الالتزام العملي في حياة الإنسان يسمو بالإنسان ويجعله يتعامل مع تلك النعم بطريقة صحيحة

الثورة/

أَعُـوْذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللَّهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.


اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.
الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمْ.
أيُّهَا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَات:
السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
نواصل الحديث على ضوء الآيات المباركة في القصص القرآني، البداية من قصة أبينا آدم «عَلَيْهِ السَّلَام»، سبق لنا الحديث على ضوء الآيات المباركة، التي قصَّت قصة أبينا آدم «عَلَيْهِ السَّلَام» (في سورة البقرة)، وتحدثنا أنَّ لهذه القصة في السور المباركة التي ذكرتها سياقات معينة، وفي كل سياق يتم التركيز على كثيرٍ من الدروس والعبَر المهمة جداً، والهداية الإلهية الواسعة، التي نحن في أمسِّ الحاجة إليها.
والقصة أيضاً وردت (في سورة الأعراف)، ولها أيضاً سياقها المهم جداً لنا، والذي نحتاج إلى أن نستفيد منه، وفي هذا السياق ذكر الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» جوانب معينة من القصة لم تُذكر (في سورة البقرة)؛ لأن المسألة- كما قلنا- مرتبطة بالسياق، فلهذا عندما نأتي إلى قراءة القصة (في سورة البقرة)، ثم (في سورة الأعراف)، ثم ننتقل إلى بقية السور التي ذكرتها: (في سورة الحجر، في سورة طه، في سورة الإسراء)، في بقية السور المباركة، نجد أيضاً التكامل الكبير، والفائدة المتنوعة والواسعة التي نستفيدها من الدروس المهمة والعظيمة بالنسبة لنا.
قصة أبينا آدم «عَلَيْهِ السَّلَام» كما وردت في القرآن الكريم، وتكررت فيه من جوانب متعددة، وقدَّمت الدروس والعبر، ذُكرت في كتب الله السابقة إلى رسله وأنبيائه، وفيها الدروس المهمة، التي لو استوعبها البشر في كل المراحل الماضية، ليس فقط في هذا العصر الأخير، عصر ختم الرسالات وختم النبوة، منذ أتى وبعث الله نبيه محمداً «صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ» خاتم الأنبياء والمرسلين، بل حتى مع الأنبياء السابقين، ومنذ البداية لو استوعب البشر الدروس والعبر التي في هذه القصة؛ لكان واقعهم مختلفاً تماماً عمَّا هو عليه؛ لأنها دروس مهمة جداً، واستيعابها يقي الناس، ويقي من استفاد وأخذ الدروس والعبر منها، يقيه الكثير والكثير من الشقاء والخسران في الدنيا وفي الآخرة، الخسران المبين، والخطير، والأبدي والعياذ بالله.
يقول الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» (في سورة الأعراف): {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ}[الأعراف: الآية10]، ومثل ما سبق لنا (في سورة البقرة)، قبل البدء بالقصة مباشرةً يأتي الحديث عن نعمة الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» على البشر بهذه الأرض، وما جعل لهم فيها وخلق لهم فيها من النعم الوافرة، الكثيرة، التي لا تحصى ولا تعد.
وهذا مدخلٌ مهمٌ بالنسبة للإنسان؛ لنعرف أن الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» هو مصدر النعم، وأنه أتى بنا إلى هذا الوجود، وخلقنا في هذه الأرض في إطار نعمه، ورعايته الواسعة، وفضله الواسع العظيم، مع التكريم الكبير، فجمع لنا بين النعم المادية، الوافرة، الكثيرة، المتنوعة جداً، ومع ذلك النعم المعنوية، المتعلقة أيضاً بالجانب الأخلاقي، والقيمي، والديني، والالتزام العملي في حياة الإنسان، الذي يسمو بالإنسان، ويجعله يتعامل مع تلك النعم بطريقة صحيحة، والتمكين في الأرض له جانبين:
الجانب الأول: ما أودع الله وخلق الله للإنسان في هذه الأرض من النعم الواسعة جداً.
والجانب الثاني: ما أودع الله في الإنسان نفسه من مدارك، وطاقات، وقدرات، ومواهب، تساعده على الاستفادة من هذه النعم، والاستخراج لها، والتَّمَكُّن من الانتفاع بها بأشكال كثيرة، ضمن التسخير الإلهي؛ لأن الله سخَّر للإنسان هذه النعم، بحيث يمكنه أن ينتفع بها بأشكال متنوعة، وينتج منها أشكالاً متنوعة، ومنافع متنوعة.
ولهذا فالله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» جعل الإمكانات المادية المتوفرة في هذه الأرض تحت تصرف الإنسان، تحت تصرفه، وسخَّرها له، وزوَّده بالمدارك، والمواهب، والقدرات، والطاقات، التي تساعده على أن يستفيد منها، متمكناً من الانتفاع، والتصنيع، والاختراع، والإبداع، والانتفاع الواسع.
فالله هو مصدر هذه النعم للإنسان، مصدر النعم، فيما أودع الله في الإنسان، وفيما أوجد له، وفيما مكَّنه فيه؛ ولذلك لا يليق بالإنسان أن يستخدم نعم الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» بالإساءة إلى الله «جَلَّ شَأنُهُ»، فالمفترض بالإنسان، واللائق به، وواجبه هو الشكر، هو الشكر إلى الإحسان العظيم، والإنعام الكبير من الله عليه، لا أن يقابل نعم الله العظيمة بالإساءة إلى الله «جَلَّ شَأنُهُ».
{وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ}، في مقدِّمة هذه النعم التي أنعم الله بها علينا في الأرض: ما نحتاجه لمعيشتنا، في غذائنا، في أكلنا، في متطلبات حياتنا، في قوتنا، وهذا شيءٌ واسعٌ جداً، واسعٌ جداً.
عندما نأتي إلى قائمة المحاصيل الزراعية والنباتات، التي يمكن للإنسان أن يستفيد منها كغذاء، كم هي قائمة البقوليات؟ كم هي قائمة الحبوب؟ كم هي قائمة الفواكه؟ كم هي بقية القوائم؟ قوائم واسعة جداً، أصناف كثيرة جداً، وهيَّأ الله على مستوى البلدان كذلك أن تزرع البلدان أنواعاً كثيرة من المحاصيل الزراعية والنباتات، وكذلك على مستوى المواسم، في كل موسم فواكه معينة، محاصيل معينة، وأشياء كثيرة جداً، وهكذا بقية الاحتياجات التي يحتاجها الإنسان لمعيشته، وفَّرها الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» للإنسان، ولكن مع هذا لابدَّ للإنسان من العمل، والأخذ بالأسباب، وغير ذلك.
فالله هو مصدر كل هذه النعم الواسعة، والمنافع الكثيرة، والمعيشة الضرورية التي يحتاج إليها الإنسان، والقوت والغذاء، الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» هو الذي أنعم علينا بذلك، وبشكلٍ وافر، ومع ذلك بشكلٍ فيه تكريم، الطيِّبات التي أحلَّها الله- وهي كثيرة جداً ومتنوعة- جعلها الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» لائقةً بالإنسان، في شكلها، في مذاقها، وفي منفعتها للإنسان، وفي استساغة الإنسان لها، وطبعها بالطابع الجمالي الرائع، الذي يشد الإنسان إليها، وهكذا، من جوانب كثيرة.
{قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ}، للأسف الشديد فالإنسان هو قليل الشكر! مع أنَّ الله مصدر كل النعم عليه، ومع أنه في معيشته، ومتطلبات حياته الأساسية، يعتمد على ما وهبه الله إياه، وخلقه له، وأنعم به عليه، لكنه كثيراً ما يستخدم تلك النعم والإمكانات في الإساءة إلى الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى».
{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ}[الأعراف: من الآية11]، بداية الخلق للإنسان، بداية الوجود البشري حينما خلق الله أبانا آدم «عَلَيْهِ السَّلَام»، وهو بداية للوجود البشري، بداية الوجود الإنساني، فالله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» خلقه وهو البداية للوجود الإنساني، يعني: بداية خلق الإنسان، وأنعم على الإنسان في خلق الإنسان، كان من الممكن أن يُخَلَق الإنسان شبيهاً بأي حيوان من الحيوانات الأخرى، في شكله، في قوائمه في اليدين والرجلين مثلاً، في أشياء أخرى، وبذلك تصعب عليه الحياة، ويعاني في أشياء كثيرة، ويكون دوره في هذه الحياة دوراً محدوداً، بقدر تلك الكيفية التي خلقه الله فيها، إلَّا أنَّ الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» خلق الإنسان في أحسن تقويم، كما قال «جَلَّ شَأنُهُ»: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}[التين: الآية4]، وفعلاً كل الدواب التي تدبُّ على وجه الأرض، في برها وفي بحرها، ليس شيءٌ منها يشبه الإنسان، وبمستوى خلق الإنسان، الإنسان مميز في خلقه، من حيث الشكل والتركيب، والتهيئة للحركة، في طاقاته، في جوارحه وأعضائه، في مداركه… وغير ذلك.
{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ}، فالنعمة في الخلق نفسها نعمة كبيرة، والله وهبنا الحياة، وأتى بنا إلى الوجود، ومصدر هذه النعمة العظيمة، {ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ}، أعطى الله للإنسان الصورة الجميلة، المميزة عن بقية الدواب على وجه الأرض، وفعلاً هي صورة أجمل من صورة أي حيوان على وجه الأرض، فالله أنعم على الإنسان، وفي الصور نفسها آية عجيبة، آية عجيبة على كثرة البشر، سواءً في الرجال أو النساء على كثرتهم، واختلاف صورهم مع ذلك، آية عجيبة جداً من آيات الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، بل في مراحل حياة الإنسان، كيف تختلف صورته من طفولته، إلى شبابه، إلى كهولته، إلى شيخوخته، فالله أعطى للإنسان هذه الصورة الجميلة المميزة، وهي نعمة، وتكريم كذلك.
{ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ}، تكريماً لآدم، السجود ذلك كان تكريماً لآدم «عَلَيْهِ السَّلَام»، وهذا نعمة على البشر، ويمتد هذا التكريم إلى البشر، بأن كرَّم الله الإنسان الأول وبداية الوجود الإنساني، بسجود الملائكة له؛ تكريماً له، وعبادةً لله؛ لأنه تسليمٌ لأمر الله، وطاعةٌ لله «جَلَّ شَأنُهُ»، فهو عبادةٌ لله، تكريمٌ لآدم.
{فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ}، إبليس كان بين الملائكة، وهو كما ذكرنا سابقاً في المحاضرات السابقة أن الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» بيَّن لنا (في سورة الكهف) أن أصله من الجن، ولكنه كان قد ارتقى إلى صفوف الملائكة، ليستقر بينهم، وليعبد الله في جملتهم؛ ولذلك كان يؤمر معهم، ويخاطب معهم.
