رشان أوشي: السودانيون يقفون على محطتين!
تاريخ النشر: 23rd, March 2024 GMT
ذهبت أزمة السودان في ثوبها الجديد والمزركش بانتصارات القوات المسلحة في الميدان، إلى عيادة الولايات المتحدة الأمريكية وعادت بخيبة أخرى أطلق عليها مسمى (وثيقة الحل السياسي) ،والتي طرحتها مجموعة “تقدم”، بنودها تؤكد أن أمريكا لم تعد طبيبا فاعلاً رغماً من تأثيرها الكبير على القرار في المحيط الإقليمي.
كما بات معروفاً جيداً، أن السودانيين اليوم يقفون على محطتين تندرجان تحت العنوان (معركة الكرامة)، المحطة الأولى، وهي أمنية مباشرة، عنوانها إنتهاء الحرب والعودة إلى الديار، أما وسيلة إنهاء الحرب فقد أعلنها الجيش بشكل مباشر، أن القضاء على فلول المرتزقة وتدمير مشروع استعمار السودان هو السبيل الأوحد؛ ومضت القوات المسلحة في مسيرتها بالعمل على تطهير المدن المحتلة.
أما المحطة الثانية، وهي سياسية، عنوانها الصراع الدامي أو الوفاق السوداني؛ وفاق ما لا تزال طبيعته شديدة الغموض، تصير معها الجهات التي يفترض أن تتفق على انهاء الأزمة السودانية ومعالجة جذورها، ومن ثم وضع لبنات الدولة السودانية الحديثة، اي الأحزاب والكيانات هي المشكلة التي ينبغي حلها.
وربما جاز لنا أن نلخص الطريق إلى هذه المحطة الثانية بمعادلتين، كل منهما تتأثر بالأخرى وتؤثر فيها.
– أولهما: أن تعمل الأحزاب السياسية السودانية على الحؤول دون تكرار مذبحة الخرطوم في بقعة أخرى من بقاع البلاد، ومن ثم إطلاق وجهة تفضي إلى سقوط شعار (ما عدا)، والقناعة بأن مشروع الدولة السودانية الحديثة ما بعد حرب ١٥/ ابريل ينبغي أن يشارك في وضعه جميع السودانيين، بمن فيهم الإسلاميين أنفسهم.
الجيش نفسه تغشاه الهواجس تجاه ظهور عناصر الإسلاميين في ميادين القتال، هواجس ربما ترتقي إلى درجة الرفض، وهي ذات الأسباب التي دفعت قيادة الجيش إلى عدم التعاون مع نشاط المقاومة الشعبية بالحماس المتوقع ، يرغب العسكريون في حسم المعركة عبر مؤسسات الدولة، ويقدرون حماس الشباب السوداني ورغبته النبيلة في الدفاع عن أرضه.
– ثانيهما: أن تتمكن القوى السياسية الموصوفة ب( وكلاء المشروع الأجنبي في السودان )، من منع خروج القوات المسلحة منتصرة من هذه الحرب، ومن ثم محاولة سيطرتها على القرار والتمثيل السوداني، أو على جزء معتبر منهما، وهذه الفرضية تعني أن تدخل هذه الأحزاب وحلفاءها الدوليين في مواجهة مباشرة مع السواد الأعظم من الشعب السوداني الذي ينحاز إلى صف القوات المسلحة وحلفاءها.
وهنا اذكر عندما تم إعتقالي فبراير/ ٢٠١٩ م إبان ثورة ديسمبر، بعد التحقيق تم احضاري إلى مكتب ضابط بجهاز الأمن وقتها، هيئته وعمره يشيران إلى أنه برتبة عميد، سألني مباشرة: (رشان انتوا طالعين ثورة ليه؟) جاءت اجابتي مفعمة بالروعنة والصبينة: (عشان نسقطكم) ابتسم الضابط وقال: (خليك عارفة يا رشان بعمايلكم دي حتفرتقوا السودان طوبة طوبة، وخليك عارفة أنه ده شغل دولي وانتوا مستخدمين ساي)، ما زلت اعض نواجذ الندم، ليتني صدقته وقتها وتوقفت عن المشاركة في وزر ما انتهى بنا إلى هذا المآل.
بالعودة إلى قضيتنا الأساسية، هاتان المعادلتان وضعتا السودان على فوهة بركان.
اذا لا خيار غير احتواء هذه النكبة، القضية أكبر بكثير من بقاء أشخاص في المشهد أو ذهابهم. وأكبر من مصير أحزاب بعينها. القضية تتعلق بمستقبل شعب ومستقبل الاستقرار في المنطقة برمتها.
