كتب الأستاذ الجامعي د. محمد عبد الحميد
في منتصف التسعينات من القرن الماضي. كنت قد أكملت للتو قراءة رواية (المسيح يصلب من جديد). للروائي اليوناني نيكولاس كازانتزاكس .... فقد كانت تلك الرواية من الأعمال التي تُبقي المرء أسيراً لافكارها لسنين دون أن يمحو أثرها دوران عجلة الحياة اللاهث ، ففيما قاله الكاتب ، وما لم يقله.

تثب انطباعات شتى، و تنبثق أسئلة حيرى تثقل الرأس و تدفعه للبحث بفضول غريب لمناقشة تلك الأفكار التي راود بها الكاتب القراء، ليهدأ الروع وتطمأن الدواخل من تلك الضجة التي تثيرها في الدواخل. كان ذلك حالي تماما عندما فرغت من قرائتها.
وجدت ضالتي في صديق الغربة الجميل د. أحمد المعتز ، وهو قارئ بعقل كاتب. وكاتب لا يستهويه كثيراً الإمساك بالقلم. ما أن فتحت معه موضوع الرواية ، حتى أخذ كعادته اللاوعية يلكز وسطي بكوعه وهو في غاية الانفعال حيث قال :(أكاد أجزم أن الكاتب ومنذ أن بدأ في كتابة الرواية لم يكف عن السُكر حتي انتهي منها). رغم أن كلامه لم يوافق هوى عندي، إلا أني وجدت حديثه مدخلا لما يمكن وصفه بفناء الكاتب في ثنايا النص حيث تنثال الأفكار ، وتشرد الشخوص، وتتوالى الأحداث رغما عن الكاتب، فتشعر بأصالة العمل من مجمل حالة الصحو التي يبعثها ذلك الفناء في النص.
هذه الأيام أقرأ لنفس الكاتب رواية (الاخوة الأعداء) واحاول أن اتعقب اختفاءه اللطيف بين السُكر والفناء فأجده واقفاً منتصباً يدلي بأفكاره بوعى يستثير العقول، و يستفز التجربة ويُشرّح بحضور مدهش تجارب وجودية لمعظم متعاطي السياسية كحكيم عركه مراس الفكر والسياسة ليهزأ بالجميع حتى ليكاد المرء يتميز من الغيظ لفرض تلك الزراية بتجربة يظن صاحبها أنها نضجت مع توالي السنون. ففي ثنايا النص الروائي يترك المجال بخفة مبدعة لراوي آخر والرواي الآخر يتحدث بلسان عمه الذي كتب له رسالة وهو "رائق البال". فالرسالة في المجمل هي صوت الكاتب في الصحو العميق إذ يمسك بمبضع الجراح ليشرح تلك التجربة التي مر عليها كل من صدّق انه قد غشيته غاشية من الوعي الفكري. أو إشتم عرق نبوغه السياسي الذي يميزه بين الأقران عند المراهقة أو بُعيدها ببضع كلمات تُقال في محفل سياسي. أو في ركن نقاش بئيس ... يقول عمه في متن الرسالة:( يبدو أن شخصك العبقري يقاسي من هذا الأُُكال العقلي الذي يثير معظم المراهقين. فهم يخترعون المشاكل، ثم يعجزون عن حلها ، فييأسون من الله ومن الشيطان ومن روح الإنسان. وبعد ذلك يطلقون صرخات الألم ويطلبون النجدة من عمهم.)
هكذا مهد العم لنفسه الطريق في مستهل الرسالة لينقض على المراهق متعاطي السياسية حتى يحطم عالمه الذي يخيله له عقله بضربة هي مزيج من الشفقة والغلظة. حيث يواصل في سرد رسالته بالقول:( يجب أن تختار لنفسك شوكة كبيرة تجلس عليها... أعني فكرة كبيرة تؤمن بها، ولديك أشياء كثيرة لتختار: الوطن والدين والعلم والفن والمجد والشيوعية والفاشية والمساواة والأخوة .... فأنتم أيها الشباب لديكم فرصة. فقد وصلتم في لحظة متأخرة. وفي أيامنا هذه توجد عشرات الأفكار الكبيرة ، لأنه لا توجد فكرة كبيرة. وهم يبيعون بالتخفيض... وكلما كان الوقت قد تأخر كما قلت لك ، فالأثمان تزداد انخفاضا. فأنت تستطيع أن تجد فكرة كبيرة بقطعة خبز).
