لجريدة عمان:
2024-07-03@23:47:57 GMT

سكرتيرة هتلر

تاريخ النشر: 23rd, March 2024 GMT

سكرتيرة هتلر

1

القطار الذي استقليته لم يكن مزدحما بالركاب.

كان يسير وسط سهول خضراء ممتدة على جانبي الطريق ولم أكن أعلم إلى أين يسير!

كنت أرتدي فانيلا زرقاء وقميصا أخضر يبرز منه طوق الياقة فقط، وكان أنفي منتفخا حتى أنه حال بيني وبين الرؤية الجيدة.

لم يكن في المقصورة التي جلست بها سواي أنا وشخص آخر كان يتحدث في هاتفه ويضرب الهواء بقبضته كأنما يطارد بعوضة أو ذبابة أزعجته.

فجأة توقف الرجل عن مكالمته وعن مطاردته وبشكل غير متوقع هجم علي وخنقني. قاومته، صحت، واستنجدت، وخبطت بقدمي مليا دون أن يتدخل مخلوق لنجدتي أو تستجيب السماء لصرخاتي، في تلك اللحظة استسلمت لقدري مسلّمة بأنها النهاية وأنها الطريقة المقررة لي لمغادرة العالم!

انتفخت الأشياء أمام عيني وانبعجت جراء الخنق ثم تشظت وأنا أسمع صوت زخات من الشظايا تتطاير ويغلب صوتها دوي القطار

لم أعرف السبب الذي قتلني الرجل لأجله!

واصل القطار سيره وواصلت أنا الموت ثم بعد لحظات وجيزة من الموت استطعت فتح عيني من جديد، لم أتصوّر من قبل أن الموتى يستطيعون فعل ذلك.

الموت قدم لي هذه المعرفة.

كنت مدفوعة برغبة ملحة في التأكد من قدرتي على فتح عيني في حالة الموت والنظر من خلالهما، قلّبتهما في المجال أمامي، أغلقت واحدة ونظرت بالأخرى، وجدتني أستطيع الرؤية حتى بالعين المغمضة، لقد بدا الموت عظيما وخارقا بالرغم من أن أحدا لم يُعدني لهذه الحقيقة المذهلة من قبل!

2

شيئا فشيئا اتضحت لمبة الغرفة أمامي، مظهرها تبدل بشكل ملحوظ مقارنة باللمبة الأولى التي رأيتها قبل موتي. كنت أرتجف خوفا من عودة الرجل لقتلي مجددا ولا أرتجف خشية الموت الذي ذقته ولم أجد فيه ما يوازي قلق الحياة المميت.

أملت رأسي قليلا ناحية اليسار وأنا مستلقية على ظهري، بدت سيقان السرير المقابل لي ضخمة جدا كأنما صنعها فرناندو بوتيرو 1

خاطبتني امرأة غرزت شيئا في ذراعي قائلة:

- الحمد لله على سلامتك مدام، صحوت من البنج وتجاوزت الخطر.

تموجت ملامح الممرضة أمامي وتداخلت سيقان السرير بساقيها.

أخبرتني الممرضة بأنني ركلت بقدمي كثيرا وأنا مخدرة وأنني هذيت بكلام مفزع وأخبرتهم بأنني سكرتيرة هتلر.

وماذا قلتُ أيضًا؟ سألتها بلسان راكد ثقيل.

لا، لم تقولي شيئا أكثر من ذلك.

استشعرت الراحة لأن خزانتي فيها الكثير من الخبايا لم يتمكن المخدر من اختراقها والوصول إليها. لم يفلح البنج في استجوابي أو افتكاك أي أقوال مني عدا أنني سكرتيرة الفوهرر.

يبدو أن الخيارين الممكنين هما، إما أن البنج مغشوش وإما أن قوتي الداخلية تفوق أي بنج!