مجرد التفكير في العودة إلى ما قبل ١٥/ ابريل تظهر أن النكبة التي كانت السبب الرئيسي في زعزعة الاستقرار في السودان مستمرة.
ويجب ألا يسقط عن وعينا ان كثيراً ما رفع شعار التحول الديمقراطي لتغطية طموحات أو تبرير سياسات. هذا من دون أن ننسى أن مذابح الخرطوم، الجزيرة، دارفور كانت أكبر حجماً بكثير من مذابح النكبة السابقة، وان كل المشاريع التي هزت السودان توكأت على على شعار الديمقراطية الزائف.
وثيقة الحل السياسي التي طرحتها مجموعة “تقدم” المدعومة دولياً، والتي تتحدث عن فترة انتقالية مدتها عشر سنوات، ما هي إلا محاولة أخرى للقفز إلى الامام لإيجاد سبيل يضمن عودة الأوضاع إلى ما قبل ٢٥/ اكتوبر.
وثيقة “تقدم” والتي تحمل شعارات التحول الديمقراطي الزائفة، تعبر عن رؤية جديدة لحلفاؤهم الدوليين واعني تحديداً الولايات المتحدة الأمريكية التي تشعر بالقلق ناحية التقارب السوداني الشرقي.
محبتي واحترامي
رشان أوشي
المصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: القوات المسلحة
إقرأ أيضاً:
العلاقات الروسية وخارطة الطريق السودانية
الفيتو الروسي اليوم (18 نوفمبر 2024م) أبطل مشروع قرار الدول الغربية الذي قدمته بريطانيا لمجلس الأمن، والرامي لشرعنة التدخل الإنساني في السودان، وحظر الجيش وكافة عملياته، بالتوقف القسري لجميع العمليات ضد الميليشيا وشرعنة النهب والاغتصاب وقتل المدنيين، مما يعني عمليا تقسيم السودان بين مناطق سيطرة الميليشيا وتلك التي يتواجد فيها الجيش. وهذا يعني انفصال دارفور فعلياً، وخلق كانتونات في الجزيرة وولاية الخرطوم وغيرها، وإصدار شهادة ملكية للميليشيا وشرعنتها بالقانون الدولي والفصل السابع.
نفس القرار طبق من قبل على عراق صدام حسين في التسعينيات، فأدى لإنفصال إقليم كردستان من الناحية العملية، ومثيله القرار ضد ليبيا القذافي عام 2011م فأفضى إلى تشكيل حكومتين في بنغازي وطرابلس لا تزالان تختصمان حتى اليوم.
الذي يحمد للإتحاد الروسي مصداقيته في الوقوف مع سيادة السودان بالعمل وليس بمجرد العبارات المنمقة، كما فعل مع سوريا من قبل. فأوقف مسلسل العبث الطاغي والمتطاول على سيادة السودان، وتسييره مغلولا ومعصوب العينين من قبل دول الاستعمار الجديد المعروفة، لإمضاء مخططاتها المتماهية مع أعدائه المعلنين.
هذا موقف مشرف من الإتحاد الروسي يستحق التقدير ورد التحية بأحسن منها، فما جزاء الإحسان إلا الإحسان.
بيد أنه تبين الآن أن تطاول عمليات حسم هذا التمرد المدعوم بأجندة الخارج تعيق التقدم دبلوماسيا، وتكبل السياسة الخارجية. وظل هذا شأن السودان مع هذه الدول منذ الاستقلال، وعلى كافة الحكومات، الإنقلابية والعسكرية، بالتآمر المستمر، وتبادل الأدوار في كل مرحلة حسب مقتضياتها. وينشط التآمر الخارجي بنصب الحبائل في أجواء المعاناة المكفهرة التي تصنعها بيادقه من جيوش العملاء المتماهين مع المرتزقة حملة السلاح، ومن خانوا قسم الولاء للوطن فخانوه، ورفعوا السلاح المعد للعدى في صدور زملائهم رفقاء العقيدة الوطن.
ولذا فيتعين على الحكومة القائمة التعامل مع الوضع الراهن بالجدية والحسم المطلوبين. فأول مطلوب عملي هو تسريع عمليات تطهير البلاد من جيوب التمرد الآفل في كل مسارح العمليات، وبدءا بولاية الجزيرة، قلب السودان النازف، وتسريع عمليات تطهير بقايا التمرد في أطراف الخرطوم لإعلانها ولاية خالية من التمرد، والشروع في إنفاذ برامج إعادة البناء والإعمار.
