رويترز: داعش يعلن مسؤوليته عن هجوم موسكو
تاريخ النشر: 23rd, March 2024 GMT
بغداد اليوم -
المصدر: وكالة بغداد اليوم
إقرأ أيضاً:
التلاعب بالمقدس.. داعش وتوظيف الدين لتعزيز مشروعه الإرهابي
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
تعكس افتتاحية العدد 487 من صحيفة "النبأ" الصادر مساء الخميس 20 مارس 2025، أحد النماذج الأكثر وضوحًا للخطاب الدعائي الذي يعتمده تنظيم داعش في تجنيد الأتباع وترسيخ أيديولوجيته. يقوم هذا الخطاب على إعادة تأويل النصوص الدينية بشكل انتقائي، حيث يتم توظيف آيات قرآنية وأحاديث نبوية في سياقات مشوهة، بهدف إضفاء الشرعية على مشروعه القتالي. ومن خلال التلاعب بالمفاهيم الشرعية مثل "الجهاد"، و"الابتلاء"، و"الولاء والبراء"، يسعى التنظيم إلى خلق صورة ذهنية محددة عن أتباعه باعتبارهم جزءًا من صراع مقدس، يجب أن يخوضوه دون تردد أو تراجع.
في هذا التحليل، سيتم تفكيك أبرز الرسائل التي يسعى هذا الخطاب إلى تكريسها، عبر استعراض كيفية توظيف النصوص الدينية، وأساليب استثارة العواطف الدينية لتعزيز عقيدة القتال والاستشهاد. كما سيتم التطرق إلى السياقات التي جاء فيها هذا الخطاب، وعلاقته بالمتغيرات الميدانية التي يواجهها التنظيم، بالإضافة إلى آثاره المحتملة على أتباعه والمجتمعات المستهدفة.
أولًا: التوظيف الديني وإعادة تأويل النصوصتعتمد افتتاحية صحيفة "النبأ" على توظيف النصوص الدينية – من آيات قرآنية وأحاديث نبوية – بهدف إضفاء شرعية دينية على خطاب تنظيم داعش. ويقوم هذا التوظيف على عملية انتقائية دقيقة، يتم خلالها اختيار النصوص التي تتناسب مع رؤيته الأيديولوجية، وإعادة تأويلها بحيث تدعم مشروعه القتالي وتبرر العنف الذي يمارسه. فالتنظيم يسعى إلى بناء تصور ديني مغلق، يقوم على اعتبار الصراع والقتال جزءًا لا يتجزأ من العقيدة، ويصور العنف باعتباره طريقًا محتمًا لمن أراد تحقيق الإيمان الكامل. ومن خلال هذا التأطير، تصبح أي دعوة إلى السلم أو التسامح، أو حتى إلى اجتهاد فقهي مغاير، نوعًا من الضعف أو المهادنة التي ينبغي رفضها.
يُلاحظ في هذا الخطاب أن هناك تركيزًا متعمدًا على مفهوم "الابتلاء" كعنصر جوهري في طريق الإيمان، بحيث يُقدَّم كمسار لا ينفصل عن "الجهاد"، ما يؤدي إلى خلق معادلة خطيرة تساوي بين الإيمان الحقيقي والمشاركة في العمليات القتالية. فبحسب هذا الطرح، فإن المؤمنين لا بد أن يتعرضوا للاضطهاد والمحن، وهو أمر طبيعي بل مطلوب، لأن ذلك – وفق التفسير الداعشي – جزء من السنن الكونية التي تثبت صدق العقيدة. وبهذا، يتم تسطيح المعاني الواسعة للابتلاء، وتحويله إلى أداة نفسية تحفّز على تقبل العنف والموت كقدر حتمي، بدلًا من تقديمه في سياقه الأصلي الذي يتسع ليشمل جوانب مختلفة من الاختبار الإلهي، وليس فقط الصراع المسلح.