إبليس امتنع من السجود، لم يسجد، {لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ}، وامتنع عن ذلك أشد الامتناع، ورفض ذلك، وكان موقفه مختلفاً عن بقية الملائكة، وهنا سيبيّن لنا في هذه الآيات المباركة بشكلٍ أوسع مما قرأناه (في سورة البقرة)، عن عداوة إبليس للإنسان، عن عداوة الشيطان للبشر، وعن أساليبه، وعن حقده، وغير ذلك.
ما هو السبب في امتناع إبليس من السجود؟ الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» كشف لنا نحن هذا السبب، باعترافٍ مباشرٍ من إبليس نفسه.
{قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ}[الأعراف: من الآية12]، الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» حينما سأل إبليس، ليس لأنه يخفى عليه ما هو السبب، ما هو الدافع الذي دفع إبليس للامتناع عن السجود، هو «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» يعلم الغيب والشهادة، يعلم ما توسوس به نفس كل مخلوق، يعلم ظاهر كل مخلوقٍ وباطنه، من الإنس، والجن، والملائكة، وكل المخلوقات، لا يخفى عليه شيءٌ «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، ولكن الله «جَلَّ شَأنُهُ» أراد أن يوثِّق لنا نحن (بني آدم) أن يوثِّق لنا نحن اعترافاً مباشراً من إبليس نفسه، عن السبب الحقيقي في امتناعه من السجود لآدم «عَلَيْهِ السَّلَام».
{قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ}[الأعراف: من الآية12]؛ لأن الله قد أمره، وأمر الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» سواءً فيما يأمر به ملائكته، أو يأمر به الجن، أو يأمر به الإنس، ليس هناك ما يسوِّغ لمن توجه إليه هذا الأمر الإلهي أن يرفضه، الكل عبيد الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، ولننظر إلى من هو الآمر، لتكن النظرة والمنطلق على هذا الأساس: من هو الآمر، وليس النظر إلى أسباب أخرى، أو تفسيرات أخرى، أو تبريرات أخرى، طالما وهناك أمرٌ من الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، فليس هناك من مجال للإنسان، ولأي مخلوقٍ آخر (الملائكة، الجن)، إلَّا الطاعة، الطاعة والتنفيذ لأوامر الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، نحن نؤمن بأن الله هو العليم الحكيم، وأحكم الحاكمين، والرحيم العظيم؛ وبالتالي حتى لو خفي علينا وجه الحكمة تجاه أمرٍ من الأوامر، أو كان لدى الإنسان امتعاض أو أي مخلوق آخر لأسباب أخرى، فليزح عن نفسه ذلك، وليسلِّم لأمر الله «جَلَّ شَأنُهُ»، فلم يكن له من مبرر، طالما وهناك أمر من الله، لم يكن له من مبرر، ولهذا ليس السؤال له للاستفسار عن مبرر؛ لأنه لا مبرر أصلاً، لا مبرر أصلاً، فالسؤال ليس سؤالاً عن ما هو المبرر؛ إنما هو سؤال عن السبب الذي ليس مبرراً مشروعاً له؛ وإنما هو سببٌ آخر، يريد الله أن يكشفه لبني آدم باعترافٍ مباشرٍ من إبليس.
{قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}[الأعراف: من الآية12]، كان امتناع إبليس من السجود أول معصية عصى الله بها، معصية كبيرة جداً، معصية في الطاعة، في الفعل، في العمل، ولكن تبيَّن أيضاً أنَّ وراء هذه المعصية ما هو أخطر، ما هو أسوأ، ما هو أكبر، وأنها تشعَّبت وتفرَّعت عن عقدة الكبر، كان متكبراً، ويعتقد أنه خيرٌ من آدم، وأنه لا ينبغي السجود لآدم، فهو هنا يتَّهم الله في عدله وحكمته، ويصرِّح بهذا الاتهام، يُصرِّح بهذا الاتهام لله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» في عدله وحكمته، يعني: أنه ليس من العدل ولا من الحكمة أن يؤمر بالسجود لآدم فيما هو خيرٌ من آدم، وهو يتصور نفسه كذلك، تصوراً زائفاً، تصوراً زائفاً، واستدلالاً بالعنصر الذي خُلِق منه كلٌ منهما ورُكِّب منه؛ بينما العنصر لا يضيف بنفسه، سواءً التراب، أو النار، ليس هو الذي يحدد فضل مخلوق على آخر، أن ذلك خُلِق من تراب، وذلك خُلِق من نار، لو افترضنا والمسألة على هذا الأساس، فللتراب بركات كثيرة، التراب تنبت منه الأشجار، الفواكه، الثمار… أشياء كثيرة جداً، كم فيه من الخيرات والبركات، لكن ليست المسألة في أن يَفْضُل مخلوقٌ على مخلوقٍ آخر بالمادة التي رُكِّب منها، أن ذلك رُكِّب من نار، وذلك خُلِق من عناصر التربة، وذلك خُلِق من عنصر النار، هو كلامٌ سخيف؛ إنما خلاصته الكبر، والكبر حالة خطيرة جداً.
الكبر: حالة يتصور المخلوق الذي يتكبر أنه أكبر من أن يقبل بذلك الأمر الإلهي، أنفةٌ من قبول الحق، وأنفةٌ من الإذعان لأمر الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»؛ لسبب توهُّم أن الإنسان أكبر من ذلك، أو المخلوق إذا كان غير إنسان كما هو حال إبليس وهو من الجن كذلك، هو يتصور أنه أكبر من أن ينفِّذ ذلك الأمر الإلهي، فأنف من تنفيذ أمر الله لهذا السبب.
فيعود الكبر إلى هذا التعريف، وهو من أخطر الذنوب، وأسوئها، إذا كان المخلوق (من الإنس، أو من الجن) يتصور نفسه أنه فوق أن يُذْعِن لأمرٍ من أوامر الله، أو أن يقبل بشيءٍ من الحق، لأنه يرى نفسه أكبر من ذلك؛ فهو متكبر، متكبر.
والكبر ذنبٌ عظيم، هو أول ما عُصي الله به كما في الروايات والأخبار، وهو عقدة خطيرة جداً، عقدة خطيرة؛ ولهذا من يتورَّط في الكبر، وتكون معاصيه متفرِّعة عن الكبر، فهو شديد الإصرار، وهو يبقى مصراً على ذنوبه؛ لأنه يتفرَّع ذنوب عن الكبر في الواقع العملي: يمتنع الإنسان من اتِّباع الحق وأهله، يمتنع الإنسان من أعمال معينة، يمتنع من قبول حقٍ معين، فيتفرَّع ويتشعَّب عن الكبر في الواقع العملي معاصٍ كثيرة، ثم يكون المتكبر هو ذلك الذي يصر على معاصيه، ولا يقلع عنها، وكلما ذُكِّر؛ ازداد عتواً وعناداً، فتصبح حالة العناد، والإصرار على المعصية، هي مما يظهر كثيرًا في المعاصي المتفرِّعة عن الكبر؛ ولهذا كان الشيطان مصراً، وكان يخرج من معصية إلى معصية أخرى، كبيرة وفظيعة جداً، فمعصية الامتناع من السجود، معصية عملية، ثم يتلوها معصية توجيه الاتهام لله، وإخراج ما كان خفياً في نفسه، من الاتهام لله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» في حكمته وعدله، وجريمة الإصرار على المعصية، والاستمرار عليها… وهكذا ينتقل من معصية إلى معصية كبيرة أخرى، إلى طامة أخرى، حالة رهيبة جداً.
الكبر حالة خطيرة جداً؛ ولهذا يأتي التحذير منه كثيرًا في القرآن الكريم، وهو من الأسباب التي تدفع الكثير من الناس، فيما يقصُّ الله علينا عن الرسالات السابقة مع رسله وأنبيائه، وكيف كان الذي يتصدى لهم، ويواجه رسالتهم، ويقود حالة الكفر والطغيان، هم: الملأ الذين استكبروا، هم الملأ الذين استكبروا، الكبر هو من أكبر الأسباب التي تدفع البعض من الناس إلى أن يقودوا هم حالة العناد، والتصدي للرسالة الإلهية، ومواجهة الأنبياء، والهداة، والصالحين من عباد الله.
ماذا كانت نتيجة ذلك التكبر؟ النتيجة تكون معاكسة، هذا مما هو ملازم لحالة التكبر: أن المتكبر يهبط، ويسقط، ويخسر، يخسر القيمة المعنوية؛ لأنه يريد لنفسه أن يكون له شأنٌ رفيع، وأهمية ومكانة عالية، ولكن أول ما يخسره المتكبر هو ذلك، لا وزن له، لا مكانة له، لا يبقى له شأنٌ رفيع، وأهمية ومكانة عالية.
{قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا}[الأعراف: من الآية13]، طُرِد، طُرِد بإذلال وإهانة، وخسارة لكل شيء، من تلك الساحة التي كان فيها يتعبَّد لله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» مع ملائكة الله، كان قد ارتقى ليكون مع الملائكة في أماكن تعبُّدهم لله «جَلَّ شَأنُهُ»، في تلك اللحظة قد خسر إيمانه، خسر كل عبادته السابقة، وحبط كل عمله، لم يبقَ له أجر، ولا قيمة لأعماله، وفي نفس الوقت خسر مكانته، هو كان في مكانة محترمة، مكانة عالية بين أوساط الملائكة، ولكنه خسر كل ذلك دفعةً واحدة؛ لعصيانه ذلك الأمر الإلهي، وعقدة الكبر، خطورة الكبر خطورة رهيبة جداً والعياذ بالله.
{قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا}، الهبوط: الطرد، الذي هو طردٌ من ذلك المكان المقدَّس، وفي نفس الوقت طردٌ من المكانة التي هو فيها، من المنزلة التي كان قد وصل إليها، فخسر كل شيء.
{فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا}[الأعراف: من الآية13]؛ لأن ساحة الملائكة التي يعبدون الله فيها، ومواقعهم، هي أماكن مقدَّسة، خالصة للعبادة، للطاعة، لا مجال فيها لمعصية الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، ولا مجال فيها للتكبر، هناك يقوم الملائكة في عبادتهم لله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، هم يذوبون في عبادة الله، ويقدِّمون أرقى معاني العبودية لله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، يخضعون لله، ويتعبَّدون لله تمام التعبُّد، في أرقى ما نتصوره عن التذلل، والخضوع، والخشوع، والتعبد لله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى».
{فَاخْرُجْ}[الأعراف: من الآية13]، وهذا تأكيد للطرد بغضبٍ من الله، وسخطٍ من الله، ومقتٍ من الله والعياذ بالله، {فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ}[الأعراف: من الآية13]، طُرِد وحُكِمَ عليه أن يكون من الصاغرين، والصَّغَار هو: الذلة والهوان، فتكبره لم يحفظ له مكانةً معينة، لم يحفظ له مكانةً عالية، ولم يبقِ له شأناً رفيعاً، ولا منزلةً عالية، كانت النتيجة معاكسة لذلك تماماً، وتحوَّل ليكون من الصاغرين، في ذلٍ وهوان وخزي والعياذ بالله، فهو خاسر، والنتيجة خسران رهيب بكل ما تعنيه الكلمة، ذلٌ وهوانٌ في الدنيا والآخرة، يلازمه للأبد.
هو بعد كل ذلك بقي على عناده، وبقي مصراً على إجرامه، وذنبه، وعصيانه، لم يرجع إلى الله بالتوبة، أو الإنابة، أو يراجع حساباته، وينتبه إلى خسرانه، أنه يخسر ويخسر أكثر وأكثر، كلما زاد عناداً؛ كلما زاد خسراناً، وضعةً، وسقوطاً، وهواناً.
