ما الذي يسبب موت النباتات الجديدة النامية في “دوائر الجن”؟
تاريخ النشر: 24th, March 2024 GMT
ناميبيا – حيرت الدوائر السريالية المسماة “دوائر الجن” في دولة ناميبيا العلماء لعقود من الزمن، وألهمت العديد من النظريات حول تكوينها، إلا أنها ما تزال محاطة بالكثير من الغموض.
وتتعمق دراسة حديثة أجراها باحثون من جامعة غوتنغن في ألمانيا وجامعة بن غوريون في إسرائيل في هذا اللغز، وتقدم رؤى جديدة حوله.
ومن خلال العمل الميداني المكثف، حرص الباحثون على دراسة كيفية موت العشب النابت حديثا داخل الدوائر الغامضة.
وتعرف “دوائر الجن” بأنها دوائر غريبة من الرمال خالية من العشب في أماكن يكثر العشب فيها من حولها في المراعي الصحراويه الرملية في ناميبيا.
وأظهرت نتائج الدراسة الحديثة أن العشب يذبل بسبب نقص الماء داخل الدائرة الغامضة. وأن التربة السطحية التي تكون أعلى بـ 10 إلى 12 سم من التربة، والتي توصف بأنها “منطقة الموت”، غير ملائمة للعشب الصغير الذي يموت بعد 10 إلى 20 يوما فقط من هطول الأمطار.
وعلى عكس نظرية النمل الأبيض الشائعة القائلة بأن النمل الأبيض يقصر جذور العشب الجديد في الدائرة عن طريق التغذية عليه، ما يتسبب في موت العشب النامي، تكشف الدراسة أن العشب يذبل بسبب النقص الحاد في المياه.
وأجرى الباحثون خلال هذه الدراسة تحليلا لـ500 نبات عشبي فردي في أربع مناطق في ناميبيا عن طريق أخذ قياسات لأطوال الجذور والأوراق، وإجراء تحليلات إحصائية، بالإضافة إلى جمع ومقارنة الأدلة الفوتوغرافية. كما أجروا عدة مئات من قياسات رطوبة التربة أثناء أو بعد موسمي الأمطار 2023 و2024.
وأظهر هذا أن التربة السطحية معرضة للجفاف بشكل أسرع. وأثناء وبعد موسم الأمطار، تكون رطوبة التربة السطحية أقل بثلاث إلى أربع مرات من التربة على عمق نحو 20 سم.
وبالإضافة إلى ذلك، تكون التربة السطحية أكثر جفافا بشكل ملحوظ داخل “دائرة الجن” مقارنة بالخارج خلال فترة نمو العشب بعد هطول أمطار غزيرة.
وفي ظل هذه الظروف، لا يمكن للأعشاب النابتة حديثا البقاء على قيد الحياة في الدائرة، فهي تجف لأنها لا تستطيع الوصول إلى الطبقات العميقة والأكثر رطوبة من التربة بجذورها، والتي يبلغ طولها في المتوسط 10 سنتيمترات.
في المقابل، تستفيد كتل العشب الكبيرة المعمرة التي تنمو على حافة الدائرة من قدرتها على الوصول إلى مياه التربة إلى عمق 20 إلى 30 سم وأكثر. وتتحول كتل العشب هذه بسرعة إلى اللون الأخضر بعد المطر.
ويوضح المؤلف الرئيسي للدراسة، الدكتور ستيفان غيتزين، من قسم نمذجة النظام البيئي بجامعة غوتنغن: “بفضل نظام جذورها المتطور، تمتص كتل العشب هذه الماء بشكل جيد. وبعد هطول المطر، تتمتع بميزة تنافسية كبيرة على الأعشاب المنبتة حديثا في دائرة الجن. ولا يفقد العشب الجديد سوى كمية صغيرة من الماء عن طريق النتح (خروج الماء على شكل بخار من أجزاء النبات المعرضة للهواء) من أوراقها الصغيرة، ما يؤدي إلى عدم كفاية “قوة الشفط” لسحب المياه الجديدة من طبقات التربة العميقة”.
وتظهر بيانات القياس أيضا أن الموصلية الفيزيائية للمياه تكون عالية في العشرين يوما الأولى بعد هطول الأمطار، خاصة في التربة العليا، وتتناقص مع العمق. ونتيجة لذلك، فإن كتل العشب تسحب الماء في المقام الأول من أعلى 10 إلى 20 سم من التربة.
ويقول غيتزين إن سبب موت العشب الجديد في دائرة الجن يرجع إلى أن مياه التربة في الدائرة تتناقص بسرعة ملحوظة مع تقوية وإعادة نمو العشب المحيط بعد المطر.
ووفقا للباحثين، فإن هذا يشهد على الوظيفة الأساسية للدوائر كمصدر للمياه لأعشاب ناميبيا المجهدة بالجفاف.