3

كان رأسي يدور حول المجموعة الشمسية واللمبة ترقص أمامي ببطء والتلفزيون تظهر صوره متموجة بلا صوت، لكن الشعور بأنني أشغل منصب سكرتيرة الفوهرر لم يتلاش من ذهني أو أنه راقني فتمسكت به ولم أسمح له بالانزلاق بعيدا.

أدخلت لي الممرضة مادة مسكنة في أنبوب التغذية المتصل بي، ثم غادرت مصحوبة بسيقان السرير معها.

لم يمض وقت طويل على رحيلها حتى بدأت أشعر وكأنني على شفا الموت من جديد، لكن بأسلوب مختلف عن المرة السابقة، إذ أنطلق سريري جريًا عبر ممرات المستشفى وأنا فوقه دون سابق إخطار!

وقع في ظني أنه تأثير الدواء الذي وضعته الممرضة في الأنبوب الموصول بشراييني، حاولت التأكد من أنني لا أعاني من انسحاب البنج وأن الأشخاص الذين يحاولون اللحاق بي والإمساك بجانبي السرير ليسوا حقيقيين وأنهم من صنع خيالي.

عدا أن السرير كان يجري فعلا وممرضة بدينة تدفعه بي والسقف يجري فوقنا بالمصابيح وينعطف كيفما انعطف السرير.

اصطدمت الممرضة بأسرّة أخرى تحمل مرضى في حالة هلع وكانت لا تعرف أين تتجه بي.

سمعت كلمة حريق! فلعله كان بالفعل حريقا شب في المستشفى وليس عملية انسحاب بنج!

تمايلت اللفافة البيضاء الكبيرة على أنفي، وتصلبت رموشي كأسنان شوكة صدئة من فزع عدو السرير بي في الممرات وارتطامه بدرجات المدخل الرئيس للمستشفى.

نار نار.. أخرجوا المرضى الباقين بسرعة.

انقلعت إحدى عجلات السرير ولم يخمد ذلك من سرعته. استمر في انطلاقته بقوة تشبه تأثير المنشطات، متحديا الوزن الذي يحمله بثلاث عجلات فقط.

هناك مريض آخر في غرفة سبعة نسيناه، أخرجوه بسرعة.

اسرعوا بإخراجه! صرخ أحدهم.

إلى أين يفرون بنا؟

لم يعط أحد تفسيرا أو إيضاحا عما يجري، بما في ذلك إدارة المستشفى

كان صمتا يحاول إنقاذ سمعة المستشفى من نقل المرضى للآخرة بسرعة ومن دون ألم!

تزاحمت ملائكة الرحمة حولنا في محاولة لضبط الوضع، بينما كان مريض مجاور لي يخوض غيبوبة البنج يطلق صرخات مبحوحة: «يا فاطمة.. يا علي... يا نور الدين»

ومريض آخر كان في كامل أناقته يتصفح جريدة فرنسية بهدوء مرخيا الساق على الساق، غير مكترث بما يحدث، وكأنه اعتاد الفوضى أو ربما سبق له عيش تجارب مماثلة!

صفت أسرّة المرضى في الشارع بجانب الجدار المواجه للمستشفى وكأنها عربات ديلفري قبالة مطعم إلى أن تمكنوا من إخماد الحريق.

قيل إن أحد المرضى دخّن في الحمام وتسبب في إشعال الحريق. ولعلها كانت حيلة دفاعية لا غير.

4

أعادونا لداخل المستشفى أفواجا بسرعة أحد عشر حصانا في الساعة.

لم يشفع العرج لسريري ما جعل عودتي أشق من خروجي.

أدخِلت إلى غرفة لم تكن غرفتي السابقة وإن كان بها تلفزيون يبث الأجزاء نفسها من خطاب الرئيس الذي ألقاه مساء الأمس.

كانت الكلمات المجتزأة منه هي:

فهمتكم.. فهمتكم.

شيئا فشيئا، استعدت وعيي بالواقع كاملا.

