قائد الثورة السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي في محاضرته الرمضانية العاشرة: الاحتياجات التي يحتاجها الإنسان لمعيشته وفَّرها الله سبحانه وتعالى ولكن مع هذا لابدَّ للإنسان من العمل والأخذ بالأسباب
تاريخ النشر: 23rd, March 2024 GMT
الالتزام العملي في حياة الإنسان يسمو بالإنسان ويجعله يتعامل مع تلك النعم بطريقة صحيحة
الثورة/
أَعُـوْذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللَّهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.
الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمْ.
أيُّهَا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَات:
السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
نواصل الحديث على ضوء الآيات المباركة في القصص القرآني، البداية من قصة أبينا آدم «عَلَيْهِ السَّلَام»، سبق لنا الحديث على ضوء الآيات المباركة، التي قصَّت قصة أبينا آدم «عَلَيْهِ السَّلَام» (في سورة البقرة)، وتحدثنا أنَّ لهذه القصة في السور المباركة التي ذكرتها سياقات معينة، وفي كل سياق يتم التركيز على كثيرٍ من الدروس والعبَر المهمة جداً، والهداية الإلهية الواسعة، التي نحن في أمسِّ الحاجة إليها.
والقصة أيضاً وردت (في سورة الأعراف)، ولها أيضاً سياقها المهم جداً لنا، والذي نحتاج إلى أن نستفيد منه، وفي هذا السياق ذكر الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» جوانب معينة من القصة لم تُذكر (في سورة البقرة)؛ لأن المسألة- كما قلنا- مرتبطة بالسياق، فلهذا عندما نأتي إلى قراءة القصة (في سورة البقرة)، ثم (في سورة الأعراف)، ثم ننتقل إلى بقية السور التي ذكرتها: (في سورة الحجر، في سورة طه، في سورة الإسراء)، في بقية السور المباركة، نجد أيضاً التكامل الكبير، والفائدة المتنوعة والواسعة التي نستفيدها من الدروس المهمة والعظيمة بالنسبة لنا.
قصة أبينا آدم «عَلَيْهِ السَّلَام» كما وردت في القرآن الكريم، وتكررت فيه من جوانب متعددة، وقدَّمت الدروس والعبر، ذُكرت في كتب الله السابقة إلى رسله وأنبيائه، وفيها الدروس المهمة، التي لو استوعبها البشر في كل المراحل الماضية، ليس فقط في هذا العصر الأخير، عصر ختم الرسالات وختم النبوة، منذ أتى وبعث الله نبيه محمداً «صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ» خاتم الأنبياء والمرسلين، بل حتى مع الأنبياء السابقين، ومنذ البداية لو استوعب البشر الدروس والعبر التي في هذه القصة؛ لكان واقعهم مختلفاً تماماً عمَّا هو عليه؛ لأنها دروس مهمة جداً، واستيعابها يقي الناس، ويقي من استفاد وأخذ الدروس والعبر منها، يقيه الكثير والكثير من الشقاء والخسران في الدنيا وفي الآخرة، الخسران المبين، والخطير، والأبدي والعياذ بالله.
يقول الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» (في سورة الأعراف): {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ}[الأعراف: الآية10]، ومثل ما سبق لنا (في سورة البقرة)، قبل البدء بالقصة مباشرةً يأتي الحديث عن نعمة الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» على البشر بهذه الأرض، وما جعل لهم فيها وخلق لهم فيها من النعم الوافرة، الكثيرة، التي لا تحصى ولا تعد.
وهذا مدخلٌ مهمٌ بالنسبة للإنسان؛ لنعرف أن الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» هو مصدر النعم، وأنه أتى بنا إلى هذا الوجود، وخلقنا في هذه الأرض في إطار نعمه، ورعايته الواسعة، وفضله الواسع العظيم، مع التكريم الكبير، فجمع لنا بين النعم المادية، الوافرة، الكثيرة، المتنوعة جداً، ومع ذلك النعم المعنوية، المتعلقة أيضاً بالجانب الأخلاقي، والقيمي، والديني، والالتزام العملي في حياة الإنسان، الذي يسمو بالإنسان، ويجعله يتعامل مع تلك النعم بطريقة صحيحة، والتمكين في الأرض له جانبين:
الجانب الأول: ما أودع الله وخلق الله للإنسان في هذه الأرض من النعم الواسعة جداً.
والجانب الثاني: ما أودع الله في الإنسان نفسه من مدارك، وطاقات، وقدرات، ومواهب، تساعده على الاستفادة من هذه النعم، والاستخراج لها، والتَّمَكُّن من الانتفاع بها بأشكال كثيرة، ضمن التسخير الإلهي؛ لأن الله سخَّر للإنسان هذه النعم، بحيث يمكنه أن ينتفع بها بأشكال متنوعة، وينتج منها أشكالاً متنوعة، ومنافع متنوعة.
ولهذا فالله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» جعل الإمكانات المادية المتوفرة في هذه الأرض تحت تصرف الإنسان، تحت تصرفه، وسخَّرها له، وزوَّده بالمدارك، والمواهب، والقدرات، والطاقات، التي تساعده على أن يستفيد منها، متمكناً من الانتفاع، والتصنيع، والاختراع، والإبداع، والانتفاع الواسع.
فالله هو مصدر هذه النعم للإنسان، مصدر النعم، فيما أودع الله في الإنسان، وفيما أوجد له، وفيما مكَّنه فيه؛ ولذلك لا يليق بالإنسان أن يستخدم نعم الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» بالإساءة إلى الله «جَلَّ شَأنُهُ»، فالمفترض بالإنسان، واللائق به، وواجبه هو الشكر، هو الشكر إلى الإحسان العظيم، والإنعام الكبير من الله عليه، لا أن يقابل نعم الله العظيمة بالإساءة إلى الله «جَلَّ شَأنُهُ».
{وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ}، في مقدِّمة هذه النعم التي أنعم الله بها علينا في الأرض: ما نحتاجه لمعيشتنا، في غذائنا، في أكلنا، في متطلبات حياتنا، في قوتنا، وهذا شيءٌ واسعٌ جداً، واسعٌ جداً.
عندما نأتي إلى قائمة المحاصيل الزراعية والنباتات، التي يمكن للإنسان أن يستفيد منها كغذاء، كم هي قائمة البقوليات؟ كم هي قائمة الحبوب؟ كم هي قائمة الفواكه؟ كم هي بقية القوائم؟ قوائم واسعة جداً، أصناف كثيرة جداً، وهيَّأ الله على مستوى البلدان كذلك أن تزرع البلدان أنواعاً كثيرة من المحاصيل الزراعية والنباتات، وكذلك على مستوى المواسم، في كل موسم فواكه معينة، محاصيل معينة، وأشياء كثيرة جداً، وهكذا بقية الاحتياجات التي يحتاجها الإنسان لمعيشته، وفَّرها الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» للإنسان، ولكن مع هذا لابدَّ للإنسان من العمل، والأخذ بالأسباب، وغير ذلك.
فالله هو مصدر كل هذه النعم الواسعة، والمنافع الكثيرة، والمعيشة الضرورية التي يحتاج إليها الإنسان، والقوت والغذاء، الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» هو الذي أنعم علينا بذلك، وبشكلٍ وافر، ومع ذلك بشكلٍ فيه تكريم، الطيِّبات التي أحلَّها الله- وهي كثيرة جداً ومتنوعة- جعلها الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» لائقةً بالإنسان، في شكلها، في مذاقها، وفي منفعتها للإنسان، وفي استساغة الإنسان لها، وطبعها بالطابع الجمالي الرائع، الذي يشد الإنسان إليها، وهكذا، من جوانب كثيرة.
{قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ}، للأسف الشديد فالإنسان هو قليل الشكر! مع أنَّ الله مصدر كل النعم عليه، ومع أنه في معيشته، ومتطلبات حياته الأساسية، يعتمد على ما وهبه الله إياه، وخلقه له، وأنعم به عليه، لكنه كثيراً ما يستخدم تلك النعم والإمكانات في الإساءة إلى الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى».
{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ}[الأعراف: من الآية11]، بداية الخلق للإنسان، بداية الوجود البشري حينما خلق الله أبانا آدم «عَلَيْهِ السَّلَام»، وهو بداية للوجود البشري، بداية الوجود الإنساني، فالله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» خلقه وهو البداية للوجود الإنساني، يعني: بداية خلق الإنسان، وأنعم على الإنسان في خلق الإنسان، كان من الممكن أن يُخَلَق الإنسان شبيهاً بأي حيوان من الحيوانات الأخرى، في شكله، في قوائمه في اليدين والرجلين مثلاً، في أشياء أخرى، وبذلك تصعب عليه الحياة، ويعاني في أشياء كثيرة، ويكون دوره في هذه الحياة دوراً محدوداً، بقدر تلك الكيفية التي خلقه الله فيها، إلَّا أنَّ الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» خلق الإنسان في أحسن تقويم، كما قال «جَلَّ شَأنُهُ»: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}[التين: الآية4]، وفعلاً كل الدواب التي تدبُّ على وجه الأرض، في برها وفي بحرها، ليس شيءٌ منها يشبه الإنسان، وبمستوى خلق الإنسان، الإنسان مميز في خلقه، من حيث الشكل والتركيب، والتهيئة للحركة، في طاقاته، في جوارحه وأعضائه، في مداركه… وغير ذلك.
{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ}، فالنعمة في الخلق نفسها نعمة كبيرة، والله وهبنا الحياة، وأتى بنا إلى الوجود، ومصدر هذه النعمة العظيمة، {ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ}، أعطى الله للإنسان الصورة الجميلة، المميزة عن بقية الدواب على وجه الأرض، وفعلاً هي صورة أجمل من صورة أي حيوان على وجه الأرض، فالله أنعم على الإنسان، وفي الصور نفسها آية عجيبة، آية عجيبة على كثرة البشر، سواءً في الرجال أو النساء على كثرتهم، واختلاف صورهم مع ذلك، آية عجيبة جداً من آيات الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، بل في مراحل حياة الإنسان، كيف تختلف صورته من طفولته، إلى شبابه، إلى كهولته، إلى شيخوخته، فالله أعطى للإنسان هذه الصورة الجميلة المميزة، وهي نعمة، وتكريم كذلك.
{ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ}، تكريماً لآدم، السجود ذلك كان تكريماً لآدم «عَلَيْهِ السَّلَام»، وهذا نعمة على البشر، ويمتد هذا التكريم إلى البشر، بأن كرَّم الله الإنسان الأول وبداية الوجود الإنساني، بسجود الملائكة له؛ تكريماً له، وعبادةً لله؛ لأنه تسليمٌ لأمر الله، وطاعةٌ لله «جَلَّ شَأنُهُ»، فهو عبادةٌ لله، تكريمٌ لآدم.
{فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ}، إبليس كان بين الملائكة، وهو كما ذكرنا سابقاً في المحاضرات السابقة أن الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» بيَّن لنا (في سورة الكهف) أن أصله من الجن، ولكنه كان قد ارتقى إلى صفوف الملائكة، ليستقر بينهم، وليعبد الله في جملتهم؛ ولذلك كان يؤمر معهم، ويخاطب معهم.
إبليس امتنع من السجود، لم يسجد، {لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ}، وامتنع عن ذلك أشد الامتناع، ورفض ذلك، وكان موقفه مختلفاً عن بقية الملائكة، وهنا سيبيّن لنا في هذه الآيات المباركة بشكلٍ أوسع مما قرأناه (في سورة البقرة)، عن عداوة إبليس للإنسان، عن عداوة الشيطان للبشر، وعن أساليبه، وعن حقده، وغير ذلك.
ما هو السبب في امتناع إبليس من السجود؟ الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» كشف لنا نحن هذا السبب، باعترافٍ مباشرٍ من إبليس نفسه.
{قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ}[الأعراف: من الآية12]، الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» حينما سأل إبليس، ليس لأنه يخفى عليه ما هو السبب، ما هو الدافع الذي دفع إبليس للامتناع عن السجود، هو «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» يعلم الغيب والشهادة، يعلم ما توسوس به نفس كل مخلوق، يعلم ظاهر كل مخلوقٍ وباطنه، من الإنس، والجن، والملائكة، وكل المخلوقات، لا يخفى عليه شيءٌ «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، ولكن الله «جَلَّ شَأنُهُ» أراد أن يوثِّق لنا نحن (بني آدم) أن يوثِّق لنا نحن اعترافاً مباشراً من إبليس نفسه، عن السبب الحقيقي في امتناعه من السجود لآدم «عَلَيْهِ السَّلَام».
{قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ}[الأعراف: من الآية12]؛ لأن الله قد أمره، وأمر الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» سواءً فيما يأمر به ملائكته، أو يأمر به الجن، أو يأمر به الإنس، ليس هناك ما يسوِّغ لمن توجه إليه هذا الأمر الإلهي أن يرفضه، الكل عبيد الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، ولننظر إلى من هو الآمر، لتكن النظرة والمنطلق على هذا الأساس: من هو الآمر، وليس النظر إلى أسباب أخرى، أو تفسيرات أخرى، أو تبريرات أخرى، طالما وهناك أمرٌ من الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، فليس هناك من مجال للإنسان، ولأي مخلوقٍ آخر (الملائكة، الجن)، إلَّا الطاعة، الطاعة والتنفيذ لأوامر الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، نحن نؤمن بأن الله هو العليم الحكيم، وأحكم الحاكمين، والرحيم العظيم؛ وبالتالي حتى لو خفي علينا وجه الحكمة تجاه أمرٍ من الأوامر، أو كان لدى الإنسان امتعاض أو أي مخلوق آخر لأسباب أخرى، فليزح عن نفسه ذلك، وليسلِّم لأمر الله «جَلَّ شَأنُهُ»، فلم يكن له من مبرر، طالما وهناك أمر من الله، لم يكن له من مبرر، ولهذا ليس السؤال له للاستفسار عن مبرر؛ لأنه لا مبرر أصلاً، لا مبرر أصلاً، فالسؤال ليس سؤالاً عن ما هو المبرر؛ إنما هو سؤال عن السبب الذي ليس مبرراً مشروعاً له؛ وإنما هو سببٌ آخر، يريد الله أن يكشفه لبني آدم باعترافٍ مباشرٍ من إبليس.
{قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}[الأعراف: من الآية12]، كان امتناع إبليس من السجود أول معصية عصى الله بها، معصية كبيرة جداً، معصية في الطاعة، في الفعل، في العمل، ولكن تبيَّن أيضاً أنَّ وراء هذه المعصية ما هو أخطر، ما هو أسوأ، ما هو أكبر، وأنها تشعَّبت وتفرَّعت عن عقدة الكبر، كان متكبراً، ويعتقد أنه خيرٌ من آدم، وأنه لا ينبغي السجود لآدم، فهو هنا يتَّهم الله في عدله وحكمته، ويصرِّح بهذا الاتهام، يُصرِّح بهذا الاتهام لله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» في عدله وحكمته، يعني: أنه ليس من العدل ولا من الحكمة أن يؤمر بالسجود لآدم فيما هو خيرٌ من آدم، وهو يتصور نفسه كذلك، تصوراً زائفاً، تصوراً زائفاً، واستدلالاً بالعنصر الذي خُلِق منه كلٌ منهما ورُكِّب منه؛ بينما العنصر لا يضيف بنفسه، سواءً التراب، أو النار، ليس هو الذي يحدد فضل مخلوق على آخر، أن ذلك خُلِق من تراب، وذلك خُلِق من نار، لو افترضنا والمسألة على هذا الأساس، فللتراب بركات كثيرة، التراب تنبت منه الأشجار، الفواكه، الثمار… أشياء كثيرة جداً، كم فيه من الخيرات والبركات، لكن ليست المسألة في أن يَفْضُل مخلوقٌ على مخلوقٍ آخر بالمادة التي رُكِّب منها، أن ذلك رُكِّب من نار، وذلك خُلِق من عناصر التربة، وذلك خُلِق من عنصر النار، هو كلامٌ سخيف؛ إنما خلاصته الكبر، والكبر حالة خطيرة جداً.
الكبر: حالة يتصور المخلوق الذي يتكبر أنه أكبر من أن يقبل بذلك الأمر الإلهي، أنفةٌ من قبول الحق، وأنفةٌ من الإذعان لأمر الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»؛ لسبب توهُّم أن الإنسان أكبر من ذلك، أو المخلوق إذا كان غير إنسان كما هو حال إبليس وهو من الجن كذلك، هو يتصور أنه أكبر من أن ينفِّذ ذلك الأمر الإلهي، فأنف من تنفيذ أمر الله لهذا السبب.
فيعود الكبر إلى هذا التعريف، وهو من أخطر الذنوب، وأسوئها، إذا كان المخلوق (من الإنس، أو من الجن) يتصور نفسه أنه فوق أن يُذْعِن لأمرٍ من أوامر الله، أو أن يقبل بشيءٍ من الحق، لأنه يرى نفسه أكبر من ذلك؛ فهو متكبر، متكبر.
والكبر ذنبٌ عظيم، هو أول ما عُصي الله به كما في الروايات والأخبار، وهو عقدة خطيرة جداً، عقدة خطيرة؛ ولهذا من يتورَّط في الكبر، وتكون معاصيه متفرِّعة عن الكبر، فهو شديد الإصرار، وهو يبقى مصراً على ذنوبه؛ لأنه يتفرَّع ذنوب عن الكبر في الواقع العملي: يمتنع الإنسان من اتِّباع الحق وأهله، يمتنع الإنسان من أعمال معينة، يمتنع من قبول حقٍ معين، فيتفرَّع ويتشعَّب عن الكبر في الواقع العملي معاصٍ كثيرة، ثم يكون المتكبر هو ذلك الذي يصر على معاصيه، ولا يقلع عنها، وكلما ذُكِّر؛ ازداد عتواً وعناداً، فتصبح حالة العناد، والإصرار على المعصية، هي مما يظهر كثيرًا في المعاصي المتفرِّعة عن الكبر؛ ولهذا كان الشيطان مصراً، وكان يخرج من معصية إلى معصية أخرى، كبيرة وفظيعة جداً، فمعصية الامتناع من السجود، معصية عملية، ثم يتلوها معصية توجيه الاتهام لله، وإخراج ما كان خفياً في نفسه، من الاتهام لله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» في حكمته وعدله، وجريمة الإصرار على المعصية، والاستمرار عليها… وهكذا ينتقل من معصية إلى معصية كبيرة أخرى، إلى طامة أخرى، حالة رهيبة جداً.
الكبر حالة خطيرة جداً؛ ولهذا يأتي التحذير منه كثيرًا في القرآن الكريم، وهو من الأسباب التي تدفع الكثير من الناس، فيما يقصُّ الله علينا عن الرسالات السابقة مع رسله وأنبيائه، وكيف كان الذي يتصدى لهم، ويواجه رسالتهم، ويقود حالة الكفر والطغيان، هم: الملأ الذين استكبروا، هم الملأ الذين استكبروا، الكبر هو من أكبر الأسباب التي تدفع البعض من الناس إلى أن يقودوا هم حالة العناد، والتصدي للرسالة الإلهية، ومواجهة الأنبياء، والهداة، والصالحين من عباد الله.
ماذا كانت نتيجة ذلك التكبر؟ النتيجة تكون معاكسة، هذا مما هو ملازم لحالة التكبر: أن المتكبر يهبط، ويسقط، ويخسر، يخسر القيمة المعنوية؛ لأنه يريد لنفسه أن يكون له شأنٌ رفيع، وأهمية ومكانة عالية، ولكن أول ما يخسره المتكبر هو ذلك، لا وزن له، لا مكانة له، لا يبقى له شأنٌ رفيع، وأهمية ومكانة عالية.
{قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا}[الأعراف: من الآية13]، طُرِد، طُرِد بإذلال وإهانة، وخسارة لكل شيء، من تلك الساحة التي كان فيها يتعبَّد لله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» مع ملائكة الله، كان قد ارتقى ليكون مع الملائكة في أماكن تعبُّدهم لله «جَلَّ شَأنُهُ»، في تلك اللحظة قد خسر إيمانه، خسر كل عبادته السابقة، وحبط كل عمله، لم يبقَ له أجر، ولا قيمة لأعماله، وفي نفس الوقت خسر مكانته، هو كان في مكانة محترمة، مكانة عالية بين أوساط الملائكة، ولكنه خسر كل ذلك دفعةً واحدة؛ لعصيانه ذلك الأمر الإلهي، وعقدة الكبر، خطورة الكبر خطورة رهيبة جداً والعياذ بالله.
{قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا}، الهبوط: الطرد، الذي هو طردٌ من ذلك المكان المقدَّس، وفي نفس الوقت طردٌ من المكانة التي هو فيها، من المنزلة التي كان قد وصل إليها، فخسر كل شيء.
{فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا}[الأعراف: من الآية13]؛ لأن ساحة الملائكة التي يعبدون الله فيها، ومواقعهم، هي أماكن مقدَّسة، خالصة للعبادة، للطاعة، لا مجال فيها لمعصية الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، ولا مجال فيها للتكبر، هناك يقوم الملائكة في عبادتهم لله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، هم يذوبون في عبادة الله، ويقدِّمون أرقى معاني العبودية لله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، يخضعون لله، ويتعبَّدون لله تمام التعبُّد، في أرقى ما نتصوره عن التذلل، والخضوع، والخشوع، والتعبد لله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى».
{فَاخْرُجْ}[الأعراف: من الآية13]، وهذا تأكيد للطرد بغضبٍ من الله، وسخطٍ من الله، ومقتٍ من الله والعياذ بالله، {فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ}[الأعراف: من الآية13]، طُرِد وحُكِمَ عليه أن يكون من الصاغرين، والصَّغَار هو: الذلة والهوان، فتكبره لم يحفظ له مكانةً معينة، لم يحفظ له مكانةً عالية، ولم يبقِ له شأناً رفيعاً، ولا منزلةً عالية، كانت النتيجة معاكسة لذلك تماماً، وتحوَّل ليكون من الصاغرين، في ذلٍ وهوان وخزي والعياذ بالله، فهو خاسر، والنتيجة خسران رهيب بكل ما تعنيه الكلمة، ذلٌ وهوانٌ في الدنيا والآخرة، يلازمه للأبد.
هو بعد كل ذلك بقي على عناده، وبقي مصراً على إجرامه، وذنبه، وعصيانه، لم يرجع إلى الله بالتوبة، أو الإنابة، أو يراجع حساباته، وينتبه إلى خسرانه، أنه يخسر ويخسر أكثر وأكثر، كلما زاد عناداً؛ كلما زاد خسراناً، وضعةً، وسقوطاً، وهواناً.
