أجواء رمضانية من المحيط إلى الخليج: صوم وذكر وإحياء للموروث الثقافي
تاريخ النشر: 23rd, March 2024 GMT
تقرير: سارة الصعفاني
تختلف العادات والتقاليد في شهر الصيام من بلد عربي لآخر اختلافاً بسيطاً، يمنح كل بلد خصوصيته ويجعل رمضان متعدد الأجواء الروحانية والاحتفالية.
في هذه المساحة نتطرق لأجواء رمضانية في ثلاث دول عربية وإسلامية متباعدة المسافة واحدة الأجواء الإيمانية، هي المغرب والعراق والسودان.
طقوس “ سيدنا رمضان “ في المغرب
المغرب بلد عربي يعرف بثقل موروثه الحضاري وتنوع روافده الثقافية والتزامه الديني، مشابه لليمن طقوساً دينية ولهجة ، وتراثاً ثقافياً في ملبوسات وعادات الشهر الكريم، إلا أن المغاربة لا يزالون يحرصون على الاستعدادات النفسية والمادية والروحية التي تكاد تغيب في بلدنا نتيجة الظروف المعيشية الصعبة.
يبدأ الاحتفال بقدوم رمضان قبل حلوله بأسابيع، إذ تُفضل العائلات اقتناء أوانٍ جديدة للمطبخ، وتغيير أثاث البيت خصوصاً صالة الضيوف، ويؤدي المغربيون قبيل رمضان بأيام رقصات جماعية كرقصة “عيساوة، والغناوي”، وهي عبارة عن رقصة جماعية في حلقة دائرية، مصحوبة بالعزف على آلة الطبلة والتعريجة، وسط تصفيق ومدائح وصلوات على الرسول صلى الله عليه وآله، وسلم تزامناً مع تزيين البيوت والأحياء.
يمتاز رمضان المغرب بأصناف المأكولات إذ لا تكاد تخلو مائدة رمضانية من وجبات غنية بالقيمة الغذائية والعصائر الطازجة والتنوع في أطباق الحلويات والمكسرات لمنح الجسم طاقة وقوة تساعدهم على الصبر وتحمل ساعات الصيام والصلاة بل ويعدون الكعك حلوى السفوف أو سلو (وهو طحين محمص ولوز وسمسم وشمر..) في شعبان لتناوله مع حفلات الشاي الذي يشتهر به المغرب في الأمسيات الرمضانية، التي يحرص المغربيون على الالتزام بها إيماناً بضرورة صلة الرحم والأجواء الروحانية في شهر الصيام الذي يسمونه “ سيدنا رمضان “ تقديساً له.
ويحرص المغاربة على العود والبخور وارتداء الأزياء التراثية خاصة عند أداء الشعائر الدينية لما توحي إليه من عودة للتاريخ الإسلامي وما كان عليه رمضان ما قبل الحداثة، بل لا يزال المسحراتي بلهجة بلاد الشام أو كما يسميه المغاربة “ النفّار “ يوقظ الناس لتناول وجبة السحور، ويطلق مركز عمالة كل مدينة “الزواكة”.. وهو صوت “الصفير”، الذي يطلق ليعلم الناس بدخول وقت المغرب، وأنه في استطاعتهم ترك الصوم ومباشرة الأكل. ويقوم المدفع الذي يطلق دفعة واحدة من البارود القوي، بالدور نفسه في المدن الساحلية بالمغرب.
يشجع المغربيون، الصغار على الصيام باحتفالات عائلية لمن يصوم لأول مرة وهدايا تعزيزاً لأهمية الصوم لدى الصغار، بعد أن قطع الصغير شوطاً من الصيام المتقطع والذي يُعرف بـ”تخياط النهار”، ويرتدي الصائمون الصغار ملابس تقليدية، تخضب أيديهم بالحناء، وتزين الفتيات بزينة العروس، ويرتدين القفاطين ويضعن الحلي وتيجاناً على الرأس، ويُحملن على ما يسمى “العمارية” (وهي هودج تُحمل عليه العروس في حفل العرس)، أما الصبيان فيلبسون أيضاً لباساً تقليدياً مثل “ الجبابدور أو الجلباب والبرنس “ ويركبون على حصان مسرج، وتؤخذ لهم صور تخليداً لهذه الذكرى، بعد أن يكونوا قد تناولوا مائدة إفطار تضم كل ما يشتهيه الطفل الصائم من وجبات، ويفضل الأهل الاحتفاء بالصغار في ليلة السابع والعشرين من رمضان حرصاً على فضيلة ليلة القدر.