ويشكل العشب نفسه الشكل الدائري لـ”دوائر الجن”، حيث يؤدي ذلك إلى توفير أقصى قدر من مياه التربة لنفسه.
المصدر: earth.com
المصدر: صحيفة المرصد الليبية
كلمات دلالية: من التربة
إقرأ أيضاً:
الجن زمن الإنسانية المتحولة
الجن فـي المرويات الدينية والثقافـية والشعبية والأسطورية، مكون رئيس من المعتقد العام لأغلب الشعوب، التي تحضر فـيها فكرة كائنات نورانية ونيرانية أو ترابية أو هوائية مفارقة لوجود البشر المخلوق من تراب، وفـي الآن ذاته هي مؤسسة لعالم مواز ينعم بخوارق تجاوز فعل البشر وتتعداه. فكرة الجن، هي فكرة عائمة، قائمة على أمرين رئيسين، الأمر الأول أسطوري به يمكن تفسير ظواهر تبدو فـي ظاهرها عجيبة وغريبة، ويعسر على الفكر البشري تلقيها وتقبلها، مثل النحت فـي الجبال أو مد الأفلاج أو بناء القصور المفرطة فـي الدقة فـي أزمنة شبه بدائية، والأمر الثاني هو رغبة الكائن البشري فـي إيجاد صوت قادر يحمل أمراضه وعقده ويلقى عليه عبء عجز الإنسان.
ودون الدخول فـي الحقيقة الدينية للجن، وهو ما تؤكده أغلب المنازع الدينية السماوية والأرضية، فإن الجن ثيمة حكائية وسيعة المجال، مولدة الحكايا، باعثة لممكنات قصصية لا نهاية لها، وهي -على غير ما تبدو عليه- ليست من العجائب والغرائب المفارقة لكون الإنسان، وإنما هي من باب العجائب والغرائب الداخلة فـي كون البشر، وقد استثمرها العرب بشكل لافت، وبنوا عليها قصصا مديدا، وأفاضوا فـيها السرد، تجاوزا للإشارات القرآنية واللمح النبوية، وإنما غلبت على قصص الجن حمولات الثقافة الشعبية الغالبة على الشعوب العربية فـي التفاعل مع عالم مواز له وجود فاعل فـي حياتهم، وبسبب من هذه الوفرة الحكائية ومن الثبات الاعتقادي، دخلت حكايات الجن مصنفات التاريخ ركنا مكينا أصيلا ثابت الوجود فـي حقائق المؤرخين، وقس على ذلك -على سبيل المثال- ما ذكره الطبري فـي تاريخه، وما ذكره ابن الأثير فـي كامل تاريخه من قصص الجن وتدخلهم فـي عالم البشر.
وقد صنعت أميرة الزين كتابا مهما فـي الغرض تحدثت فـيه عن الجن فـي الثقافة العربية وفـي أدبها، وقلبت الموضوع على أوجه عدة، وسمت كتابها «العرب، الإسلام، وعالم الجن الذكي»، Islam, Arabs, and the intelligent world of the jinn وهو كتاب باللغة الإنجليزية يتوجه أساسا إلى قارئ لا يعرف من عوالم العرب إلا ألف ليلة وليلة فـي الغالب الأعم، وينشد إلى عوالمها الخارقة، وإلى قصص بشرها وجنها، ولا يعرف من الإسلام إلا قمع المرأة ومحاصرة حريتها، وتوليده الإرهاب الذي صار لصيقا بالمسلمين مع الأسف، وكلنا صار يتابع بسخرية أن نداء «الله أكبر» أصبح مفزعا لعموم الغربيين، وكأن العبارة الدالة على إعلاء ذات الإله أصبحت عبارة مقرونة بالتفجير والتقتيل وإسالة الدماء، وهي مسألة لا تدعو إلى السخرية ولا إلى الهزء من أولئك الخائفـين من صوت المؤذن ولا الداعي إلى إعلاء كلمة الله، وإنما تدعو إلى الوقوف تأملا ونظرا فـي أبعاد هذه الفوبيا وطرق مقاومتها. عالم الجن، إذن هو عالم مرغب للغربيين، منفر للعرب، مخيف أحيانا، حتى أنه من باب المزاح عندما أخبرت صديقة مقربة مني ومن عالمي أني شرعت فـي إنجاز بحث عن الجن، قالت، استعن بالمعوذتين كل ليلة ولا تغفل عن ذلك.