تأكدت الثورة في تونس وأعلِن عن فرار الرئيس. لم أرد شم الدخان المنبعث عن حرق الإطارات، بالكاد أصلحت أنفي للتو ولا أريد له استئناف نشاطه بشم الحريق.

عاد أنفي للخدمة وكانت أول الروائح التي التقطها عرق سائق التاكسي الذي أقلّني للمطار!

هامش:

«1» فنان كولومبي يرسم شخصيات بدينة جدا

نجوى بن شتوان كاتبة وروائية ليبية

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

???? نازح من حرب السودان يكتب قصته بحبر الدموع.. ستبكي معه

يوم 29 يونيو:
نايم قيلولة وصحيت بقطعة كهربا
أصوات طيران
أخبار سقوط سنجة
هلع وذعر في سنار
اتفقت مع الأهل على الخروج من سنار
ما نمت ولا ساعة بالليل، متوقع يدخلوا سنار
يوم 30 يونيو:
قمت بدري من النوم
ما زالت الكهرباء قاطعة والموية قربت تقطع وتلفوني قرب يفصل شاحن
ركبنا الحافلة عشان نسافر
اتحركنا الساعة 9 صباحا
وقفنا في كبري الخزان قرابة 5 ساعات
فتحوا الكبري الجديد ومرينا بيهو، تلفوني قطع شحن
وصلنا السوكي بعد المغرب، الكهرباء قاطعة، لا أكل ولا شراب
وصلنا الدندر الساعة 9 ليلاً
الدندر مدينة أشباح؛ لا كهرباء، لا موية، لا أكل، كمية هائلة من المركبات والنازحين من سنجة وسنار وعموم ولاية سنار
أصوات بكاء الأطفال من الجوع وضيق أخلاق من الجميع (شخصيا اشتبكت مع أحدهم)
كبري الدندر مغلق، لا حركة، تكدس كمية هائلة (من بداية مدينة الدندر لنهايتها) أمام كبري عبارة عن خط سير واحد، لا خيار سوى المبيت في الدندر
لا ماء، اقترب مخزون مياه الشرب من النفاذ، معي طفلان أحدهما مريض بالسكري، و جدي كبير في السن
فشلت في التحصل على مياه شرب، كان العشاء عبارة عن بسكويت يزيد العطش و بس
الساعة 11: قعدت استرحت قدام باب في الظلام، نهرني العسكري الراقد على العنقريب خارجه وقال لي “ما تقعد قدام المكتب”؟؟؟
نام الناس وهم يفترشون الأرض ويلتحفون سماء ظالمة كأرضها كأنها مرآة، لأننا في نهاية الشهر الهجري. كانت أقصى طموح أن يعبروا الكبري غدًا، أسوء مخاوفهم كانت أن تمطر السماء عليهم، أو أن يضطروا للمبيت في مدينة الأشباح المكتظة -للمفارقة- تلك يوماً آخر.
1 يوليو
استيقظنا مبكراً، أو لم ينم أحد بتاتاً، لا فرق
لا حركة، كما هي الحال، لا وجود لطعام أو مياه، أو إضاءة سوى إشراقة شمس الصباح
أصوات بكاء من جيراننا المؤقتين، توفي لديهم طفل رضيع، لم أسأل عن سبب الوفاة
صليت ركعتين و تناولت أذكاري
كل أملي أن يتحرك خط السير، الذي لا يرى له أفق
العطش، لا شيء سوى العطش، يطغى حتى على الجوع، الحل الوحيد هو ارتشاف مياه نهر الدندر
أثناء المسير، لم أدرك بأن هذا الاكتظاظ كان لا نهائياً، ارتأى لي وجه الشبه كأن عدد العربات كعدد الأعداد الحقيقية بين ال0 وال1، وعدد الناس هو عدد الأعداد الطبيعية، أعداد لا نهائيا
كبري الدندر، خط سير واحد، للمشاة أولوية، لا حركة، قُتل الأمل
