الثورة /

أَعُـوْذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللَّهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.


الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمْ.
أيُّهَا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَات:
السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
في سياق الآيات المباركة من (سورة الأعراف)، التي بيّن الله لنا فيها جوانب معينة من قصة آدم «عَلَيْهِ السَّلَامُ»، وموقف الشيطان العدائي والمتعنت، وما تضمنت تلك الآيات المباركة، من الدروس والعبر المهمة التي نستفيدها من تلك القصة، كنا قد تلونا البعض من تلك الآيات وتحدثنا على ضوئها، وكان فيما سبق:
البيان لما ذكره الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» عن نعمه العظيمة على الإنسان، على المجتمع البشري بشكلٍ عام، كيف مكَّن لهم في الأرض، وأنعم عليهم في خلقهم، وهو خَلَق الإنسان في أحسن تقويم، ومنحه صورةً رائعةً ومميزة، ثم كرَّمه، نعمة السجود تكريماً لآدم «عَلَيْهِ السَّلَامُ» هي نعمة على كل البشر أيضاً، وفيها التكريم الكبير للإنسان.
وبيَّن الله لنا كيف امتنع إبليس- لعنه الله- من السجود مع الملائكة، وعمَّا كان الدافع الذي دفعه إلى ذلك، وتبيَّن لنا أن الدافع هو عقدة الكبر والعياذ بالله، ثم عندما طرده الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» من بين الملائكة، {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}[الأعراف: 13-17]، فتحدثنا عمَّا تفرَّع من عقدة الكبر من المعاصي الكبيرة والسيئة والخطيرة:
فإبليس- لعنه الله- امتنع من السجود لآدم، فكانت هذه معصية.
ثم أصر على ذلك، فكان إصراره معصيةً أيضاً.
ثم إنه بعد ذلك- وبكل وقاحة- يخاطب الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» متهماً لله في عدله وحكمته، وهذا كان كفراً فظيعاً، ومعصيةً كبيرة.
ثم مع ذلك بعد أن طلب الإنظار، فكشف الله له أنه من المنظرين أصلاً، بيّن اتجاهه، الذي هو معصية، معصية كبيرة جداً، على أن يقود الضلال والكفر، وأن يتجه في كل ما بقي من زمن سيُعَمَّر فيه ويُنظر فيه للإغواء عن صراط الله المستقيم، لإضلال بني آدم وإغوائهم، وهذا ذنبٌ عظيمٌ جداً، ويريد أن يستمر على هذا الذنب كل تلك المدة التي سَيُنْظَر فيها.
قبل ذلك هو أساء إلى الله أيضاً بتحميله المسؤولية، حمَّل الله مسؤولية إغوائه، مع أنه الذي أوقع نفسه في الغواية بسبب عُقدة كبره.
وهكذا من ذنبٍ إلى آخر، ومن معصية إلى أخرى، ومعصية الإغواء عن طريق الحق كم فيها من المعاصي، في كل معصية يعصي الإنسان فيها بتشجيع وتحفيز وإغواء من الشيطان، يكون شريكاً في تلك المعصية والعياذ بالله.
فهناك درسٌ كبيرٌ جداً فيما يتعلق بهذا التحول الذي حصل في واقع الشيطان، في واقع إبليس نفسه، عندما خرج من تلك الحالة التي كان فيها متعبداً بين الملائكة، ولآلاف السنين، كما ورد في الآثار أنه بقي آلاف السنين متعبداً بين الملائكة، وكان قد ارتقى ليكون متعبداً بينهم، ومن جملتهم، يعبد الله معهم، فمن ذلك المستوى في العبادة والارتقاء الذي وصل إليه، ثم هذا التحول إلى: عاصٍ، متمرد، خبيث النفس، سيء، مُصرٍّ على المعصية، يتَّجه إلى أسوأ مستوى من العصيان، إلى أحط مستوى من الخبث والعياذ بالله! لماذا هذا التحول الخطير؟ هذا فيه درسٌ مهم.
نجد في تجربة الحياة، في واقع الناس وعلى مرِّ التاريخ، أن هناك من البشر أنفسهم من يتَّجه في طريق الحق، والإيمان، والعمل الصالح، ويستمر لزمنٍ طويل، والبعض في ظل ذلك قد يبرز له دورٌ مميز، فيظهر في ظاهر الحال إلى أنه على مستوى متقدِّم من الإيمان والعمل الصالح، ومستوى راقٍ يظهر فيه في إطار عملٍ من الأعمال الصالحة، كالجهاد في سبيل الله، أو أي عملٍ آخر من الأعمال الصالحة، فيأخذ وقتاً لا بأس به وهو في ذلك الاتجاه، ومع الزمن أيضاً يبرز في إطار دورٍ مميز، ثم يتغير واقعه في مرحلة معينة، أو عند ظروفٍ معينة، أو أحداثٍ معينة، فيتجه اتجاهاً منحرفاً تماماً، البعض إمَّا في إطار انحراف فكري وعقائدي، والبعض على المستوى العملي، البعض على المستوى العملي في جوانب معينة، والبعض على المستوى الأخلاقي، وهكذا، تختلف الأحوال باختلاف الكثير من الناس في اتجاهاتهم، وعوامل وأسباب انحرافهم، فما الذي يحدث؟ ما الذي يحدث؟ مع أن الإنسان إذا اتَّجه الاتجاه الإيماني الصادق مع الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، بإخلاصٍ لله «جَلَّ شَأنُهُ»، واتَّجه اتجاهاً صحيحاً، يحاول ألَّا تبقى لديه أي بذور، من البذور الخطيرة التي تؤثِّر عليه فيما بعد، فالله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» هو يثبت عباده المؤمنين، هو القائل: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ}[محمد: الآية17]، هذه آية مهمة جداً، تُبَيِّن لنا أن الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» يزيد عباده الذين يهتدون هدايةً، بل ويؤتيهم التقوى، وهو «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» القائل: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا}[الأنفال: من الآية29]، وكم في القرآن الكريم من الآيات التي تبيِّن أن الله يزيد عباده الذين يهتدون، ويؤمنون، ويصدقون مع الله، ويخلصون لله، ويتجهون اتجاهاً صحيحاً سليماً؛ يزيدهم من الهداية، يزيدهم إيماناً، يزيدهم توفيقاً، يثبتهم، يتوب عليهم، يخرجهم من الظلمات إلى النور، يُمدهم بألطافه الخفية… وهكذا.
هناك أمورٌ خطرة جداً تؤثِّر على الإنسان:
منها: عندما يكون غارقاً في نفسه، ومتمحوراً حول ذاته:
هذه الحالة حالة خطيرة جداً؛ لأنها في الأخير تحوّل نفس الإنسان لدى الإنسان إلى صنم، وتحوّل وجهته في العمل إلى النفس، وليس إلى الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، وهذه من المخاطر التي تورَّط فيها الشيطان، فهو مع طول عبادته التي هي لآلاف السنوات- كما في الآثار والأخبار- عَظُمَتْ عنده نفسه، واستغرق في نفسه، بعد دهر طويل وهو على تلك الحال من العبادة، ويرى نفسه أنه قد وصل إلى أن يكون في جملة ملائكة الله بينهم، مستقراً بينهم، يتعبَّد لله معهم، أصبحت تَعظُم عنده نفسه، تَكبُر عنده نفسه، يُسَبِّح بحمد نفسه، يستغرق في نفسه؛ فَعَظُمَتْ نفسه عنده أكثر وأكثر وأكثر؛ فأصيب بداء الكبر، وهو من أخطر الأدواء، داء الكبر داءٌ خطيرٌ جداً، ذنبٌ عظيمٌ، ومفسدةٌ رهيبة لأي مخلوق (للإنسان، أو للجن أنفسهم)، حالة خطيرة جداً.
أيضاً إذا كان هناك بذرة خللٍ أخرى:
الإنسان قد يكون عنده بذرة خلل، فلا يحاول أن يُطهِّر نفسه منها، يُبقي عليها في أعماق نفسه، مع الزمن تكبر وتكبر وتكبر، ثم يواجه اختباراً معيناً في لحظة حساسة، فيتجلى ما قد وصل إليه ذلك الخلل، الذي كبر مع الوقت، كبر مع الوقت؛ لأنه يمكن أن يكبر فتزداد حالة الخبث في النفس والميل والانحراف نحو ذلك الخلل المُعَيَّن، الذي ينجذب الإنسان إليه، ويتجه إليه.
البعض- مثلاً- ميوله في شهواته النفسية، فهو لا يقتنع بالحلال، إمَّا رغبته الجنسية، لم يقتنع فيها بالحلال، ولم تتزكَ نفسه؛ لِتَطْهُر، وتبتعد عن الحرام وتمقت الحرام، يكبر ذلك الخلل، يكبر، يكبر، يكبر، وعند لحظة اختبار حساسة يسقط الإنسان سقوطاً خطيراً ومدوياً.
