حروفٌ ومقاطع: صدى صوتِه المتفرِّد وترجيعُ رحيلِه الفاجع
تاريخ النشر: 23rd, March 2024 GMT
محمَّد خلف
كنتُ قد بدأتُ محاورةً شيِّقة مع صديقٍ مُقيمٍ في القلبِ قبل رحيلِه المؤلم إلى حدِّ الفجيفة، لا لأنَّه كان يقطُرُ ذكاءً وعذوبةً أو لأنَّه كان شخصاً متفرِّداً بامتياز، وإنَّما لأنَّ أغانينا السُّودانيَّة الشَّجيَّة سيغشاها بفقدِه أثرٌ من حزنٍ وستطالُها مسحةٌ من حسرة، كما أنَّ لغتنا اليوميَّة الحيَّة ستحِسُّ هي الأخرى بنوعٍ من اليُتم، إذ إنَّه كان يسهرُ دوماً على رعايتها ويرأفُ عليها بعطفِ ورِقَّةِ أمٍّ رؤوم؛ وفوق ذلك، كان يتفحَّصُ يوميَّاً مواضعَ شكواها ويبحثُ لها بين المعامل وغرف التَّدريس عن حلولٍ مؤقَّتة أو علاجاتٍ ناجعة.
وكانتِ المحاوراتُ بيننا بالطَّبع تدور في معظمها حول شأنٍ من شؤون اللُّغة؛ وفي تلك المرَّةِ قبل رحيله، كانتِ المحاورة تدورُ حول مستوياتِ اللُّغة. وقد اتَّفق معي هاشمٌ بشأنِ التَّقسيم الثُّلاثيِّ-السُّداسيِّ للمستويات (أي وجود قسمين بكلِّ مستوًى، أحدهما طبيعيٌّ و الآخر عُرفي: أصواتٌ وصوتيَّاتٌ بالمستوى الفونولوجيِّ الأسفل، وتركيبٌ وصرفٌ بالمستوى المورفولوجيِّ الأوسط، ودلالةٌ ومَقامٌ بالمستوي السِّيمانتيكيِّ الأعلى)؛ لكنَّه اختلف معي في أمرٍ جوهريٍّ بشأنِ استخدام المستويات؛ وكنتُ، ولا زلتُ، أعتقدُ أنَّ إيقاع اللُّغة ينبغي ألَّا يُبحَث عنه فقط في البنية الصَّرفيَّة بالمستوى الوسيط، جرياً على النَّهج العروضي الَّذي أرساه الخليلُ بن أحمد الفراهيدي في تقييد أوزان نظم الشِّعر العربي، وإنَّما يجب أن يتمَّ نِشدانُه أيضاً، وبشكلٍ أساسيٍّ، بالمستوى الصَّوتيِّ الأسفل الَّذي لا يُغطِّي النَّظم العربي فحسب، بل يتعدَّاه إلى منثورِ الكلامِ العربيِّ الفصيحِ أيضاً. ولم يكن بيديَّ ما يُعَضِّدُ زعمي، سوى حَدْسٍ موسيقيٍّ ينقُصُه تحقُّقٌ ضروري. أمَّا في هذه العُجالة، فإنَّنا سنُرسِي توجُّهاً جديداً على ضوءِ هذا الحدسِ الموسيقيِّ وذلك الاتِّفاقِ الأوَّلي مع هاشم؛ وأُشهِدُ اللهَ أنَّه كان من الصَّادقين ذوي العزمِ عفيفيِّ اللِّسان، هذا غير معرفته العميقة باللِّسانيَّات، وهي علمُ اللُّغة الحديث، الَّذي نوَّرَنا هاشمٌ بشأنِه في أوَّلِ فعاليَّةٍ لـ”جماعة تجاوز للثَّقافة والإبداع” في معهد الموسيقى والمسرح بمباني قصر الشَّباب والأطفال بأمدرمانَ في منتصفِ الثَّمانينيَّات.