لم أبالي، لأنني لم أصدق بأن هذه أول رشفة ماء منذ متى؟؟؟
من الشَفَقة بتاعتي… وقعت في حفرة في النهر، كانت الحفرة أطول مني، تداركت نفسي، الحمد لله إن تلفوني كان قاطع شحن وإلا؟
بعد رويت، وقررت العودة، ارتطمت بالحقيقة: لم أصدق ما رأيت وما جرى، الأرض مباني جرداء، جوع وعطش، و لا بصيص أمل لانفراج الأزمة، بين نارين…
بضحك براي أنا.. آي والله كتير شديد الفترة الفاتت دي، وأثناء ما بتكلم مع روحي وكدا وأنا مبلل وحالتي تحنن الكافر، لاقاني صدفة برلومي مجتبى من الجامعة، ومن الثانوي كمان، اتونسنا ونسة لطيفة وقال لي إن الجيش حلقوا ليه شعره وهو مارق من سنار ههه
رجعت لأهلي، اتربعت على السكة الممتدة للكبري سرحان، عادتي الجديدة التي أفعلها دون وعي مني، و فضلت سرحان لأكتر من نص ساعة ما عارف صراحة كنت بفكر في شنو
شاي! كان وجبة الإفطار، لأن ما كان معنا من طعام قد تخمر أثناء الليل
لقيت إن ناس الحافلة بتناقشوا حول أزمة الاصطكاكة في مدينة الجوع دي وكيفية حلها، اتفقنا على إننا ننتقل للجهة التانية من الكبري مشياً ونستقل من هناك حافلة أخرى.. ذهب أخي مع الوفد للجهة الأخرى من النهر للاتفاق مع أحد أصحاب الحافلات، وأخي الآخر لا أعلم أين هو منذ جئت من بحر الدندر
بعد فترة تقرب من نصف ساعة من ذهاب الوفد، وأنا م متذكر اللحظة ديك كنت بعمل في شنو… انكسرت حالة الجمود أوليمبيات هرولة، هرولة و ركض نحو الكبري (الدعامة جو!!!)
ما صدقت، الناس بتجري يا جماعة ما عارف بتجري ماشة وين زاتو، لكن بتجري بس
أنا عملت شنو؟ ضحكت، آي والله ضحكت شديد كمان، ما صدقت إن دي حقيقة وأنا ما قاعد بحلم
اتداركت نفسي من الغرق تاني، مشيت صحيت أمي المنهكة براحة.. وبعد صحيتها ووعت لإنها صحت، قلت ليها “خشي جوا الحافلة، الدعامة قالوا جو”
دي تالت مرة والله يا ناس، لما كسروا باب بيتنا في الخرطوم وقبل ما يهددوني بالقتل حصل نفس الموقف، وفي سنار برضو، إني أصحي أمي وأbreak bad news معاها كدا، كل مرة بكون خايف إني أخلعها، أنا متأكد إن هي بقت كارهاني لأني ما بجيب غير الأخبار السيئة لكن ما علينا…
بعد ما بدينا نحاول نلملم شتات الخبر دا، وأحاول أحلل الموقف الغريب دا، وأستوعب منو موجود ومنو ما في، واتذكرت كل سيناريوهات النزوح والقصص المأساوية، استوعبت إن 2 من أخواني مفقودين، ومعاي شخص لا يقدر على المشي، وقبل ما أخلص تحليل للوضع كسر تفكيري صوت طلق النار، أصوات نغمة مميزة، نغمة الاجتياح… آي والله، بحس صوت الطلق عندهم مختلفة لسبب ما وبقدر أميزها، لكن ما علينا برضو…
جوا الحافلة، الناس ماخدة الساتر، ذكر الله، ذكر الله، ذكر الله
أنا ما مستوعب أي حاجة، وهسي بحاول أتذكر اللحظة ديك كأنها مقصوصة من ذاكرتي ما عارف كنت بفكر بشنو، ما عارف الحاصل كان شنو، لكن أنا متأكد الناس كلها بدل الجوع والعطش شبعت خوف، وارتوت هلعاً
