظمية قبل أن يلفظوا أنفاسهم الأخيرة!
ونتيجة للفقرات السابقة، هل يمكن أن يقول لنا أحدهم: ما هى مكاسب دبلوماسية السلام مع إسرائيل منذ أن تم زرعها فى الشرق الأوسط؟ هل لدى أحدهم إجابة غير ارتكاب كل يوم مجزرة، وفى كل بلد مجزرة، وفى كل مدينة مجزرة، وفى كل شارع مجزرة، من جنين وطولكرم ونابلس والجليل والناصرة، إلى حيفا وبلدة الشيخ «تل جنان» ودير ياسين وقرية أبوشوشة، مروراً بالطنطورة والقدس وصبرا وشاتيلا والمسجد الأقصى ومذبحة الحرم الإبراهيمى، وصولاً إلى مراحل الإبادة الجماعية التى تحدث فى غزة الآن.. من لديه إجابة أخرى فليخبرنا بها؟!
فى النهاية.. نحن نتفاوض على حقن دماء وحماية أرواح والحفاظ على أرض وشعب، ولا بد أن يكون التفاوض على قدر الحدث، وعلينا أن نحدد بوضوح ماذا نريد وما هى التدابير اللازمة لإحداث ضغط سياسى لتحقيق ما نريد، وكما يقول «نيكسون» إن الردع والتنافس والتفاوض كلها عناصر متكافئة الأهمية فى استراتيجيتنا الشاملة للوصول إلى السلام الحقيقى.
الخلاصة.. يعلم الحكام العرب قبل شعوبهم أن إسرائيل هى العدو الأول لنا والخطر الحقيقى علينا، فلا تجعلوا من الدعاء الخيار الأوحد ووسيلة الضغط الوحيدة لإنهاء هذا العدوان على غزة، ربما تحتاجون من تلك الشعوب ما هو أكثر من ذلك فى يوم من الأيام.
وأخيراً.. أتحدث بصيغة الجمع، لأن الخطر واحد وعدونا واحد.
[email protected]
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: أشرف عزب إطار الدبلوماسية التفاوض
إقرأ أيضاً:
السفينة «سلطانة».. رحلات دبلوماسية تربط الشرق بالغرب
بين عامي 1838 و1842م مرت عُمان بفترة مهمة برزت فيها قوتها البحرية والدبلوماسية. كان الملاحون العمانيون يتمتعون بمهارات فائقة، ليس فقط في التجارة الدولية بل أيضًا في إقامة العلاقات الدبلوماسية مع القوى العالمية. وفي هذه الفترة القصيرة، استطاع السيد سعيد بن سلطان أن يؤسس روابط دبلوماسية مع بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، وأرسل سفراء إلى كل من لندن ونيويورك، مما جعل هذه الأعوام نقطة بارزة في تاريخ عُمان البحري والدبلوماسي.
كانت السفينة «سلطانة»، التي لعبت دورًا مهمًا في هذه العلاقات، قد بنيت عام 1833م في حوض مازاجون لبناء السفن بمدينة بومباي. وبلغت حمولتها 312 طنًا، وكانت مصممة على الطراز الأوروبي، مزودة بـ14 مدفعًا وثلاثة صواري تحمل أشرعة مربعة. جرى تعديل السفينة لاحقًا في بومباي ومطرح لإضفاء الطابع العماني عليها. صُورت «سلطانة» في مناسبتين: الأولى خلال تفريغ الهدايا المرسلة للملكة فيكتوريا، والثانية في لوحة للرسام الأمريكي موني، التي تصور السفير أحمد بن نعمان الكعبي.
بدأ اهتمام الولايات المتحدة بعمان في التنامي مع تزايد النشاط التجاري في زنجبار، التي كانت تحت سيطرة السيد سعيد. منذ عام 1830م، اتخذ السيد سعيد زنجبار مقرًا له، وكان يعلم أن ازدهار عمان يعتمد على استقرار ممتلكاته في شرق إفريقيا. وبالتالي، خصص الكثير من جهوده لتعزيز الأمن والاستقرار هناك منذ عام 1828م. كانت الولايات المتحدة واحدة من الدول الغربية التي سعت إلى علاقات متينة مع عُمان، وعُقدت معاهدة صداقة وتجارية بين السيد سعيد والولايات المتحدة في عام 1834م. ونتيجة لهذه المعاهدة، عُين ريتشارد ووترز كأول قنصل أمريكي في زنجبار عام 1837م، أي قبل وصول القنصل البريطاني الأول بأربع سنوات.
كان التجار الأمريكيون يجلبون بضائع متنوعة إلى زنجبار، مثل الأقمشة القطنية، والأدوات المنزلية، والأسلحة، والبارود، وكانوا يشترون بالمقابل صمغ الكوبال، وجوز الهند، والقرنفل، والعاج. وقد هيمن الأمريكيون على تجارة العاج، حتى أنهم جعلوا التجار البريطانيين يشتكون من احتكارهم للسوق، مما دفع البريطانيين إلى تعيين أول قنصل لهم في زنجبار، أتكنس هامرتون، عام 1841م.