أو الأطماع مثلاً، أطماع مادية، لم يتطهر منها، ولم يحاول أن يتَّجه الاتجاه الإيماني المتكامل، الذي تزكو به نفسه، فيكبر عنده ذلك الخلل. أو الطموح في المقام المعنوي، يريد أن يكون صاحب شهرة وسمعة كبيرة، ومكانة بين أوساط الناس، ويصبح هذا بالنسبة له هدفاً، ويكبر معه ذلك؛ فهو يرى- في الأخير- أن تلك الأعمال هي لتحقيق هذا الهدف، بدلاً من أن يكون اتجاهه إلى الله، والله هو يعز عباده المؤمنين، ويجعل لهم الودَّ في قلوب عباده، الإنسان إذا اتجه مع الله بإخلاص، الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» هو من يتولى أن يجعل له العزة، وأن يجعل له المودة في قلوب عباده، من دون أن يكون ذلك هدفاً للإنسان من الناس أنفسهم، يتجه به إلى الناس أنفسهم، بل إن الإنسان المؤمن يمكنه أن يكون هدفه حتى مع الله أسمى من ذلك، أسمى من ذلك، هدفه رضا الله «جَلَّ شَأنُهُ»، وبقية الأمور يتركها لله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، والله هو الذي يفيض على عباده المؤمنين بالخير والتكريم والنعم، يمنحهم من عزته، من حكمته، من فضله، الشيء الكثير، ولكن الحالة الخطيرة على الإنسان هي هذه، هي: الخلل الذي كان في البداية بشكل بذرات، بذرة في داخل النفس، وبقيت هذه البذرة، ونمت وكبرت مع الإنسان، لم يتخلص منها.
وكما سبق أيضاً حالة الأنانية، الأنانية حالة خطيرة جداً، والاستغراق في النفس، والتمحور حول الذات، من أخطر الأمور التي أثَّرت وتؤثِّر على الكثير من الإنس، كما أثَّرت قبل الإنس في الجن، وفي إبليس نفسه.
هذا التحوّل الخطير هو عبرة، هو درسٌ مهم، ليحذر الإنسان، وليسعَ إلى أن يكون اتجاهه الإيماني اتجاهاً صحيحاً نحو الله، نحو الله، أن يتجاوز ذاته، لا يغرق في نفسه، ولا يتمحور حول ذاته، تكون وجهته إلى الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، ويُخلِص لله «جَلَّ شَأنُهُ»، ويتطهر من أي بذرة خلل ينتبه لها في نفسه، بل ويسأل من الله ويطلب من الله أن يزكي نفسه حتى تجاه الجوانب التي قد يكون هو غافلاً عنها، وبذور الخلل التي قد يكون غير منتبهٍ لها، يستعين بالله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» على ذلك.
كشف الله لنا خطة إبليس، عدونا الشيطان الرجيم، خطته هي تلك: {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ}، هو شديد العداء، ويريد أن يُلحِق أكبر وأقصى ضرر وأشد ضرر بالإنسان، فما هو الضرر الذي يمكن أن يلحق بالإنسان؟ هو في صده وإغوائه عن صراط الله المستقيم، بذلك يشقى، يخسر أكبر الخسائر، يتورط، ويُحرم من رضوان الله، ومن الجنة في الآخرة، كانت عقدة الشيطان: ألَّا يبقى أبونا آدم «عَلَيْهِ السَّلَامُ» وَأُمُّنَا حواء «عَلَيْهِ السَّلَامُ» ألَّا يبقيا في تلك الجنة، التي ابتدأ مشوار حياتهما فيها، فما بالك بجنة القيامة، جنة الخلد، جنة الآخرة، الشيطان يريد أن يحرم الكل منها.
{لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ}، صراط الله المستقيم هو نهجه، نهجه وهدايته لعباده، ما وجَّهنا إليه وما شرعه لنا في هذه الحياة، والشيطان يريد أن يصدنا عن نهج الله، لا نتَّبع هدى الله، ولا نسير في مسيرة حياتنا على أساس منهج الله وتعليماته القيِّمة، فمنهج الله هو صراط مستقيم، يوصل إلى الغايات العظيمة، إلى الفوز العظيم، إلى الفلاح والخير في الدنيا والآخرة.
{ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ}، يعني: في إطار صدِّهم وإغوائهم عن الصراط المستقيم، {لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}، بمعنى: أنه سيحاول في الإنسان لإغوائه بكل وسيلة، بأي طريقةٍ مؤثرةٍ عليه، يحاول أن يَنْفُذ إليه من أي ثغرة، وأن يستغل أي نقطة ضعف لدى الإنسان، فإذا حاول في الإنسان- مثلاً- من جهة الأطماع، فوجده ليس طماعاً، يحاول فيه من خلال الشهوات الأخرى:
قد يؤثِّر على البعض- مثلاً- من جهة الرغبة الجنسية، أو الأطماع المادية، أو أيٍّ من الشهوات الأخرى، وقد يؤثِّر في البعض من جهة أخرى، لا ينجح من تلك الجهات، فيحاول أن يبحث من جهة أخرى.
قد يؤثِّر في البعض عن طريق الغضب، والغضب كما قال عنه أمير المؤمنين عليٌّ «عَلَيْهِ السَّلَامُ»: ((جُنْدٌ عَظِيمٌ مِنْ جُنُودِ إِبلِيس))، يعني: ثغرة خطيرة جداً للشيطان، ومما روى عن نبي الله عيسى بن مريم «عَلَيْهِ السَّلَامُ» أنه قال: ((أقرب ما يكون الإنسان من غضب الله إذا غضب))، لحظة الغضب والانفعال تؤثِّر على الكثير من الناس، وهي ثغرة خطيرة على البعض من الناس؛ لأنه إذا غضب وانفعل؛ تهور، ولم يعد منضبطاً ولا متماسكاً، يمكن أن يقول أي شيء، يمكن أن يفعل أي شيء. وفعلاً في واقع الناس كم من الجرائم الكبيرة، من جرائم قتل، وإزهاقٍ للأرواح، وإساءات، وكم من ذنوب باللسان، إساءات كبيرة باللسان، افتراءات، بهتان، ظلم بأشكال كثيرة، أتت في حالة الغضب والانفعال.
البعض من الناس يأتيه من جوانب أخرى، قد يكون غير انفعالي، أو قد يكون إذا انفعل تماسك وخرج عن تلك الحالة، فيحاول الشيطان كما قلنا: الطموحات المعنوية، المناصب، حب السلطة، النفوذ، فتنة الأمر والنهي، وغير ذلك، فهو يبحث عند كل إنسان أين هي الثغرة، أين هي نقطة الضعف، من أين يمكن أن يؤثِّر عليه؛ فيصرفه ويدفعه ليخالف أمراً من أوامر الله، أو نهياً مما نهى الله؛ لأن هدى الله في الأخير يصل إلينا (إمَّا أمر، وإمَّا نهي)، فيحاول أن يجعلك تخالف، تخالف أمراً من أوامر الله، أو تخالف في نهيٍ من نواه الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، وحين ذلك يوقعك في المعصية.
حتى الجوانب الدينية، قد يدفع بالبعض إلى أن يتدين بالضلالة:
إلى أن يفتري على الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» باسم الدين.
إلى أن يقول على الله بغير علم.
إلى أن يغلو في الدين، ويتجاوز الحق والحد.
إلى أن يبتدع في الدين، ويحسب على الدين ما ليس منه.
إلى أن يتجه في تدينه إلى أن يُحَرِّم ما أحل الله، أو يُحلَّ ما حَرَّم الله… أو غير ذلك.
يعني: في الجانب الديني هناك أيضاً مزالق يمكن أن يشتغل عليها الشيطان مع من لديهم رغبة في التَّديُّن، توجه ديني، وهو يائس من صرفهم عن التوجه الديني؛ لأن البعض من الناس لديهم توجه ديني في نفوسهم، فييأس من أن يخرجهم من توجههم الديني، فهو يحاول أن يغويهم ولو كان في إطار توجههم الديني- كما قلنا- في جوانب كثيرة يمكن أن يغويهم فيها.
أمَّا من ينجح في صرفهم عن مسألة الالتزام الإيماني والديني كلياً، ويتَّجه بهم إلى الفجور والفسق، والخروج عن الالتزام بالإيمان والتقوى، فهي حالة أيضاً يغوي فيها الكثير من الناس، ممن يُعَبِّدون أنفسهم له وللشهوات، وينزلقون تلك المزالق والعياذ بالله.