إلى جانب ذلك، يعتمد التنظيم على تأويل متحيز للنصوص الدينية، متجاهلًا السياقات التفسيرية المختلفة التي قدّمها العلماء والفقهاء عبر التاريخ. فبدلًا من النظر إلى هذه النصوص ضمن إطارها الشامل الذي يوازن بين مقاصد الشريعة ومقتضيات الواقع، يتم اجتزاؤها وإعادة توظيفها بحيث تدعم فكرة الصراع المستمر وتبرر قتل المخالفين. هذا النوع من التأويل لا يعترف بالتنوع الفقهي أو بالمقاربات الوسطية التي طرحها علماء المسلمين، والتي تقوم على التدرج في الأحكام ومراعاة الظروف والقدرة والاستطاعة، بل يختزل الدين في بعده القتالي فقط.
والنتيجة النهائية لهذا التوظيف هي خلق منظومة فكرية مغلقة، ترفض أي اجتهاد خارج الأطر التي يرسمها التنظيم. فالأفراد الذين يتبنون هذا التصور لا يُسمح لهم بالتساؤل أو مراجعة النصوص وفق مناهج التفسير المعتدلة، بل يتم دفعهم إلى تبني قراءة أحادية متشددة تجعل من العنف وسيلة وحيدة لتحقيق "التمكين" و"إقامة دين الله في الأرض". وهكذا، يتم تبرير الجرائم التي يرتكبها التنظيم من خلال إعادة تشكيل الوعي الديني وفق قوالب أيديولوجية ضيقة، تحوّل مفاهيم روحية كالصبر والابتلاء إلى دعوة مفتوحة لممارسة العنف بلا حدود.
ثانيًا: استراتيجيات الإقناع والتعبئةيستخدم النص عددًا من الاستراتيجيات الخطابية لإقناع القارئ بضرورة الانخراط في مشروع التنظيم:
التماهي مع الأنبياء والرسليعتمد الخطاب الداعشي على استراتيجية التماهي مع الأنبياء والرسل، حيث يصوّر أتباع التنظيم على أنهم الامتداد الطبيعي لمسيرة النبوة، يواجهون نفس التحديات ويخوضون ذات الابتلاءات التي تعرض لها الأنبياء وأتباعهم عبر التاريخ. من خلال هذا التقديم، يتم منح عناصر التنظيم إحساسًا بالقيمة التاريخية والشرعية، فيرون أنفسهم ليس فقط كمجاهدين، بل كورثة لمشروع إلهي خالد، يحملون راية التوحيد في وجه الطغيان، تمامًا كما فعل الأنبياء. هذا الطرح يخلق شعورًا بالتمايز والتفوق على بقية المسلمين، حيث يتم تصوير العالم على أنه منقسم بين "أتباع الحق" – أي التنظيم – و"المتخاذلين" أو "المنافقين" الذين لم يسلكوا طريق القتال. وبالتالي، فإن أي معاناة يمر بها أتباع التنظيم تُفسَّر على أنها امتداد للابتلاءات التي واجهها الأنبياء، مما يعزز لديهم الإصرار والاستعداد لمزيد من التضحية دون مراجعة أو مساءلة.
هذا التماهي يعكس أيضًا محاولة التنظيم إضفاء بُعد قدسي على مشروعه العنيف، بحيث لا يُنظر إلى خسائره البشرية أو هزائمه العسكرية باعتبارها فشلًا أو تراجعًا، بل كمراحل ضرورية في طريق النصر، على غرار ما تعرض له الأنبياء قبل أن يحققوا غاياتهم. وبهذا، يتم تسكين أتباع التنظيم نفسيًا عبر سردية "الابتلاء الإلهي"، التي تجعلهم يرون في القتل والملاحقة والتضييق عليهم دليلًا على صحة طريقهم، بدلًا من أن يدفعهم ذلك إلى إعادة التفكير في شرعية أفعالهم. كما أن هذه السردية تعزلهم عن أي خطاب ديني آخر، إذ يتم تقديم أي انتقاد لهم على أنه تكرار لما تعرض له الأنبياء من إنكار وتكذيب من أقوامهم، مما يعمّق القطيعة مع بقية التيارات الإسلامية، ويجعلهم أكثر التصاقًا بأيديولوجيتهم العنيفة.