على الجانب الآخر، كانت العلاقات بين السيد سعيد والحكومة البريطانية قائمة على أسس رسمية. ورغم توتر هذه العلاقات أحيانًا، أهدى السيد سعيد الملكة فيكتوريا سفينة بـ74 مدفعًا تُدعى «ليفربول» عام 1837م، وردت الملكة باليخت الملكي «برنس ريجنت». بعد وفاة الملك وليام الرابع، أرسل السيد سعيد بعثته الدبلوماسية الأولى إلى الملكة فيكتوريا في لندن. وكان علي بن ناصر، والي ممباسا وقريب السيد سعيد، هو مبعوثه، محملًا بهدايا ثمينة، إلا أن المكاسب الدبلوماسية التي حققها كانت محدودة، رغم الاحترام الذي حظي به.
في عام 1840م أبحرت السفينة «سلطانة» في رحلة تاريخية إلى نيويورك بقيادة أحمد بن نعمان الكعبي، الذي اختاره السيد سعيد لتمثيله. كانت هذه الرحلة الأولى من نوعها لسفينة عربية إلى الولايات المتحدة. أبحرت «سلطانة» من زنجبار، محملة بسلع متنوعة وهدايا للرئيس الأمريكي مارتن فان بيورين، بما في ذلك خيول، وأحجار كريمة، وذهب، وعطور. استغرقت الرحلة 87 يومًا، مرّت خلالها برأس الرجاء الصالح وتوقفت مرة واحدة في سانت هيلانة.
عند وصولها إلى نيويورك، أثارت البعثة اهتمام الصحافة الأمريكية. استُقبل أحمد بن نعمان ومساعداه بحرارة، وزاروا معالم نيويورك، مثل محطات السكك الحديدية وحوض بناء السفن. كما أقيمت لهم مآدب رسمية، وتولت الحكومة الأمريكية إصلاح السفينة على نفقتها. بعد انتهاء الزيارة، بيعت السلع التي حملتها «سلطانة»، واشترت سلعًا للرحلة العودة، مثل البنادق المزخرفة والأدوات المنزلية.
ورغم أن أحمد بن نعمان لم يحمل معه أوراق اعتماد رسمية كسفير، فقد سلم رسالة السيد سعيد بن سلطان إلى الرئيس الأمريكي، الذي رد برسالة ودية وهدايا ثمينة عبارة عن زورق فخم مؤثث ومرآتين كبيرتين وشمعدان دقيق الصنع في غاية الإبداع مع مسدسات تدور ذاتيا ومتعددة الطلقات نقش عليها باللغة العربية «من رئيس الولايات المتحدة الأمريكية إلى سلطان مسقط وعمان» وإحدى هذه القطع معروضة بالمتحف الوطني بمسقط وكذلك بنادق صيد متطورة، والأهم من ذلك رسالة معبرة تفيض بالثناء والعرفان للسيد سعيد بن سلطان آل سعيد سلطان مسقط وزنجبار من الرئيس الأمريكي..بعد ذلك، غادرت «سلطانة» نيويورك في أغسطس 1840م، وعادت إلى زنجبار في ديسمبر، بعد رحلة شاقة توقفت خلالها مرة واحدة.
وفي عام 1842م قامت «سلطانة» برحلة دبلوماسية أخرى إلى لندن، حاملة السفير علي بن ناصر. حمل السفير رسائل إلى اللورد أبردين والملكة فيكتوريا، إلى جانب هدايا فاخرة. ورغم أن السفير علي بن ناصر لقي استقبالًا حافلًا، إلا أن النتائج الدبلوماسية كانت مرة أخرى محدودة، ولم تتحقق التوقعات بإبرام اتفاقيات جديدة. أُجريت مباحثات صعبة بين علي بن ناصر ووزارة الخارجية البريطانية.
خلال هذه الرحلة، تعرضت «سلطانة» لبعض الأضرار، لكنها وصلت لندن في يونيو 1842م. أثارت السفينة فضول البريطانيين، وأمر اللورد أبردين بإجراء إصلاحات لها على نفقة الدولة. ورغم أن هذه الزيارة عززت العلاقات العمانية البريطانية، فإن السيد سعيد لم يكن راضيًا تمامًا عن النتائج الدبلوماسية.
كانت «سلطانة» بمثابة رمز للبراعة البحرية والدبلوماسية العمانية. عادت إلى زنجبار بعد هذه الرحلة، لكنها تحطمت بالقرب من جزيرة واسين خلال إحدى رحلاتها من الهند بعد وفاة السيد سعيد. جسدت رحلات «سلطانة» قدرة عمان على التواصل مع القوى الكبرى في العالم، وتركت أثرًا دائمًا في العلاقات الدولية لعُمان في القرن التاسع عشر.