وتشتمل مائدة الإفطار على التمر والحليب والبيض وعصير الفواكه والفطائر والمملحات والحلويات الخاصة برمضان “ كالشباكية والمخرقة والمسمن والبغرير والبريوات والبسطيلة وكعب غزال والكيك بالفلو وحلوى التمر”. على أن الضيافة في البيت المغربي تمر مع حليب كل أيام السنة.
يحرص المغاربة على تبادل التهنئة “عواشر مبروكة” أو “ مبروك عواشرك “ يقصد بها أياماً مباركة في أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وعشر العتق من النار.
أما ليالي رمضان فتكون في ابتهالات رمضانية تؤدى طوال الليل بأصوات شجية، وتزدحم المقاهي بالناس الذين يتناولون القهوة والشاي الأخضر، ويتبادلون أطراف الكلام مع الذهاب للمتنزهات والتردد على الأسواق الشعبية وجلسات نقشات الحناء، ويعد رمضان فرصة لتقوية العلاقات العائلية وتعزيز قيم التضامن ونشر الفرح والسرور، ويختتم المغاربة شهر الصيام بدفع زكاة الفطر أو “الفطرة”، ويكون للنفار أو المسحراتي نصيب منها، لتبدأ طقوس العيد التي لا تخلو من الأجواء الدينية والكرم المغربي.
«المسحرجي” و “القصخون” عبق التاريخ في رمضان العراق
وعلى ضفاف نهري دجلة والفرات، حيث بلاد الرافدين العراق لا يزال رمضان كما كان رغم غلاء الأسعار، فلا تزال اللحوم والحلويات الشرقية في البيوت العراقية أساسية، ساهم في ذلك عادة العراقيين المتوارثة في تبادل أصناف الأطباق لتكون المائدة الرمضانية متنوعة فضلاً عن الحرص على التجمعات وتناول الإفطار في المسجد وينشط التكافل الاجتماعي في رمضان حيث توزع السلة الغذائية بسخاء، وتسقط الفوارق الطبقية بين العراقيين فالجميع في الشارع يشتري متطلبات رمضان واقفاً على باب محل الحلويات والعصائر ينتظر دوره، ويفضلون عصير النومي أي الليمون الأسود المجفف والرمان، كما يتنافس العراقيون على شراء متطلبات المطبخ العراقي قبل شهر رمضان وتخزينها.
وتشتهر السفرة الرمضانية في العراق بـ “ سمك المسكوف “ أي السمك المشوي وطبق القوزي وهو لحم الخروف المحشي بالأرز ويزين بالمكسرات، وطبق “ الدولمة “ وتحشى الخضروات بالأرز واللحم المفروم، ولا تخلو السفرة من الحساء خصوصاً حساء العدس.
ولا يزال الذهاب للسوق عادة رمضانية محببة حيث تزين الشوارع بالفوانيس والزينة والنشرات الضوئية ومصابيح النيون، وما تزال المقاهي مزدحمة حيث الشاي أو “ الجاي “ باللهجة العراقية إحدى العادات الرمضانية بعد أداء صلاة التراويح، وما تزال البيوت العراقية تفوح منها رائحة الشاي بعد الإفطار.
ومع اختفاء الحكواتي ويعرف باسم “ القصخون “ من المقاهي، يحاول العراقيون في هذا الشهر إحياء الموروث الثقافي، إلا أن المسحرجي أو أبو طبل” اي المسحراتي “ لا يزال يؤدي دوره في إيقاظ الناس لكنه لم يعد فرداً بل فرقة تجوب الطرقات ويستقبلها العراقيون بالترحيب والضيافة ويشاركونها وجبة السحور.