لماذا نخاف من عالم الجن ونحن على أبواب الحديث عن الإنسانية المتحولة أو عن صور الإنسانية الخارقة أو عما بعد الإنسانية؟ لقد أثارت أميرة الزين فـي كتابها عمق التفاعل العربي مع عالم الجن، ومهدت لكتابها بمقدمة شاملة هامة أبانت فـيها انتشار الاعتقاد فـي الجن لدى أغلب الملل والأديان والمعتقدات وركزت من بعد ذلك على بيان «شعرية اللامرئي»، وقدرة الخيال الإسلامي على تمثل هذه المرجعيات اللامرئية التي يمكن أن تتواجد (وأقصد التواجد لا الوجود) فـي عالمين متباينين، عالم الشهادة وعالم الغيب، وتثير الدارسة جملة من الإشكاليات العميقة التي لم نتعود مقاربتها فـي موضوع الجن، مثل «الصلة بين الوحي والعرافة والجن»، أو جملة من التوازنات والمقارنات بين طبيعة البشر وطبيعة الجن وأواصر الصلة الجامعة بينهما فـي إيجاد عوامل واصلة بين العالمين المتفارقين، عالم الجن وعالم البشر، أو التعرض لجملة من الظواهر المؤسسة لفكرة الجن، مثل السحر أو التلبس والأشكال الحيوانية التي رسختها الثقافة الشعبية التي عليها يظهر الجن ويخرج من طينته ليتلبس حيوانا ما، ومن المواضيع المتكررة والمكثفة فـي سيرة الجن فـي الثقافة العربية الإسلامية علاقات الحب التي قد تنتهي إلى زواج بين الجن والإنس (وقد توسع الجاحظ فـي نكران ذلك، وهو العاقل)، وصلة الشعراء بالجن، وهو من المواضيع الجالبة الجاذبة لأخبار عديدة، توسعت فـيها مدونات عديدة، حتى أصبح التابع حقيقة، والجني الذي يقول الشعر على لسان البشر واقعا.
عالم الجن فـي الحكايات العربية يحتاج إلى نظر ورؤية تخرج عن دائرة الإثبات والنفـي إلى الوقوف على إدراك حاجة الإنسان إلى بناء عالم كامل للجن، مجتمع يوازي المجتمع البشري ويساويه، زواج وأبناء ودور وصلات، إيمان وكفر، شعر ونثر، تخيلا لعالم ممكن فـي الذهن العربي لكائن أمثل قادر على البقاء والإبقاء، قادر على الخفاء والجلاء، مالك لإمكان أفعال وصفات يصبو البشر إلى بلوغها، وقد قدمت لنا المرويات العربية عوالم تامة الكمال لعوالم الجن، يمكن أن نمثل عليها فحسب، بما ورد فـي كتاب عبيد بن شرية الجرهمي «أخبار عبيد بن شرية الجرهمي فـي أخبار اليمن وأشعارها وأنسابها» يقول: «قال: ملك (الرائش) مائتي سنة وخمسا وعشرين سنة.
فقال (معاوية): فمن ملك بعده؟ قال (عبيد بن شرية): ابنه أبرهة بن الرائش -وكان يدعى ذا المنار- وكان من أجمل أهل زمانه، فعشقته امرأة من الجن -يقال لها العيوف- ويروى أنها الهيوف بنت الرابع فتزوجها، فولدت له العبد بن أبرهة»، وهو أمر دارج فـي أخبار العرب، لا يمثل حدثا مفارقا، ولذلك، فإن التداخل بين عالمي الجن والإنس فـي الموروث العربي ليس فعلا خارقا، ولا يدخل باب التجنيح التخيلي، وإنما هو فعل دارج، نابع من عقيدة وإيمان راسخين بتدخل الجن فـي عالم البشر، وبربط علاقات قد تبلغ درجة التزاوج، ولا غرابة أن مدينة مثل مأرب فـي اليمن، هي نسخة من مدينة للجن، وأن الهدهاد بن شرح بن شرحبيل تزوج من الجن، تزوج الحرورى ابنة اليلب، ملك من ملوك الجن، ومنهما كانت ابنتهما بلقيس صاحبة السيرة الشهيرة.
يثار اليوم موضوع الجن، وكما سلف أن ذكرنا، فنحن لا نهتم بالبعد الديني لمسألة الجن، ولكن عنايتنا به ثقافـية أنتروبولوجية، سردية، يثار موضوع الجن، ونحن فـي خضم إشكال فلسفـي وجودي حول نهاية الإنسان والإنسانية، ولعل العودة إلى الفـيلسوف الفرنسي لوك فـيري، وهو الناظر فـي أصول السعادة البشرية، الباحث عن علم الحياة، الناقد لتحول الإنسان إلى جهاز حاسوب، أن تعيننا على فهم هذه النهاية التي يبشر بها العلم، هي نهاية قاطعة مع حال من الإنسانية التي عاشها الإنسان منذ وجوده، وباعثة لما بعد الإنسانية، تحقيقا للإنسان الأكمل أو للإنسان الآلة، فهل سيكون الجن حاضرا فـي مخيلة الإنسان صاحب الذكاء الخارق، الخالي من المشاعر، لأن المشاعر هي علة من علل فشل الإنسان ومنعه من البقاء لفترة أطول، أو منعه من الخلود.