ثنائية النصر أو الشهادةيركّز الخطاب الداعشي على معادلة صفرية لا تتيح مجالًا لأي خيارات وسطية، إذ يتم تقديم المسار الوحيد المتاح لأتباع التنظيم على أنه محصور بين خيارين لا ثالث لهما: إما تحقيق النصر وإقامة ما يسمى "دولة الإسلام"، أو الموت في سبيل الله، الذي يتم تصويره على أنه أعظم أشكال الفوز. هذا التصور يلغي تمامًا أي احتمالية للهزيمة أو التراجع، إذ إن التنظيم يعيد تعريف مفهوم "النصر" بحيث لا يقتصر على تحقيق الأهداف السياسية والعسكرية، بل يمتد ليشمل الموت ذاته باعتباره انتصارًا روحيًا. وبهذا، يتم تحويل أية خسارة عسكرية إلى مجرد محطة في "مسيرة الجهاد"، مما يعزل عناصر التنظيم عن التفكير الواقعي في استراتيجياتهم أو تقييم نتائج أفعالهم. كما أن هذه الثنائية تلغي أهمية أي بدائل أخرى، مثل الحلول السياسية أو المراجعات الفكرية، مما يجعل العنف الخيار الأوحد والمستمر.
هذا الطرح يُسهم في ترسيخ ثقافة الاستماتة في القتال، حيث يصبح الانتحار في العمليات القتالية أو رفض الاستسلام خيارًا مبررًا، بل ومطلوبًا. فبما أن الموت في ميدان المعركة يُعد انتصارًا، فإن التنظيم لا يجد حرجًا في التضحية بأتباعه في معارك غير متكافئة، طالما أن النتيجة النهائية – سواء بالنصر أو بالموت – تضمن لهم "الفوز" وفقًا لمنطقهم. إضافة إلى ذلك، فإن هذه الثنائية تخلق حالة من العزلة النفسية والفكرية لدى الأفراد، حيث يشعرون بأن خروجهم من التنظيم أو تراجعهم عن القتال يُعد نوعًا من الخيانة لله وللرسالة التي يحملونها. بهذه الطريقة، يتحول كل فرد داخل التنظيم إلى مقاتل مستعد للتضحية حتى النهاية، غير آبه بأي تكلفة بشرية أو إستراتيجية، ما يفسر وحشية التنظيم في معاركه وإصراره على القتال حتى آخر رمق.
شيطنة الخصوم وتكفير المعارضينلا يقتصر الخطاب الداعشي على استهداف الأعداء التقليديين من غير المسلمين أو القوى التي تحاربه عسكريًا، بل يمتد ليشمل المسلمين الذين لا ينضمون إلى صفوفه، حيث يتم تصنيفهم ضمن فئات ازدرائية مثل "القاعدين" أو "اللاهثين خلف الدنيا". من خلال هذا التصنيف، يتم نزع الشرعية الدينية عن هؤلاء المسلمين، ووصمهم بالتخاذل أو النفاق، مما يبرر استهدافهم بالتحريض أو حتى العنف. كما أن هذا النهج يمنح التنظيم ميزة تعبئة أتباعه نفسيًا، إذ يشعرون بأنهم جزء من "الطائفة المنصورة"، التي تواجه ليس فقط أعداء الإسلام، بل أيضًا "الخونة" من داخل الأمة الإسلامية نفسها. هذه السردية تُستخدم كأداة لخلق القطيعة بين أفراد التنظيم ومجتمعاتهم الأصلية، مما يعزز انعزالهم ويمنع أي فرصة لإعادة النظر في خياراتهم أو التأثر بآراء معارضيهم.