أصوات رصاص متقطعة، ما في أي اشتباك، السؤال البديهي اتراود لي “كيف خشوا؟ وين الجيش؟”
أسئلة ليست للإجابة…
وبعدين اتغيرت مشاورات لنعمل شنو، نجري مع الناس الجرت؟ نقعد ننتظر حتفنا المجهول؟ ما الفعل؟ حقيقة موقف عجيب.. ما اتذكرت إلا قوله تعالى: (إِذۡ جَآءُوكُم مِّن فَوۡقِكُمۡ وَمِنۡ أَسۡفَلَ مِنكُمۡ وَإِذۡ زَاغَتِ ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَبَلَغَتِ ٱلۡقُلُوبُ ٱلۡحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِٱللَّهِ ٱلظُّنُونَا۠ (10) هُنَالِكَ ٱبۡتُلِيَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَزُلۡزِلُواْ زِلۡزَالٗا شَدِيدٗا (11))
في اللحظة ديك زمن التفكير في التصرف السليم أخد فترة طويلة خلاص، لحدي ما جا أحد أخواني اللي كان مع الوفد المشى يتفق مع حافلة بالضفة التانية، واطمننا شوية
واتفاقهم دا نفسو اللي كنا شايفينو ك حل قبل الدخول الرايق المثير للحرايق دا بقى مشكلة و زاد حيرتنا، واحتدمت النقاشات وأنا كنت مستمع بس، ما أبديت رأي نهائيا لأني كنت في قمة حيرتي، ما العمل؟ نقطع الكبري زاتو كيف! نجري كيف وأنا معاي راجل كبير في السن لا يقوى على المشي خلي الجري؟ وجاءت حلول المشاكل دي في صورة اقتراحات برضو، نشيلو في كرسي ونقطع بيهو؟ والله حاجة تقطع القلب…
توصل سكان الحافلة المنكوبة لحل أن يتركوا أمتعتهم ويكتفوا بحمل ما يستطيعون حمله، وعلى الرجال المسنين الذين لا يقوون على الهجرة أن يحملوا على عنقريب يتبادلون حمله ك سيرة تحمل جثماناً…
استعملت حق الفيتو
“لأ. ما متفق معاكم.” طلعت من خشمي قبل ما أفكر فيها، آثرت أن نجلس وننتظر ما يحدث، قعدنا في الخرطوم قبلها كم؟ و في الجزيرة قبلها كم؟ إنهم ليسوا آكلي لحوم بشرية.. ولن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا!
وبدأ مسلسل الشفشفة
وجلسنا، وانتظرنا والخوف ينهش من لحومنا، هل سنندم على ذلك؟
جا دعامي بي زلابية، وزعها على مواطنين كانوا اختاروا نفس مصيرنا جمبنا
جا دعامي بعدو “تقولوا جنجويد، وتقولوا مليشيا، الليلة بنوريكم… أنتو سودانيين؟ أي مراة الليلة ما بنسألها، لكن أي راجل والله الليلة ما بنخليهو، وأي كابوس متدسي الليلة بنوريهو”
جا دعامي تالت طلب مننا موية، الناس اتسارعت تديهو موية، و بعدها غير رأيو لما عرفت إنها موية مخصصة للأطفال نسبة لأنو ما في موية في البلد ديك، لكن برضو أصروا عليه يشرب، في النهاية شرب… ومن حسن حظنا إنو سواق الحافلة كان مُتملّقاً (مع الرص)، وتودد لهذا الدعامي عشان يمرقنا somehow، ووافق يعني “سبحان الله”. لكن أنا كان بالي في أخوي التاني الرايح دا.. لأنو مرت حوالي نص ساعة وهو ما جا
فقررت أفتشو
