بين الدمار والأمل: تجديد النظام الصحي والبيئي في السودان (الحلقة الثانية)
تاريخ النشر: 24th, March 2024 GMT
أمجد شرف الدين المكي
في إطار استمرارية تحليلنا لـ "التحديات البيئية – السياسية في خضم الصراع القائم بالسودان"، جادل خبراء بيئيون مُنبهون ومُشدِّدون على أن التغيرات المناخية والتحولات البيئية التي شهدها السودان على مدار عقود، لعبت دورًا محوريًّا في تفاقم حالة عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي بالبلاد.
فقد تلقيتُ العديد من الرسائل من الأصدقاء، والمهتمين بأمر البيئة والصحة العامة، تُطالبني بتسليط الضوء بشكل مُكثفٍ على التحديات البيئية التي تُعصف بالدولة السودانية حاليًا، خاصة في ظل النزاع الدائر بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع. وكما أوردتُ في مقالي الأخير، فإنَّ مشكلة تراكم الجثث وتحللها في التربة نتيجةً لعمليات الدفن غير السليمة، مع انتشار الكلاب الضالة ونهشها فيها، تُمثلُ مصدر قلقٍ رئيسيٍّ للسودانيين، سواء أولئك المقيمين داخل البلاد أو في الخارج.
كما ذكرتُ سالفًا، في ظل الحرب السودانية الدائرة حاليًا بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، يبرز تحدٍ كبير يتعلق بالدفن الصحيح للجثث، وهو أمر حاسم للصحة العامة والسلامة البيئية. الدفن غير الصحيح يمكن أن يؤدي إلى مجموعة من المشاكل المقلقة بما في ذلك تلوث المياه الجوفية بالسوائل الجثمانية وانتشار الأمراض نتيجة لتحلل الجثث. هذا بالإضافة إلى التأثيرات النفسية والاجتماعية السلبية على أسر الضحايا والمجتمعات المحلية، خصوصًا عندما لا تُحترم الطقوس الدينية أو الثقافية للمتوفين.
بالإضافة إلى ذلك، الجثث التي لا تُدفن بطريقة لائقة قد تجذب الحيوانات والحشرات مما يؤدي إلى مزيد من المخاطر الصحية والبيئية. في السودان، حيث النزاع مستمر، تصبح مسألة الدفن السليم أكثر إلحاحًا لمنع انتشار الأمراض وضمان الكرامة للمتوفين. وفي ذلك لا بد من إقامة الدعوات للمجتمع الدولي والمنظمات الإنسانية لتوفير الدعم والموارد اللازمة لضمان إدارة الجثث بطريقة تحمي الصحة العامة وتحترم العادات الدينية والمحلية، مع الأخذ في الاعتبار التحديات القانونية والبيئية المرتبطة بهذه الأزمة.
بافتراض توقف النزاع المسلح في السودان، بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، تبرز تحديات بيئية متعددة تواجه جهود إعادة البناء والتأهيل للمجتمعات المتضررة. هذه التحديات تشمل بشكل رئيسي التلوث الكيميائي نتيجة استخدام الأسلحة والذخائر، تلوث المياه الجوفية بسبب تدمير البنية التحتية، ومخاطر الألغام الأرضية (بناءً على تقاريرعامة بزرع ألغام في مناطق مختلفة) والذخائر غير المنفجرة التي تهدد سلامة السكان والبيئة المحيطة.
علاوة على ذلك، يسهم تدهور النظم البيئية والتصحر في تفاقم الوضع، حيث يؤدي فقدان الغطاء النباتي والتربة الخصبة إلى تقويض الأمن الغذائي وصعوبات مُعقَّدة في استعادة الزراعة. هذا التدهور البيئي لا يهدد فقط سبل العيش، بل يزيد أيضًا من صعوبة الحفاظ على التنوع البيولوجي والخدمات البيئية والصحية.
في هذا الإطار، يحث الخبراء والهيئات الدولية على ضرورة اعتماد نهج شامل يعالج هذه التحديات البيئية ضمن جهود إعادة التأهيل في السودان. ويُشدّدون على أهمية إجراء تقييمات بيئية دقيقة، وتنفيذ برامج لإزالة الألغام وتطهير الأراضي، وتطوير مشاريع إعادة تأهيل تركز على الاستدامة وإعادة تنشيط النظم البيئية. كما تُعَدُّ مشاركة المجتمعات المحلية، كما ذكرت سابقًا، عنصرًا حيويًّا في هذه العملية، حيث تساهم في بناء القدرة على الصمود ودعم الاستقرار والسلام على المدى الطويل.