في شأنِ الإيقاع، كما في كلِّ أمرٍ ذي شأن، ينبغي البحثُ عن الوحداتِ الأساسيَّة الَّتي يتركَّبُ منها المطلوبُ معرفتُه. ففي علم الفيزياء، ما زال البحثُ جارياً عن أصغرِ جُسَيْم، باتِّفاق العلماء منذ ديموقريطس بنِشدانِه في إطارِ الذَّرَّةِ أو في أحشائها؛ أمَّا علمُ الأحياء، فقد وجد ضالَّته في الجزيئات، باكتشافِ أشدِّها أهمِّيَّةً لتدورُنِنا، وذلك في بداية الخمسينيَّاتِ من القرن الماضي؛ وهو الحَمضُ الرِّيبيُّ النَّوويُّ منزوع الأكسجين (دي إن إيه)، الجزيءُ الحاملُ للشَّفرةِ الوراثيَّة. والإيقاعُ بحُكمِ أنَّه صوتٌ فيزيائي، فينبغي نِشدان وحدته الأساسيَّة في ما يوازي الذَّرة، وهو الحرف؛ وبحُكمِ أنَّه صوتٌ مرتبطٌ بصَنعَةٍ بشريَّة، فينبغي نِشدانه كذلك في ما يوازي الجزيء، وهو المقطع. وبما أنَّ الحرف الواحد هو في الأساس بابٌ واسع لمخارجَ صامتةٍ لا يتمُّ إنطاقُها إلَّا بالتَّحريك، فإنَّ المقطع في اللُّغةِ العربيَّة هو الَّذي يسمح بخروجِ الصَّوت من إحدى المخارج العديدة لكلِّ حرفٍ، بواحدةٍ من الحركات الثَّلاث (الفتحة والضمَّة والكسرة) أو إشباعها مَدَّاً إلى أن تُنتَجَ الحروفُ المدِّيَّة المشابِهة لها (الألف والواو والياء؛ وهي بخلاف الحروف الصَّحيحة: الهمزة والواو والياء المتحرِّكُ كلٌّ منها داخل مقاطعِها الحَدِّيَّة) أو بالوقفِ عليها عندما يسبُقُها حرفٌ متحرِّك (لَمْ – خُذْ – قِفْ)، حيث يُعطِيَ الوقفُ الحرفَ الأخيرَ قوامَه، بخلافِ التَّحريك الَّذي يُقلِقُ الحرف، فلا يستبينُ كاملُ قوامِه.
ممَّا سبق، يتَّضحُ أنَّنا نعتمدُ المقطعَ وحدةً أساسيَّةً للإيقاع؛ كما يُمكِنُ الاستنباطُ ممَّا وَرَدَ أعلاه أنَّنا نُميِّزُ ثلاثةَ أنواعٍ من المقاطع: مقطعٌ حَدِّيٌّ، ومقطعٌ مَدِّيٌّ، ومقطعٌ رَدِّي؛ فالمقطعُ الحَدِّيُّ هو الحروفُ العربيَّة المتحرِّكة جميعُها -وهي ثمانيةٌ وعشرون حرفاً- تبدأُ بالهمزة وتنتهي بالياء، فتُصبِحُ أربعةً وثمانينَ مقطعاً بالتَّحريكِ فَتحَاً وضَمَّاً وكَسرَا؛ والمقطعُ المدِّيُّ هو ذاتُ حركةِ الحرفِ الَّتي يتمُّ إشباعُها مدَّاً، إلى أن تُنتَجَ حروفُ المدِّ المشابِهة لها، وهي الألف والواو والياء، على التَّوالي؛ وتنضبطُ المدودُ في التَّراتيلِ القرءانيَّة، فلا تزيدُ عن مدَّةِ ستِّ حركات؛ وتزدادُ بلا حَدٍّ لها في الغناء، سوى حدودِ بنيةِ اللَّحنِ الغنائيِّ ذاتِه أو حَنجَرةِ المؤدِّي له؛ أمَّا المقطع الرَّدِّي، فهو الَّذي يُعطِي متَّسعاً لترديدِ الحرف، الَّذي تحرَّر بالوقفِ من التَّحريك الَّذي يُقلِقُه عن موضعه، كما