دا براهو حاجة لا يمكن وصفها، مشيت براي في نص شارع الدندر الرئيسي وأنا بكورك، وبستقطع كواريكي دي باستئذان من الدعامة، وسمحوا لي كل مرة إني أكورك أفتش أخوي، مشيت مسافة بعيدة، أنا بكورك يا جماعة باسم أخوي في مدينة أشباح ولا زومبي، شارع ملان عربات بالآلاف بقى صامت صمت القبور، والناس في شبابيك بعض العربات يعاينوا لي وأنا بكورك بشفقة وقلوب مكسورة، كأن لسان حالهم بقول “فوق مصيبته أخوه ضايع؟”، شعرت بإن هذا الشعب المسكين في أحلك لحظاته لا زال يدّخر بعضا من مشاعره للآخرين، يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة! وبعد أن حاول يدلني أناس، فشلت ورجعت بخفي حنين
الزمن داك كان الشارع بدا يفتح، الدعامة نهبوا العربات العجبتهم، وبدأوا يحركوا العربات الما عندها سواقين، وفعلا بدينا نتحرك بشارع يختصر علينا العربات الواقفة اللي معظمها خلوها أسياده و بقت عبارة عن تروس قافلة الشارع
بعد لفينا، نزلت تاني من الحافلة، وصيتهم ينتظروني في الضفة التانية، أنا حأفتش أخوي وما حأرجع بدونو
وكان المشهد، مرة أخرى، مرة يوقفني دعامي وأشرح ليهو موقفي، وغالبيتهم ما اهتموا وخلوني أفتش، بعضهم انزعج مني لكن تركوني، بعضهم استهزء بي، ما في واحد منعني
“محمد! وين أنت؟ أنا أخوك، لو سامعني رد علي!”
الدندر كلها حفظت الجملة دي، الدعامة هسي قبل ينوموا بتكون النغمة دي شغالة وبتزعجهم في أدمغتهم
و الناس اللي ما قررت تجري بتشفق علي، مشهد مأساوي بحق والله، ما في أي حركة سوى الشفشفة، وما في صوت غير صوتي وأصوات الرصاص، و قدر الناس الموجودة كانوا بعاينوا لي ويتمنون إني ألقى أخوي
الدندر دي أنا قطعتها ذهاب إياب ٦ مرات، ما في فايدة…
الساعة ياداب 1 ظهر، ومن اتحركت الحافلة كانت تقريبا 11، حوالي ساعتين أنا بصرخ بأعلى صوتي بفتش عن أخوي، بصراحة ما فرق معاي، ما كنت حاسي بي حاجة، بس كدا، أحس بشنو زاتو، انتظرت بس مصيري، وفجأة سمعت “ممدوح!”
أخوي الضايع جاري علي، ما حضنتو، أول حاجة قلتها ليهو “يا غبي”، واستقبلته أسوء استقبال ممكن على وجه الأرض، والباقي ما مهم…
وحسيت إننا سلمنا.. وفعلا سلمنا والله، الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، الحمد لله على كل حال
دي شهادتي، أنا بكتبها لنفسي قبل كل حاجة، لأني بقيت بنسى، والله بنسى كتير وتفاصيل كتيرة مهمة بلقى روحي نسيتها، حتى في أيام عصيبة زي دي، بتوقع إنها تكون محفورة في راسي للأبد، لكن بعد فترة بلقى نفسي ناسيها، بنسى كتير والله لدرجة أشك قد تكون مرضية… حتى وأنا بكتب الكلام دا في كلام كتير ناسيهو، وفي كلام ما متأكد من ترتيبه الزمني كان عامل كيف، لكن بتمنى إنه لما أجي أقرا الرواية دي أتذكر. بقيت في لحظات زي دي بحاول أشعر أكتر مما أفكر، لأنو بتمنى شعوري ينطبع وأتذكر، بدل أعتمد على ذاكرتي إنها تهيج مشاعري مستقبلا، حصل لي يوم زي دا في آخر 365 يوم أقل حاجة 3 مرات، ما متأكد، وما قادر أحدد لو دا كان أصعب يوم ولا لا، حتى وأنا بكتب في القصة دي هسي بعد هول الصدمة، ما متأكد.