فما الذي طلبه؟ {قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}[الأعراف: الآية14]، طلب من الله أن يُنظِرَه، يعني: أن يؤخِّر عنه الموت والهلاك، فيبقى على قيد الحياة طول الفترة التي يعيش فيها البشر في هذه الدنيا، وإلى يوم القيامة، هذا طلبه، هو يعرف أنَّ هناك يعني ما قد شرحه الله للملائكة، وهو بين أوساطهم، عن حياة البشر في بدايتها، ونهايتها، وما فيها، شرح مهم جداً، يوضِّح حقائق ذات أهمية كبيرة، ثم الحساب والجزاء… وغير ذلك، {قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}.
لماذا يطلب من الله الإنظار، وألَّا يعاجله بالموت؟ الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» كشف له، وقال له: {قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ}[الأعراف: الآية15]، وهنا يحصل التباس على بعض المفسِّرين، وبعض الواعظين، يتصوَّرون أنَّ الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» استجاب له طلبه ودعاءه، والحقيقة: أنَّ الله كشف له أنه من المنظرين، وهذا كان مقدراً من قبل معصيته، مقدراً من الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» كان قد كتب له أن يكون من المنظرين، من الذين يبقون على قيد الحياة إلى يوم الوقت المعلوم، الذي في علم الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، ولكنه لفترة طويلة؛ ولهذا سيعايش أجيالاً كثيرةً جداً من البشر، ويبقى هو يدير المعركة ضد الإنس.
{قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ}، ويأتي في سور أخرى، أنَّ الله قال: {إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ}[ص: الآية81]، {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ}[الأعراف: الآية16]، ولاحظوا كيف اتَّجه من ذنب إلى ذنب، ومن معصية إلى معصية، عقدة الكبر خطيرة للغاية، نعوذ بالله منها.
هنا بقوله: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي}، هو يُحمِّل الله المسؤولية، فيما أوقع هو نفسه فيه من الغواية، إبليس هو الذي أوقع نفسه في الغواية، تكبر، عصى أمر الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، لو سجد، قد سجدت الملائكة وهم خيرٌ منه، الملائكة خيرٌ من إبليس، ولم يأنفوا من السجود، وسجدوا، وسجدوا تكريماً لآدم، وخضوعاً لأمر الله، وتسليماً لأمر الله، وطاعةً لله، لم يترددوا في ذلك، وهم خيرٌ منه، فلو أنه قال لنفسه: [قد سجد الملائكة وهم خيرٌ منك]، فاسجد معهم، لكان خيراً له، فهو الذي أوقع نفسه في الغواية، ثم هو يحمِّل الله المسؤولية، يحمِّل الله المسؤولية في ذلك، ويتخاطب مع الله بكل هذه الوقاحة، وقلة الأدب، والافتراء على الله.
{قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ}، ثم هو يحلف؛ لأن هذا في مورد القسم: {لَأَقْعُدَنَّ}، (اللام) هذا، وصرَّحت به آيات أخرى: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}[ص: الآية82]، مقسماً، وهذا يدل على شدة حقده، فهو حاقدٌ على الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، وحمَّل الله المسؤولية فيما أوقع فيه نفسه هو من الغواية، حاقدٌ على الله، وحاقدٌ على آدم وحواء «عَلَيْهِمَا السَّلَام»، وعلى ذرية آدم جميعاً، حقد شديد جداً.
{قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ}، وهو يقسم أنَّه سيتَّجه في حربه الشرسة ضد آدم وبنيه، لصدهم عن صراط الله المستقيم، وأنَّه سيتحرك ليكون مضلاً، ليتحرك في طريق الإغواء، سيتَّجه ويجعل كل جهده، وكل عمله، وكل نشاطه، وكل برنامجه، في كل الفترة التي سيبقى مُنظراً فيها، هو: السعي لإغواء بني آدم، الإغواء لهم عن صراط الله المستقيم، هو صار غاوياً، وهو يعترف على نفسه بأنه صار غاوياً، قد غوى عن طريق الحق، وانحرف عن طريق الحق، وخرج عن طريق الحق، وهو يعترف أنَّه أصبح في طريق الغواية، وأنَّه قد خرج عن نهج الحق، وهو أساء إلى الله بتحميله الله المسؤولية في ذلك، ولكنه يعترف على نفسه بأنه أصبح غاوياً، ثم يعلن- وهذه معصية كبيرة جداً- أنَّه سيتجه كل تلك الفترة التي أنظره الله فيها ليعمل على إغواء آدم وبنيه، وليبذل كل جهده في إغواء بني آدم عبر الأجيال، هذا يدل على ضلال رهيب، وخبث، خبث رهيب، خبثت نفسه بشكل عجيب جداً.
ومن أخطر نتائج المعاصي، ومنها المعاصي الناتجة عن الكبر: أنَّها تخبث بها النفوس، يفقد المخلوق- سواءً من الإنس، أو الجن- طيب نفسه، زكاء نفسه، عنصر الخير في نفسه، إرادة الخير في نفسه؛ فيكبر الشر ويتعاظم في واقعه النفسي، وكيانه الداخلي، ويتعاظم الخبث فيطغى، يطغى عن المخلوق (من الإنس، أو الجن)، وهي حالة خطيرة، مخيفة؛ ولهذا يحث القرآن الكريم على المبادرة إلى التوبة عند الزلل؛ لأن للمعاصي أضرارها وآثارها الخطيرة جداً على الجانب النفسي، بما تتركه من الخبث في النفوس، هذا يفيد عن خبث رهيب جداً وصل إليه إبليس؛ ولذلك اتَّجه لمعصية أيضاً معصية كبيرة جداً، ليكون زعيماً للضلال، زعيماً للشر، زعيماً للفساد، زعيماً للمنكر والعياذ بالله، زعيماً للغواية، أمر رهيب جداً، واتجاه خطير جداً اتَّجه فيه، وهوى إليه، وسقط فيه، ووقع فيه، وخسارة رهيبة جداً، {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ}[الأعراف: من الآية16]، فهو يبين أنَّه سيتَّجه هذا الاتجاه، بما يكشفه ذلك من خبثٍ وصل إليه، ومن عقدةٍ وحقدٍ تجاه الله، وتجاه آدم وذريته، ويكشف خطته.
والله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» كشف للبشر خطة الشيطان، وطبيعة الحرب التي سيشنها عليهم؛ لأنها ليست حرباً من النوع الآخر، ليكسِّر عليهم ما بأيديهم من إمكانات، أو ليحطِّم عليهم ممتلكاتهم، أو شيءٍ من ذلك، هو سيشغِّل البعض منهم في ذلك، ولكن الحرب الناعمة، الحرب التي تستهدفهم لإغوائهم، والسعي لصدهم عن الصراط المستقيم، الموصل إلى الغايات والنتائج العظيمة، التي تسمو بالإنسان، ويصل الإنسان إلى الفلاح، إلى الخير، إلى الفوز العظيم؛ فهو يريد للبشر الغواية مثله، والسقوط مثله، وأن يخسروا التكريم الإلهي الذي وهبهم الله إياه، في دينه، ونهجه، ونعمه عليهم، وما قبلهم، ما أعدَّه الله لهم في آخرتهم، يريد أن يحرمهم من كل ذلك.
{لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ}[الأعراف: الآية16]، وهو يعترف بأن صراط الله مستقيم، يوصل إلى النتائج العظيمة، والغايات الكبرى، من الفوز العظيم، والفلاح، وهو يريد أن يصرفهم ليخسروا؛ لأنه يرى نفسه أنه قد خسر كل شيء، ويريد أن يخسروا معه، وأن يوقعهم معه في الخسارة، والشقاء، والخذلان، والضلال، والغواية؛ ثم إلى نار جهنم، ليكونوا من أصحاب السعير، وأن يحرمهم من جنة الخلد في الآخرة.
{ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}[الأعراف: الآية17]، يقول: أنه سيبذل كل جهده، ويستخدم كل الوسائل والأساليب في العمل على إغوائهم، وسيأتي الإنسان من كل جهة، ليبحث عن ما هو الذي يمكن أن يؤثِّر به على نفسية الإنسان لإغوائه؛ لأن نفسيات الناس تختلف، البعض قد تؤثِّر فيه الشهوات، البعض قد تؤثِّر فيه الأطماع، البعض قد تؤثِّر فيه المقامات المعنوية، البعض قد تؤثِّر فيه المخاوف، البعض… وهكذا، يبحث عن أي ثغرة يمكن أن يَنْفُذ منها ليؤثِّر على الإنسان لإغوائه في شيءٍ معين:
من يمكن أن يكون ضعيفاً أمام شهوات النفس، سواءً الشهوات المادية، أو الشهوات المتعلقة بالرغبة الجنسية… أو غيرها، فيحاول أن يوقعه في المعصية بتلك الطريقة.
من يطمح للمقامات المعنوية، أو للسلطة والنفوذ والتأثير، يحاول أن يدخل له من ذلك المدخل.
من هو في اتِّجاهه اتجاه متدين، يعشق التدين والدين، ويتمسَّك بالتدين، يحاول أيضاً أن يغويه بأي طريقة، في طريقة تدينه: إما بغلو، إما بابتداع، إما برياء، إما بعجب، إما بغرور… أي طريقة من الوسائل والأساليب التي يؤثِّر عليه بها.
فهو سيبحث في ملف كلِّ إنسانٍ يستهدفه بالإغواء عمَّا هي الطريقة التي يمكن أن يؤثر عليه فيها، أين هي نقطة ضعف هذا الإنسان أو ذاك، وهذا ما يعنيه بقوله: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ}، يعني: من كل الجهات التي يمكن أن يؤثِّر بها على الإنسان للبحث عن نقطة ضعفه.
{وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}؛ لأنه يريد أن يقابلوا نعمة الله عليهم، التي هي نعمة عظيمة جداً، وتكريم الله لهم، بكفران النعمة: الإساءة إلى الله المنعم الكريم الوهاب، في مقابل أنهم تسببوا فيما يتصوَّر هو، وإلا فليس هناك مسؤولية على الله فيما وقع فيه من الغواية، ما وقع فيه إبليس من الغواية والذنب، هو المتحمل للمسؤولية في ذلك، ولا على آدم، ولا على بني آدم، هي عقدته هو، إبليس عقدته الكبر، وهو بصرفهم عن الشكر للنعم، التي تعني: الاستخدام لنعم الله بطريقة صحيحة، ليس فيها إساءة إلى الله؛ لأن استخدام نعم الله بطريقة تسيء إلى الله، هو سوء استخدام للنعمة، يترتب عليه أضرار ومفاسد على الإنسان نفسه، وإلَّا فالله غنيٌ عن شكرنا، وعن عبادتنا، وعن طاعتنا، وعن التزامنا، لكن هذه هي الحقيقة: سوء الاستخدام لنعم الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، فيه إساءةٌ إلى الله من جهة، وفيه مضار ومفاسد على الإنسان في حياته، ويجازى على ذلك في الآخرة أيضاً.
نستكمل القصة، ونستكمل أيضاً الدروس والعبر في المحاضرات القادمة.
نَسْألُ اللَّهَ «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإِيَّاكُم لِمَا يُرْضِيهِ عَنَّا، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهَدَاءَنَا الأَبْرَار، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّج عَنْ أَسرَانَا، وَأَنْ يَنْصُرَنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء.
وَالسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