إضافة إلى ذلك، فإن تكفير المعارضين وإخراجهم من دائرة الإسلام يضفي طابعًا دينيًا على أي صراع يخوضه التنظيم، بحيث لا يُنظر إلى النزاعات بوصفها خلافات سياسية أو عسكرية، بل باعتبارها صراعًا بين "الإيمان" و"الكفر". وبهذا، يصبح كل من يرفض الانضمام إلى التنظيم أو يعارض أيديولوجيته عدوًا شرعيًا، حتى لو كان مسلمًا. هذه المقاربة تؤدي إلى تعميق الانقسامات داخل المجتمعات الإسلامية، حيث يتم دفع الشباب نحو التطرف من خلال تأجيج مشاعر العداء تجاه محيطهم، ما يخلق بيئة من العنف المستمر. كما أن هذه النظرة الإقصائية تمنع أي جهود للحوار أو المصالحة، إذ يُنظر إلى كل من يخالف التنظيم على أنه إما ضالٌّ أو متواطئ، وبالتالي يصبح التعامل معه بالعنف مبررًا دينيًا
تحقير الحياة الدنيايعتمد الخطاب الداعشي على استراتيجية نفسية مدروسة تقوم على تحقير الحياة الدنيا وتصويرها على أنها زائلة وتافهة، في مقابل تعظيم "الحياة الأبدية" في الآخرة. يتم تكرار هذه الفكرة في النصوص الدعائية للتنظيم عبر استدعاء آيات قرآنية وأحاديث نبوية تركز على سرعة انقضاء الدنيا وهشاشتها، بحيث يتم إقناع الأتباع بأن التعلّق بالحياة أو السعي إلى العيش الكريم مجرد وهم لا يستحق السعي وراءه. هذا التوجه يساعد في تقليل خوف الأفراد من الموت، بل يجعلهم يتقبلونه بصدر رحب، حيث يُقدَّم لهم الموت، خاصة إذا كان في المعارك أو العمليات الانتحارية، على أنه مفتاح الخلاص والفوز الحقيقي. بهذه الطريقة، يتم إعادة برمجة الأفراد نفسيًا ليتجاوزوا غريزة حب البقاء، مما يجعلهم أكثر استعدادًا للمخاطرة بحياتهم دون تردد.
إضافة إلى ذلك، فإن تصوير الدنيا على أنها بلا قيمة يُستخدم كوسيلة لإضعاف الروابط العائلية والاجتماعية لدى الأفراد الذين يفكرون في الانضمام إلى التنظيم. فحين يُقنع الشاب بأن حياته الحالية، بما فيها من عائلة وأحلام وتطلعات، ليست سوى "سراب زائل"، فإنه يصبح أكثر تقبلًا لفكرة ترك كل شيء خلفه والانخراط في القتال دون إحساس بالخسارة. هذه الحيلة النفسية لا تقتصر فقط على تسهيل تجنيد الأفراد، بل تُستخدم أيضًا لإقناعهم بقبول أساليب التنظيم الوحشية، إذ يتم تحييد أي اعتبار لقيمة الحياة البشرية، سواء كانت حياتهم أو حياة الآخرين، ما يجعل القتل والتدمير جزءًا من "التضحية المحمودة" التي يجب تقديمها من أجل "النصر الأخروي".
السياقات والدلالات1. تراجع نفوذ داعش ميدانيًا ومحاولات إعادة تعبئة الأتباع
تأتي هذه الافتتاحية في وقت يواجه فيه تنظيم داعش تراجعًا كبيرًا في نفوذه الميداني، بعد أن خسر معظم الأراضي التي كان يسيطر عليها في العراق وسوريا، وتعرضت بنيته العسكرية واللوجستية لضربات قاسية. في هذا السياق، يسعى التنظيم إلى إعادة تعبئة عناصره الذين قد يشعرون بالإحباط أو الشك في جدوى استمرار القتال، وذلك من خلال خطاب يركز على مفهوم "الابتلاء" و"الثبات على الحق". فبدلًا من الاعتراف بالهزائم الميدانية أو مراجعة استراتيجياته، يعمل داعش على تحويل التراجع العسكري إلى اختبار إلهي، محاولًا إقناع أتباعه بأن هذا جزء من السنن الكونية التي مرت بها الأمم المؤمنة عبر التاريخ. بهذه الطريقة، يتم إعادة تدوير الفشل إلى عنصر تحفيزي يعزز تماسك القاعدة المتبقية من مقاتليه ويمنع الانشقاقات.