فإذاً ينبغي أن يكون لدى الإنسان وعي بإن الشيطان سيترصد له، وإذا فشل في جهة معيَّنة، أو من جانب معيَّن، سيبحث من جانب آخر، فمن المهم للإنسان أن يحرص هو على أن يكتشف هو ابتداءً نقاط ضعفه: أين هي نقطة ضعفي، التي أرى نفسي أثناءها قريباً من الزلل، هل هي الغضب والانفعال؟ هل هي الشهوات؟ هل هي الطموحات المتعلقة بالسمعة والشهرة، أو غير ذلك، حب النفوذ…؟ أن يبحث الإنسان هو ليكتشف نفسه، ليكتشف نقاط الضعف لدى نفسه، جوانب الخلل لدى نفسه، ويمكنه من خلال اكتشافه لذلك أن يلتجئ إلى الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، وأن يسعى لتزكية نفسه، وللحذر، الحذر إذا عرضت له تلك الحالات، وهناك في دين الله، في تعليمات الله، في توجيهات الله، ما يساعد الإنسان، إضافة إلى الاستعاذة بالله، الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، والاتِّجاه الإيماني، وذلك يشكِّل وقايةً للإنسان.
{وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}[الأعراف: من الآية17]، حقد الشيطان على الإنسان، وعلى بني آدم بكلهم، حقد شديد جداً، ولا يرضيه، ولا يكفيه، ولا يقنعه، أن يغوي مليار إنسان، ويكون مصيرهم إلى جهنم، ويحترقون معه في نار جهنم، لا يكفيه ذلك، أساساً هو لو كان من الممكن له أن يغويهم بكلهم، فمستوى حقده، وعداوته، وعقدته، هي إلى درجة أنه يرغب بذلك، ولو أمكنه ذلك؛ لفعل ذلك، يريد هلاكهم بكلهم، يكرههم بأجمعهم، يحقد عليهم جميعاً، حقد يفوق تصورنا، حقد عجيب جداً، ولكن طموحه أنه إذا لم يمكنه أن يهلكهم بكلهم، وأن يغويهم بكلهم، فعلى الأقل الأكثرية منهم، أن يسعى لهلاك أكثرهم، ولإغواء أكثرهم.
وطموحه يعود إلى ما قد عرفه عن الإنسان، فيما عرفه مع الملائكة عن البشر؛ لأن هنا تساؤل: هل لو لم يكن الشيطان موجوداً، أو لم يغوَ إبليس، ويتَّجه لهذا الدور: لإغواء بقية البشر، ويستعين في ذلك بمن سيغوي معه من الجن أيضاً، من شياطين الجن، هل البشر في أنفسهم سيكونون مستقيمين، صالحين، وكان السبب الوحيد في غوايتهم هو الشيطان؟ الجواب: كلا، النفس البشرية من أصلها قابلةٌ للخير وللشر، والله يقول عن النفس البشرية: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}[الشمس: الآية8]، والبشر بأنفسهم حتى لو لم يكن هناك إبليس، لو لم يغوَ إبليس، ولم يتحرك لإغوائهم؛ لكان منهم من يتَّجه في طريق الشر، ويصل إلى مرتبة شيطان من شياطين الإنس؛ لأن هناك شياطين أيضاً من الإنسان.
الإنسان متى وصل إلى مستوى أن يفقد عنصر الخير في نفسه، ويتحوَّل إلى مصدر إغواء وإفساد للآخرين، فهو وصل إلى مرتبة شيطان، شيطان، ابتعد عن الخير، ابتعد عن الحق، ووصل إلى درجة أن تحوَّل هو- بنفسه- إلى مصدر لإغواء الآخرين، يسعى لإغوائهم، ولإفسادهم، ولإضلالهم، عندما يصل إلى هذا المستوى، إلى ذلك المستوى، يعتبر شيطاناً من شياطين الإنس، الشياطين قسمان: من شياطين الإنس، ومن شياطين الجن.
ولكن الشيطان، الميزة هنا التي يمكن أن تكون نقطة إيجابية، لو وعاها الإنسان جيداً: أنَّ طريق الشر، عندما يصبح الذي عليها، يدعو إليها، ويقود من يتحرك فيها، هو عدوٌ سيءٌ جداً، وكائنٌ خبيثٌ، سيءٌ، رجسٌ، دنيءٌ، وصل إلى مستوى هابط جداً من الدناءة والخسة، فما هو عليه من الخسة والسوء، وما هو عليه فيما يحمله من العداء للإنسان، يمكن أن يكون حافزاً للإنسان لأن يستقيم في طريق الحق والخير، ما دام وعلى طريق الشر وطريق الغواية عدوٌ لك، يعاديك، يكرهك، يسعى لهلاكك، يبغضك، يسعى لأن يصل بك إلى الشقاء في الدنيا، والهلاك الدائم والأبدي في الآخرة، وأيضاً هو دنيء، وخسيس، وسيء جداً؛ فهذا يفترض أن يكون حافزاً للإنسان للانصراف عن طريق الشر، والثبات على طريق الخير، أن يكون حافزاً يساعد الإنسان على الاستقامة، وهو كذلك إن وعى الإنسان جيداً.
بعد أن كشف الله خطته للناس باعترافه، باعترافه؛ أمَّا الله فهو عليمٌ بكل شيء، لا يخفى عليه شيء، قال الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»: {قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ}[الأعراف: الآية18]، قال له سابقاً: {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا}[الأعراف: من الآية13]، بعد هذا الحوار، وكشف الله فيه للناس باعتراف إبليس كل هذا الذي قد كشفه، أخرجه وطرده بهذا الطرد: {قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا}، من السماء، من الساحة التي يتعبَّد فيها مع الملائكة، {اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا}، {مَذْءُومًا}، يعني: مذموماً، معيباً، وفعلاً الحالة رهيبة التي وصل إليها الشيطان، نعوذ بالله! تحوَّل من مقام العبادة، والقدسيَّة، وشرف الطاعة؛ إلى خزي، وذل، وعيب، وعار، وشناعة المعصية المخزية، هبوط رهيب جداً، وتحوُّل رهيب جداً، فهو مذموم، لم يبقَ له أي مكانة، لم يبقَ شخصيةً محترمة، أصبح مذموماً معيباً، تلطخ بعار وفضيحة وخزي المعصية المسيئة، {مَدْحُورًا}: مطروداً بإذلالٍ وإهانة.
{لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ}، فكثرتهم هي كثرة لجهنم، وليست نقصاً على الله، الله غنيٌ عن العباد، الجن والإنس بكلهم ليسوا إلَّا نقطةً صغيرةً جداً، وعدداً ضئيلاً يسيراً محدوداً في ملكوت الله الواسع، الملائكة وحدهم خلق بأعداد هائلة جداً، وكثيرة للغاية، أعداد الإنسان حتى بعد أن وصلوا إلى مليارات، ومعهم أعداد الجن، ليسوا إلَّا عدد يسير، ضئيل، بسيط، قليل جداً، والأرض هذه التي استخلفنا الله عليها، ليست إلَّا كحبة رمل في صحراء لا حدود لها، صحراء شاسعة، فنحن في إطار ملكوت الله الواسع، لسنا سوى نقطة صغيرة جداً، والله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» لو عصاه الخلق أجمعون؛ لما ضرته معصيتهم، فهو لا تضره معصية من عصاه، ولا تنفعه طاعة من أطاعه، هو الغني الحميد، هو الغني الحميد، الله غنيٌ عن عباده؛ ولذلك مهما كانت الكثرة من الذين يكفرون نعمة الله، ويسيئون استغلال نعمه عليهم، فيما منحهم في أنفسهم من حواسهم، ومن جوارحهم، وفيما أوجد لهم من نعم في هذه الأرض، كلما أساء الإنسان استخدام هذه النعم التي وهبه الله إيَّاها في نفسه، في مداركه، في حواسه، في مواهبه، في طاقاته، في قدراته، وما مكَّن له في الأرض، وما منَّ عليه من المنافع في هذه الدنيا، إذا استخدمها في معصية الله؛ فهو يستخدمها فيما يضره، في مضار ومفاسد، وفيما يسبب له أيضاً الخزي، والهلاك، والعذاب الأبدي في الآخرة والعياذ بالله.
هذا الطرد الرهيب، يبيَّن لنا كيف كان سخط الله عظيماً على الشيطان، والله لعنه، ويأتي في الآيات الأخرى: {وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ}[ص: الآية78]، وحالة المعصية حالة خطيرة على الإنسان، وعلى الجن أيضاً، وحالة الإصرار حالة خطيرة، وحالة العناد التي يستهوي البعض، العناد يستهوي البعض، يرتاح بالعناد، العناد خطر جداً على الإنسان، يشكِّل خطورة بالغة على الإنسان، كما رأينا كيف كان على الجن قبل الإنسان، وعلى الشيطان نفسه.
{لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ}[الأعراف: من الآية18]، نعوذ بالله! من أتباع إبليس تمتلئ جهنم، تمتلئ من أتباع إبليس، من الجن والإنس، وهذا يفيد كثرتهم؛ ولذلك تصل إلى هذه الدرجة: {لَأَمْلَأَنَّ}، والعياذ بالله! وهذا أمرٌ مخيف، أمرٌ مخيف، ليسعَ الإنسان ألَّا يكون من ضمن تلك الأكثرية والعياذ بالله.
{وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ}[الأعراف: الآية19]، لاحظوا مع طرد الشيطان بتلك الصورة المهينة، المذلة، المخزية، أتى التكريم والرعاية لآدم وحواء «عَلَيْهِمَا السَّلَام»، وأسكنهما الله تلك الجنة، جنة فيها مما يحتاجان إليه من طعام وشراب وملابس، وسائر متطلباتهما بوفرة، وبراحة، ويحصلان عليها من دون عناء، {فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا}، المأكولات والثمار متوفرة، {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ}، شجرة واحدة فقط، وبدأ ترويضهما على المسؤولية، وعلى الأمر والنهي بشكلٍ محدود، يعني: لم يدخلا ضمن التزامات واسعة، مثلاً: يمنعا من أشجار كثيرة، ومن أشياء كثيرة، وقائمة نواهي، وقائمة أوامر، بدأت المسألة متدرجة معهما، ليبدأ مشوار الحياة دون أن يكون هناك ضغط التزامات كثيرة عليهما؛ إنما شجرة واحدة نُهيا عن الأكل منها، وحُذِّرَا بأنَّ النتيجة ستكون هذه: {فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ}.
الشيطان بعد طرده وهبوطه من جهة السماء، ومن بين أوساط الملائكة، اتَّجه ليبدأ مشواره العدائي، وليبدأ جولته الأولى في الاستهداف لآدم «عَلَيْهِ السَّلَامُ»، ولحواء «عَلَيْهَا السَّلَامُ»، فاتَّجه إليهما، وأعدَّ خطته لكيفية الاستهداف لهما، والهدف الرئيسي هو: إخراجهما من تلك الجنة، ومن ذلك النعيم، ومن تلك الحياة الطيِّبة والسعيدة، التي تتوفر لهما فيها متطلبات الحياة براحة، هو يريد أن يخرجهما من ذلك، وأن يتَّجه بهما إلى المعاناة، هو يائس من إضلال آدم، أو إفساد آدم، لكنه يريد أن يُلحِق بآدم المعاناة، كيف يعاني، كيف يبدأ مشوار حياته بمعاناة، فاتَّجه لإعداد خطته، وركَّز على ماذا؟ على تلك الشجرة، هو يريد أن يخالفا ذلك النهي، فالشيطان يستهدفنا تجاه الأوامر والنواهي الإلهية، فيما أمرنا الله أو نهانا، يشتغل على هذه النقطة.
{فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا}[الأعراف: من الآية20]، الهدف: أن يُلحِق بهما المعاناة والإفلاس، وأن يخسرا تلك الجنة وما فيها من متطلبات الحياة، إلى درجة ألَّا تبقى لهما حتى ملابسهما، وأن يرى كلٌّ منهما نفسه في موضع الضعف، والإفلاس، وانكسار النفس والإرادة، فيكون لهذا أثر على المستوى النفسي والمعنوي والمادي، والشيطان يريد أن يستهدف الإنسان في وضعه المعنوي، وإلحاقاً بذلك: في ظروف حياته أيضاً.
{لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ}[الأعراف: من الآية20]، قام بالسعي لتصوير النهي الإلهي أنه ليس لمصلحتهما، وهذا مما يشتغل عليه الشيطان مع بني آدم: يحاول أن يصوِّر الأمر الإلهي، أو النهي الإلهي، أنه ليس في مصلحة الإنسان، وأنَّ مصلحة الإنسان في مخالفته، وهذا خداع، خداع بلا شك؛ لأن الله فيما يأمرنا، أو فيما ينهانا، يريد لنا الخير، ومن منطلق رحمته بنا «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى».
فهو يقول: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ}، يقول: أنَّ سبب النهي لكي لا تكونا ملكين، ترتقيا لتكونا في هذه المرتبة: ملكين، أو من الخالدين، لتبقيا في الحياة بلا موت، تعيشا للأبد، وأنَّ سرَّ الشجرة هو هذا السر، فلو أكلتما من تلك الشجرة، فستتحولا إلى ملكين، وتبقيا في الحياة بلا نهاية، بلا موت، بلا فناء، هو هنا يحاول أن يلامس رغبة، رغبة لديهما، رغبة الترقِّي، الطموح ليكون الإنسان في مستوى أفضل وأعلى مما هو فيه، ورغبة الخلود في الحياة، هو حاول أن يلامس رغبة معينة، ومع أنَّ تلك الشجرة ليس لها أي سر من هذه الأسرار، ليس لها أي سر على الإطلاق، شجرة عادية، إن أكلا منها تكون النتيجة نتيجةً لتلك المخالفة أن يخسرا كل ما هما فيه، لا يبقى لهما حتى الملابس، ولاحظوا الفارق الكبير جداً: بين الوهم الشيطاني، الذي يقدِّمه الشيطان في وسوسته للإنسان، والحقيقة، تباين تام، وتناقض تام، واختلاف تام؛ لهذا يحاول أن يشتغل على هذه النقطة التي لامست رغبة، ومن الواضح أنه استمر، يعني: حاول محاولات متكررة، وأنه لم ينجح منذ المرة الأولى، وسوس لهما في البداية، فلم ينجح، فحاول، وهذا يبين لنا التكتيك الشيطاني، أنَّ تكتيك إبليس، وتكتيك الشياطين، هو: المحاولات المتكررة، والسعي للتأثير على النفس البشرية مرات، ومرات، ومرات، ومحاولات متكررة.
{وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ}[الأعراف: الآية21]، في الأخير حلف لهما، حلف لهما ليطمئنا؛ لأنه واضحٌ أنهما ترددا، وقلقا، ولم يطمئنا إلى وسوسته تلك، وإلى ذلك الوهم الذي رسمه لهما، فهو حاول أن يقنعهما بذلك عبر اليمين لهما، فهو قدَّم عنواناً مخادعاً، وقدَّم أيضاً أسلوب النصح، وقدَّم نفسه كناصح، والله يكشف لنا أيضاً كيف يفعل الشيطان، وأولياء الشيطان، وأهل الضلال، يقدِّمون عناوين مخادعة، عناوين جذَّابة، وعناوين مقبولة، وفي نفس الوقت يقدِّمون أنفسهم كناصحين، ويريدون ما فيه مصلحة الآخرين، وهكذا.
{فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ}[الأعراف: من الآية22]، في الأخير أوقعهما في الخطر: خطر المخالفة، والنتائج المترتبة على ذلك، بعد سعيه المتكرر، واستخدامه أسلوب الحلف واليمين، وغرهما بذلك التزيين، والخداع، والوهم الذي رسمه لهما، عن سر تلك الشجرة، السر الزائف غير الواقعي.
{فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ}[الأعراف: من الآية22]، مع ذلك الجو الذي أثَّر عليهما فيه حتى نسيا التحذير الإلهي لهما من الشجرة، ومن الشيطان وخداعه، وغفلا عن ذلك، {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ}[الأعراف: من الآية22]، منذ اللحظة التي ذاقا فيها الشجرة، وقعا في النتيجة المؤسفة، خسرا كل شيء، وجُرِّدت عنهما حتى الملابس التي من الجنة، {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ}، أخذا من أوراق الجنة ما ينظمانه ويلصقانه ويشبكانه مع بعضه البعض؛ لستر العورات، يعني: إفلاس من كل شيء، على الفور، على الفور أفلسا من كل شيء، خسرا دفعةً واحدة تلك الجنة وما فيها، حتى الملابس التي عليهما، وهي النتيجة المُرَّة التي أوصلهما إليها، وأراد أن يوصلهما إليها، وشعرا بالخسارة، وشعرا بأنه ورطهما، وخدعهما، وكانت لحظةً صعبةً عليهما.
وفي تلك الحالة، وهما- بالتأكيد- في حالة خجل من الله، شعور بالخطيئة، بالتقصير، وحينها تذكران نهي الله لهما، وغير ذلك، أتاهم النداء من الله، {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ}، وفعلاً ليس هناك أي تقصير من جانب الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، هو حذَّرهما، ونهاهما من الأكل من تلك الشجرة، ومن أن يقربا تلك الشجرة، حتى الاقتراب يشكِّل أحياناً تأثيراً على الإنسان، الاقتراب من المعصية، وكذلك حذَّرهما من الشيطان أنه عدوٌ مبين، يعني: لن ينصحهما، لن يقدِّم لهما أي شيءٍ فيه نصح، حتى وإن زعم أنه ناصح، وإن أقسم لهما أنه ناصح، وهذا حاله مع البشر، وحال أعوانه من شياطين الإنس والجن، مهما كانت العناوين مخادعة، وجذَّابة، ومهما كانت صورة ما يقدِّمونه أنه في إطار النصح، مثلما يعملونه مع الشعوب البشرية، والعالم الإسلامي في هذا العصر.
{قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[الأعراف: الآية23]، اعترفا وأنابا إلى الله، ولم يكن موقفهما كموقف الشيطان: العناد، والإصرار، والاتهام لله، أو الإساءة إلى الله؛ بل بأدب، وخضوع، وندم، واعتراف بالخطيئة، أنابا إلى الله، طلبا منه المغفرة، بهذا التعبير: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا}، وفعلاً الإنسان بالمخالفة- إن خالف أمراً من أوامر الله، أو نهياً من نواهي الله- يظلم نفسه.
نكتفي بهذا المقدار…
وَنَسْألُ اللَّهَ «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإِيَّاكُم لِمَا يُرْضِيهِ عَنَّا، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهَدَاءَنَا الأَبْرَار، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّج عَنْ أَسرَانَا، وَأَنْ يَنْصُرَنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء.
وَالسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

المصدر: الثورة نت

إقرأ أيضاً:

قائد الثورة : رسالة للمجرم «ترامب» بأن شعبنا ثابت بكل قناعة في مواجهة الطغاة المستكبرين

 

 

الثورة /

أَعُـوْذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.
الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمْ.
أيُّهَا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَات:
السَّـلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
خروج شعبنا اليوم، الخروج العظيم، الواسع، الكبير، في العاصمة صنعاء وبقية المحافظات، كان إحياءً عملياً جهادياً عظيماً للذكرى التاريخية العظيمة: ذكرى غزوة بدرٍ الكبرى، وأكرم وأنعم به من إحياء! إحياء بالموقف، إحياء بالعمل، إحياء بالاستمرار على الخط، والنهج، والطريق، في الصراط المستقيم، وهذه نعمةٌ كبيرةٌ، وتوفيقٌ من الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى».
في خروج شعبنا اليمنى في هذه الذكرى، ليؤكِّد على ثباته على موقفه المناصر للشعب الفلسطيني، ووقوفه ضد الطغيان الأمريكي والإسرائيلي، وتصديه للتصعيد العدواني الأمريكي تجاه بلدنا، هذا الخروج هو خروجٌ جهاديٌ في سبيل الله تعالى، في إطار الموقف الحق، الموقف الذي يرضي الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، ويُعبِّر عن هوية هذا الشعب، عن قيمه، عن انتمائه الإيماني الأصيل، عن وفائه لرسول الله «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ»، وللإسلام العظيم، عن أنه شعبٌ يتمسك بمبادئه الإسلامية العظيمة؛ ولـذلك هو شعبٌ يتمتع بالعزَّة الإيمانية، لا يقبل بالإذلال، ولا يقبل بالاستباحة، ولا يقبل بالخنوع لأعداء الله.
هذا الإحياء العملي، العظيم، المهم، هو تعزيزٌ يصل به هذا الشعب العزيز حاضره بماضيه المجيد، في نصرة الإسلام، في الجهاد في سبيل الله تعالى، في حمل راية الإسلام، وفي نفس الاتِّجاه، الاتِّجاه ضد الطغيان، الطغيان الكافر، طغيان قوى الشر، قوى الإجرام، قوى الكفر، القوى الظلامية، الظالمة، المفسدة، المستكبرة في الأرض، فمثلما كان الطغيان الكافر آنذاك مُتَمَثِّلاً بجبهة الكفر، التي حاربها رسول الله «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ»؛ الطغيان الكافر الظالم في هذا العصر يَتَمَثَّل في أمريكا وإسرائيل، ومن يدور في فلكهم، شعبنا العزيز هو يسير في اتِّجاه الاقتداء برسول الله «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ»، والسير على نهجه وفي طريقه.
رسالة اليوم، التي قدَّمها شعبنا العزيز بخروجه الواسع العظيم، هي رسالةٌ واضحة:
• أولاً: للشعب الفلسطيني، شعبنا يؤكِّد لهم باستمرار أنهم لن يكونوا وحدهم، الشعب الفلسطيني لن يكون وحده، لن نقبل- كشعبٍ يمني- بأن يستفرد به العدو الإسرائيلي، بشراكةٍ وحمايةٍ أمريكية، للعمل على إبادته، وتجويعه، وتهجيره، وتصفية قضيته، ومصادرة فلسطين والمُقَدَّسَات في فلسطين، هذا هو الهدف الإسرائيلي والأمريكي، لكنَّ شعبنا لن يقبل بذلك أبداً؛ باعتبار موقفه الإيماني، والتزامه الديني والأخلاقي والإنساني، تجاه هذه القضية وهذه المظلومية.
• ورسالةٌ واضحة فيما يتعلق بالتصدِّي للعدوان الأمريكي، حينما أعلن الأمريكي جولةً جديدةً من العدوان على بلدنا، إسناداً منه للعدو الإسرائيلي؛ فشعبنا العزيز لن يقف مُتفرِّجاً تجاه هذا العدوان الذي يستهدفه، ويستهدفه لموقفه الحق، فشعبنا العزيز قدَّم رسالة صمود وثبات، في مواجهة الطغيان والعدوان الأمريكي.
• رسالةً للمجرم المعتوه الكافر [ترامب]، بأن شعبنا العزيز هو ثابتٌ بكل قناعةٍ، بكل بسالةٍ، بِعِزَّة الإيمان، بثقته بالله تعالى، واعتماده على الله، وتوكله على الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، وإيمانه بوعد الله الصادق بالنصر، في مواجهة الطغاة المستكبرين.
ولـذلك فهذه الرسائل المهمة للأعداء، الأمريكيين والإسرائيليين أيضاً، والرسالة التي يؤكِّد بها شعبنا العزيز ثباته على موقفه في مناصرة الشعب الفلسطيني، هي رسائل واضحة وجليَّة، ومعها الموقف، البارحة اشتبكت قواتنا المسلحة المجاهدة مع حاملة الطائرات الأمريكية، التي هربت أثناء الاشتباك إلى أقصى شمال البحر الأحمر، تهرب إلى مسافة (ألف وثلاثمائة كيلو)، كذلك تصدَّت قواتنا المسلحة لمحاولات الأعداء لشن هجومٍ عدواني.
فهذه الرسائل العملية، في إطار الموقف الشعبي، وإطار الموقف من القوات المسلحة، في أدائها الجهادي العظيم، يجعل- فعلاً- من إحياء هذه المناسبة فرقاناً عظيماً في هذا العصر، فرقاناً مهماً بين الإسلام والكفر، بين الإيمان والنفاق، بين خيار الخنوع والذِّلَّة للكافرين، الذي يَتَبَنَّاه البعض من أبناء الأُمَّة للأسف، وبين الاتِّجاه الإيماني الثابت، بالعِزَّة على الكافرين، الامتداد لنهج الإيمان، لموقف رسول الله «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ».
فأمام هذا المشهد العظيم، الذي كان واضحاً في الحضور المليوني لشعبنا العزيز، في إطار الموقف العملي الجهادي، نُقدِّم أيضاً من جديد التحذير للأمريكي: أن استمراره في عدوانه على بلدنا، إسناداً منه للعدو الإسرائيلي، إنما يدفع بنا إلى مواجهة تصعيده بخياراتٍ تصعيدية إضافية، نحن نواجِّه الآن عدوانه بالاستهداف لحاملة طائراته، بالاستهداف لبوارجه وقطعه الحربية في البحر؛ ولكن حينما يستمر في عدوانه لدينا خيارات تصعيدية أكبر من ذلك، وأكثر إيلاماً له، وإزعاجاً له، وغيظاً له من ذلك، فنحن نوجِّه إليه التحذير، وليستفد مما قدَّمه شعبنا العزيز اليوم من رسالة واضحة وقوية، تؤكِّد على ثباته على موقفه.
أيضاً بالنسبة للعدو الإسرائيلي، إصراره على منع دخول المساعدات إلى قطاع غزَّة، هو عدوانٌ كبير، إجرامٌ رهيبٌ وفظيع، لا يمكن السكوت عنه، ونحن حتى تجاه هذه المسألة، قلنا: موقفنا في حظر الملاحة على السفن الإسرائيلية هي خطوةٌ أولى، لكن عندما تشتد مجاعة الشعب الفلسطيني في قطاع غزَّة، لا يمكن أن نتفرَّج وأن يكون موقفنا فقط عند هذا المستوى؛ لأن المعيار لمواقفنا هو: مسؤوليتنا الدينية والإيمانية والأخلاقية، مع فعل ما نستطيعه، وما نتمكن منه؛ ولـذلك لا نتردد عندما يستلزم الحال، وتقتضي المسؤولية، أن نُقْدِم على خطوة أكبر، أو عملٍ أكبر، فنحن مستعدون.