فما الذي طلبه؟ {قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}[الأعراف: الآية14]، طلب من الله أن يُنظِرَه، يعني: أن يؤخِّر عنه الموت والهلاك، فيبقى على قيد الحياة طول الفترة التي يعيش فيها البشر في هذه الدنيا، وإلى يوم القيامة، هذا طلبه، هو يعرف أنَّ هناك يعني ما قد شرحه الله للملائكة، وهو بين أوساطهم، عن حياة البشر في بدايتها، ونهايتها، وما فيها، شرح مهم جداً، يوضِّح حقائق ذات أهمية كبيرة، ثم الحساب والجزاء… وغير ذلك، {قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}.
لماذا يطلب من الله الإنظار، وألَّا يعاجله بالموت؟ الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» كشف له، وقال له: {قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ}[الأعراف: الآية15]، وهنا يحصل التباس على بعض المفسِّرين، وبعض الواعظين، يتصوَّرون أنَّ الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» استجاب له طلبه ودعاءه، والحقيقة: أنَّ الله كشف له أنه من المنظرين، وهذا كان مقدراً من قبل معصيته، مقدراً من الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» كان قد كتب له أن يكون من المنظرين، من الذين يبقون على قيد الحياة إلى يوم الوقت المعلوم، الذي في علم الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، ولكنه لفترة طويلة؛ ولهذا سيعايش أجيالاً كثيرةً جداً من البشر، ويبقى هو يدير المعركة ضد الإنس.
{قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ}، ويأتي في سور أخرى، أنَّ الله قال: {إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ}[ص: الآية81]، {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ}[الأعراف: الآية16]، ولاحظوا كيف اتَّجه من ذنب إلى ذنب، ومن معصية إلى معصية، عقدة الكبر خطيرة للغاية، نعوذ بالله منها.
هنا بقوله: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي}، هو يُحمِّل الله المسؤولية، فيما أوقع هو نفسه فيه من الغواية، إبليس هو الذي أوقع نفسه في الغواية، تكبر، عصى أمر الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، لو سجد، قد سجدت الملائكة وهم خيرٌ منه، الملائكة خيرٌ من إبليس، ولم يأنفوا من السجود، وسجدوا، وسجدوا تكريماً لآدم، وخضوعاً لأمر الله، وتسليماً لأمر الله، وطاعةً لله، لم يترددوا في ذلك، وهم خيرٌ منه، فلو أنه قال لنفسه: [قد سجد الملائكة وهم خيرٌ منك]، فاسجد معهم، لكان خيراً له، فهو الذي أوقع نفسه في الغواية، ثم هو يحمِّل الله المسؤولية، يحمِّل الله المسؤولية في ذلك، ويتخاطب مع الله بكل هذه الوقاحة، وقلة الأدب، والافتراء على الله.
{قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ}، ثم هو يحلف؛ لأن هذا في مورد القسم: {لَأَقْعُدَنَّ}، (اللام) هذا، وصرَّحت به آيات أخرى: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}[ص: الآية82]، مقسماً، وهذا يدل على شدة حقده، فهو حاقدٌ على الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، وحمَّل الله المسؤولية فيما أوقع فيه نفسه هو من الغواية، حاقدٌ على الله، وحاقدٌ على آدم وحواء «عَلَيْهِمَا السَّلَام»، وعلى ذرية آدم جميعاً، حقد شديد جداً.
{قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ}، وهو يقسم أنَّه سيتَّجه في حربه الشرسة ضد آدم وبنيه، لصدهم عن صراط الله المستقيم، وأنَّه سيتحرك ليكون مضلاً، ليتحرك في طريق الإغواء، سيتَّجه ويجعل كل جهده، وكل عمله، وكل نشاطه، وكل برنامجه، في كل الفترة التي سيبقى مُنظراً فيها، هو: السعي لإغواء بني آدم، الإغواء لهم عن صراط الله المستقيم، هو صار غاوياً، وهو يعترف على نفسه بأنه صار غاوياً، قد غوى عن طريق الحق، وانحرف عن طريق الحق، وخرج عن طريق الحق، وهو يعترف أنَّه أصبح في طريق الغواية، وأنَّه قد خرج عن نهج الحق، وهو أساء إلى الله بتحميله الله المسؤولية في ذلك، ولكنه يعترف على نفسه بأنه أصبح غاوياً، ثم يعلن- وهذه معصية كبيرة جداً- أنَّه سيتجه كل تلك الفترة التي أنظره الله فيها ليعمل على إغواء آدم وبنيه، وليبذل كل جهده في إغواء بني آدم عبر الأجيال، هذا يدل على ضلال رهيب، وخبث، خبث رهيب، خبثت نفسه بشكل عجيب جداً.
ومن أخطر نتائج المعاصي، ومنها المعاصي الناتجة عن الكبر: أنَّها تخبث بها النفوس، يفقد المخلوق- سواءً من الإنس، أو الجن- طيب نفسه، زكاء نفسه، عنصر الخير في نفسه، إرادة الخير في نفسه؛ فيكبر الشر ويتعاظم في واقعه النفسي، وكيانه الداخلي، ويتعاظم الخبث فيطغى، يطغى عن المخلوق (من الإنس، أو الجن)، وهي حالة خطيرة، مخيفة؛ ولهذا يحث القرآن الكريم على المبادرة إلى التوبة عند الزلل؛ لأن للمعاصي أضرارها وآثارها الخطيرة جداً على الجانب النفسي، بما تتركه من الخبث في النفوس، هذا يفيد عن خبث رهيب جداً وصل إليه إبليس؛ ولذلك اتَّجه لمعصية أيضاً معصية كبيرة جداً، ليكون زعيماً للضلال، زعيماً للشر، زعيماً للفساد، زعيماً للمنكر والعياذ بالله، زعيماً للغواية، أمر رهيب جداً، واتجاه خطير جداً اتَّجه فيه، وهوى إليه، وسقط فيه، ووقع فيه، وخسارة رهيبة جداً، {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ}[الأعراف: من الآية16]، فهو يبين أنَّه سيتَّجه هذا الاتجاه، بما يكشفه ذلك من خبثٍ وصل إليه، ومن عقدةٍ وحقدٍ تجاه الله، وتجاه آدم وذريته، ويكشف خطته.
والله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» كشف للبشر خطة الشيطان، وطبيعة الحرب التي سيشنها عليهم؛ لأنها ليست حرباً من النوع الآخر، ليكسِّر عليهم ما بأيديهم من إمكانات، أو ليحطِّم عليهم ممتلكاتهم، أو شيءٍ من ذلك، هو سيشغِّل البعض منهم في ذلك، ولكن الحرب الناعمة، الحرب التي تستهدفهم لإغوائهم، والسعي لصدهم عن الصراط المستقيم، الموصل إلى الغايات والنتائج العظيمة، التي تسمو بالإنسان، ويصل الإنسان إلى الفلاح، إلى الخير، إلى الفوز العظيم؛ فهو يريد للبشر الغواية مثله، والسقوط مثله، وأن يخسروا التكريم الإلهي الذي وهبهم الله إياه، في دينه، ونهجه، ونعمه عليهم، وما قبلهم، ما أعدَّه الله لهم في آخرتهم، يريد أن يحرمهم من كل ذلك.
{لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ}[الأعراف: الآية16]، وهو يعترف بأن صراط الله مستقيم، يوصل إلى النتائج العظيمة، والغايات الكبرى، من الفوز العظيم، والفلاح، وهو يريد أن يصرفهم ليخسروا؛ لأنه يرى نفسه أنه قد خسر كل شيء، ويريد أن يخسروا معه، وأن يوقعهم معه في الخسارة، والشقاء، والخذلان، والضلال، والغواية؛ ثم إلى نار جهنم، ليكونوا من أصحاب السعير، وأن يحرمهم من جنة الخلد في الآخرة.
{ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}[الأعراف: الآية17]، يقول: أنه سيبذل كل جهده، ويستخدم كل الوسائل والأساليب في العمل على إغوائهم، وسيأتي الإنسان من كل جهة، ليبحث عن ما هو الذي يمكن أن يؤثِّر به على نفسية الإنسان لإغوائه؛ لأن نفسيات الناس تختلف، البعض قد تؤثِّر فيه الشهوات، البعض قد تؤثِّر فيه الأطماع، البعض قد تؤثِّر فيه المقامات المعنوية، البعض قد تؤثِّر فيه المخاوف، البعض… وهكذا، يبحث عن أي ثغرة يمكن أن يَنْفُذ منها ليؤثِّر على الإنسان لإغوائه في شيءٍ معين:
من يمكن أن يكون ضعيفاً أمام شهوات النفس، سواءً الشهوات المادية، أو الشهوات المتعلقة بالرغبة الجنسية… أو غيرها، فيحاول أن يوقعه في المعصية بتلك الطريقة.
من يطمح للمقامات المعنوية، أو للسلطة والنفوذ والتأثير، يحاول أن يدخل له من ذلك المدخل.
من هو في اتِّجاهه اتجاه متدين، يعشق التدين والدين، ويتمسَّك بالتدين، يحاول أيضاً أن يغويه بأي طريقة، في طريقة تدينه: إما بغلو، إما بابتداع، إما برياء، إما بعجب، إما بغرور… أي طريقة من الوسائل والأساليب التي يؤثِّر عليه بها.
فهو سيبحث في ملف كلِّ إنسانٍ يستهدفه بالإغواء عمَّا هي الطريقة التي يمكن أن يؤثر عليه فيها، أين هي نقطة ضعف هذا الإنسان أو ذاك، وهذا ما يعنيه بقوله: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ}، يعني: من كل الجهات التي يمكن أن يؤثِّر بها على الإنسان للبحث عن نقطة ضعفه.
{وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}؛ لأنه يريد أن يقابلوا نعمة الله عليهم، التي هي نعمة عظيمة جداً، وتكريم الله لهم، بكفران النعمة: الإساءة إلى الله المنعم الكريم الوهاب، في مقابل أنهم تسببوا فيما يتصوَّر هو، وإلا فليس هناك مسؤولية على الله فيما وقع فيه من الغواية، ما وقع فيه إبليس من الغواية والذنب، هو المتحمل للمسؤولية في ذلك، ولا على آدم، ولا على بني آدم، هي عقدته هو، إبليس عقدته الكبر، وهو بصرفهم عن الشكر للنعم، التي تعني: الاستخدام لنعم الله بطريقة صحيحة، ليس فيها إساءة إلى الله؛ لأن استخدام نعم الله بطريقة تسيء إلى الله، هو سوء استخدام للنعمة، يترتب عليه أضرار ومفاسد على الإنسان نفسه، وإلَّا فالله غنيٌ عن شكرنا، وعن عبادتنا، وعن طاعتنا، وعن التزامنا، لكن هذه هي الحقيقة: سوء الاستخدام لنعم الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، فيه إساءةٌ إلى الله من جهة، وفيه مضار ومفاسد على الإنسان في حياته، ويجازى على ذلك في الآخرة أيضاً.
نستكمل القصة، ونستكمل أيضاً الدروس والعبر في المحاضرات القادمة.
نَسْألُ اللَّهَ «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإِيَّاكُم لِمَا يُرْضِيهِ عَنَّا، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهَدَاءَنَا الأَبْرَار، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّج عَنْ أَسرَانَا، وَأَنْ يَنْصُرَنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء.
وَالسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
المصدر: الثورة نت
إقرأ أيضاً:
(نص) المحاضرة الرمضانية الثانية عشرة للسيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي
يمانيون/ صنعاء (نص) المحاضرة الرمضانية الثانية عشرة للسيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي 12 رمضان 1446هـ | 12 مارس 2025م
أَعُـوْذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.
الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمْ.
أيُّهَا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَات:
السَّـلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
نتحدث في البدايـــة، عن إعلان قواتنا المسلحة اليمنية، لقرار حظر ملاحة السفن الإسرائيلية، عبر البحر الأحمر، وباب المندب، وخليج عدن، والبحر العربي، حتى يتم إدخال المساعدات إلى قطاع غزَّة، وهذا القرار قد دخل حيِّز التنفيذ، حيث سيتم استهداف أي سفينة إسرائيلية تَعْبُر في منطقة العمليات المعلنة، وهذا هو خطوةٌ عمليةٌ، وموقفٌ ضروري، في مقابل الخطوة العدوانية التصعيدية، التي أقدم عليها العدو الإسرائيلي، ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزَّة.
ما قام به العدو الإسرائيلي، من منع دخول المساعدات إلى الشعب الفلسطيني في قطاع غزَّة، وأيضاً من إغلاق المعابر، ومنع دخول أي مواد غذائية في إطار حركة التُّجَّار، وبأي شكلٍ من الأشكالٍ، يعني: الإقفال الكامل، والحصار التام، هو يهدف إلى التجويع للشعب الفلسطيني في قطاع غزَّة، إلى التجويع لمليوني فلسطيني في قطاع غزَّة، وهذه جريمةٌ كبرى، توصَّف بكل أوصاف الجرائم الكبرى: هي جريمة حرب، هي جريمة ضد الإنسانية، هي خطوةٌ تصعيديةٌ كبيرة، ليست مجرد إجراء عادي يمكن التغاضي عنه، أو التجاهل له.
ولـذلك يعتبر الصمت والجمود في الحالة العربية، ومن قبل الأنظمة العربية، وفي العالم الإسلامي، تجاه هذه الخطوة التصعيدية، التي تهدف إلى تجويع الشعب الفلسطيني، وهذا سعيٌ لإبادته، أو فرض التهجير القسري عليه، يعتبر الجمود القائم تجاه هذه الخطوة التصعيدية ذنباً من قبل العرب والمسلمين بشكلٍ عام، وخطيئةً كبيرة، وتنصلاً عن مسؤوليةٍ كبرى على هذه الأمة، في أن تقف مع الشعب الفلسطيني، الذي هو شعبٌ مظلومٌ، جزءٌ من هذه الأمة.
ومن الواضح أن الأنظمة العربية، مهما أقدم عليه العدو الإسرائيلي من خطوات عدوانية، وتصعيدية، وظالمة، وإجرامية، فسقف موقفها واضحٌ للعدو الإسرائيلي ومعه الأمريكي؛ لأن الأمريكي هو شريكه في كل ما يقوم به من جرائم، السقف للموقف العربي، ومن خلفه الموقف الإسلامي في أغلبه، هو: إصدار بيانات- حتى في صياغتها- يراعون فيها ألَّا تكون شديدة اللهجة، وتتضمن تلك البيانات في العادة التعبير عن أُمْنِيَّات، وعن دعوات، وعن مطالبات من الآخرين.
وهذا ليس هو الموقف الصحيح لأمة– أمة الملياري مسلم- ليس هو الموقف الصحيح لأمة لديها كل هذه القدرات والإمكانات، بلدان بأكملها، هو موقف قد يستحسن لمدرسة ابتدائية، أو لجمعية خيرية، أو لمؤسسة ثقافية؛ أمَّا لدول، لبلدان، لأمة، فليس هو الموقف الصحيح أبداً، ولا يرقى إطلاقاً إلى مستوى المسؤولية الإنسانية، والدينية، والأخلاقية، على هذه الأمة، تجاه هذه القضية، وتجاه مظلومية شعبٍ هو جزءٌ منها، هي معنيةٌ به.