المصدر: الثورة نت

إقرأ أيضاً:

” الثورة نت” ينشر نص كلمة قائد الثورة حول آخر تطورات العدوان الإسرائيلي على غزة ولبنان والمستجدات الإقليمية والدولية

الثورة نت/..
نص كلمة قائد الثورة السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي حول آخر تطورات العدوان الإسرائيلي على غزة ولبنان والمستجدات الإقليمية والدولية، الخميس 19 جمادى الأولى 1446هـ/ 21 نوفمبر 2024م.

أَعُـوْذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِـسْــــمِ اللَّهِ الرَّحْـمَــنِ الرَّحِـيْـمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.

أيُّهَا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَات:

السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

حديثنا في هذه الكلمة عن المستجدات والتطورات، المتعلِّقة بالعدوان الهمجي، الإجرامي، الوحشي، الإسرائيلي على غزة ولبنان، يأتي في إطار الحديث عن الذكرى السنوية للشهيد، التي تكتمل يوم الغد إن شاء الله، ولها صلةٌ تامةٌ بموقف شعبنا العزيز المناصر للشعب الفلسطيني في غزة، والمناصر للمجاهدين في غزة، وكذلك للشعب اللبناني ومجاهدي حزب الله في لبنان.

شهداء مسيرتنا وشعبنا قضيتهم منذ اليوم الأول هي قضية الأمة، والموقف القرآني، والتوجه القرآني الحق، تجاه مسؤولية الأمة في مواجهة أعدائها، والمخاطر التي تهددها، وضرورة المعالجة لأسباب ضعفها ووهنها، وهذه ميزة لمسيرتنا القرآنية منذ يومها الأول.

والذكرى السنوية للشهيد هي من المناسبات المهمة التي يحييها شعبنا العزيز، ولها قدسيتها في مضمونها وأهدافها، ولها أيضاً بركاتها وآثارها الطيبة؛ فهي تهدف إلى:

ترسيخ قيم وثقافة ومكاسب الجهاد والتضحية في سبيل الله تعالى، والاستنهاض للأمة للنهوض بمسؤوليتها المُقدَّسة، التي نتاجها التحرر، والاستقلال، والعزة، والكرامة، وثمرتها المهمة جداً هي: تحقيق النصر، ودفع شر الأعداء وكيدهم.

وتهدف المناسبة أيضاً إلى التمجيد لعطاء الشهداء الذي هو عطاءٌ عظيمٌ مبارك، حقق الله به ويحقق للأمة النتائج المهمة.

وكذلك استلهام الدروس والعبر من جهادهم، وصبرهم، وأخلاقهم، وعطائهم، وتفانيهم في سبيل الله تعالى، وإخلاصهم لله، ومواقفهم العظيمة والمميزة، وقيمهم التي تجسد القيم الإسلامية والإنسانية، ومن شهادتهم ومظلوميتهم.

من السائد في واقع الأمم بمختلف أديانها، واتجاهاتها، وثقافاتها، وتقاليدها، وعاداتها، وأعرافها من السائد في واقعها هو التمجيد لتضحيات من يضحون بأنفسهم في خدمة القضايا المهمة في تلك الأمم، كقضية التحرر، والخلاص من سيطرة الأعداء، أو دفع شر الأعداء، والقضايا التي لها عناوين ذات قيمة إنسانية وأخلاقية، وهذا شيءٌ فطريٌ في واقع البشر؛ ولــذلك يمجِّدونهم، ويُخَلِّدون ذكراهم، ويقدمونهم في الواقع التعليمي والتثقيفي والإعلامي كنموذج ملهم وقدوة؛ لتحفيز وتشجيع غيرهم.

إلَّا أن منزلة الشهداء في سبيل الله تعالى، وقيمة الشهادة، هي منزلةٌ عاليةٌ، ومرتبةٌ رفيعةٌ، تفوق كل عطاءٍ وتضحية تحت أي عنوان، وقدسيتها أيضاً تميزها عن غيرها؛ فالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” هو من رفع منزلة الشهداء في سبيله، وأعلى مقامهم، وكرمهم تكريماً خاصاً؛ ولــذلك هذا يفوق كل شيء من جانب الناس، من تمجيدهم، من إشادتهم، من تقديرهم… من كل ما يقدمونه، ليس شيئاً في مقابل ما قدَّمه الله تعالى وما هو من عند الله، الناس يقدمون ما يقدمونه في مستوى تقديرهم هم، ورؤيتهم، ومقارباتهم في القضايا والأمور ومواقفهم منها، وبمحدودية ما يمتلكون أن يقدموه؛ أمَّا الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” فميزانه على مستوى التكريم المعنوي، وعلى مستوى الجزاء، ميزانه الحق والعدل، وأيضاً هو “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” الغني الكريم العظيم المجيد، الذي بيده الخير كله؛ فهو “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” من رفع منزلتهم، وأعلى مقامهم، وكرمهم تكريماً خاصاً بهم، كما هو واضحٌ في الآيات المباركة، ومنحهم الخلود في نعيمٍ وتكريمٍ، وحياةٍ سعيدة، ووضعٍ استثنائيٍ، يميزهم عن غيرهم من الراحلين من هذه الدنيا، التي قال الله عنها: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ}[الرحمن:26].

المصير المحتوم لكل البشر هو الموت والفناء؛ ولهذا يقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” في القرآن الكريم، مخاطباً لخاتم أنبيائه وسيِّد رسله محمد “صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ”: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ(34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}[الأنبياء:34-35]، ولذلك في واقع البشر فإن الآلاف منهم يموتون يومياً، الذين يموتون يومياً من البشر من مختلف البلدان والشعوب والأمم بالآلاف يومياً، في كل يوم من مختلف الأعمار، ومن مختلف الفئات: من كبارٍ وصغار، وأغنياء وفقراء، ممن هم أصحاب جاهٍ وسلطان، ومن غيرهم، من كل الناس، في كل يوم هناك الآلاف يرحلون من هذه الدنيا، ومن امتد به العمر يهرم، ويعجز، وَيَفْقِد قواه الواحدة تلو الأخرى، ثم يموت، ليس هناك خيار آخر في مسيرة الإنسان في هذه الحياة، وفي توجهه، يمكن أن يضمن له البقاء في هذه الدنيا، والخلود الأبدي في هذه الدنيا، والسلامة من الفناء والموت والرحيل من هذه الحياة، فلو اتخذ الإنسان أي خيار، أو أي قرار، أو اتجه أي توجه، فلن يسلم بذلك ولن ينجو بذلك من الرحيل من هذه الحياة؛ لأنه أمرٌ محتومٌ في واقع كل البشر، بل إن الحياة الدنيا بكلها لها أجل.

الناس لهم آجالهم، ويرحلون من هذه الحياة جيلاً بعد جيل، ووجودهم بشكلٍ عام في هذه الدنيا له أجل، يأتي يوم من الأيام، ينتهي هذا الأجل، تقوم القيامة، تأتي أولاً ما قبل قيام الناس وبعثهم يأتي فناؤهم، ويأتي موتهم وهلاكهم، الذين يكونون معاصرين في تلك المرحلة من نهاية التاريخ والوجود البشري، يأتي فناؤهم بالصيحة، التي يُعَبِّر القرآن الكريم بها عن النهاية الحتمية للوجود البشري على هذه الأرض، في الزلزال العظيم المدمر، الذي به فناء هذه الحياة بشكلٍ نهائي؛ من أجل التمهيد للحياة الأخرى.

ولــذلك البعض، نتيجة لشدة حرصهم على البقاء في هذه الحياة، قد يتخذون خيارات خاطئة، وقرارات خاطئة، ويتجهون اتجاهات خاطئة، منحرفة، يخسرون بسببها مستقبلهم الأبدي العظيم المهم في الآخرة، الذي هو مستقبلٌ لا نهاية له، خلودٌ بحياةٍ خيرها خالص، وشرها خالص، وعلى أعلى مستوى.

ولــذلك فالشهادة في سبيل الله تعالى هي فوزٌ عظيم، طالما لابدَّ من الرحيل من هذه الحياة، لابدَّ من الفناء في هذه الدنيا، لابدَّ من الانتقال من هذه الحياة؛ فالشهادة في سبيل الله تعالى هي فوزٌ عظيمٌ وربحٌ حقيقي، واستثمارٌ واعٍ لما لابدَّ من حصوله للإنسان، وهو الرحيل من هذه الحياة، الشهيد استثمر هذا الرحيل استثماراً عظيماً ومهماً، واستفاد منه، والميزة التي جعلها الله للشهادة والشهداء هي: الحياة في تكريمٍ خاصٍ بهم، ونعيمٍ وسعادةٍ عظيمةٍ وحقيقية، وهذا واضحٌ وجليٌ في آيات الله في القرآن الكريم، كما قال الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ}[آل عمران: 169-171].