كما تستمر المحاولات العراقية في الإبقاء على الألعاب التقليدية الجماعية كلعبة “ المحيبس “ وتعني الخاتم وإخفائه في أحد الأيدي، ولعبة “ الصينية “ بإخفاء النرد أسفل أحد الفناجين النحاسية، ويتخلل اللعبتين التحفيز والأهازيج والأغاني باللغتين العربية والكردية، ويحصل الفائز على الحلويات العراقية التي يهتم بها العراقيون في شهر رمضان كأطباق الشعرية والبقلاوة وزنود الست. على أن حلوى التمر تصنعها العائلات العراقية استعداداً لتناولها في ليالي رمضان، وتتكون من التمر واللوز وجوز الهند وحبوب الينسون.
وفي منتصف الشهر تكون عادة (تلماجينا) حيث يذهب الأطفال إلى بيوت العائلة والجيران يغنون ابتهاجاً مرتدين ملابس التراث العراقي ويجمعون من الكبار الحلوى والمكسرات.
وفي اليوم الأخير من شهر رمضان، يقف العراقيون على أسطح المنازل لرؤية هلال شوال وتوديع رمضان، على أن زيارة الأضرحة والمقامات الدينية تمثل إحدى العادات الرمضانية لبعض أهل العراق.
«تصوموا وتفطروا على خير” في السودان
يحرص السودانيون على تبادل المباركات الرمضانية “ رمضان كريم – الله أكرم “ و”تصوموا وتفطروا على خير”، ولا تزال المدافع تنطلق عند كل أذان مغرب وقبل الفجر، ومن المعتاد تأخير أذان المغرب وتقديم أذان الفجر تحسباً للصيام، ويهتم الناس بصلاة التراويح وتزيين البيوت والطرقات والأسوار والمآذن بالمصابيح الملونة.
كما يحتفي السودانيون برمضان بتغيير أواني المطبخ، وقبل رمضان بفترة تمتد لأسابيع يبدأ السودانيون بشراء وتخزين ما يحتاجونه ويسمون ما جمعوه من أطعمة وأشربة “موية رمضان” أي المؤونة، إذ تتطلب وقتاً لتحضيرها مثل مشروب “عواسة الحلو مر” أو “ الذرة الحمراء” ويجمع مذاقه بين مرارة البهارات وحلاوة السكر وتتكون من الذرة الحمراء التي تمر بمراحل لتصبع عصيراً رمضانياً من تجفيف البذرة وطحنها وعجنها وتخميرها وتحويلها إلى رقائق جافة لحين استخدامها بعد إضافة الزنجبيل والقرفة والتمر الهندي والكمون وحبة البركة السوداء والكركدية والتمر للعجينة، وعقب ثبوت رؤية الهلال يخرج الناس للاحتفال ويعرف ذلك بـ “ الزفة “ حيث يطوف الناس الشوارع بمعية الموسيقى العسكرية ومواكب الرقصات الصوفية.
كما يتميز رمضان في السودان بالمشاركة بين الاهالي في تحضير الإفطار والسحور وتناوله معاً في شوارع الحي بعد وضع سجاد شعبي مصنوع من سعف النخيل يمتد في الشوارع ويدعى “ برش رمضان “ ويتوجهون في جماعات إلى صلاتي العشاء والتراويح، كما يجبر المسافرون على النزول للإفطار بالتقطع لهم في الطرقات في شهر الخير والكرم، ويشتهر السودان بـ “ العصيدة “ كطبق رئيسي على مائدة الإفطار وبديلاً عن الخبز، ويتكون من دقيق الذرة المخمر واللبن مع البصل والثوم والدقيق والنشأ والفول السوداني أو إضافة اللحم المفروم أو المجفف مع الصلصة والبهارات، ولكل منطقة مكوناتها في تحضير العصيدة.