في محاضرة اليوم، نتحدث أيضاً- بعد أن نتوجَّه إلى شعبنا بالشكر والإشادة، ونسأل الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» أن يكتب أجركم، وأن يُبَيِّض وجوهكم، وأن يرفع قدركم، وأن يتقبَّل منكم هذا الخروج العظيم، والإحياء العظيم لهذه الغزوة المباركة لذكرها، في إطار الموقف والعمل الذي يرضي الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، وَالتَّحَرُّك جهاداً في سبيل الله وابتغاء مرضاته- نتحدث في هذه المحاضرة عن غزوة بدرٍ الكبرى، بما تُقَدِّمه لنا، ونحن في إطار الموقف والعمل؛ ولأُمَّتنا، وهي بحاجة إلى التذكير بذلك، من دروسٍ وعبرٍ مهمة.
محاضرتنا في هذا اليوم سنبدأ فيها بمقدِّمات مهمة لهذه الغزوة، هذه الغزوة التي تُذَكِّرنا برسول الله «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ»، بمسيرته، بجهاده، وهو لنا الأسوة والقدوة، الذي نهتدي به، ونهتدي بسيرته، بمواقفه، بتحركاته، نحن نؤمن بأنه رسول الله وخاتم أنبياءه، القدوة، الأسوة، والهادي لنا إلى طريق الحق؛ ولـذلك عندما نعود إلى مثل هذه المناسبات، ونستذكر من خلالها ما هو جزءٌ من سيرة رسول الله «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ»، فذلك في إطار الاهتداء، والاقتداء، والاتِّباع.
مسيرة رسول الله «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ» في إقامة الدين، وفي بناء الأُمَّة، وفي الحركة في مختلف المجالات في هذه الحياة على أساس القرآن الكريم، هي مسيرة هدايةٍ للمسلمين على امتداد التاريخ، وليس فقط للجيل المعاصر له من المسلمين؛ وإنما يحسب هو «صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ» حساب كل الأجيال اللاحقة؛ ولـذلك فهو يتحرَّك بناءً على ذلك، يُقَدِّم في حركته، في ترتيباته العملية، في خطواته العملية، في مواقفه العملية، ما فيه الهداية لكل الأجيال المسلمة إلى نهاية التاريخ، ولا يحسب فقط حساب عصره وزمنه، فيما يقوم به في إطار حركته في إقامة دين الله، وبناء الأُمَّة، والعمل في مختلف المجالات على أساس هدي القرآن الكريم، وهذه مسألة مهمة بالنسبة لنا أن نعيها جيداً؛ لأنها تُقَدِّم لنا ما يقوم به رسول الله «صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ» في إطار الاهتداء، لنستفيد منه، ونهتدي به.
عادةً ما يدرس الناس الأحداث التاريخية؛ للاستفادة منها في معرفة الأسباب والنتائج، يعني: هذه من أهم ما يستفيد منها البشر، عندما يعودون لدراسة الأحداث التاريخية؛ ليستفيدوا منها- من واقع التجربة العملية التي قد حصلت- معرفةً بالأسباب والنتائج: أسباب النصر، وأسباب الهزيمة؛ وأن يدرسوا أسباب النجاح، أسباب الفشل… وهكذا، وهذه مسألة مهمة جدًّا، ومفيدة في نفس الوقت.
لكن فيما يتعلق بسيرة رسول الله «صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ»، والأحداث التاريخية في إطار جهاده وعمله، فهي مع أنها غنيةٌ جدًّا بالدروس المرتبطة فيما يتعلق بهذا الجانب، مدرسة كبيرة مهمة وملهمة في الدروس والعبر، فيما يتعلق بالأسباب، والنتائج، والسُّنَن في هذه الحياة، فهناك أيضاً اعتبار آخر مع ذلك، أرقى وأهم، وهو: أن رسول الله «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ»، مع نجاحه العظيم الذي لا مثيل له؛ لأنه يُقاس فيه:
• الإمكانات البسيطة جدًّا، على المستوى المادي، وعلى مستوى العدد والعُدَّة.
• وفي نفس الوقت التعقيدات الكبيرة، على مستوى الظروف، والوضع، وجهة الأعداء.
• وحجم النتائج، والإنجاز العظيم الذي تحقق مع كل ذلك.
وهذه مسألة مهمة جدًّا، في نظرتنا إلى ما تحقق على يد رسول الله «صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ» والمؤمنين معه، وطبيعة ونوعية الإنجاز الذي حققه؛ لأنه إنجاز عظيم، يعني: صناعة تحوُّل كبير جدًّا في الوضع بكله، وفي مسار التاريخ.
مع كل ذلك، رسول الله «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ» هو في موقع القدوة والهداية، هو رسول الله الذي يصلنا به انتماؤنا الديني والإيماني، على قاعدة وأساس الاتِّباع، الاتِّباع له؛ ولـذلك هذه ميزة كبيرة لسيرة رسول الله «صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ»، فرقٌ بين أن نقرأ- مثلاً- الأحداث التي في سيرته، والأحداث الأخرى:
• الأحداث الأخرى قد نستفيد منها في إطار استيعاب السُّنَن الإلهية، فيما يتعلق بالأسباب والنتائج.
• لكن هذا نستفيده من سيرة رسول الله «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ»، وفي مقام الاهتداء، والاقتداء، والاتِّباع، من واقع هذه الصلة، وهذا الانتماء الإيماني.
ولـذلك يقول الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» في القرآن الكريم: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}[الأحزاب:21].
للأحداث التاريخية، التي غيَّرت مجرى التاريخ، وصنعت تحوُّلات كبيرة في واقع البشر والناس، لها أهمية خاصة بين بقية الأحداث، التاريخ مليءٌ بالأحداث، لكن هناك أحداث تختلف عن غيرها، بهذه الميزة: أنها أحداث غيَّرت مجرى التاريخ، صنعت تحوُّلات جديدة في واقع المجتمع البشري، كانت لها تأثيرات كبيرة، وممتدة عبر الأجيال، لم تكن تأثيراتها محدودة على مستوى ظرف مُعَيَّن، أو مجتمع مُعَيَّن، أو لزمن محدود؛ بل امتدَّت على مستوى نطاقها الواسع في الواقع البشري، وعلى مستوى الزمن، امتدَّت إلى الأجيال، لهذه الأحداث أهمية خاصة بين غيرها من الأحداث.
ومن تلك الأحداث التاريخية، التي لها هذه الأهمية، وهذه الميزة، هي: غزوة بدرٍ الكبرى، وأيضاً فتح مكة، وسيأتي الحديث عن فتح مكة في محاضرة أخرى إن شاء الله، هذه التأثيرات، هذه التحوُّلات، امتداد هذا التأثير إلى زمننا هذا، وما بعد زمننا إلى نهاية التاريخ؛ فلها أهمية كبيرة، ولها علاقة كبيرة بنا.
أُمَّتُنَا في هذه المرحلة بالذات، وهي في حالة كبيرة من الاستهداف، ويقابلها حالة كبيرة من التخبُّط في داخل الأُمَّة، على مستوى الخيارات، والقرارات، والمواقف، والتوجيهات، أُمَّتنا- بالنظر إلى كل ذلك- هي أحوج ما تكون إلى العودة إلى سيرة رسول الله «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ»، واستلهام الدروس والعبر منها، ومن جهاده، من موقع التأسِّي، والاقتداء، والثقة، كما قلنا: العلاقة برسول الله هي علاقة إيمانية، وحركته ومسيرته هي مسيرة إيمانية، يعني: لم يكن يعمل ما يعمل، ويتَّخذ ما يتَّخذ من قرارات كآراء شخصية، بعيدة عن الموقف الإيماني والديني، أو منفصلةً عن الاعتبار الإيماني والديني؛ إنما كان يتحرَّك بنور الله، بهدى الله، وفق تعليمات الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، عن غزوة بدر، يقول الله له: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ}[الأنفال:5]، في إطار توجيهات الله، وتعليمات الله، ولـذلك فحركة رسول الله «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ» العملية (في جهاده، في مسيرته) هي في إطار العمل لتطبيق تعليمات الله، وتنفيذ توجيهات الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»؛ فهي مدرسةٌ:
• في الالتزام الإيماني والديني.
• وفي الأداء للمسؤوليات الإيمانية والدينية على أساس ذلك.