هكذا بدأ الكاتب على لسان العم بتحطيم عوالم الوعي المزيف. بل هكذا أخذ يفضح أصحاب الفترينات الفكرية والسياسية التي تبيع الأفكار رخيصة للمراهقين الذين يبذلون بعد ذلك دماءهم رخيصة في سبيلها. غير أن الكاتب لا يكتفي بذلك القدر من الهزء بأفكار السياسيين وإنما يمضي الي أقصى مدي يمكن أن تبلغه السخرية. فهو يفتح ملف أسئلة الوجود ويناقشها بذات الأسلوب الساخر حيث يواصل بالقول لإبن أخيه :(تريد أن تعرف من أين أتينا ، والي أين نذهب ، ولماذا ، وكيف ، هذا مرض خطير! )
هنا تزداد عمق الدهشة عندما يدلل الكاتب للإجابة على تلك الأسئلة ، وربما يفاجأ بأن الكاتب يسخر من هذه الأسئلة لا بسبب عدم موضوعيتها ، وإنما لما تقود إليه ، فهو و على لسان العم يحاول أن يقدم عصارة تجربته كإنسان كافر بكل تلك الأفكار إذ يقول:( ولتعلم أنني لا أؤمن مطلقا بقدرة الإنسان ، ولا أصدق الأفكار الكبيرة التي تعذب المراهقين. فهي مجرد فورة طارئة ، ذلك أن دماءهم ثائرة ، و أتفه الأسباب تجعلها تغلي. هل للعالم بداية ونهاية؟ هل للوجود هدف؟ هل البيضة سبقت الدجاجة ام ان الدجاجة سبقت البيضة ، كل هذا يا ولدي ليس أكثر من مرض جلدي)
يحاول الكاتب أن يجد الدواء الناجع لهذا الداء الجلدي الذي يهرش به المراهقون جلودهم، فيفاجأ الجميع بتشخيص مدهش لحالة المراهقين بالقول :(وهم يظلون غائبين في القلق غارقين في التأملات العميقة ، حتى يقابل الواحد منهم في صباح يوم جميل ، فتاة قروية سمينة ، أو حضرية عجفاء ، كل واحد منهم وما يتفق مع ذوقه ، وسرعان ما يفغر فمه ، فقد وجد الجواب يتزوجها ويهدأ بقية عمره.)
رغم أن الإجابة التي يقدمها الكاتب هنا تظل محل خلاف. إلا أن ما لاخلاف حوله أن الجنس نفسه يقود الي وعي آخر بالذات في حالة هبوطها من التسامي الفكري الي الوعي بالذات وحاجاتها التي تشد الإنسان ليظل في حدود إنسانيته المشدودة الي الأسفل. فما لم تتم الإجابة على أعتى قوة داخل الإنسان - وهي الجنس - لا يمكن أن ينطلق الإنسان لكماله. فالتسامي الفكري والفلسفي دائما ما يصطرع مع متطلبات الغرزية التي تهزمه حتى وإن وصل أوج كماله. فما لم تتم الاستجابة لنوزاع الجنس لا يمكن ضمان استمرار الوعي المتسامي. فالجنس في نهاية المطاف أكثر إلحاحا وأكثر صمودا من أسئلة الوجود. وكثيرا ما وجد النساك والزهاد والرهبان أنفسهم صرعى لمقتضيات طاقته الجارفة.
أخيرا تضع الرسالة رحلها على أكثر النقاط أهمية في مسيرة الإنسان في الحياة ويحاول الكاتب معالجتها بالصدمة التي تجعل المرء يستفيق حتى لا يرهق بشراء السراب من بائعي الأفكار والسياسيين.
إذ يقول في الرسالة:(هذا ما أريد أن أقول لك عن الناس وقلقهم وأفكارهم الكبيرة. فأنا لا اصدقها لأن عندي منها الكثير. والخطباء الذين يكلمونكم عن الحب ، و الساسة الذين يخرقون آذانكم عن الوطن والشرف والعدالة كلهم يثيرون الغثيان. وهم يمتهنون أي شئ يقتربون منه. كل الناس يعرفون ذلك. وهم يعرفونه قبل غيرهم. لكن أحدا لا يجرؤ على أن يبصق في وجوههم).
هكذا يريد الكاتب وعيا متجاوزا للخطباء و للسياسيين الذين يفلحون في صناعة القرابين لإطماعهم من الشهداء الذين سرعان ما ينسوهم في زحمة التكالب على المصالح. فالكاتب هنا يعبر عن حالة صحو عركتها تجربة انتفضت من عمق الأوهام. ليدعو الجميع أن يتسلحوا بوعي خاص بهم لا ان ينتظر من يأتي لإنقاذهم. وليكون بذلك قد تذرع بكل آيات الصحو عندما يهم الكاتب بالكتابة.
د. محمد عبد الحميد