فالعدو الإسرائيلي يُقْدم على ما يُقْدم عليه، من خطوات عدوانية، إجرامية، ظالمة، بدعمٍ أمريكي، وتخاذلٍ عربيٍ إسلامي، هناك عاملان مشجعان أساسيان: دعم أمريكي وشراكة أمريكية، وطاقم العمل في الإدارة الجديدة لـ[ترامب]، هم أكثر صهيونيةً، ووقاحةً، وجرأةً، في وضوح عدائهم الشديد للشعب الفلسطيني، وللمسلمين عموماً، ولهذه الأمة، وفي حرصهم على أن يكونوا متميزين بخطوات أكثر عدوانية مما قدمته إدارة [بايدن] قبلهم، وهذا شيءٌ واضحٌ، وحتى في تصريحاتهم، وعباراتهم، وقراراتهم، ومواقفهم؛ فالعدو الإسرائيلي يعتبر أن الظروف مهيأة، في إطار التخاذل العربي، والدعم الأمريكي المفتوح بخطوات كبيرة؛ ولذلك هو يتشجع على الإقدام على هذه الخطوات العدوانية.
ولكن في الساحة العربية، هذه الحالة من التخاذل، وهي مؤثِّرة حتى على الموقف في بقية البلدان الإسلامية، أنا كثيراً ما كررت التأكيد على هذه الحقيقة: أن التخاذل العربي مؤثِّر على التخاذل من كثيرٍ من البلدان الإسلامية، وإلَّا لكانت في مواقفها أقوى مما هي عليه، لكنها تصطدم بالموقف العربي؛ لأن الأنظمة العربية الكبرى، التي وصل بها الحال إلى أن تكون متواطئةً مع الأمريكي والإسرائيلي، تلعب في الساحة العربية والإسلامية لُعبة احتواء الموقف، وتوجيهه؛ ليبقى دائماً تحت ذلك السقف الذي قلناه: سقف البيانات فقط لا غير، ومنع أي خطوات عملية جادّة، تخدم الموقف الفلسطيني وتسانده بالفعل.
وهذا شيءٌ واضح، هذا شيءٌ واضح، تُعقد القمم، وتخرج دائماً ببيانات فيها- كما قلنا- صياغة ليست شديدة اللهجة، مخففة حتى في اللهجة والتعبير، ثم لا تكون مرفقةً ولا مرتبطة بأي خطوات عملية مهما كانت بسيطة، لا على المستوى السياسي، ولا على المستوى المقاطعة الدبلوماسية، ولا على المستوى الاقتصادي… ولا بأي شكلٍ من الأشكال، ولا في أن تكون إيجابية أكثر تجاه الشعب الفلسطيني، تجاه مجاهدي فلسطين، لم تتغير المواقف السلبية تجاه إخوتنا المجاهدين في فلسطين من الأنظمة العربية، لم تُغَيِّر لوائحها في تصنيفهم بالإرهاب.
بل أسوأ من كل ذلك، أن ما أعلنه البنك الدولي، عن قيام بعض الأنظمة العربية بفتح مسارٍ بريٍ، للالتفاف على الحصار اليمني ضد العدو الإسرائيلي، وفتح مسار يتم عبره نقل البضائع الإسرائيلية إلى الإسرائيليين من البر، هذا أعلن عنه البنك الدولي، وتحدث بشكلٍ صريح، وتحديد واضح لأنظمة عربية، وتحدث عن هذا المسار: كيف يتم، ومن أين إلى أين، وعن حجم نشاطه. هل ستجيب تلك الأنظمة على ما أعلنه البنك الدولي؟ هل ستنكر؟ هل ستنفي؟ هل سَتُقدِّم الشواهد على بطلان دعواه؟ أم أنها- فعلاً- هي متورطةٌ في ذلك؟ وهذا هو الأقرب إلى الحقيقة.
في المراحل الماضية، وفي مرحلة العدوان الشامل على قطاع غزَّة من قبل العدو الإسرائيلي، كانت تنشر حتى فيديوهات، للشاحنات والقاطرات المحملة بالبضائع، التي ينقلها العرب إلى العدو الإسرائيلي، ويتفرجون على الشعب الفلسطيني يتضوّر جوعاً.
فنحن أمام واقعٍ واضح، في هذه الساحة العربية والإسلامية، أن العدو الإسرائيلي مهما أقدم عليه من خطوات عدوانية تصعيدية، لو اتَّخذ قراراً بإبادة كل الشعب الفلسطيني، لما تجاوز الموقف العربي ذلك السقف: إصدار بيانات، وتتضمن بعض الأُمْنِيَّات، وبعض الدعوات للآخرين، أن يحاولوا أن يقنعوا الإسرائيلي ليكف عن ذلك؛ لو قَرَّر العدو الإسرائيلي هدم المسجد الأقصى، لكان الموقف الرسمي العربي بذلك السقف؛ لو اتَّخذ العدو الإسرائيلي قراراً بتهجير الشعب الفلسطيني بالكامل، وطرده من فلسطين، لكان السقف نفسه (السقف العربي) هو ذلك السقف: بيانات تُنَدِّد، تشجب، تطالب، تتمنى، تأسف!
هذه مسألة خطيرة جدًّا، تُشَجِّع العدو الإسرائيلي في مساره التصعيدي، الذي هو مسار متدرِّج، ولكنه ضمن برنامج واضح، واضح ما هي خواتيمه، ما هي غاياته، ما هي أهدافه، ماذا يريد أن يصل إليه.
ولـذلك ينبغي أولاً لشعوب أُمَّتنا، وللأحرار من أُمَّتنا، أن يدركوا أنه لا يجوز إطلاقاً ربط مواقفهم بمستوى ذلك السقف، الذي لدى الأنظمة العربية، لا يجوز إطلاقاً؛ لأنه سقف يعبِّر عن حالة التخاذل، والتنصل عن المسؤولية، ولأنه تماهٍ مع من؟ مع المتواطئين مع الأمريكي والإسرائيلي، الذين يعملون دائماً وفق الموجهات الأمريكية، والأولويات الأمريكية.
كان الموقف في مسألة ألَّا يعطوا هم أراضي لتهجير الشعب الفلسطيني إليها، وامتناعهم عن ذلك، هذا موقفٌ جيد، لكنه-فعلاً- في مستوى متدنٍ جدًّا، مقارنةً بما يجب عليهم أن يعملوا، يعني: هم يدركون أن هذه الخطوة لو أقدموا عليها ستكون خطوة عدوانية، ليست فقط أن يدعموا الإسرائيلي بشكلٍ مباشر بالدعم الاقتصادي، والسياسي، والتشجيع، والتحريض، وليست فقط في مستوى احتواء مواقف الأُمَّة، حتى لا يكون هناك تحرُّك جادّ لنصرة الشعب الفلسطيني وإسناده، لكن كانت سَتُمَثِّل- بنفسها- اعتداءً حقيقياً على الشعب الفلسطيني؛ لأنها ستكون هي الخطوة الأساسية في التهجير للشعب الفلسطيني، ومعنى ذلك: أن يكونوا هم- بأنفسهم- من ارتكبوا تلك الجريمة ضد الشعب الفلسطيني، لتهجيره من فلسطين إلى أراضٍ يحدِّدونها هم، ويقدِّمونها هم، يعني: لتحولوا إلى معتدين بشكلٍ مباشر على الشعب الفلسطيني، وليس فقط متخاذلين، متآمرين، متواطئين مع العدو، فهم امتنعوا عن هذا المقدار؛ لكن الخطوات التي يقوم بها العدو الإسرائيلي يجب أن يكون في مقابلها خطوات عملية.