في أعقاب الصراع القائم في السودان بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، ستواجه البلاد تحديات جمة في إعادة بناء بنيتها التحتية الصحية، مما يؤثر سلبًا على قدرتها على توفير الرعاية الصحية الأساسية لسكانها. تتمثل هذه التحديات بشكل رئيسي في نقص المرافق الصحية، عدم توفر الأدوية والمعدات الطبية، النقص الحاد في الأيدي العاملة المؤهلة، وتدهور البنية التحتية القائمة بسبب الدمار الذي خلفته الحرب.
النزاعات تعمل على إضعاف النظام الصحي بشكل كبير، حيث تتضرر المستشفيات والعيادات من الهجمات، وغالبًا ما تُستخدم كمراكز للقتال أو كملاذات للنازحين، مما يقلل من قدرتها على تقديم الخدمات الطبية. إضافةً إلى ذلك، سيُعاني السودان من نقص حاد في الكوادر الطبية نتيجة هجرة الأطباء والممرضين بسبب الصراع والظروف الاقتصادية الصعبة.
في الصومال وجمهورية الكونغو الديمقراطية توضح العواقب البعيدة المدى للصراعات على البنية التحتية الصحية. فقد شهدت ومازالت الصومال عقودًا من الحرب الأهلية وعدم الاستقرار السياسي، أدت إلى تدمير شبه كامل للبنية التحتية الصحية، مما أدى إلى تفشي الأمراض ونقص في الخدمات الصحية. أيضًا في جمهورية الكونغو الديمقراطية، أدت الصراعات المتكررة وضعف الحكومة إلى تدهور الخدمات الصحية وانتشار الأمراض مثل الإيبولا والحصبة، مما زاد من العبء على المجتمعات الهشة.
في السودان الحالي، تظهر الحاجة الماسة لإعادة بناء البنية التحتية الصحية كجزء لا يتجزأ من جهود الإعمار. الاستثمار في الرعاية الصحية، تدريب الكوادر الطبية، وتوفير الأدوية والمعدات الطبية الضرورية، كلها خطوات حيوية لضمان عدم تفاقم الوضع الصحي. كما أن التعاون الدولي والدعم من المنظمات الإنسانية والصحية العالمية يمكن أن يلعب دورًا محوريًا في تحقيق هذا الهدف.
يجب على المجتمع الدولي والمنظمات الإنسانية تقديم الدعم اللازم للسودان لتجاوز هذه الأزمة الصحية الشاملة. ويتطلب ذلك توفير الموارد المالية، إرسال فرق طبية متخصصة، وتوفير الأدوية والمعدات الطبية اللازمة. كما ينبغي على هذه الجهات تقديم الدعم في إعادة تأهيل وبناء المرافق الصحية التي دمرت خلال النزاع، وتدريب الكادر الطبي المحلي لضمان استمرارية وجودة الرعاية الصحية المقدمة.
بالإضافة إلى ذلك، يجب وضع برامج للصحة العامة تستهدف التوعية والوقاية من الأمراض، خصوصًا في المناطق الأكثر تضررًا من النزاع. هذا النهج الشامل سيساعد على منع تفشي الأمراض وتحسين الأمن الغذائي والصحي للمجتمعات المحلية.
من الضروري أيضًا إقامة شراكات بين الحكومة السودانية والمنظمات غير الحكومية والقطاع الخاص لتعزيز النظام الصحي. يمكن لهذه الشراكات أن تعزز الابتكار، توسع الوصول إلى الخدمات الصحية، وتوفر حلولًا مستدامة للتحديات الصحية الراهنة.
على المدى الطويل، يجب أن تركز جهود إعادة الإعمار على بناء نظام صحي مرن قادر على مواجهة الأزمات المستقبلية. هذا يعني الإستثمار في البحوث الصحية، تطوير السياسات العامة التي تضمن العدالة في الوصول إلى الرعاية الصحية، وبناء قدرات المجتمعات المحلية للتعامل مع الأزمات الصحية.
إن التجارب المستفادة من مناطق أخرى في أفريقيا التي شهدت صراعات وتحديات صحية مماثلة يمكن أن تقدم دروسًا قيمة للسودان في مرحلة إعادة البناء. بالنظر إلى تجارب دول مثل رواندا وليبيريا، حيث تمكنت هذه البلدان من إعادة بناء نظامها الصحي بعد الصراعات، يمكن للسودان الاستفادة من هذه النماذج في تطوير استراتيجياته الخاصة لإعادة الإعمار وتحقيق التنمية المستدامة.