ويقيم السودانيون الولائم بمناسبة تسمى “الرحمتات” في الأيام الأخيرة من رمضان، ومعنى ذلك الرحمة جاءت، كصدقة لأرواح الموتى، ويختار من توفى له قريب خلال شهر رمضان أو قبل ذلك بأسابيع ليلة تسمى “ الحنجرة “ ويقدم لمن يؤدون واجب العزاء التمر والمشروبات، ويحتفل السودان بليلة القدر في يوم ٢٧ من رمضان رسمياً وشعبياً ويتم الإنصات في جلسات عامة لكبار المقرئين، ويتم توديع رمضان بالقصائد الدينية والمدائح النبوية، كما يتولى السودانيون دفع زكاة الفطر للمستحقين، كل فرد بنفسه.
المصدر: الثورة نت
كلمات دلالية: شهر رمضان لا یزال فی شهر
إقرأ أيضاً:
الابتكار الثقافي.. تصميم المستقبل بمقاييس إماراتية
محمد عبدالسميع
أخبار ذات صلةإذا كان الابتكار، بمفهومه البسيط والمركّب، يدخل فيه التجديد والإضافة، فإنّ مفهوم الابتكار الثقافي لابدّ أن يتضمّن هذه العناصر وأكثر، بحسب التصنيفات والقراءات المتبعة في هذا الشأن، ومع أن الثقافة كمفهوم، عالم واسع متعدد الأبعاد ومتفاعلها، فإنّها كانت ولا تزال محلاً مناسباً لتطبيق الابتكار، وقراءة أثره على المساحة الثقافيّة في الفنون والثقافة، دون أن ننسى أنّ الأفكار تبقى أفكاراً على الورق وتنظيرات، إن لم يتمّ العمل بها، ولهذا فمن الإنصاف القول إنّ قياس الأثر يصلح وبامتياز على الحالة الإماراتيّة في هذا الموضوع، وهي الحالة التي اتخذت من الموجود والتراث والفنون والعناصر الثقافيّة الأخرى بيئةً مناسبةً للابتكار فيها، تحت مظلّة الدولة، أو إدارة القطاع العام، وحفز القطاع الخاص في ظلّ تشجيع الدولة وإدراكها أهميّة هذا التحوّل من التقليدي في العمل الثقافي إلى الأيسر والأنجع والأمثل، مع قراءة ما يسوقه المتخصصون والمنظّرون من التنبّه إلى أخطار فقدان الثقافة بريقها، أو الاستثمار في الثقافة دون وجود قيم وأصالة تحفظ للموروث حضوره وللثقافة وهجها، إذ تبدو هذه المسألة في غاية الأهميّة ونحن نتحدث عن الابتكار الثقافي، وفي ذلك يكثر الحديث ويتم تناول الموضوع من أكثر من جانب.
على أنّ الدولة/النموذج (الإمارات)، والتي سنقرأ من خلالها أهميّة فكر التجديد أو الابتكار وقراءة الاستثمار الواعي في هذا الموضوع، إنّما هي دولة تعي وتدرك جيّداً هذا الأمر، فهي تسير خلال المتاح وتتأمّل بنيته ومادته الثقافيّة، لتروّج له وتعمل على تيسيره وتقديمه للجميع، بل وفهم المعنى الاقتصادي المتضمّن في هذا النوع من الابتكار، أي الابتكار الثقافي، في أن تدرّ الصناعات الثقافيّة والإبداعيّة دخلاً جيّداً، فنكون قد حققنا عن طريق الابتكار الشهرة وانتشار المنتج الثقافي، وحافظنا على القيمة الجماليّة المتضمّنة والمميزة لمفردات الثقافة والفنون، والأرقام والنسب الإحصائيّة التي تطالعنا بها مراكز الدراسات والصحف، تعطينا مؤشراً مفرحاً على حجم المنجز قياساً إلى النسبة العربيّة والعالميّة المتحققة في هذا الموضوع.
اقتصاديّات الثقافة
ويؤكّد المتخصصون في هذا الشأن والمهتمون وبما يعرف بـ«اقتصاديّات الثقافة»، أهميّة العمل على الإبداع أو الابتكار أو الخلق أو تقديم النوعي والمفيد في الموضوع الثقافي، بشقّيه الوظيفي والثقافي، مع الحفاظ على الجماليات والإرث والأصالة والروح، وما يتخلل كلّ ذلك من عادات وموروث، فنكون قد وصلنا إلى مرحلة التجديد والإضافة بالوعي والفهم إلى أين نحن سائرون.