فلها هذه القيمة، يعني: ليست المسألة أننا ندرس أفكار أشخاص، تصرفات أشخاص عاديين، في إطار تجاربهم كأشخاص عاديين، نحن عندما ندرس سيرة رسول الله ندرس الإسلام، ندرس الإيمان، ندرس الحق يتجسَّد عملياً في الواقع، يتحرَّك في ميدان الحياة، ونرى أنفسنا- بحكم انتمائنا الإيماني- مُلزمين بأن نسير في هذا الاتِّجاه، وأن نهتدي برسول الله «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ»، وبما قدَّمه، وتتعزز لدينا الثقة بأنها منهجية ناجحة.
رسول الله «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ» تحرَّك بالقرآن الكريم، تحرَّك بتوجيهات الله وتعليماته، التي نقرأها في كتابه، ندرسها في القرآن، فكيف كانت النتائج؟ واجه ظروفاً صعبة، بالغة التعقيد، لكن كيف كانت النتائج؟ هذا نراه جَلِيّاً في سيرة رسول الله «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ»؛ مما يعزز الثقة في الانطلاقة الإيمانية، مما يعطي الاطمئنان تجاه النتائج المهمة لتعليمات الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» حينما نتحرَّك على أساسها، أن لها نتائج عظيمة؛ لأنها من حكمة الله، من رحمته، بعلمه «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، ليست توجيهات عشوائية، ممن لا يعلم ما يجري في الزمن من متغيرات، ومن ظروف، هي تعليمات الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، الذي يعلم الغيب والشهادة، {يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}[الفرقان:6].
ولـذلك يجب أن ننطلق من هذا المنطلق في قراءتنا للسيرة، في نظرتنا إلى الأحداث في عصر رسول الله، في حركة رسول الله «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ»، فتعاليمه القَيِّمَة هي على أساسٍ من نور الله وهدايته، ويجب أن ننطلق بثقة، وأن تتعزز هذه الثقة، وأن نستفيد منه في كيفية التطبيق.
ثم- بناءً على ذلك- أن تكون هي (القرآن الكريم، ومسيرة رسول الله وجهاده) معياراً لنا نحن المسلمين، في هذه المرحلة بالذات، لتقييم الآراء، والتوجيهات، والمواقف؛ لأن هناك- وللأسف الشديد- حالة تخبُّط كبيرة جدًّا في واقع الأُمَّة.
الأعداء يتَّجهون لاستهدافها، (الأمريكي، والإسرائيلي، والحركة الصهيونية اليهودية) يتَّجهون لاستهداف هذه الأُمَّة، ولديهم خيارات واضحة، وخطوات واضحة، ومواقف واضحة، وتوجُّه ناجز، ومحدد وواضح، يعني: ليست المسألة عندهم مسألة يغرقون على كل خطوة، على كل إجراء، على كل موقف، في جدل، وينشغلون، ويتعرقلون نتيجةً لذلك، لا، لديهم مخطط يسيرون عليه، ومشروع واضح، هو (المشروع الصهيوني)، هو الأساس الذي يتحركون عليه، ولديهم أهداف عملية محددة وواضحة، ولديهم سياسات محددة أيضاً وواضحة، كلها سياسات عدوانية، ويعملون على تحقيق المكاسب المرحلية؛ ليصلوا- في نهاية المطاف- إلى الأهداف النهائية، فلديهم وضوح في اتِّجاههم.
وللأسف الشديد، كان هذا لا ينبغي أن يكون لديهم وفي نفس الوقت مفقود لدى المسلمين، يعني: أن المسلمين هم الأولى، بأن يكونوا هم الذين يتحرَّكون ضد أعدائهم، على أساس المواقف الواضحة، والثوابت، وعلى أساس الرؤية الصحيحة المدروسة، والخطة الكاملة؛ لأن المواقف لدى المسلمين ليست مواقف ثابتة، هي مجرد ردود أفعال عارضة، يعني: كلما أقدم الأعداء على خطوة في نطاق مشروعهم الواسع؛ كانت ردة فعل المسلمين، المتفاوتة، المتناقضة، المضطربة، ردة فعلٍ لحظية، لحظية، في الموقف المستجد، وكأنه موقف ليس له أي سياق، وليس وراءه أيضاً أي شيء يتبعه، يعني: كأن اليهودي فقط افتعل مشكلة هكذا طارئة، كيف يتعاملون معها، ثم افتعل مشكلة ثانية… وهكذا، يتخبَّطون- للأسف الشديد- في حالةٍ من العمى، من العمى، في حالةٍ من الغباء، في حالةٍ من الجهل الرهيب والفظيع، وهذا هو نتيجة لإعراضهم عن القرآن، لإعراضهم عن رسول الله «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ»، وعن الاستفادة منه في الحركة على أساس القرآن، ونتيجةً لعدم نظرتهم الجادَّة، الموضوعية، إلى الأعداء، وما هي خطة الأعداء، وما هو المشروع الحقيقي للأعداء، الذي يتحركون على أساسه.
ولــذلك فالحركة الارتجالية للأُمَّة، والمواقف الآنية واللحظية، ليست صحيحة إطلاقاً، وتتفاوت، وتضطرب، وأكثرها في الاتِّجاه الذي ليس له أي أثر أبداً في مواجهة الأعداء، ولا أي قيمة، ولا أي أهمية.
فنحن بحاجة إلى أن نجعل من حركة رسول الله «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ»، ومن سيرته، ومن مواقفه الناجحة، التي ثبت نجاحها، مدرسةً لنا، وأن نُقَيِّم بناءً على ذلك- شعوب إسلامية وبلدان إسلامية- أن نقيم الآراء والتَّوجُّهات: هل هي في نفس هذا الاتِّجاه؟ هل هي تنسجم مع القرآن، مع حركة رسول الله «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ»، أو لا تنسجم؟ إذا كانت لا تنسجم، فلا ينبغي أن تأخذ بها الأُمَّة، أن تغرق فيها الأُمَّة، أن تُضِيْع الأُمَّة لأجلها الوقت، الجهد، الفرص، وبالشكل الذي يتيح للأعداء تحقيق المزيد من الإنجازات، وتعزيز فرصهم؛ لتحقيق إنجازاتٍ أخرى إضافية، هذه مسألة مهمة جدًّا.
الأُمَّة مستهدفة في غاية الاستهداف، وفي وضعٍ خطيرٍ للغاية، أعداؤها واضحون، واضحون جدًّا في القتل اليوم، في الاحتلال، في التدمير، والأعداء هم يسعون إلى ماذا؟
• إلى تدمير هذه الأُمَّة.
• إلى طمس هويتها الدينية.
• إلى احتلال أوطانها.
• إلى نهب ثرواتها.
• إلى استعبادها.
• إلى إذلالها.
ولهـذا لا يتوقفون، من حربٍ إلى حرب؛ ومن غزو بلد إلى غزو بلد؛ ومن تدمير بلد بمؤامراتهم عليه من الداخل، إلى اجتياح بلد آخر بشكل مباشر… وهكذا.
يعني: عندما- مثلاً- نعود إلى هذه السنوات الماضية، لِنُقَيِّم- هذه مسألة التَّقْيِيم غائبة لدى المسلمين- لِنُقَيِّم على مدى عشرين عاماً، كيف يفعل الأمريكي والإسرائيلي، هل تركوا هذه الأُمَّة لتهدأ؟ على مدى عشرين عاماً فقط، فما بَالُك والمسألة من قبل ذلك بكثير، ومستمرة، وستستمر من جانب الأعداء، ستستمر من جانبهم، لن يتوقفوا عن ذلك، لن يوقفهم إلَّا الردع، إلَّا الهزيمة، إِلَّا مَنَعَة في واقع الأُمَّة، تَحُوْلُ بينهم وبين تخطيط مؤامراتهم، وتنفيذ أعمالهم العدوانية والإجرامية تجاه هذه الأُمَّة.
فالأُمَّة هي تتضرر بالخيارات الخاطئة، والقرارات الخاطئة، التي تتيح لأعدائها المزيد من السيطرة، من التمكُّن من تنفيذ مؤامراتهم في داخلها؛ لأنهم يشتغلون في كل الاتِّجاهات: الاجتياح المباشر، الأعمال المباشرة، والأعمال التي من داخل الأُمَّة؛ فهم يشتغلون ويَتَحَرَّكون بهذا الشكل.
يَــوْمُ الفُرْقَــان، هو العنوان العظيم لغزوة بدرٍ الكبرى، (يوم الفرقان) كما سمَّاه الله في (سورة الأنفال)، يعني: أنه يومٌ فارقٌ في التاريخ؛ ولـذلك يجب أن ننظر إلى هذه الذكرى باهتمام كبير؛ لأنه تَرَتَّب عليها نتائج عظيمة جدًّا، والمهم أن نستفيد منها ومن أمثالها:
• في تصحيح الرؤية في واقع الأُمَّة، هذا جانب.