لذا، أتوجه بالنداء إلى المسؤولين والصحفيين والمؤلفين والباحثين وصُنّاع القرار في السودان، مطالبًا بتشكيل لجان وورش عمل عاجلة لبحث هذه القضايا البيئية والصحية المعقدة. في نظري، يُعدّ هذا من المهام الجليلة والضرورية بشكل بالغ. وإن كان يظن البعض أن هذا قد يكون مبكرًا أو غير ملائم في ظل استمرار النزاعات، وهو أمر مفهوم، إلا أن التخطيط البيئي والصحي يتطلب جهودًا مضنية وتبادلًا للآراء والخبرات الغنية، فضلاً عن التواصل الفعّال مع الهيئات الدولية والمنظمات الإنسانية، وهو مسعى ليس باليسير على حد تقديري المتواضع. لهذا، يتعين علينا البدء فورًا في هذه المساعي، حتى نزيل الغمة عن هذا الوطن الجريح.
أمجد شرف الدين المكي
جامعة سالف روجينا – أمريكا
amadss@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: بین الجیش السودانی وقوات الدعم السریع البنیة التحتیة التحتیة الصحیة الرعایة الصحیة فی السودان
إقرأ أيضاً:
السودان: هل تنهي مكاسب الجيش في العاصمة الحرب؟
قبل معارك منطقة «جبل موية» بولاية سنار جنوب شرقي السودان خلال أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، لم تكن «قوات الدعم السريع» قد خسرت معركة كبيرة منذ بداية الحرب في أبريل (نيسان) 2023.
اقرأ ايضاًلكن خسائرها توالت بعد استعادة الجيش تلك المنطقة الاستراتيجية، وتراجعت مناطق سيطرتها تدريجياً في وسط وشرق البلاد، كما أصبح وجودها في العاصمة الخرطوم مهدداً. فهل تعني انتصارات الجيش بقيادة الفريق عبد الفتاح البرهان، وتراجعات «الدعم السريع» بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، أن حرب «الجنرالَين» على وشك الانتهاء؟
يؤكد الجيش أنه حقق انتصارات كبيرة وألحق هزائم فادحة بـ«قوات الدعم السريع»، متوعداً باستمرار الحرب حتى القضاء عليها تماماً. من جانبها، تنفي «قوات الدعم السريع» تعرضها لهزائم، وتؤكد أنها انسحبت من المناطق التي دخلها الجيش من دون معارك، وذلك بسبب «تكتيكات قتالية جديدة»، مشيرة إلى عدم استطاعة الجيش توثيق الخسائر الكبيرة في الأرواح والعتاد التي يتحدث عنها.
ولُحظ أن «قوات الدعم السريع» المنسحبة تتوجه إلى إقليمي دارفور وكردفان حيث الحاضنة الاجتماعية لتلك القوات، فيما يقول متحدثون باسمها إن «المناطق التي انسحبنا منها، انتزعناها من الجيش انتزاعاً في الأشهر الأولى من الحرب. احتفظنا بها لأكثر من عام ونصف العام، ثم تركناها برغبتنا، ونستطيع انتزاعها مرة أخرى متى ما أردنا ذلك». لكن مؤيدي الجيش يرون أن المعركة أوشكت على النهاية، بينما يؤكد مراقبون مستقلون أن «نهاية الحرب لا تزال بعيدة».
استراتيجية جديدة
ويقول المحلل السياسي، الجميل الفاضل، إن تقدم الجيش ليس سوى «جولة من جولات الحرب التي لا تبدو لها نهاية قريبة»، موضحاً أنه «من المتوقع أن تتخذ الحرب طابعاً أكثر عنفاً ودموية، لكن ليس في المناطق التي استردها الجيش، بل في مناطق رخوة في خاصرة الحاضنة الشعبية للجيش».
وأشار الفاضل إلى التصريح الأخير من قائد «قوات الدعم السريع»، محمد حمدان دقلو، الذي طالب فيه قواته بعدم التأثر بفقدان بعض المناطق مؤخراً، وأنه ينبغي عليهم التركيز على مناطق جديدة سيسيطرون عليها. وأضاف الفاضل: «يبدو أن (قوات الدعم السريع) ستتبع استراتيجية جديدة، تتخلى فيها عن تكتيك الانتشار الواسع في البلاد. كما أن هجمات المسيّرات خلال الفترة السابقة تشير إلى مناطق المعارك المرتقبة، فبينما تتراجع في الخرطوم، نشهد تقدمها في مناطق أخرى غرب البلاد بالاشتراك مع (قوات عبد العزيز الحلو)».