وقد عملت دولة الإمارات العربيّة المتحدة على تحقيق الوجهة الإبداعيّة للعالم، ومثال ذلك ما حققته استراتيجيّة دبي للاقتصاد الإبداعي، نحو أن تكون دبي وجهةً مفضلة لكلّ المبدعين، بل وعاصمةً للاقتصاد الإبداعي، فتضاعف عدد الشركات الإبداعيّة في مجالات المحتوى والتصميم والثقافة إلى 15 ألفاً، وتضاعف عدد المبدعين إلى 140 ألفاً، ترفد ذلك كلّه المؤسسة الثقافية ذات العلاقة، مثل «مركز محمد بن راشد للابتكار الحكومي عام 2014، وذلك لتعزيز تنافسيّة حكومة دولة الإمارات العربية المتحدة، لتصبح ضمن الحكومات الأكثر ابتكاراً على مستوى العالم.
ويؤثّر هذا التوجّه الواعي على موضوع الابتكار، بالربط بين كلّ المتغيرات والأسباب التي تدعم هذا الأمر، وهو عمل تكاملي تتم فيه قراءة محفّزات الإبداع والتقنيات والإضافة والمواكبة العصريّة للتكنولوجيا، ويأتي دعم الدولة ليكلل كلّ ذلك، ولهذا كانت مواضيع تحدّي القراءة والترجمة ونسب الريادة وخطّة اقتصاديات الإبداع، كهدف وطموح، بل لقد كانت منصّة «ابتكر»، التي طوّرها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، تصبّ في هذا الاتجاه، كمنصّة تفاعليّة، وتوصف بأنّها الأولى من نوعها باللغة العربية للابتكار الحكومي، لصنع جيل من المبتكرين العرب وقادة المستقبل. ولتوضيح أهميّة هذه المنصّة، فقد كان هدفها الوصول إلى 30 مليون مشارك عالمياً، إضافةً إلى تنفيذ دبلوم في الابتكار بالتعاون مع جامعة كامبريدج بالمملكة المتحدة، كدبلوم يعدّ الأول من نوعه أيضاً، لإعداد جيل من الرؤساء التنفيذيين للابتكار في الجهات الحكومية، وكذلك استحداث منصب الرئيس التنفيذي للابتكار في كلّ جهة حكومية اتحاديّة، وهو ما يؤكّد نظرة الدولة الواعية والواثقة نحو المستقبل، بما في ذلك من ريادة ونبوغ معرفي وتقني وتحقيق نسب عالية في موضوع الابتكار.
دعم الابتكار
وفي مجال رؤية الدولة أيضاً ورسالتها، يمكن وبكلّ جدارة أن نذكر «صندوق محمد بن راشد لدعم الابتكار»، والذي تبلغ قيمته 2 مليار درهم، وكذلك مبادرة «أفكاري»، الرامية إلى تشجيع موظفي الجهات الحكومية الاتحادية على تقديم أفكارهم ومشاريعهم المبتكرة، ويؤكّد كلّ ذلك ما يسمّى بـ«مسرّعات دبي المستقبل»، لصنع منصّة عالميّة متكاملة لصناعة مستقبل القطاعات الاستراتيجيّة، وكذلك خلق قيمة اقتصاديّة قائمة على احتضان وتسريع الأعمال وتقديم الحلول التكنولوجيّة في المستقبل.
إنّ «شهر الابتكار»، كموضوع عملي وعلمي أيضاً في دولة الإمارات العربيّة المتحدة، هو شهر يستحق الحفاوة والاعتزاز المجتمعي بما انعكس على الأجيال من ثمار موضوع الابتكار، أمام تحديات القادم التكنولوجي الذي لا تستطيع أيّ دولة واعية أن تقف على الحياد منه، فإمّا أن ندخل بقوّة أو ننعزل عن العالم وما يحيط بنا من ثورة معرفيّة وتكنولوجيّة، فأجندة دبي المستقبل، دليل على التحدي والإيمان بالمخرجات المهمّة، كمبادرات رائدة عالمياً، كما في استراتيجيّة دبي للطباعة ثلاثيّة الأبعاد، واستراتيجيّة دبي للقيادة الذاتيّة، والمجلس العالمي للتعاملات الرقميّة، ومتحف المستقبل ومرصد المستقبل، وتنظيم بطولة العالم لرياضات المستقبل.