ولـذلك عندما اتَّجهنا في بلدنا، في يمن الإيمان والحكمة، يمن الجهاد، لإعلان خطوة عملية وموقف عملي، هي: قرار حظر ملاحة السفن الإسرائيلية، عبر البحر الأحمر، وباب المندب، وخليج عدن، والبحر العربي، من واقع إدراكنا- ومن واقع واضح للناس جميعاً- أنه لابدّ من خطوات عملية، التَّعنُّت الإسرائيلي، والصلف الإسرائيلي، والوحشية التي يُبديها العدو الإسرائيلي، والدعم الأمريكي، والتشجيع الأمريكي، يجعل العدو الإسرائيلي يُقْدِم على خطوات عدوانية كبيرة، لا يمكن أن يتوقف عنها إلَّا بالردع، إلَّا بخطوات قوية، إلَّا بمواقف عملية.
ولهذا نؤكِّد أن هذا ليس هو سقف موقفنا؛ إنما هو الخطوة الأولى في موقفنا؛ ولـذلك إذا استمر العدو الإسرائيلي في تجويع الشعب الفلسطيني في قطاع غزَّة، ولم يَكُفّ عمَّا يقوم به الآن من منع دخول المساعدات، ومن منع دخول البضائع إلى قطاع غزَّة، نحن سنتَّجه أيضاً إلى خطوات تصعيدية أخرى، وسقفنا عالٍ، والخيارات كلها مطروحةٌ على الطاولة كما يقولون، مطروحة في الخيارات العملية، وهذا ما نريد أن نؤكِّد عليه.
ونؤكِّد أيضاً على أهمية هذه المواقف، وضرورة المواقف العملية؛ لأن الواقع بالنسبة للأنظمة العربية أنهم:
إمَّا– مع تخاذلهم- إمَّا أنهم يعادون من يتَّخذ مواقف عملية جادَّة، في مقابل الخطوات التصعيدية، العدوانية، الإجرامية، من قِبَل العدو الإسرائيلي، وهذا يحصل، هناك من الأنظمة العربية من يعادينا أشد العداء، لماذا؟ لأننا نقف مثل هذه المواقف المساندة للشعب الفلسطيني، والمواقف التحررية، التي لا نقبل فيها بالخنوع لأمريكا مع الخانعين والخاضعين. وإمَّا أنهم يلومونه، يوجهون إليه اللوم، والبعض من الأنظمة العربية، حتى المتعاطفة معنا، ترى في موقفنا هذا حماقة، وترى فيه تهوراً، وترى فيه تصرفاً غير مناسب، والكثير يوجّه إلينا اللوم.لكننا ندرك أننا في هذه المرحلة التاريخية المهمة، في العصر الذي يكثر فيه اللوم لمن يقف موقف الحق، يكثر فيه اللائمون، يلومونه، ينتقدونه بكل أشكال اللوم: من يُصَنِّف موقفه بأنه موقف لا ينسجم مع المصالح العامة، والمكاسب السياسية، والمصالح الاقتصادية، ومنهم من يُصنِّف باعتبارات أخرى، ومنهم من يشكك… كما قلنا: العدو الإسرائيلي له نفير واسع، وأصوات كُثر تقف معه.
بينما يجب أن يتوجَّه كل اللوم، كل الاحتجاج، كل الانتقاد، كل الضغط، على العدو الإسرائيلي؛ لأنه يريد أن يُجَوِّع الشعب الفلسطيني في قطاع غزَّة، يريد أن يمارس أسلوب الإبادة بالتجويع، فهو الذي كان ينبغي للجميع أن يتوجَّهوا إليه باللوم، والانتقاد، والاحتجاج، والحملات الإعلامية، والهجوم بكل أشكاله، والضغط السياسي، وكان من واجب الجميع أن يساندوا أي موقفٍ داعمٍ للشعب الفلسطيني، حينما يكون موقفاً فعلياً، عملياً، يُمثِّل خطوةً عمليةً ضاغطةً على العدو الإسرائيلي، ولكن الاعوجاج الكبير في واقع الأمة، هو بالشكل الذي دائماً يوجّه اللوم ضد الموقف الحق، ويسكت، ويتجاهل، ويتغاضى عن الموقف الباطل، عن الموقف الظالم.
أمريكا تقف مع العدو الإسرائيلي بشراكة تامة في كل خطواته التصعيدية والعدوانية، وتشارك حتى في التهديد والوعيد للشعب الفلسطيني، والغرب كذلك علاقته، دعمه، مساندته للعدو الإسرائيلي واضح، في المقابل ما هو الموقف العربي العملي؟ ما هي الخطوات الفعلية؟
تأتي الحقائق لتفضح تواطؤ كبار الأنظمة العربية، بتعاونها الفعلي مع العدو الإسرائيلي، تُعطي للفلسطينيين بيان في ورقة مكتوب، ليس وراءه أي خطوات عملية، وتفتح مساراتٍ برية للدعم الاقتصادي للعدو الإسرائيلي، وتُحَرِّض في السر العدو الإسرائيلي على خطواته العدوانية ضد الشعب الفلسطيني، هذا هو الشيء المؤسف!
عندما نتأمل– مثلاً- هذه الأيام ما تفعله أوروبا، الدول الأوروبية والأنظمة الأوروبية، مع أوكرانيا، تفعل معها كل شيء، تُقدِّم لها الدعم المالي بالمليارات، تُعلن عن ذلك، مليارات الدولارات دعماً لها ليس فقط في الشق الإنساني، أو في الشق الاقتصادي، بل حتى عسكرياً، وتُقَدِّم لها مع المال السلاح بكل أنواعه، وتُقدِّم لها الدعم السياسي، وتقاطع روسيا اقتصادياً، سياسياً، تتَّخذ قرارات بالعقوبات ضدها، تشتغل شغل واضح، يعني: ما تشتغله أي أُمَّة لديها توجُّه جادّ وصادق لدعم قضية مهمة، مع أن الفارق الكبير جدًّا ما بين قضية أوكرانيا وقضية فلسطين:
أوكرانيا، ورَّطها الغرب لتدخل في مشكلة مع روسيا؛ خدمةً للغرب. أمَّا القضية الفلسطينية، فهي قضية حق واضح، ومظلومية بيِّنة.ومع ذلك لتتضح الحالة بالنسبة للعرب، ومن خلفهم البلدان الإسلامية التي تأثَّرت بموقفهم في أغلبها، فليقارن أي متابع عربي بين ما يفعله الأوروبيون مع أوكرانيا، وما يفعله العرب مع فلسطين؛ نجد الفارق الكبير جدًّا، نجد- فعلاً- أن الحالة العربية هي حالة تخاذل في معظمها، وتواطؤ في بعضها، وتعاون مع العدو الإسرائيلي في بعضها، واحتواء للمواقف.
ومع ذلك اتَّجه بعض العرب الآن– مشغولون جدًّا- اتَّجهوا للاهتمام بأوكرانيا، كذلك يعني مشغولين مع الغرب، ليسوا فاضيين للانشغال بالقضية الفلسطينية، والهموم العربية، وهموم أُمَّتنا الإسلامية، هم لديهم انشغال هناك بعيد؛ لأنهم أصبحوا عباقرة، اهتماماتهم هناك بعيدة، هذه من الحالة الغريبة جدًّا في الساحة العربية والواقع العربي!