ونقتبس هنا نصا من دراسة نشرها الدكتور عبدالله الحراصي (وزير الإعلام) منشورة في مدونته بعنوان (عُمان في الصحافة الأمريكية في القرن التاسع عشر: استعراض عام مع ترجمة لبعض النماذج) ما جاء عن زيارة السفينة «سلطانة» إلى نيويورك. يقول في الدراسة: «واهتمت الصحافة الأمريكية بوصول السفينة العمانية «سلطانة» (أو «سلطاني» بحسب الصحافة الأمريكية) إلى نيويورك. فتنقل جريدة «ساوثبورت تيليجراف» Southport Telegraph الصادرة في ساوثبورت في ويسكونسن يوم 16 يونيو 1840 عن جريدة «ذي جلوب» الخبر التالي الذي يحمل عنوان «السفينة الحربية الآسيوية في ميناء نيويورك»:
من أحدث أخبار اليوم الوصول المتأخر إلى نيويورك لسفينة وشحنة من مسقط على الخليج. وتسمى هذه السفينة «السلطاني» (أي Royal) وهي سفينة حربية يقودها القبطان أحمد بن حمد، وهي إحدى سفن بحرية إمام مسقط، السيد سعيد بن سلطان. والقبطان أحمد يحمل رسالة وهدايا مجاملات من السلطان سعيد إلى رئيس الولايات المتحدة) جريدة «ساوثبورت تيليجراف» Southport Telegraph، 16 يونيو 1840، الصفحة ١)
وبعد أن تتحدث عن اتفاقيات الولايات المتحدة مع الدول الآسيوية تتحدث ببعض التفصيل عن تجارة الولايات المتحدة مع عمان:
إن قيمة تجارتنا مع أراضي السلطان أكبر مما افترض البعض... فخلال ثمانية عشر شهرا من السفن التي زارت زنجبار نجد إحدى وأربعين سفينة، كانت من بينها اثنتان وثلاثون سفينة أمريكية، عشرون منها من مدينة سالم، وثلاث من بوسطن وثلاث من نيويورك.
وبعد الحديث عن زنجبار والأراضي الشاسعة التابعة للسيد سعيد بن سلطان تعلق على وصول السفينة «السلطاني»:
إن وجود إحدى سفن السلطان في مينائنا يضفي علينا الكثير من السرور والرضا، ونأمل أن تكون رحلة «السلطاني» إلى الولايات المتحدة سينجم عنها رحلات متكررة لسفن السيد سعيد إلى موانئنا.
وتتحدث بعض الصحف عن السفينة فتقول جريدة «ميلووكي أدفرتايزر» عن السفينة قائلة بأنها:
سفينة ممتازة تصل حمولتها 300 طن، وقد بنيت في بومباي من خشب التيك، وطاقمها مكون من خمسين بحارا عربيا، وقد بلغنا أن مسؤول الضرائب ومدعي المقاطعة يقومون بمراجعة لغتهم العربية لفهم أوراق السفينة. ونحن على يقين من أنهم لن يجدوا أي شيء سيقومون بمصادرته بل أن هذه المحاولة التي يقوم بها الإمام للقيام بتعامل تجاري مع ميناء نيويورك ستكون بحجم حفاوة الاستقبال التي هو أهل لها من طرفنا. والمكان الذي قدمت منه هذه السفينة يقع عند مدخل الخليج. (جريدة «ميلووكي أدفرتايزر» Milwaukee ، 23 مايو 1840، الصفحة ٣).
وتتحدث جريدة «وسنكونسن إنكوايرر» (نقلا عن جريدة بفلو ريبابليكان Buffalo Republican ) في مقال عنوانه «قائد السفينة العربي» عن الاستقبال الذي تلقاه أحمد بن النعمان (والذي تذكره عدد من الصحف الأمريكية على أنه «أحمد بن حمد»)، مبعوث السيد سعيد بن سلطان، في نيويورك ودهشته مما شاهده هناك من آلات:
حظي القبطان أحمد بن حمد (انطقها كيفما شئت أيها القارئ) قائد السفينة الحربية الأسيوية «سلطانة» القادمة من مسقط بحفاوة استقبال مدينة نيويورك له ممثلة في مجلس النواب. فقد أخذ إلى كل المؤسسات الخيرية في المدينة، وعبر عن دهشته الشديدة من مهارة الصمّ والبكم والعمي في الفنون والعلوم التي يتعلمونها. وحينما عرضت عليها المنتجات التي صنعت بأجمل الأشكال بدون استخدام تلك النوافذ التي دأب «الرجل الداخلي» على أن ينظر من خلالها للخارج ويعطي أوامره للموظفين الحقيقيين فقد شكّ في الأمر للغاية، وظل متسمرا في مكانه إلى أن أُخِذَ إلى الورشة وشاهد الآلات التي يعملون بها ورأى كيفية عملها. وكان سعيدا غاية السعادة بأداء التلاميذ على الآلات الموسيقية. (جريدة «وسكونسن إنكاويرر» Wisconsin Enquirer، ٣ يونيو 1840، الصفحة ٢)»