ولهذا، فإنّ كلّ ما ذكر يدور حول المستقبل، بما يحمله هذا المفهوم من تحديات، وفي الصميم من ذلك، كان «متحف المستقبل» بانوراما رائعة على مستقبل العالم، كمتحف تمّ تغذيته بأحدث الإنجازات التقنية وآخر الاكتشافات العلميّة، إذ اعتبر هذا المتحف مختبراً شاملاً لتقنيات المستقبل وأفكاره، لندخل إلى الاستثمار في العقل المبدع ودعم الأفكار والمشاريع الرياديّة والمبادرات والأبحاث التي تضيف قيمةً نوعيّة وتسهم في تحقيق التأثير الإيجابي، وفي السياق علينا أن نذكر أهميّة موضوع الطباعة ثلاثيّة الأبعاد، وما تشتمل عليه من مزايا تنافسيّة مرتبطة بالكلفة المنخفضة، والسرعة في الإنجاز، باعتبار ذلك يشكّل نموذجاً عصريّاً في التصميم.
ولا يقف الأمر عند هذا الحدّ، بل إنّ الطموحات تتواصل في دولة الإمارات العربيّة في استحقاقات هذا العصر والابتكار الذي بات أمراً واقعاً فيه، ففي النسخة السادسة من «هاكاثون الإمارات»، كانت هناك قراءة تستشرف المستقبل، حتى سنة 2031، بما في ذلك من تعزيز للهوية الوطنيّة وتعزيز الاستدامة وتطوير الرؤية والمؤشرات والمخرجات، وكذلك توسيع الشراكات.
أمّا «قمّة الابتكار» التي عقدتها الإمارات، سنة 2016، فكانت رؤية تؤسس لكلّ هذا النجاح الذي نعيش، خاصةً القراءة المبكّرة لدور الابتكار في موضوع الاقتصاد المعرفي، وتعزيز استخدام الحاسوب والأجهزة الذكية في المدارس، والاهتمام بالتعليم الإلكتروني في الدولة، والمؤسسات البحثيّة والمعاهد التقنية لتعزيز الإبداع والابتكار، والمجمعات المتنوعة، في إطار حفز ثقافة التعليم الإلكتروني في القطاعات الحكومية وشبه الحكومية والخاصة، وإطلاق العديد من البرامج التي جاءت في سياق رؤية الدولة لما نحن مقبلون عليه من تحديات التقدّم والتحوّل الرقمي والحاجة إلى ابتكارات تدعمها وتشجعها الأعمال المؤسسية في الدولة.
من ناحية أخرى فإن دولة الإمارات العربية المتحدة لها حضورها في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، في تحقيق أكبر قطاع إبداعي يعتمد على تصدير المنتجات والخدمات الإبداعية، وقيمتها 13.7 مليار دولار أميركي.
إنّ الابتكار، وبما يحمله من تغيير إيجابي في المضامين والأسلوب والأفكار، ومن عمليات إبداعيّة معقدة تغذيها تدفقات المعرفة والتنوّع الإبداعي في المجتمع، نحو الصناعات الثقافيّة والإبداعيّة، والتصميمات المتوقّعة في الآداب والفنون والموسيقى والأزياء والمهارات الحياتيّة الأخرى، هو مفهوم جدير بقراءته، وهو في دولة الإمارات العربيّة المتحدة، وكما هو واضح، محمولٌ على جناح ثقة الدولة وقيادتها الرشيدة بالمردود الثقافي والحضور القويّ للإمارات في العالم، ولهذا فالمعايير الإبداعيّة تحتاج دائماً إلى قراءة وإعادة قراءة وفهم للتحديات وسبل تقديم الحلول.