2. استمرار محاولات التجنيد واستغلال مشاعر الإحباط
يتجلى في الافتتاحية محاولة التنظيم جذب عناصر جديدة، خصوصًا من بين الشباب الذين يعانون من الإحباط واليأس نتيجة الأوضاع الاقتصادية والسياسية المتردية في بعض الدول. يقدم الخطاب "الجهاد" على أنه الحل الوحيد للخروج من المآزق التي تواجه الأفراد والمجتمعات، حيث يتم تصوير الحياة خارج التنظيم على أنها حياة عبودية للطواغيت، بينما الانضمام إليه يُقدَّم كطريق للخلاص والكرامة. هذه الرسالة تستهدف بشكل خاص الفئات المهمشة، سواء في الدول الإسلامية أو في صفوف المسلمين في الغرب، الذين قد يشعرون بالعزلة والتمييز. من خلال استغلال هذه المشاعر، يخلق داعش صورة مثالية عن الانتماء إليه، باعتباره يمنح الفرد "هدفًا ساميًا" ومعنى لحياته، حتى لو كان ذلك المعنى قائمًا على العنف والتدمير.
3. التنافس مع الحركات الجهادية الأخرى والتأكيد على "نقاء المنهج"
تبرز في الافتتاحية نبرة واضحة من التمايز عن الحركات الجهادية الأخرى، لا سيما تنظيم القاعدة وبعض الفصائل المسلحة الأخرى التي تختلف مع داعش في منهجيته المتطرفة. يحرص التنظيم على إبراز نفسه باعتباره الممثل الوحيد "للمنهج الصحيح"، ويوجه انتقادات مبطنة لمن يصفهم بـ"المتخاذلين" أو "الباحثين عن حلول وسطية"، في إشارة إلى الفصائل التي فضّلت التركيز على قتال الأنظمة المحلية دون تبني مشروع "الخلافة العالمية". هذه الرسائل ليست موجهة فقط للعدو الخارجي، بل أيضًا لاستقطاب عناصر من داخل التيار الجهادي نفسه، ممن قد يكونون في حالة تردد بين الولاء لداعش أو لمجموعات أخرى. من خلال تصوير نفسه على أنه الكيان الأكثر التزامًا بالمبدأ الجهادي، يسعى داعش إلى الحفاظ على شرعيته داخل المشهد الجهادي العالمي وضمان استمرار تدفق المقاتلين إليه.
4. إعادة إنتاج السردية الجهادية في ظل المتغيرات السياسية والعسكرية
تحاول الافتتاحية التكيف مع المتغيرات السياسية والعسكرية من خلال إعادة صياغة السردية الجهادية بما يتلاءم مع الواقع الجديد. فبدلًا من الخطاب الذي كان يركز سابقًا على التوسع والفتح والتمكين، باتت الرسائل الدعائية للتنظيم تركز بشكل أكبر على "الصبر والثبات" و"المرابطة في سبيل الله"، في محاولة لتبرير خسارته للأراضي والمواقع الاستراتيجية. هذا التكيف يعكس إدراكًا من قبل قادة داعش لأهمية الخطاب الإعلامي في الحفاظ على الروح المعنوية لأتباعهم، حيث يتم تأطير المعاناة والتراجع على أنهما جزء من "المحنة المؤقتة" التي ستسبق النصر الحتمي. بهذه الطريقة، يسعى التنظيم إلى إبقاء جذوة "المشروع الجهادي" مشتعلة، رغم كل الهزائم التي تعرض لها.
الآثار المحتملة للخطاب1. تعزيز الروح القتالية وربط العنف بالعقيدة
يهدف الخطاب إلى تكريس القتال كجزء لا يتجزأ من العقيدة الإسلامية، بحيث يصبح "الجهاد" كما يقدمه التنظيم، ليس مجرد خيار عسكري، بل واجب ديني مرتبط بمصير الفرد في الآخرة. يتم تصوير ساحات القتال على أنها اختبارات إيمانية، حيث يتحدد موقف الإنسان بناءً على استعداده للقتال والتضحية. هذا الربط بين العقيدة والعنف يجعل من الصعب على الأفراد التراجع أو إعادة النظر في انتمائهم، لأن ذلك قد يُفسَّر على أنه ضعف في الإيمان أو خيانة للمبدأ، مما يدفعهم إلى الاستماتة في القتال وعدم التفكير في بدائل سلمية.