هذه الآيات المباركة هي تُبَيِّن أن هناك بالفعل ميزة خاصة للشهادة والشهداء، وهي: أنهم ينتقلون من هذه الحياة، إلى حياةٍ أبدية، سعيدة، في ضيافة الله تعالى، وتكريمه العظيم، وهذا تكريمٌ من جهة، وفوزٌ عظيمٌ من جهة أخرى؛ لأن الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” بكرمه العظيم لا يخسر معه أحدٌ أبداً:

على مستوى العطاء المادي: الإنفاق في سبيل الله يضاعف لك بسبعمائة ضعف.

على مستوى الجود بالنفس، والتضحية بهذه الحياة: الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” يجازيك على ذلك، ويعوضك عن ذلك، ويثيبك على ذلك حياةً سعيدةً، عظيمةً، راقيةً، هنيةً، تعيش فيها وأنت في سعادةٍ تامة، لا يشوبها أي كدر، في حالة فرحٍ، واستبشارٍ وسرورٍ دائم، ليس هناك ما يُنَغِّص عليك تلك الحياة، ولا يشوبها أي كَدَرٍ يؤذيك أو يزعجك.

فالآيات المباركة واضحة تماماً، تحدثت عن ميزةٍ لهم، أَكَّدها أيضاً بقوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ}[البقرة:154].

ومع هذا الوضوح والبيان، البعض لا يستوعبون هذه الحقيقة كما هي، بوضوحها التام، وقد بيّنها الله في آياته البيّنات: (لَا تَحْسَبَنَّ)، (وَلَا تَقُولُوا) أيضاً، هذه كافية في أن تكون النظرة مختلفة، وأن نعي هذه الميزة للشهادة والشهداء، وأنها حقيقية.

لماذا هذا التكريم العظيم المعنوي والمادي، وهذا المقام الرفيع؟ لأنه أيضاً يُعَبِّر عن منزل عالية عند الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ومرتبة رفيعة، هذا بكله يدل على أهمية الجهاد في سبيل الله تعالى وفضله؛ لأن الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” عندما قدَّم هذا العطاء العظيم لمن يقتلون في سبيله، هذا يُشَجِّع الكثير من الناس، ممن قد يكون العائق أمام انطلاقتهم هو الخوف من الموت، وهو يعتبر من أكبر العوائق التي تؤثِّر على الكثير من الناس.

الكثير من الناس يتأثرون بحرصهم على البقاء في الحياة، وخوفهم من الموت، فعندما قدَّم الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” هذا العطاء، وهذا التكريم العظيم، هو يعالج أكبر مشكلة وعائقٍ نفسيٍ لدى الكثير من الناس، وبالتالي عندما يعرف الإنسان ويثق ويؤمن بأن الشهادة في سبيل الله يترتب عليها هذا النعيم العظيم، وهذا التكريم العظيم، يشجعه ذلك للانطلاقة، فهو ينشد تلك الحياة العظيمة، التي هي أهنأ وأسعد وأرقى من هذه الحياة.

الجهاد في سبيل الله تعالى هو ضرورةٌ حتميةٌ، لكي تسود قيم الحق، والخير، والعدل، والرحمة؛ ولدفع الأشرار وشرهم، حتى لا تبقى الساحة البشرية خاليةً للأشرار، ولشرهم، ويبقى الميدان مفتوحاً أمامهم؛ لأن سيطرتهم تُشَكِّل خطراً حقيقياً على المجتمع البشري في كل شيء: في أمنه، واستقراره، وحياته، وإنسانيته؛ لأنهم يفسدون الناس، ويفسدون حياة الناس، ويظلمون الناس، وشرهم كبيرٌ جداً على الناس.

أمَّا الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” فهو الغني، الغني عن الناس كلهم، وعن المجاهدين بأجمعهم، وعن كل عملٍ صالح، من جهادٍ وغيره يعمله الإنسان، {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ}، {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ}[العنكبوت:6]، حتى تلك القيم والتعليمات التي قدَّمها الله لعباده، هي لصالحهم في حياتهم، قيم الحق، العدالة، الرحمة، الخير، هي لمصلحة الناس، وهي لاستقرار حياتهم، ولصلاح حياتهم؛ أمَّا إذا غُيِّبَت، وَغُيِّبَت هذه الفريضة، التي تجعل اتجاه الحق والعدل والخير في موقع القوة، والحماية للمجتمع، وتجعل المجتمع في حالة منعة، وعزة، وحماية؛ فالبديل عن ذلك هم الأشرار، بشرهم، بإجرامهم، بعدوانيَّتهم، بظلمهم، ببغيهم؛ ولــذلك بيّن الله في القرآن الكريم الفارق الكبير بين جهتين:

جهة تمثل الشر، ويتمثل الشر فيها.

ونموذج يمثل الخير، ويتمثل الخير فيه.

فقال “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” في القرآن الكريم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}[البقرة: 104-207].

هكذا أتت هذه الآيات الكريمة مترابطة؛ لتقدم نموذجين، كلاهما من الناس، وكلاهما يمثل امتداداً في المجتمع البشر في كل عصرٍ وجيل؛ ولــذلك المسألة واقعية (مِنَ النَّاسِ) لا ينحصر هذا بعصرٍ وزمنٍ مُعَيَّن، ولا حتى- مثلاً- في فئة محدودة من الناس، هذا النموذج الشرير، الذي يتمثل الشر فيه، والإجرام، والعدوان، والظلم، والإفساد، بمستوى عالٍ جداً، وحالة واقعية، تمتد عبر العصور، وتُشَكِّل خَطراً على الناس في كل زمن.

فالنموذج الذي يمثل الشر والإجرام، والنموذج الظلامي المفسد، هو من تتمثل فيه تلك المواصفات التي وضحها الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” بشكلٍ جلي، نموذج يستخدم العناوين الجذابة لمجرد الخداع فقط، هو على مستوى العناوين يُقدِّم للناس عناوين مخادعة، عناوين جذابة، عناوين تعجبهم؛ ولــذلك قد يصل الحال بالكثير منهم إلى أن ينخدعوا به، بالرغم من سوئه كنموذج، وكفئة سيئة، ظالمة، مفسدة، لكنهم انخدعوا بتلك العناوين البرَّاقة الجذَّابة، التي هي لمجرد الخداع؛ بينما اتجاهه العملي والفعلي متباينٌ تماماً مع تلك العناوين حتى هي، وحتى المضمون الصحيح لها، العدو هو يستخدمها، تلك الفئة (فئة الشر والاجرام) تستخدم العناوين ولها أهداف أخرى؛ لمجرد الخداع، وتحاول أن تسوق بها الناس إلى أشياء أخرى أيضاً.

من أبرز وأوضح من يتمثل فيه تلك المواصفات تماماً، على مستوى ما يقول، وعلى مستوى ما يعمل، وفي سلوكه وأساليبه، في عصرنا وزمننا هو: النموذج الغربي، وعلى رأسه أمريكا وإسرائيل، ومن يدور في فلكهم من أتباع الصهيونية وغيرها، من يدور في نفس الاتجاه، {يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ}، وفعلاً نجد الكثير من أبناء أمتنا حتى، وليس في بقية المجتمعات، من أبناء هذه الأمة المنتمية للإسلام، أبناء هذه الأمة التي أنعم الله عليها بالقرآن الكريم، الكفيل بأن تكون على أعلى درجات المستوى من الوعي والبصيرة، وألَّا تنخدع بأي فئةٍ من فئات الضلال، لكن تجد الكثير من أبناء هذه الأمة، من النخب، والمثقفين، والأكاديميين، والسياسيين، يُعْجَبُون إلى منتهى الإعجاب، يعجبون- فعلاً- بمنتهى الإعجاب بما يقوله الغرب، بما تقوله أمريكا، وبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، بما يقوله أتباع الصهيونية المتوحشة الإجرامية عن: الحُرِّيَّة- عناوين برَّاقة ومخادعة- وحقوق الإنسان، والحضارة، والرفاهية، والرُّقِي، والازدهار، والسلام، وحقوق الحيوان وليس فقط حقوق الإنسان… وقائمة طويلة من العناوين، التي يكررونها ليل نهار، ويُسَوِّقُون لها وَيُرَوِّج لها المعجبون بهم وبقولهم، يُرَوِّجُون لها عن المستوى التنظيري، يُقدِّمونها في الجانب الفكري، والجانب التثقيفي، والجانب الإعلامي، والدعاية الإعلامية… وغير ذلك.

بل والبعض يتتلمذون لهم، يتتلمذ للمدرسة الغربية؛ ليكون مُرَوِّجاً لها، ومعجباً برموز فيها، رموز تحت عنوان الجانب الفكري، مفكرين، ومثقفين… وغير ذلك، والبعض يتجنَّد للترويج لما يقولونه.

في الوسط النسائي كذلك، عن: حقوق المرأة، ويتحدثون ليلة نهار، وفي بلدان كثيرة، ويستخدمون هذا العنوان لاختراق شعوب كثيرة، وتنخدع البعض من النساء كما انخدع الكثير من الرجال، ينخدعن بذلك، وَتُعجَبُ بما يقولونه، والبعض يستقطبن تحت هذه العناوين.

من يعجبون بما يقوله أولئك، بما يقوله الغرب، بما تقوله أمريكا، بما تقوله إسرائيل، بما تقوله الدول الغربية، بما يقوله أتباع الصهيونية، ينسون تماماً أن أولئك الذين يتحدثون بتلك العناوين البرَّاقة، هم من أفعالهم، وسيرتهم، وتصرفاتهم، وسياساتهم، وتوجهاتهم، في منتهى الإجرام، والوحشية، والطغيان، والإفساد في الأرض، والإفساد للمجتمع البشري، والتحلل من القيم والأخلاق الفطرية الإنسانية، التي أودعها الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” في نفوس الناس، وجعل للمجتمع البشري والإنسان الميزة بها حتى على بقية الحيوانات، ينسون كل ذلك، ينسون أن الرصيد التاريخي لتلك الدول: للأمريكي، للبريطاني، للفرنسي، للألماني، رصيد إجرامي مهول، ومفجع، وكارثي، وفظيع للغاية، وكأنك تقرأ بأسوأ مما يمكن أن تقرأه عن الغابة، عن: الضباع، والذئاب، والثعالب، تجد أولئك أكثر توحشاً من الوحوش المتواجدة في الغابات، كُلٌّ منهم رصيده الإجرامي هو القتل للملايين من البشر، بأسوأ أساليب الإبادة، ولمختلف فئات الناس: للرجال والنساء، ليس هناك لا حقوق رجال، ولا حقوق نساء، للأطفال، ولا حقوق للطفل عندهم، ولا للكبار، ولا للصغار.