وتوقع عدد من المحللين أن تنتقل الحرب من العاصمة إلى أقاليم غرب البلاد، وأن «تتخذ شكلاً أعنف إذا تم تشكيل حكومة موازية في تلك المناطق، وإدخال أسلحة نوعية وإضافة إمكانات حربية جديدة، مما سيغير من خريطة الحرب على الأرض».
معارك العاصمة
ميدانياً، تدور معارك «كسر عظم» في مدن العاصمة المثلثة - الخرطوم وأم درمان وبحري - حيث يحقق الجيش تقدماً لافتاً، ففي منطقة شرق النيل بمدينة بحري، يقترب الجيش وحلفاؤه من جسر «المنشية» الرابط بين شرق النيل ووسط مدينة الخرطوم، بعد أن استعاد معظم منطقة «الحاج يوسف»؛ وهي من أهم معاقل «قوات الدعم السريع» منذ بداية الحرب.
غير أن حدة المواجهات انخفضت في الخرطوم وأم درمان مع بداية شهر رمضان المبارك، فقد تراجعت العمليات في معظم خطوط التماس بين الطرفين المتحاربين، وبقيت مناطق السيطرة كما هي دون تغيرات كبيرة. ويقول شهود إن الجيش ما زال يسيطر على أحياء في جنوب غربي الخرطوم حتى جسر «الحرية» والمنطقة الصناعية، بينما لا تزال «قوات الدعم السريع» تسيطر على أحياء أخرى في جنوب الخرطوم؛ بما فيها القصر الرئاسي ومنطقة «جنوب الحزام»، ومقر القيادة الاستراتيجية التابعة للجيش و«مطار الخرطوم»، والجزء الشرقي من مقر القيادة العامة للجيش.
وفي أم درمان، وسع الجيش من مناطق سيطرته لتشمل بعض الأحياء الجنوبية والغربية من المدينة، خصوصاً منطقتَي أم بدة والفتيحاب، لكن المعارك على حدود المنطقتين تحوّلت إلى كر وفر، من دون تقدم لمصلحة أحدهما.
معارك الغرب
اقرأ ايضاًأما في شمال إقليم كردفان بوسط غربي البلاد، فقد حقق الجيش انتصارات باستعادة السيطرة على مدينتَي أم روابة والرهد، وتمكن من الوصول إلى أطراف مدينة الأُبيّض؛ كبرى مدن الإقليم، وفتح الطريق البرية الرابطة بينها وبين وسط البلاد. إلا إن الجيش مُني بهزيمة كبيرة حين حاول التقدم شرقاً باتجاه مدينة بارا، وأعلنت «قوات الدعم السريع» أنها «دحرت القوات المهاجمة وألحقت بها هزائم كبيرة في الأرواح والعتاد»، ولم يصدر تعليق من جانب الجيش.
وتأثرت العمليات العسكرية في ولاية النيل الأزرق بالتحالف الذي نشأ بين «قوات الدعم السريع» وقوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان - تيار عبد العزيز الحلو»، فقد استطاعت القوتان معاً السيطرة على عدد من مناطق الولاية المتاخمة لجمهورية جنوب السودان، وأصبحت القوات المشتركة بينهما تهدد حاضرة الولاية؛ مدينة الدمازين.
ووقّعت قوى سياسية وحركات مسلحة، على رأسها «حركة عبد العزيز الحلو»، مع «قوات الدعم السريع» في 22 فبراير (شباط) بالعاصمة الكينية نيروبي، ميثاقاً سياسياً يهدف إلى توحيد العمل السياسي والعسكري ضد الجيش وحلفائه من أنصار النظام السابق، بالإضافة إلى تشكيل حكومة في مناطق سيطرة «قوات الدعم السريع»؛ لمنافسة الحكومة التي يقودها الجيش وتتخذ من مدينة بورتسودان مقراً لها.
Via SyndiGate.info
Copyright � Saudi Research and Publishing Co. All rights reserved.
محرر أخبار، كاتب وصانع محتوى عربي ومنتج فيديوهات ومواد إعلامية، انضممت للعمل في موقع أخبار "بوابة الشرق الأوسط" بعد خبرة 7 أعوام في فنونالكتابة الصحفية نشرت مقالاتي في العديد من المواقع الأردنية والعربية والقنوات الفضائية ومنصات التواصل الاجتماعي.
الأحدثترنداشترك في النشرة الإخبارية لدينا للحصول على تحديثات حصرية والمحتوى المحسن
اشترك الآن