جاء في “سرُّ صناعة الإعراب” لمؤلِّفه أبي الفَتْحِ عثمان بن جنِّي؛ ومن أمثلته، كما سلف، “لَمْ”؛ فميمُها هنا تأخُذُ مداها الكامل في التَّذَبذُبِ والاهتزاز بانحصارِ الصَّوتِ بالوقف عليها بالسُّكون، بينما لا تستقِرُّ لامُها المتحرِّكة بالفتحِ على حال، مثلما هو حالُها في “هَلْ” أو “قُلْ” أو “مِلْ” (قليلاً إلى اليسار). وهذه المقاطعُ الأساسيَّةُ الثَّلاثة تتساوى في أزمنتها القياسيَّة الَّتي يُمكِنُ تقديرُها بمدَّةِ حركتَيْن (على أن يضبُطَ التَّحقُّقُ المعمليُّ بالكسرِ من الثَّانية حجمَ الفروقاتِ الضَّئيلة الَّتي يُحدِثُها صدى الصَّوت باختلافِ الحروف النِّهائيَّة للمقاطع الرَّدِّيَّة)؛ وتُغطِّي هذه المقاطع كلَّ كلماتِ اللُّغة العربية، باستثناءِ تلك المفرداتِ الَّتي تنتهي بالتَّسكين المزدوح في بعضِ ما يُسمَّى بالمقاطع الطَّويلة، كما هو الحال في عامِّيَّاتِ العربيَّةِ العديدة وضروراتِ الشِّعر والحروفِ المقطَّعة والوقفِ في التَّرتيلِ القرءاني؛ على سبيل المثال، مُفرَدَتَا “حَقْلْ” أو “قَاْلْ”، فهُما في الأصلِ من مقطعَيْن: “حَقْ لُنْ” (مقطعانِ ردِّيَّان) و”قَاْ لَ” (مقطعٌ مدِّيٌ وآخرُ حدِّي)؛ كما يوجد استثناءٌ كذلك في ورودِ التَّسكينِ المزدوج في دَرَجِ كلمتين في القرآن، هُما: “الضَّالِّينَ” (“أَضْ ضَاْلْ ليْ نَ”)، و”مُدهامَّتانِ” (“مُدْ هَاْمْ مَ تَاْ نِ”)؛ وهذا لم يحدُث إلَّا لتوقُّع حتميَّةِ الوقفِ بعد الكلمتَيْنِ المذكورتَيْن.
وقبل أن نبدأ في ضربِ أمثلةٍ من الحقل الأثير للرَّاحلِ المُقيم هاشم محمَّد صالح، سنُخصِّصُ هذه الفقرة للبنية الموسيقيَّة للمقاطع ومضاهاتِها بالتَّفعيلاتِ المضمَّنة في الدَّوائر العروضيَّة الَّتي استخرج منها الخليلُ بن أحمد بُحُورَه الخمسةَ عشرَ، و البحرَ السادسَ عشرَ الَّذي استدركه عليه الأخفشُ الأوسط، كما جاء في “المرشد لفهم أشعار العرب وصناعتها”، لمؤلِّفه العالم الجليل عبد الله الطَّيِّب المجذوب. وأوَّل ما نُشيرُ إليه بصدد البنية الموسيقيَّة للمقاطع هو أنَّها تعتمِدُ على مادَّةٍ من حرفَيْن، هما [ت م]، إضافةً إلى الحركات والسُّكون فقط؛ ففي المقطع الحدِّيِّ الَّذي يشمل جميع أحرف العربيَّة، نجد أنَّ بنيَتَه الموسيقيَّة تتكوَّن من ثلاثةِ أحرفٍ متحرِّكة هُنَّ عبارة عن ثلاثِ نغماتٍ: “تَ”، “تُ”، “تِ”؛ والبنية الموسيقيَّة للمقطعِ المدِّيِّ هي: “تَا”، “تُو”، “تِي”؛ إلَّا أنَّ البنية الموسيقيَّة للمقطع الرَّدِّيِّ هي: “تَمْ”، “تُمْ”، “تِمْ”؛ وبهذه النَّغماتِ التِّسع، يُمكِنُ إيجاد البديل