الأمريكي- منذ يومه الأول- ماذا بنى كيانه عليه؟ أُسِّس الكيان الأمريكي على الإجرام، بإبادة الهنود الحمر، السكان الأصليين لتلك المنطقة التي سُمِّيت أمريكا، ونشأت عليها الولايات المتحدة الأمريكية، الملايين (أطفالاً، نساءً، كباراً، صغاراً) أبادهم المستعمرون، المتسلطون، الغزاة، الأوروبيون الذين اتجهوا إلى تلك المنطقة لاحتلالها، والسيطرة عليها، وإبادة سكانها من الوجود، من يقرأ الممارسات الإجرامية لإبادة الهنود الحمر يستغرب، ويتفاجأ، ويندهش، كيف يمكن لإنسان بقي فيه ذرة من الإنسانية أن يتصرف بكل تلك الوحشية، والإجرام، والطغيان، والعدوانية؟! ولكن هذا هو ما حصل.

ثم ما بعد ذلك، الأمريكي اقرأ عن سيرته، يتحدث ليل نهار عن السلام، السلام، السلام، ولا أحد ربما في العالم يتحدث عن السلام بقدر ما يتحدث عنه الأمريكي، وحقوق الإنسان، والحياة الرفاهية للشعوب… وغير ذلك، ثم هو الذي: أباد دفعةً واحدة في غضون دقائق، مئات الآلاف من البشر في اليابان، بقنابل نووية محرمة، يستخدمها للإبادة الجماعية، لمسح مُدُنٍ من على وجه الأرض بكل من فيها، بكل أطفالها ونسائها، وكبارها وصغارها، ويفعل ما فعل في فيتنام، يُحرِق مئات الآلاف من المجتمع البشري بالنار، يُحرِقُهم بالنار، بوسائل وإمكانات لإحراقهم وإبادتهم، وبالقنابل، وبالقتل بكل أشكال القتل، ثم هو ذلك الذي فعل ما فعل في العالم الإسلامي، ما فعله في العراق، أباد مئات الآلاف من أبناء الشعب العراقي المسلم ظلماً وعدواناً، أباد مئات الآلاف من أبناء الشعب الأفغاني المسلم، ارتكب الجرائم في كل أنحاء العالم، السجل الإجرامي له واسعٌ جداً، وليس لغيره مثله، وهكذا هو شريكٌ أساسيٌ مع المجرم الصهيوني الإسرائيلي اليهودي، في كل جرائمه التي يرتكبها على مدى عقودٍ من الزمن في فلسطين، ضد الشعب الفلسطيني المظلوم، وضد البلدان العربية المجاورة في: لبنان، وسوريا، والأردن، ومصر.

وهكذا هو حال الشركاء الآخرين:

بريطانيا: ودورها من قبل دور أمريكا على المستوى الفعلي، في استقدام العصابات الصهيونية اليهودية إلى فلسطين، وتجنيدها، وتسليحها، وتمكينها، ودعمها، ومساندتها، والمشاركة معها في قتل الفلسطينيين، وتدمير منازلهم، وقراؤهم، ومدنهم، والسعي لتمكين تلك العصابات من احتلال فلسطين.

الفرنسي: مساهم مساهمات كبيرة، في الدعم بالتسليح وغيره، والدعم السياسي.

ولذلك في قصة المباريات، التي حصلت في فرنسا هذا الأسبوع، ذهب رؤساء فرنسا، وليس فقط الرئيس القالي لفرنسا، بل ومن قبله، والشرطة الفرنسية، لكي تحضر المباراة؛ من أجل أن يقووا بأنفسهم الصهاينة، الذين يحضرون إلى هناك (إلى فرنسا) للمشاركة في المباريات، ولانزعاج الناس منهم، المجتمعات منهم، بما فيها الكثير من المجتمع الفرنسي؛ فهم يقلقون من أن يكون هناك هتافات، تُعَبِّر عن السخط من الإجرام الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وما يرتكبه العدو الإسرائيلي ضد الشعب اللبناني، فمن شدة الاهتمام يحضر الرؤساء الفرنسيون، الرئيس الحالي ومن قبله، لأن يقووا بأنفسهم الصهاينة واليهود، أن يجعلوا من أنفسهم الفداء لهم، إلى هذا المستوى من الاهتمام.

الألماني: وما يقدِّمه الكثير والكثير من القذائف، من السلاح، من الدعم السياسي، والدعم الإعلامي… وهكذا غيره.

قوى الشر المنضوية تحت لواء الصهيونية، اتجاهها الإجرامي الوحشي ضد أمتنا الإسلامية، وفي المقدمة ضد الشعب الفلسطيني، الذي يعاني من مأساة لا مثيل لها في كل أنحاء المعمورة، وضد الشعب اللبناني، وضد شعوب أمتنا بشكلٍ عام، هي تَتَّجه من منطلقٍ عقائدي، ورؤية وفكر، وتوجه، وليس مجرد ردة فعل ناتجةً عن استفزاز من هنا أو هناك؛ ولهذا يستغرب الإنسان ويندهش، عندما يلحظ أن البعض من السياسيين، البعض من المسؤولين العرب، البعض من الإعلاميين، يتحدث عن المجاهدين في فلسطين، أو عن حزب الله في لبنان، أو عن محور المقاومة، وكأنه هو من استفز العدو الإسرائيلي واستفز أمريكا، وأنه هو سبب المشكلة فيما يحصل، أو عن الجمهورية الإسلامية في إيران، وأن إيران هي مشكلة تجاه ما يحصل!

ما يحصل هو قبل نشوء هذه الحركات المجاهدة في فلسطين ولبنان، الأمريكي، والبريطاني، والأوروبي، اتجهوا لدعم الصهيونية كمشروع يؤمنون به، وهو مشروع عدواني تدميري لكل أمتنا الإسلامية، وفي المقدِّمة تلك الرقعة الجغرافية المهمة من هذه المنطقة، التي تشمل فلسطين، وبقية الشام: (لبنان، سوريا، الأردن)، والحديث عن الأردن حديث متكرر من جانب الصهاينة، وتشمل أيضاً مصر، وتشمل أجزاء واسعة من المملكة العربية السعودية، تشمل جزءاً من العراق، على مستوى السيطرة المباشرة والاحتلال المباشر، وتشمل المنطقة بكلها، ما يُعَبِّر عنه الأمريكي والإسرائيلي كلاهما بالشرق الأوسط، وتغيير وجه الشرق الأوسط، والسيطرة على الشرق الأوسط، يعني: المنطقة بكلها، والتحكم في شعوبها بكلها، والسيطرة على الجميع، والتحكم بالجميع، بما يخدم المصلحة الأمريكية والإسرائيلية، التي هي عدوانية، وتدميرية، وشرٌّ مطلق على أمتنا وشعوبها.

ولذلك ليست المسألة مسألة ردة فعل، أتت منهم لأن أحداً استفزهم بكلمة من هنا أو هناك، أو أثار مشكلةً معهم، هم ابتداءً من تحركوا للعدوان على أمتنا، لاحتلال هذه الأوطان، لاستهداف هذه الشعوب من لهم موقف من هذه الأمة في دينها، في وجودها الحضاري والمستقل… وغير ذلك، فهذه مسألة واضحة.

ولأنه اتجاه عدواني، إجرامي، مفسد، يفسد كل شيء، يستهدف الناس لإفساد حياتهم في كل شيء، على المستوى الأخلاقي والقيمي، على مستوى المجالات: يفسد الحياة السياسية، الحياة الاقتصادية، المجال الاقتصادي، الجانب الاجتماعي… كل الحياة، وهو اتجاهٌ ظالمٌ، يظلم الناس، يفتك بهم، أَلَدُّ الْخِصَامِ، وظلامي: في رؤيته، في توجهه، في فكره، في ثقافته، ظلاميٌ بكل ما تعنيه الكلمة؛ فهو لا يرعوي لأي اعتبارات: قيمية، أخلاقية… غير ذلك، {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ}، هو إلى مستوى أنه لن يتحاشى حتى من أجل الله، من أجل تقوى الله تعالى، من التخويف بعذاب الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” والعقوبة الإلهية، من التذكير بالله، فما بالك بأي اعتبارات أخرى، هل يمكن أن يرعوي لبيان من أمم متحدة، أو بيان من منظمة هنا أو هناك، أو بيانات المطالبات والمناشدات، التي يمكن أن تصدرها مؤسسات أو منظمات هنا أو هناك؟ لا يرعوي لأي منها؛ إنما يزداد تعنتاً، {أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ}، ويزداد إمعاناً في الجريمة، وَرَدَّت فعله حتى تجاه ذلك، يصدر بيان من الأمم متحدة، يرتكب جرائم أكثر في المقابل؛ لإثبات تعنته، وغطرسته، ولا مبالاته؛ فهو إذا لم يكن للقيم الدينية عنده اعتبار، فبالأولى غيرها.

هو- في نفس الوقت- كما شاهدنا في قصة بعض المنظمات الدولية، كمجلس الأمن، هو مؤسسٌ فيها، ومنذ يومها الأول أسَّسها وبرمجها وهندسها لتكون بالشكل الذي يخدم برنامجه العدواني، الإجرامي، الانتهازي، السلطوي، الذي هو: طغيان، وإجرام، واحتلال، وسيطرة، وتحكم، ونهب لثروات الشعوب، وسيطرة عليها، واستغلال لها؛ ولذلك جعلوا لأنفسهم ما يُسَمُّونه بالفيتو، وحق النقض؛ ولــذلك حتى بالأمس عندما صدر قرار، اجتمع مجلس الأمن لإصدار قرار بوقف الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني في قطاع غزة، بوقف قتل الأطفال والنساء في غزة، يقوم الأمريكي ليعلن حق النقض، يعترض وينقض قرار مجلس الأمن؛ لأنه قرار يوقف الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني، وهذا النوع من القرارات غير مقبول عند الأمريكي؛ لأن نهجه عدواني، إجرامي، متوحش، واتجاهه هو هذا الاتجاه لإبادة الناس، ولاسيَّما العرب والمسلمين؛ ولــذلك فلا المناشدات، ولا بيانات المطالبات، ولا القمم الفارغة، التي يجتمع فيها الزعماء لإصدار بيان فقط، يكتب على الورق ويُنسى، ويغادر كلٌّ منهم إلى قصره وقد نسي كل شيء، كلها لا جدوى منها.