عموماً، نحن نؤكِّد على أن هذه الخطوة، التي أعلنتها قواتنا المسلحة، هي الخطوة الأولى، وأن سقفنا عالٍ جدًّا، وأن كل الخيارات مطروحة في الاستعداد العملي للتنفيذ، إن لم يتوقف العدو الإسرائيلي عن الحصار للشعب الفلسطيني في قطاع غزَّة، والتجويع له، ومنع المساعدات من الدخول إلى القطاع، ومنع حركة البضائع.
نعـــود إلى درسنـــا.
وكُنَّا بالأمس تحدثنـا أولاً: عن ما كان قد تحقق لنبي الله إبراهيم “عَلَيْهِ السَّلَامُ” في مقامه الأول بين قومه، وأنه عرض لهم من البراهين ما تصل بهم إلى الحقيقة، في مبدأ التوحيد لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، والإيمان به، وإبطال الشرك ونسفه، وترسيخ مبدأ الكمال المطلق، الذي ليس إلِّا لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وأنهم بُهِتُوا تجاه ما عرض عليهم من البراهين؛ لأنه ليس لهم أي حُجَّة لإبطالها، في مقابل أنه أتى هو بالحُجَّة النَّيِّرة، المفحمة، المقنعة، والتي لم يكن لهم في مقابلها أي مستند للتشبُّث بما هم عليه من الباطل.
لكن لشدة ما قد أدمنوا عليه من العبادة للأصنام، وارتباطهم بها، وتَرَسُّخ هذا الباطل في نفوسهم، وتجذره في واقعهم الاجتماعي؛ لممارستهم له على مدى أجيال، كان لابدَّ من مقامات أخرى، فاتَّجه أيضاً لمقامٍ آخر، وبدأنا في الحديث عن المقام الآخر، وكيف دعاهم بشكلٍ جماعي في تجمعٍ لهم في هذا المقام- كذلك- إلى عبادة الله، ولكن بدأ أسلوبه معهم مستخدماً طريقة الأسئلة، والاستنطاق للحقيقة، والإلجاء لهم إلى الاعتراف بالحقيقة.
ثم في إطار هذه الأسئلة التي وجهها لهم، كذلك كان يصل بهم إلى الاعتراف الضمني بعجز تلك الأصنام بشكلٍ تام: أنَّها لا تملك لا ضراً، ولا نفعاً، ولا قُدرةً، ولا حياةً، أنَّها حتى لا تسمعهم حينما يدعونها، وهم يتوجَّهون إليها بالعبادة، وأنَّهم استندوا فقط- في ما استندوا إليه هم- إلى أنَّهم ورثوا هذا المعتقد الباطل من آبائهم: {قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}[الشعراء:74].
تحدثنا أيضاً بالأمس، على أن الاستناد إلى ما عليه الآباء والأجداد ليس بمفرده حُجَّة، لا يمكن أن يكون هو لوحده حُجَّة، ولا برهاناً، ولا دليلاً؛ إنما المعتبر الحق- يعني- إن كان الآباء والأجداد على الحق، ويتَّبعون رموز الهدى، فحينئذٍ يمكن الانتماء، والاعتزاز بالانتماء إلى ما هم عليه، وما كانوا عليه؛ أمَّا إن كانوا على غير طريق الهدى، ولم يكونوا مرتبطين برموز الهداية، فلا يمكن الاستناد إلى ما كانوا عليه، وذكرنا في سياق الفارق أمثلة:
مثلاً: في قصة نبي الله يوسف “عَلَيْهِ السَّلَامُ”، حينما ذكر الله عنه أنه قال: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ}[يوسف:38]. وكذلك في قول الله تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ}[الحج:78].هؤلاء الآباء، الذين هم أنبياء ورسل، وعلى خط التوحيد، وخط الإيمان بالله، خط الحق، وطريق الحق، والصراط المستقيم، كان الانتماء إليهم، والاعتزاز بالانتماء إليهم، شيئاً جيداً، ليس معيباً، ولا خطأً، بل هو صحيح.
أمَّا حال المشركين، الذين ورثوا الشرك من أسلافهم، وحال من ورثوا الباطل من أسلافهم، ويتعصَّبون له، ويتشبَّثون به، فليس لهم في ذلك مستندٌ ولا حُجَّة، ذكرنا قول الله: “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ}[البقرة:170]، لأنهم ليسوا مهتدين؛ فلا ينبغي التشبُّث بما كانوا عليه.ولـذلك- كما ذكرنا بالأمس– أن مطاوعة التكفيريين عادةً ما كانوا يحاولون، في مساعيهم لإضلال شعبنا العزيز (يمن الإيمان والحكمة)، الذي له امتداده الإيماني الأصيل عبر الأجيال، إلى عهد رسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ”، ولكنهم يأتون ليقولوا لشعبنا: [كُنتم على ضلال وباطل في كل ما أنتم عليه، ويجب أن تُسْلِموا من جديد، وأن تعتقدوا أن كل الأجيال من قبلكم كانوا كفاراً وكافرين، وعلى غير الإسلام؛ لأنهم ليسوا على الاتِّجاه التكفيري]، فإذا قال أحدٌ ما: [لا، نحن على ما كان عليه الآباء والأجداد]، قالوا: [هااااه، أنتم تقولون مثل مقولة الكافرين: {بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا}[البقرة:170]]، فيحاولون أن يُشَبِّهوا بهذا الأسلوب على البعض من الناس، أن يثيروا مثل هذه الشُّبَه.
لكننا– تحدثنا بالأمس- أن مسار شعبنا العزيز هو كما قال عنه رسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ”: ((الْإِيْمَانُ يَمَانٍ، وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَّةٌ))، كان يأتي البعض من حركة أهل الدعوة من الهند، في السنوات الماضية، إلى اليمن، ليدعوا اليمنيين إلى أن يسلموا، من الهند، يطلب من اليمنيين أن يسلموا، وهو آتٍ من الهند، وَالْإِيْمَانُ يَمَانٍ، وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَّةٌ! الامتداد الأصيل، والرموز الهداة العظماء ليمن الإيمان والحكمة من رموز الإسلام والإيمان، من نجوم الهداية، المضيئة في سماء الهداية؛ ولـذلك ينبغي أن يكون لدى الناس وعي وبصيرة، وأن يكون لديهم انتباه تجاه أي شُبه.
تحدثنا عن مسألة الموروث الفكري والثقافي للأُمَّة، وعن المعيار لما هو صحيح، المعيار هو: الحق، والامتداد لنهج الحق وطريق الحق؛ أمَّا ما هو باطل فلا ينبغي التعصُّب له أبداً، بالاستناد إلى من كانوا في طريق الباطل، أو زاغوا عن طريق الحق في تاريخ الأمة، وهذه المسألة مهمة جدًّا.
ننتهي من هذه النقطة، وننتقل إلى كلام نبي الله إبراهيم “عَلَيْهِ السَّلَامُ” فيما رد به عليهم: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ}[الشعراء:75-77]، وهنا يعلن موقفه الحاسم (البراءة) بصيغة صريحة وواضحة جدًّا، بالعداء، الذي هو قمة البراءة يعني، {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ}[الشعراء:77]، فهو يتَّخذ موقفاً حاسماً من شركهم، ومن معبوداتهم الزائفة.
في الحديث عن هذه المسألة، وما فيها من تفاصيل، نتركه لمحاضرة الغد إن شاء الله؛ لأننا اليوم تركنا مساحة للحديث عن الموقف، وحتى لا نطيل، نكتفي بهذا المقدار.
نَسْألُ اللَّهَ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإِيَّاكُم لِمَا يُرْضِيهِ عَنَّا، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهْدَاءَنَا الأَبْرَار، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّجَ عَنْ أَسرَانَا، وَأَنْ يَنْصُرَنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء.
وَالسَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