الموسيقي لكلِّ الكلماتِ الواردة في قواميسِ اللُّغةِ العربيَّة. من جانبٍ آخر، فإنَّ الدَّوائر العروضيَّة تستمِدُّ أوزانَها من مادَّةٍ أساسيَّة مكوَّنة من ثلاثةِ أحرف [ف ع ل]، إضافة إلى الحركات والمدود والزَّوائد، كحرف الميم والسِّين والتَّاء والنُّون، مثالٌ لذلك: “مُفَاعَلَتُنْ”، و”مُسْتَفْعِلُنْ”، و”فَعُولُنْ”، و”مَفَاعِيلُن”، و”مَفْعُولاتُ”؛ فإذا أخذنا المثالَ الأوَّل، فإنَّ مقاطعَه ستكونُ على النَّحو التَّالي: “مُ فا عَ لَ تُنْ”، وبالتَّالي، سيُصبِحُ وزنُها: “تُتَاتَتَتُمْ” (وبتفريقِ المقاطع، تُصبِح: تُ تَا تَ تَ تُمْ). وعلى هذا المنوالِ، يعملُ البديلُ الصَّوتيُّ للأوزانِ الصَّرفيَّة؛ وفي حين أنَّ التَّفعيلات الخليليَّة تنشَغِلُ في المعتاد بنظمِ الشِّعر، نَجِدُ أنَّ الأوزانَ الصَّوتيَّة المُقترَحة تُغطِّي كلَّ مفرداتِ التَّعبيرِ اللُّغوي؛ ليس ذلك فقط، بل تُعالِجُ عِدَّةَ ظواهرَ موضعيَّةٍ كالنَّبرِ والتَّنغيمِ والقلقلة، كما سوف يتَّضحُ من الأمثلةِ الواردة في الفقراتِ التَّالية.
أوَّلُ مثالٍ نضرِبُه هو شعارُ الثَّورةِ السُّودانيَّةِ الأساسي (وكم كان هاشمٌ سيُدهِشُنا بتحليلاتِه الرَّصينة وانتقاداتِه المنضبطة): “تَسْقُطْ بَسْ”، ومقاطعُه الثَّلاثة هي: “تَسْ”، “قُطْ”، “بَسْ”؛ وهي ثلاثةُ مقاطعَ رَدِّيَّةٍ متتالية؛ وبنيتُها الموسيقيَّة هي: “تَمْ”، “تَمْ”، “تَمْ”. وأوَّلُ ما نُلاحِظُه في الفرق بين صوت المقاطع وبنيتها الموسيقيَّة هو أنَّ الأخيرة تفتقِدُ الفروقَ الدَّقيقة الَّتي تُحدِثُها الأصواتُ البشريَّة باختلافِ حروفِها شدَّةً ورَخوا، وهمساً وجهرا، وترقيقاً وتفخيما؛ فمقاطعُ الشِّعارِ الثَّلاثة، ينتهي أوَّلُها وآخرُها بحرفِ السِّين المهموس، على فرقٍ ضئيلٍ بينهما؛ فالسِّين الأولى تُخطَفُ خَطفاً لالتحامِها بالمقطعِ الثَّاني (قُطْ)، ليُهيِّأَ ذلك بعد حرفَيْ قلقلةٍ إلى نَبرةٍ قويَّة على الباء في بدايةِ المقطعِ الثَّالث (بَسْ)، تُمهِّدُ بدورِها إلى استطالةِ صدى حرفِ السِّينِ الأخير، ليوازيَ المقطعُ الأخيرُ زمنَ المقطعَيْن الأوَّلَيْن (“تَسْ”، “قُطْ”). وهذا ما يُفسِّر الفرقَ بين أداءِ المغنِّي البارع والعزفِ المصاحِب له بالآلات الموسيقيَّة، عندما يفتقدُ العازفُ الحساسِّيَّةَ اللَّازمة الَّتي تُمكِّنه من تجويد أدائه لإعطاءِ إيحاءٍ بهذه الفروق، وإلَّا لَكانَ عزفُه (“تَمْ”، “تَمْ”، “تَمْ”) مجرَّدَ محاكاةٍ آليَّةٍ للشِّعار؛ وهو العيبُ الَّذي يُصاحِبُ معظمَ الأغاني السُّودانيَّة الجميلة، برغمِ هذا العيب الجوهري. إلَّا