انظروا إلى وحشية العدو الإسرائيلي، وهو يسرف في الدماء، يتعمَّد إبادة الأطفال والنساء والأهالي، يركز على المستشفيات كأهداف أساسية، وكأنها قواعد عسكرية عملاقة، يعلنها أهدافاً لحملاته العسكرية والإجرامية، يستهدفها، يركِّز على المجازر الجماعية؛ لأنه يريد إبادة أكبر قدر ممكن من الأطفال والنساء والأهالي، يعتمد التجويع كوسيلة من وسائل الإبادة، ومنع الأدوية، ومنع الخدمة الطبية بكلها؛ لأنه يريد الإبادة بكل الوسائل، يعذِّب الأسرى، يمارس أبشع الجرائم لاستهداف بعضهم حتى بالاغتصاب، وانتهاك الحرمات والكرامة، يدمِّر المساجد، ويمزِّق المصاحب ويحرقها، يدمِّر أفران الخبز، يستهدف كل مقومات الحياة، كل الوحشية، كل الإجرام، كل الطغيان، تراه جلياً في واقعه، وهذا ليس فقط إسرائيلياً، هو أيضاً أمريكي، أمريكي إسرائيلي، ومدعوم من فرنسا، من ألمانيا، من بريطانيا… من مجتمع الغرب الذي يقف هذه الوقفة؛ لولائه للصهيونية.

ما يقارب الـ(ثلاثة آلاف وثمانمائة وخمسة وستين مجزرة)، على مدى أربعمائة واثني عشر يوماً، ولا تزال آلاف الجثامين من جثامين الأطفال والنساء والمدنيين، الذين استهدفوا في منازلهم، في الأحياء، في المدن، لا تزال جثامينهم بين الأنقاض، وتختلط أشلاء البشر الممزقة والمتناثرة والمنتشر بالدمار، وعلى وجه الأرض في الشوارع، يتضوَّر أكثر من مليوني إنسان جوعاً؛ لأن العدو الإسرائيلي المتوحش- بشراكةٍ أمريكية- يمنع عنهم الغذاء، وإذا دخلت كمية ضئيلة محدودة من المواد الغذائية، فهو يستهدفهم أثناء التجمع عليها، ولم يكتفِ بذلك، بل شكَّل عصابات، تقوم بالتقطع لأكثرها ونهبها، ويستهدف الجهاز الإداري الحكومي في غزة؛ لكيلا يقوم بتنظيم الامدادات والمساعدات الضئيلة جداً التي تصل؛ لأنه يريد أن تنتشر الفوضى.

ولذلك يتجلَّى أهمية وضرورة أن يكون في واقع الناس ما يمثل حمايةً لهم، ما يوفر حمايةً لهم من ذلك ابتداءً، كما قال الله تعالى بعد تلك الآيات مباشرة، في سياقها، عَقِب أن قدَّم لنا ذلك النوع، الذي نرى أكبر مصاديقه، وما تنطبق عليه تلك المواصفات في عصرنا، في الأمريكي والإسرائيلي ومن يدور في فلكهم، بعد تلك الآيات مباشرةً يُقدَّم لنا النموذج الذي يُشكِّل حمايةً للأمة، وصمام أمان؛ لوقايتها من شر ذلك النوع الإجرامي المفسد، تلك المواصفات عنهم، في أفعالهم الإجرامية، ونهجهم الإجرامي: (أَلَدُّ الْخِصَامِ، إِهلَاك الحَرْثِ وَالنَّسل)، نرى مصاديقها في الواقع بشكلٍ تام، فالله قال عَقِبَ ذلك: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}[البقرة:207]، هذا النموذج الذي يقف بوجه أولئك، من الناس من تنطبق عليهم تلك المواصفات الإجرامية، ونراهم في عصرنا بكل وضوح، في مقابل أولئك، من يتصدى لهم، من يقف بوجه شرهم، من يحمي الأمة منهم؛ لأنهم يشكِّلون خطورةً حقيقيةً فعليةً على الناس، والشواهد واضحة، ملء سمع الدنيا وبصرها، من يشكِّل ضمان للأمة، حماية للأمة، سنداً للأمة، هو هذا النموذج العظيم الذي قال الله عنه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}[البقرة:207].

والمسألة كانت من البداية، يعني: لو بقي هذا النموذج، وأتى في واقع الأمة ليسود هو التوجه في واقع الأمة؛ لما وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه، منذ بدايات استقدام العصابات الصهيونية الإجرامية اليهودية إلى فلسطين المحتلة، بحمايةٍ بريطانية، وإشرافٍ بريطاني، لو قام العرب واتَّجهوا هذا التوجه القرآني الإيماني: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ}[البقرة:207]، أوجدوا هذا النموذج، ودعموه، وساندوه؛ لحمى هذه المنطقة بشكلٍ عام، وحمى فلسطين، وحمى الشام بكلها، وحمى محيطها القريب: مصر، والتي تكبَّدت الخسائر الكبيرة جداً من العدو الإسرائيلي، سوريا، لبنان، وهكذا الأردن… وهكذا بقيت المناطق العربية، والشعوب العربية، والبلدان العربية، العالم الإسلامي؛ لما وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه.

هي تحرَّكت آنذاك، لكنه لم يكن تحركاً لا بحجم المسؤولية، ولا بمستوى التحدي والمخاطر، ولا وفق رؤية صحيحة، كانوا يتحرَّكون كردة فعلٍ لحظية، يفشلون وانتهى الأمر، ثم يتحرَّكون في مرحلة أخرى تحركاً لحظياً، ليس مدروساً، ولا مسنوداً، ولا وفق رؤية صحيحة، ويفشلون، ولا من منطلق صحيح، مثل هذا المنطلق: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}[البقرة:207]؛ ولــذلك كانوا يفشلون.

وهنا يتجلَّى أهمية أن تكون الانطلاق إيمانية وجهادية في سبيل الله؛ لأنه يتوفر الدافع الكبير والقوي جداً، وكذلك التقديس للمسؤولية، والبصيرة، والوعي، والاستعداد العالي للتضحية، والصبر؛ ولــذلك قدَّم القرآن الكريم النموذج الراقي، الذي يمثل الأمل والخلاص، والسِّدَّ المنيع في مواجهة قوى الشر الإجرامية، في هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}[البقرة:207].

أولئك الذين ينطلقون وفق هذا المنطلق القرآني، ينطلقون بهذه الانطلاقة المقدَّسة العظيمة: من أجل الله، الغاية هي: ابتغاء مرضاة الله، ليست غاية مادية، ولا غاية سياسية، ولا انتهازية، ولا استغلال للشعوب، هي غاية مقدَّسة، غاية عظيمة، تجعلهم محط رعاية الله، وتأييد الله، ومعونة الله، ويتحرَّكون وفق تعليماته “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وبالقيم الإيمانية الراقية، وهكذا بالأخلاق الإيمانية العظيمة، التعليمات الإلهية القيِّمة، التي تميِّز انطلاقتهم، ويحملون الدافع العظيم، فهم يتجنَّدون مع الله لحماية عباده، فهم حماة الأوطان، حماة الأعراض، حماة الممتلكات، حماة الأمة، ودرع الأمة الحقيقي، وذُخر الأمة، الذين يجب أن تلتف حولهم، هم يتحرَّكون لمصلحة الناس، في سبيل الله، وسبيل الله هو حماية للأمة، إنقاذ للمستضعفين، دفعٌ لشر الأشرار والمجرمين، السقف العالي في منطلقهم لعطائهم هو: بذل النفس في سبيل الله تعالى، تقديم الروح؛ ولــذلك فهم يقدِّمون أيضاً كل شيء: الجهد، المال، العمل، التحرك الفاعل جداً؛ لأن من ينطلق بهذه الروحية، لتقديم نفسه في سبيل الله، وبذل حياته في سبيل الله، سيكون على مستوىً عالٍ من الفاعلية في كل الأعمال، ودون ذلك (دون ما هو في مستوى العطاء بالنفس والحياة) سيقدِّمه بكل رحابة صدر، فهم ينطلقون بفاعلية عالية، بسقفٍ عالٍ، بصبرٍ عظيم، بثباتٍ كبير، بتماسك، ويحظون برعايةٍ من الله، وعونٍ من الله، وفق ما وعدهم في القرآن الكريم، يحررهم أيضاً هذا السقف العالي من القيود والمخاوف، يرقى بالأمة إلى مستوى مواجهة المخاطر والتحديات مهما كان حجمها، ومهما امتلك الأعداء؛ لأن من ينطلقون هذا المنطلق لا يُقيَّدون ويُكبَّلون بالخوف والرُّعب والذِّلة من المواجهة، ومن نتائج المواجهة، يواجه وهو مستعد أن يستشهد في سبيل الله.

والأمة بحاجة إلى هذا، في مقابل التحديات التي كَبُرت إلى ما وصلت إليه؛ لأن الأمة تخاذلت لزمنٍ طويل، وفرَّطت لزمنٍ طويل، حتى تمكن العدو مما وصل إليه، ولأن الأمة تراجعت عن الكثير من مبادئها، وقيمها، وأخلاقها، حتى وصلت إلى ما وصلت إليه، الأمة بحاجة إلى النموذج الإيماني الجهادي القرآني، الذي ينطلق ببصيرة ووعي، يعرف من هو العدو، ومن هو الصديق، واتِّجاه الأعداء هو مستمر في الاستهداف للأمة، السياسات الأخرى، الخيارات الأخرى لن تقي الأمة من شرهم، العرب جرَّبوها كثيراً وفشلت، كم هناك من مبادرات، كم هناك من تنازلات، كم هناك من قمم، كم هناك حتى من اتفاقيات برعاية أمريكية وأوروبية… وغيرها، وكلها فشلت، ولم تمثل أي حماية للأمة.

الآن يتحدث الإسرائيلي بكل ثقة أنَّ الأمريكي سيمنحه أيضاً الضفة الغربية وغزة، والذي اختاره [ترامب] ليكون سفيراً له لدى العدو الإسرائيلي، يتحدث عن أنه لا يؤمن بأنَّ هناك احتلال في فلسطين إطلاقاً! وأنه لا يؤمن بأن هناك شيء اسمه الضفة الغربية، ولا شيء اسمه غزة، هناك المسميات اليهودية فقط! و[ترامب] هو الذي وهب الجولان السوري المحتل للعدو الإسرائيلي، وكأنه من إرث أبيه.

المجاهدون من أبناء الأمة، في فلسطين، ولبنان، والعراق، واليمن، هم الذين اختاروا الخيار الصحيح، الصائب، الحكيم، وينبغي للأمة أن تعزز هذا الاتجاه؛ لأنه هو الخيار الصحيح، الذي يحمي الأمة من الضياع، ومن الاستنزاف، الخيارات البديلة هي استسلام، ضياع، أو استغلال بيد العدو، واستنزاف وقتال مع الأمريكي، كما يفعل البعض.

نرى أنَّ الاتجاه الجهادي هو ناجح في فلسطين، في لبنان، في اليمن، في العراق، والفاعلية لهؤلاء المجاهدين، بالرغم من إمكاناتهم المحدودة جداً، فاقت الجيوش العربية النظامية، التي كانت تُهزم هزيمةً ساحقة في غضون أيام، بما هو أقل بكثير مما يواجهه المجاهدون في قطاع غزة، وهم محاصرون، ويعانون من الخذلان العربي.