ففي كل يوم تتأخر فيه القوات المسلحة المدعومة، أكثر من أي وقت مضى، بالمستنفرين والمقاومين، وكل شعب السودان، عن الحزم الموعود، فإن ذلك المدى الزمني يفتح فصولا جديدة من التآمر والتربص ونصب الحبائل. فقد أعلم بمثيل هذا التربص المولى تعالى رسوله، وهو في ساحة الجهاد مع المسلمين السابقين الأولين بقوله:-
“ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا” ثم أوصاهم بعدم التهاون والتردد في الحسم مهما كانت التضحيات:
“ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين” موصياً ومحرضاً لهم بالثبات على المبدأ وتحديد الوجهة والتوكل الحازم.
أما على مستوى العلاقات الخارجية الثنائية، فقد تبين الآن للجميع، وبوضوح ساطع، من يقف مع السودان، ومن يدبر له المكائد.
وبالتالي فيتعين أن تعتمد مقاصد وتوجهات السياسة الخارجية هذه البوصلة التي لا تكذب.
فيتعين إبرام اتفاقيات دفاع مشترك واتفاقيات اقتصادية وتجارية، واتفاقيات التبادل النقدي مع دول صديقة وموثوقة كالإتحاد الروسي والصين وكافة الدول الصديقة، التي أكدت بالقول والفعل احترمها لسيادة السودان ووحدة ترابه واستقلال قرار شعبه السياسي، بدلا من الخضوع المتقاعس لأجندة الخارج التركيعية، وتوعداته التثبيطية، التي لن تقود إلا لمزيد من التشظي والفرقة، وبذر الشقاق والاحتراب بين أبناء الوطن الواحد، والسعي لتموضع العملاء والوسطاء لإذكاء المزيد من الفتن واستطالة أمد الحرب.
بالأمس اجتمع المستشار الألماني أولاف شولتز مع الرئيس بوتين، وقد خلص المراقبون إلى أن الهدف من اللقاء المفاجئ، الذي أذهل العديد منهم، يصب في خدمة السياسة المعلنة للرئيس المنتخب دونالد ترمب، الذي قرر إنهاء الحرب في أوكرانيا، كما أن ألمانيا نفسها ظلت تعاني من التدهور الاقتصادي بسبب قطع إمدادات الغاز والنفط الروسي عنها منذ عام 2022م ، فأدى ذلك لإغلاق عدد من مصانع السيارات مثل شركة فلكسواجن، وتجميد استثمارات أجنبية لصناعة الموصلات الإلكترونية تقدر ب 30 مليار دولار، وتزايد نسب العطالة والتذمر واستقالة وزير المالية والاقتصاد وتصدع الائتلاف الحاكم، فضلا عن أن نسبة النمو الاقتصادي خلال العام الجاري تناقصت إلى 0.2% وعلما بأن الاقتصاد الألماني يؤثر على كل دول الإتحاد الأوربي وضَعفه يعاني معاناتها. وبالتالي فلم يعد لأوروبا من مناص سوى التوصل لحل لمشكلة أوكرانيا نزولا على مبدأ الرئيس ترمب.
وبالتالي فإن الرهان الأوربي للوقوف مع أوكرانيا ضد روسيا وهزيمتها بدون أمريكا أصبحت معالمه واضحة للجميع.
بالأمس أعلنت حكومة الانقلاب في القابون التي يترأسها الجنرال بريس انقويما نتيجة الاستفتاء العام على الدستور الجديد، والذي حصل على تأييد أكثر من 91% من المواطنين، وجاء ذلك بموافقة ورعاية فرنسا ماكرون للانقلاب العسكري الذي جرى في أغسطس 2023م ضد حكومة الرئيس المنتخب علي بونقو في ديسمبر 2022م. وفي السودان نحتاج لتجربة أفضل لأن مرور خمس سنوات دون حكومة منتخبة يضحي أمرا مقلقاً.
عموما على الرئيس البرهان العمل والتصرف كرئيس حكومة أمر واقع، ودولة ذات سيادة، فعليه الشروع في تشكيل حكومة المهام الانتقالية من الخبراء والتكنوقراط، وإعلان برنامج إعادة الإعمار، وإصدار خارطة طريق للانتخابات لاستعادة المشروعية المسنودة بسيادة الشعب وسلطة حكم القانون. فالعالم لا يحترم من يتقاعس وينتزع موقعه المستحق بين الدول، ولا يحتفي بالمترددين المرتكسين المنتظرين لإشارات الآخرين. فالمياه الراكدة يفسدها طول الركود فتفسد ما حولها. والله يخاطب الرسول القائد تعليما للمسلمين في مثل هذه المواقع: ” فإذا عزمت فتوكل على الله”..
دكتور حسن عيسى الطالب
المحقق