2. إضعاف أي بوادر انشقاق داخلي والتشديد على العقيدة القتالية
يمثل الخطاب أداة لمنع أي تفكك داخلي محتمل داخل التنظيم، خصوصًا بعد الضربات التي تعرض لها في السنوات الأخيرة. يتم التشديد على مفاهيم مثل "الولاء والبراء" و"الثبات على الطريق"، مما يجعل أي محاولة لمغادرة التنظيم أو التشكيك في توجهاته بمثابة خيانة كبرى تستوجب العقاب. من خلال هذه الآلية، يخلق داعش بيئة داخلية مغلقة، حيث يتم تحصين الأتباع من أي أصوات معارضة، وإجبارهم على البقاء ضمن المنظومة خوفًا من الوصم بالخيانة أو التعرض للعقاب الجسدي.
3. استقطاب متعاطفين جدد، خصوصًا من الشباب المهمشين
يركز الخطاب على استغلال مشاعر الإحباط واليأس لدى فئات معينة، لا سيما الشباب الذين يشعرون بالظلم أو يعيشون في بيئات مضطربة سياسيًا واقتصاديًا. يقدم التنظيم نفسه على أنه الملاذ الوحيد الذي يمنح هؤلاء الأفراد "هدفًا ساميًا" لحياتهم، ويعدهم بالخلاص من مشكلاتهم الاجتماعية والنفسية عبر الانضمام إلى صفوفه. يتم تسويق "الجهاد" على أنه فرصة للتحرر من القيود التي فرضتها الأنظمة السياسية، والانتقام من الواقع الظالم، مما يجعل الخطاب مغريًا لبعض الفئات التي تبحث عن هوية وانتماء في ظل بيئات مفككة.
4. توسيع دائرة العداء والتهيئة لصراعات مفتوحة
لا يكتفي الخطاب بتحديد الأعداء التقليديين مثل الدول الغربية أو الحكومات المحلية، بل يسعى أيضًا إلى توسيع نطاق المواجهة ليشمل جميع من لا يتبنى فكر التنظيم، حتى لو كانوا من المسلمين أنفسهم. يتم تصنيف غير الموالين ضمن فئات مثل "المرتدين" أو "المنافقين"، مما يبرر استهدافهم وشن هجمات ضدهم. هذا النوع من الخطاب يخلق بيئة عدائية دائمة، ويؤسس لحالة من العنف المستمر الذي لا ينحصر في ساحة معركة معينة، بل يمتد إلى المجتمعات الإسلامية نفسها، مما يؤدي إلى تفتيتها وزيادة الانقسامات داخلها.
خاتمةتكشف هذه الافتتاحية عن البنية الأساسية للخطاب الداعشي، الذي يعتمد على إعادة تأويل النصوص الدينية في سياقات مشوهة، بهدف فرض رؤية أحادية تبرر العنف والقتال. فالتنظيم لا يسعى إلى تقديم مشروع ديني قائم على الفهم المتكامل للشريعة، بل يستخدم الدين كأداة لإضفاء الشرعية على استراتيجيته الحربية. من خلال هذا الخطاب، يتم تطويع المفاهيم الشرعية مثل "الجهاد" و"الولاء والبراء" بطريقة تحرض على الإقصاء وتؤسس لعقلية الصدام المستمر، مما يسهم في تفكيك المجتمعات الإسلامية من الداخل ويؤدي إلى حالة دائمة من النزاع والعنف.
إن مواجهة هذا النوع من الخطابات لا يمكن أن تقتصر على تفنيد تأويلاته المغلوطة فحسب، بل تتطلب أيضًا بناء مشاريع فكرية وثقافية تقدم بدائل مقنعة، قادرة على استيعاب الشباب الذين قد يجدون في هذه الخطابات ملاذًا نفسيًا واجتماعيًا. فالمعركة ضد التطرف ليست مجرد صراع عسكري، بل هي صراع فكري يستدعي جهودًا متكاملة من المؤسسات الدينية والثقافية والتعليمية، لتفكيك الأسس التي يستند إليها هذا الخطاب، وخلق فضاء فكري يسمح بالنقاش الحر والتأويل الرشيد للنصوص الدينية بعيدًا عن التوظيف الأيديولوجي المتطرف.