تماسكهم بالرغم مما يقدِّمون من شهداء، واستبسالهم، ونكايتهم بالعدو، تعود إلى هذه الروحية الإيمانية الجهادية، والصلة الإيمانية بالله تعالى؛ ولذلك في هذا الأسبوع، ونحن في الشهر الثاني من العام الثاني، والمواجهة لم تتوقف، لا يزال المجاهدون في فلسطين، في غزة، من: كتائب القسام، وسرايا القدس… وبقية الفصائل المجاهدة، مستمرون، ثابتون، ينكّلون بالعدو، ولا زالت العمليات البطولية مستمرة، أربعة وعشرين عملية نفَّذتها كتائب القسام خلال هذا الأسبوع، عمليات بطولية، وعظيمة، ومشرِّفة، منها عمليات جهادية فدائية، يذهب المجاهد الفدائي وهو يحمل تلك العبوة ليضعها على الدبابة بيده؛ ليفجرها… وهكذا غيرها من عمليات الالتحام المباشر، من المسافة صفر، للتنكيل بالعدو.

الصمود العظيم لحزب الله والمقاومة في لبنان كذلك نموذج مشرِّف، منذ بداية مسيرة حزب الله الجهادية، كان أداؤه مشرِّفاً، وعظيماً، وناجحاً، وفعَّالاً، وصولاً للإنجازات الكبرى في 2000 و2006، والإنجاز العظيم الذي يقدِّمه اليوم، وهو صامد في وجه عدوانٍ غير مسبوق على لبنان، المجاهدون في حزب الله ينكّلون بالعدو الإسرائيلي، وهو يتكبّد الخسائر اليومية، والهزائم المستمرة.

ما قبل حزب الله اجتاح العدو الإسرائيلي لبنان في سبعة أيام، ووصل إلى بيروت؛ وأمَّا ما بعد حزب الله، وفي المعركة في هذه المرحلة وله أكثر من شهرين، أو ما يقارب شهرين، وهو لا يزال يخوض صعوبات كبيرة، يواجه المواجهة الشرسة من قِبَل حزب الله في القرى الأمامية في الحدود مع فلسطين المحتلة.

حزب الله يتحرَّك بشكلٍ فعَّالٍ جداً، ويشتبك المجاهدون من حزب الله من المسافة صفر، ويطردون العدو الإسرائيلي، وينكّلون به، كذلك يمطرون المغتصبات التي تسمى بـ [المستوطنات]، وتصل عمليات القصف الصاروخي حتى إلى يافا المحتلة، وإلى حيفا، والعدو الإسرائيلي في حالة رعبٍ شديد، والملايين يهربون في الليل والنهار إلى الملاجئ، صفارات الإنذار لا تكاد تتوقّف، هذه الفاعلية أيضاً تعود إلى الصلة الإيمانية، والروح الجهادية للمجاهدين.

الفارق بين الحالة التي هي قائمة لدى معظم الأنظمة والحكام، الهزيمة النفسية، واليأس، والضعف، الذي دفع بالبعض منهم إلى التجنّد مع الأمريكي لخدمته، وهذه الروحية المتميزة جداً، والاستبسال العظيم لدى مجاهدي حزب الله، لدى مجاهدي غزة؛ هو: التوجه الإيماني الجهادي.

في العراق، تواصل المقاومة الإسلامية عملياتها، ونفَّذت (ثماني عشر عملية) في هذا الأسبوع، وبتصعيد وزخم كبير، وفاعلية عالية.

في اليمن، (يمن الإيمان والحكمة والجهاد)، اليمن الذي قدَّم عشرات آلاف الشهداء في إطار التوجّه الإيماني القرآني الجهادي، من صفوة الشعب اليماني، من مختلف المحافظات، من القادة الأبرار، الذين منهم الشهيد/ صالح الصَّمَّاد، الذي تحرَّك وهو في موقع المسؤولية (رئيس لليمن) تحرَّك كجنديٍ في سبيل الله تعالى، مجاهداً في سبيل الله تعالى، من منطلقٍ إيماني، تحرك شعبنا العزيز في مختلف المراحل، منذ العام 2004 وإلى اليوم، وهو يقدِّم الشهداء، يقدِّمهم بروحية إيمانية، ويصنع الانتصارات، اليمن بعطائه الكبير، الذي يعبِّر عن روحيته الإيمانية الجهادية، وعن وعيه العالي، وعن قيمه وأخلاقه وانتمائه، يقف اليوم في (معركة الفتح الموعود والجهاد المقدَّس) موقفاً عظيماً ومميزاً رسمياً وشعبياً، تحدى أمريكا، تحدى بارجاتها وأساطيلها الحربية في البحار، تحدها بعد أن أعلنت عليه العدوان، صمد، وثبت، ولم يتراجع عن موقفه أبداً، استهدف حاملات طائراتها، التي تُرهِب الكثير من الدول، والأنظمة، والحكومات، وكانت أمريكا تُخيف بها حتى من ينافسها ويناوئها من القوى الدولية، ولكن اليمن استهدف تلك الحاملات للطائرات، بدءاً بـ [آيزنهاور] التي هربت من البحر الأحمر بعد الاستهداف لها، هربت منهزمة، ذليلة، مطرودة، ومستهدفة، وكذلك تهرب الآن من بحر العرب، وبإعلان البحرية الأمريكية، تهرب أيضاً حاملة الطائرات [إبراهام لينكولين]، تهرب بعد إعلان الاستهداف لها؛ لأنه حصل الاستهداف لها، وهي أصبحت خائفة من أن تبقى في بحر العرب، وأصبح القرار أن تعود أدراجها من حيث أتت، وأن تهرب.

شعبنا يواصل عملياته في البحار، ومنع الملاحة الصهيونية من البحر الأحمر، وباب المندب، وبحر العرب، ويستهدفها إلى المحيط الهندي، وإلى البعيد، واستمرت العمليات في هذا الأسبوع بالقصف الصاروخي والمسيَّرات إلى فلسطين المحتلة؛ لاستهداف العدو الإسرائيلي، والعمليات مستمرة.

بلدنا العزيز، الذي يخرج فيه الشعب أسبوعياً خروجاً مليونياً، ويهتف لنصرة غزة وفلسطين، وكذلك لنصرة لبنان، ويتَّجه مئات الآلاف فيه من رجاله للتدريب والتأهيل في التعبئة، ويقدِّم الانفاق في سبيل الله بالرغم من الظروف الصعبة، ويتصدى لمؤامرات الأعداء بمعونة الله تعالى في كل المجالات: الأمنية، والاقتصادية، والاجتماعية، ويسعى على الدوام لبناء وتطوير قدراته العسكرية، وحقق نجاحات مذهلة في هذا الجانب، يشهد لها الواقع، ويشهد لها الأعداء، عملياته مستمرة، وأنشطته الشعبية مستمرة، والخروج الأسبوعي هو متكامل مع كل هذه الأعمال، والتحركات، والأنشطة، والمواقف، والعمليات، جزء من جهاده في سبيل الله، هو في إطار هذا التوجه الإيماني، الذي هو حياة، الذي يبني شعبنا لمواجهة المخاطر والتحديات المستقبلية، الذي يعزز المنعة والقوة لدى هذا الشعب، معنوياً، وتربوياً، وعملياً، ويبني هذا الشعب؛ لأنه استجاب لله، والله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}[الأنفال:24].

الخروج الأسبوعي ضمن كل هذه الأنشطة والأعمال هو حياة، عزة، قوة، بناء تربوي، بناء إيماني، استعداد نفسي، عمل في سبيل الله، استجابة لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” في إطار موقف متكامل رسمياً وشعبياً؛ ولــذلك سنواصل لأن المعركة مستمرة، والحضور فيها يعبِّر عن هذا الإيمان، عن هذا العطاء، عن هذا الجهاد، عن الاستجابة العملية لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، والمؤمل من شعبنا العزيز- بانتمائه الإيماني- أنَّه سيواصل بكل اهتمام، بكل جد، بكل عزم، بكل ثبات، بكل وفاء، بكل صدق مع الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ابتغاء مرضاة الله، وتحت هذا العنوان (الخير في الدنيا وفي الآخرة).

أدعو شعبنا العزيز للخروج المليوني يوم الغد إن شاء الله، في العاصمة صنعاء، في ميدان السبعين، وفي بقية المحافظات والمديريات، وحسب الترتيبات المعتمدة.

نَسْأَلُ اللهَ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإِيَّاكُم لِمَا يُرْضِيهِ عَنَّا، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهْدَاءَنَا الأَبْرَار، وَأَنْ يَجزِيَهُم عَنَّا خَيرَ الجَزَاء، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّجَ عَنْ أَسْرَانَا، وَأَنْ يَنْصُرنَا بِنَصْرِه، وَأَنْ يُعَجِّلَ بِالفَرَجِ وَالنَّصْرِ لِلشَّعبِين الفِلَسْطِينِيّ وَاللُبْنَانِيّ، وَمُجَاهِدِيهِمَا الأَعِزَّاء، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء، نَسألهُ أَنْ يُعَجِّلَ لِلجَمِيع بِالفَرَجِ وَالنَّصْرِ.

وَالسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

مقالات مشابهة

  • ” الثورة نت” ينشر نص كلمة قائد الثورة حول آخر تطورات العدوان الإسرائيلي على غزة ولبنان والمستجدات الإقليمية والدولية
  • ناطق الحكومة يُعبر عن الفخر بقيادة السيد القائد لمعركة “الفتح الموعود والجهاد المقدس”
  • قائد الثورة: سنواصل إسناد غزة وأدعوا للخروج المليوني المشرف غدا
  • قائد الثورة: الأمريكي شريك أساسي مع العدو الإسرائيلي في كل جرائمه التي يرتكبها على مدى عقود من الزمن
  • السيد عبدالملك الحوثي: الغرب أكثر توحشا من الوحوش في الغابات ورصيده الإجرامي هو القتل للملايين من البشر
  • هل الزكاة تزيد المال؟.. بـ3 شروط لا يعرفها الكثيرون
  • عملت خير مع ناس وردوه شر؟.. عالم بالأوقاف: أنتى بتعملى لله
  • شاهد: عبدالملك الحوثي في خطر.. تدمير أنفاق وكهوف الحوثيين داخل جبال ”حرف سفيان” تدميرا كاملا بضربات أمريكية مدمرة
  • الطريق إلى الله مقيد بالذكر والفكر ... علي جمعة يوضح
  • هل قراءة توقعات الأبراج في بداية السنة الجديدة حرام؟.. جائزة بشرط واحد