wadrajab222@gmail.com  

المصدر: سودانايل

إقرأ أيضاً:

اكتشاف نبات جديد على شكل كأس في الصين

أطلق باحثون صينيون على نوع جديد من النباتات النادرة اسم "ثيسميا جينتسون"، وهو يشبه الكأس، وتم اكتشافه في محمية جيانفنغلينغ الطبيعية الوطنية بمقاطعة هاينان في جنوبي الصين، وينتمي إلى جنس ثيسميا.

ونقلت وكالة الأنباء الصينية "شينخوا" عن شيوي هان، باحث من معهد بحوث الغابات الاستوائية التابع للأكاديمية الصينية للغابات، قوله:" إن هذا الجنس لديه متطلبات بيئية صارمة ويوجد في الغالب في المناطق الاستوائية، ويتوزع القليل منه في المناطق المعتدلة شبه الاستوائية والدافئة".

أخبار ذات صلة خمسة متدربين عرب لدورة سينوغرافيا في الصين الإعصار "براسانغ" يقترب من السواحل الشرقية للصين

وتتمتع مقاطعة هاينان الجزرية ببيئة فريدة من نوعها توفر موطناً ممتازاً للأنواع الجديدة، وتعتبر "منطقة ساخنة" للتنوع البيولوجي للنباتات من جنس ثيسميا في الصين، وهناك 107 أنواع معروفة من هذا الجنس في جميع أنحاء العالم، تم رصد تسعة منها في الصين حتى الآن.

المصدر: وام

مقالات مشابهة

  • بريد الجزائر: هام حول المنحة الجامعية والبطاقة الذهبية
  • وزير الخارجية المصري: حماس تؤكد لنا التزامها الكامل باقتراح وقف إطلاق النار الذي توصلنا إليه في 27 مايو والتعديلات التي أجريت عليه في 2 يوليو
  • رسالة موجعة من الكاتب الزعبي للأردنيين
  • اكتشاف نبات جديد على شكل كأس في الصين
  • الفشل الذريع الذي رافق الدعم السريع يحمل رسالة كونية واضحه بأن الله لاينصر الخائنين
  • مدبولي: الحفاظ على القيم والأخلاق حجر الأساس الذي تنطلق من خلاله مبادرة بداية
  • هل تعاني من الأفكار السلبية؟
  • اتفاقية تعاون بين الهيئة العامة لتعليم الكبار وجامعة دمنهور لمحو الأمية.. برغش: البحيرة تشهد جهودًا مستمرة لمحو الأمية ضمن خطط الحكومة لرفع مستوى التعليم والوعي في المجتمع
  • مشارك في احتفالية المولد النبوي للرئيس السيسي: الشعب ظهيرك والنصر حليفك
  • بنك مسقط ينظم النسخة الثانية من "ماراثون الأفكار" لتعزيز مفهوم ريادة الأعمال لدى الأطفال