دي قصتي المبتورة يا جماعة، قصة ركيكة جدا، أخوي عنده قصة، مجتبى عنده قصة، كل زول شهد اليوم دا عنده قصة أليمة جدا، وما أول مرة، دي كمية هائلة بتاعت حزن ومعاناة أنا ما قادر أستوعبها. وأنا هسي بكتب في القصة دي جمبنا أسرة وصلوا نفس محل مبيتنا الليلة وحكوا إنهم مشوا على الأقدام مسافة تقدر على الأقل 50 كلم، وفقدوا 3 سيارات وعفشهم، وواحد ثاني قتلوا أخوه قبل ساعات لأنه رفض يسلمهم مفتاح الدفار، وأسرة تانية حضرت الاشتباك الحصل، جدير بالذكر إننا في طريقنا بعد خروجنا من الدندر جات قوات من الجيش معززة بالطيران وحدث اشتباك عنيف بالبراميل المتفجرة والrpg، ربنا يثبت الأقدام، ويكون في عون المستضعفين.
في ناس قتلوا عشان رفضوا يسلموا عرباتهم، في طفل قاعد بيبكي ضايع من أهله، لكن معظم الناس جرت بدون تفكير وما رجعت، معظم الناس سلمت بأبدانها، مشهد النزوح كان على مد البصر، الناس في الشارع بتبكي، كل زول عنده قصة.
أنا بتمنى كل زول يكون بخير وسعادة، بس.
من إحدى التفصيلات اللي أنا داير أذكرها لنفسي، إني في نص المعمعة دي اتذكرت الملازم محمد صديق، الله يرحمك ويقبلك شهيد يا بطل.
النزوح الثالث، بلا وجهة، من المُلام لعنه الله؟ ما عارف والله، كل الفكرت فيه إن أنا مجرد تفصيلة صغيرة جداً، تعقيدة من تعاقيد قصة كبيرة شديد أنا ما قادر أفهمها، أنا مجرد ضرر جانبي collateral damage، وكلنا، وبسأل نفسي، من باب إني متفاجئ كيف إني ضئيل… “هل لنا من الأمر من شيء؟”
(ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيۡكُم مِّنۢ بَعۡدِ ٱلۡغَمِّ أَمَنَةٗ نُّعَاسٗا يَغۡشَىٰ طَآئِفَةٗ مِّنكُمۡۖ وَطَآئِفَةٞ قَدۡ أَهَمَّتۡهُمۡ أَنفُسُهُمۡ يَظُنُّونَ بِٱللَّهِ غَيۡرَ ٱلۡحَقِّ ظَنَّ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِۖ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ ٱلۡأَمۡرِ مِن شَيۡءٖۗ قُلۡ إِنَّ ٱلۡأَمۡرَ كُلَّهُۥ لِلَّهِۗ )
إن الأمر كله لله
إن الأمر كله لله
إن الأمر كله لله
والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون…
والحمد لله على كل حال

Mamdoh O. Siddig

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • مرض نادر يهدد حياة طفل بريطاني.. كيف نجا من الموت بمعجزة؟
  • سيحاصرك الموت غدا!!
  • سيحاصرك الموت غدا !!
  • ???? نازح من حرب السودان يكتب قصته بحبر الدموع.. ستبكي معه
  • باتريك جوهانسون رئيسًا لإريكسون في الشرق الأوسط وأفريقيا
  • تحكم عبر الدماغ.. الساق الآلية تعزز سهولة المشي لدى مبتوري الأطراف
  • عامل في مشروع توشكى: إنتاجية النخيل تزداد من سنة لأخرى.. وأنا فخور بالعمل هنا
  • شاهد.. لطيفة تطرح كليب "الورق"
  • الورق.. لطيفة تطرح أحدث أغانيها من ألبوم مفيش ممنوع | فيديو
  • نور النبوي يعيش انتعاشة فنية.. تفاصيل