• وأيضاً في استنهاض العزائم والهمم في داخل الأُمَّة.
• في ترسيخ الأمل في الاتِّجاه العملي الصحيح.
لأن هنـــاك مـن جــانب الأعــــداء:
• ضخّ هائل جدًّا للإرجاف، والتهويل، والتيئيس، والإحباط، في أوساط الأُمَّة.
• وهناك أيضاً على مستوى التشويش للرؤية ضخّ كبير جدًّا، شغل كبير من جانب الأعداء: تشكيك، تلبيس، ترسيخ لخيارات خاطئة كما قلنا.
أمام هذا وذاك يجب أن ننظر إلى (يوم الفرقان)، إلى ذكرى غزوة بدرٍ الكبرى، وما بعدها، وما قبلها، في سيرة رسول الله «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ»، بما يفيدنا لتصحيح الرؤية، بما يفيدنا لاستنهاض العزائم والهمم، بما يفيدنا أيضاً لترسيخ الأمل في الثقة بوعد الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» والنصر، والتغيير للواقع المظلم والمذلِّ، والمهين والمخزي للأمة، والدفع في الاتِّجاه الصحيح، الاتِّجاه العملي الصحيح الذي يحقق ذلك.
من أول الدروس في غزوة بدرٍ الكبرى، هو: درس يتعلق بأهمية الجهاد في سبيل الله تعالى، أنه هو الخيار الصحيح، الذي يصنع الله به التَّحَوُّلات، الذي يُشَكِّل حمايةً حقيقيةً للأمة، الذي يدفع الخطر من جهة الأعداء، ويدفع شَرَّهُم، هذه مسألة مهمة.
الخيارات التي تُطرح في الساحة، والخيارات المُتَّبعة- بالفعل- في واقع الأُمَّة، هي الخيارات الأخرى:
• خيارات (الجمود، القعود، الاستسلام): وهذا لدى فئة واسعة من أبناء الأُمَّة: لدى أنظمة، وحكومات، وزعماء، واتِّجاهات فكرية، واتِّجاهات ثقافية، واتِّجاهات سياسية، ولدى جماهيرها من أبناء الأُمَّة، رؤيتهم هي هكذا: أنه في مقابل ما يعمله الأمريكيون، ماذا نعمل نحن كمسلمين؟ نسكت، نجمد، نتركهم لفعل ما يفعلون، ونترك الساحة مفتوحةً أمامهم لفعل ما يريدون.
وهذا هو أيضاً تَوجُّهٌ ليس حتى في الإطار العقلاني الفطري، يعني: يَشُذُّ حتى عن الفطرة، كيف ذلك؟! كيف ذلك؟! لكنَّها حالة خطيرة في واقع الأُمَّة، أن يكون هذا تفكيراً سائداً لدى فئة واسعة من المسلمين: حكومات، وفي أوساط الشعوب، وفي أوساط النُّخَب… وغيرهم.
• هناك اتِّجاه آخر من أبناء الأُمَّة له رأي أسوأ من ذلك: رأيه هو التعاون: التعاون مع الأعداء، التحالف مع الأعداء، التَّجَنُّد مع الأعداء، الدخول في إطار مؤامراتهم كأدوات لهم.
أمَّا هذه فهي طامة كبرى، واتِّجاه يُمَثِّل حالة ارتداد عن مبادئ الإسلام، وقيمه العظيمة، وأخلاقه الكريمة، ومشروعه لإقامة العدل في الحياة؛ وفي نفس الوقت تمكين تام للعدو، وإعانة له على النفس، على هذه الأُمَّة، على أوطانها، على شعوبها، على ثرواتها، وَتَجَنُّد مضاد لمبادئ الإسلام، يتناقض معها كلياً.
الجهاد في سبيل الله تعالى هو الوسيلة الحقيقية التي يمكن أن تحمي الأُمَّة، أن تدفع عنها الشَّرّ والأشرار؛ لأنه في إطار سُنَّة من سُنَنِ الله تعالى، سُنَّة من سُنَنِه في هذه الحياة، سُنَّة من السنن الحاكمة، الحاكمة في مسألة الأسباب والنتائج في مسيرة البشر.
الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» قال في القرآن الكريم: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ}[البقرة:251]، هذه هي سُنَّة من سُنَن الله تعالى: أن الله يدفع الناس بعضهم ببعض، هذا التدافع، هذا الدفع الذي يأتي في إطار المواقف العملية، في إطار المواجهة، في إطار التَّصدِّي للطغيان، الذي يَحُدّ من طغيان الآخرين، لولا هذه السنة الإلهية لفسدت الأرض بالكامل، ولما بقيت حياة للمجتمع البشري عليها؛ لأن هناك في أوساط البشر من هم في مستوى طغيانهم، وعدوانيتهم، وشَرِّهِم، وإجرامهم، إلى درجة يمكن ألَّا تبقى الحياة معهم، وألَّا يُبْقُوا للحياة وجوداً على هذا الأرض، إلَّا بشكلٍ فاسدٍ تماماً، يعني: ليس فيه أي شيءٍ من الصلاح، يعني: تتحول الحياة في المجتمع البشري: إمَّا أن تنتهي بالكامل؛ وإمَّا أن تصل إلى درجة- من فسادها- إلى درجة فظيعة جدًّا، تتحوَّل إلى حياة حيوانية، بهيمية، لا يبقى فيها أي قيمة للوجود الإنساني، ولا للجوهر الإنساني، للكرامة الإنسانية، للاعتبار الإنساني، ولا يبقى فيها أي مستوى من الاستقرار إطلاقاً، ولا تبقى فيها أي شيءٍ من مظاهر الاستخلاف في الأرض: لا عِمارة للحياة، ولا ازدهار في الحياة، ولا استقرار في الحياة.
ولـذلك هذه السُّنَّة الإلهية في دفع الناس بعضهم لبعض، يأتي في إطارها عنوان الجهاد في سبيل الله، يقول الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا}[الحج:40]، على مستوى الشعائر الدينية، حتى هي لَما بَقِيَت.
ولـذلك عندما أتى الإذن والتوجيه للمسلمين بالجهاد، في قول الله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}[الحج:39]، يأتي أيضاً في سياق الدفع للظلم، إذا كانت الأُمَّة لا تريد أن تُقاتل، فالأعداء يريدون هم أن يقاتلوها، وأن يقتلوها، وأن يُبِيدُوها، العدو الإسرائيلي يَقْتُل يومياً، يَقْتُل من الناس المسالمين، يَقْتُل من الناس العاديين، يَقْتُل من العاملين في المجال الإنساني، من صحفيين، مدنيين، بشكلٍ يومي، يقتلهم عدواناً وظلماً؛ ولـذلك فالأُمَّة بحاجة إلى أن تتحرك في إطار السُّنَّة الإلهية؛ لدفع الظلم عن نفسها، لدفع الخطر عنها؛ ولـذلك تحرَّك رسول الله «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ» في غزوة بدرٍ الكبرى.
لو كان هناك نجاح للخيارات الأخرى، وكانت أرشد، وأصوب، وأحكم، وأرحم، وأنسب؛ لكان رسول الله هو الأَوْلَى «صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ»، فيما هو عليه من رشد، من رحمة، من حكمة، بأن يتبنى أي خيار آخر بديلاً عن الجهاد في سبيل الله.
نكتفي في هذه المحاضرة بهذا المقدار، في هذه المُقَدِّمَة.
وَنَسْألُ اللَّهَ «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإِيَّاكُم لِمَا يُرْضِيهِ عَنَّا، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهْدَاءَنَا الأَبْرَار، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّجَ عَنْ أَسرَانَا، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء.
وَالسَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

مقالات مشابهة

  • منتخب مصر يخوض تدريبه في الحادية عشرة مساء استعدادًا للقاء إثيوبيا
  • وزير البترول يشارك في الدورة الحادية عشرة من حوار برلين حول تحول الطاقة
  • نص كلمة قائد الثورة حول تطورات العدوان الإسرائيلي على غزة
  • كلمة قائد الثورة حول تطورات العدوان الصهيوني على غزة والمستجدات الإقليمية والدولية(نص +فيديو)
  • قائد الثورة : رسالة للمجرم «ترامب» بأن شعبنا ثابت بكل قناعة في مواجهة الطغاة المستكبرين
  • نص المحاضرة الرمضانية الـ 16 للسيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي
  • (نص) المحاضرة الرمضانية السادسة عشرة للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي
  • نص كلمة قائد الثورة حول آخر التطورات والمستجدات 17 مارس 2025
  • (نص + فيديو) كلمة السيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي حول آخر التطورات والمستجدات
  • نص كلمة قائد الثورة حول آخر التطورات والمستجدات