أنَّ فنَّاناً بقامةِ الرَّاحل محمَّد الأمين يعرِفُ كيف يُغطِّي هذا العيب، بحيثُ يتفوَّقُ العزفُ أحياناً على الغناء. ففي أغنية “جديات العسين”، على سبيل المثال، تقولُ كلماتُ الأغنيةِ التُّراثيَّة: “جديات العسين قَالَنْ لِيْ احمي رهودنا عن أسدِ الشَّرا وامنع ضواري فهودنا”؛ فيبدأُ أبو اللَّمين بأداءٍ سريع لهذا الجزءِ الاستهلاليِّ للأغنية، ثمَّ سرعان ما يلتفِتُ إلى مقاطعَ ثلاثةٍ مميَّزة، هي: “قَا”، “لَنْ”، “لِ” (مدِّيٌ وردِّيٌّ وحَدِّي)؛ ثمَّ يبدأُ في ترديدِها؛ ثمَّ يجعلُها قُطبَ الرَّحى لأداءِ الأغنيةِ بمُجمَلِه، فيُطيلُ المدَّ في المقطعِ الأوَّل، ويتصنَّتُ بأُذنَيْهِ المرهفتَيْنِ إلى صدى غُنَّةِ النُّون (اللَّصيقةِ بمفردةِ “أغنية”) في المقطعِ الثَّاني، ثمَّ يُشبِعُ الَّلامَ في المقطعِ الأخير، إلى أن يُنتِجَ منها مقطعاً مدِّيَّا، ثمَّ يُطيلُ المدَّ ذاتَه إلى حدِّ الطَّرب.
بالعودة إلى شعارِ الثَّورة ذي المقاطعِ الثَّلاثة، نلاحِظُ أنَّ المُنادينَ بمواصلةِ الحربِ قد بدَّلوه وقلَّصوه إلى مقطعَيْن: “بَلْ بَس”؛ وإنْ كانَ هذا الشِّعارُ المقلَّصُ تنقصُه الأصالة، فهو مجاراةٌ للثُّلاثي، إلَّا أنَّه لا يخلو هو الآخرُ من لمحاتٍ إبداعيَّة؛ فمقطعُه الأخير “بَسْ” يشتملُ على ردٍّ مُضمَرٍ لشعارِ الثَّورة ومُقفًّى معه، علاوةً على أنَّه متجانسٌ بحرفِ الباءِ في أوَّلِه؛ هذا غير أنَّه تذكيرٌ على مستوى الدَّال “بَلْ” بدلالةِ “البِلِّي”، وهو المقابلُ للقذائفِ والطَّلقاتِ في الاستخدام الدَّارج في أوساط الجنود؛ كما أنَّ الإيقاع اللَّفظيَّ للمقطعَيْن “تَمْ تَمْ” يُحاكي صوتَ القنَّاصين “طَقْ طَقْ” الَّذين يستهدفون الثُّوَّارَ الأبرياء ببضعِ رُصاصاتٍ غادِرَة. إلَّا أنَّ إبداع القَتَلَة يتضاءلُ ويسقُطُ في التَّقييمِ الأخلاقيِّ عند مضاهاتِه بإبداعِ شاعرِ البطانة محمَّد أحمد أبوسن الشَّهير بالحردلو، الَّذي يتغزَّل في الصَّيد وينأى بنفسِه عن إيذائه؛ وعلى المستوى الإبداعي، يُدرِكُ الشَّاعرُ الشَّعبيُّ الفطحل أهمِّيَّةَ التَّرخيم في مفردةِ “الشَّمس”، إذ يُحوِّلُها من ثلاثةِ مقاطعَ (“أَشْ”، “شَ”، مِسْ”؛ رَدِّيٌّ وحَدِّيٌّ ثمَّ رَدِّي؛ “تَمْ”، “تَ”، “تِمْ”) إلى مقطعَيْن (“أشْ”، “شَمْ”؛ مقطعانِ رَدِّيَّان؛ “تَمْ”، “تَمْ”)، لا ليُحاكي قَنصَ صَيدةٍ أو غزالة، وإنَّما يتصيَّدُ بها استباقيَّاً إيقاعَ مقاطعَ يأتي لاحقاً في صدرِ البيت: “الشَّمْ خَوَّخَتْ بَرَدَنْ لَيَالي الحَرَّة”، فإنقاصُ مقاطعِ المُفرَدَةِ بالتَّرخيم هو الَّذي مَهَّدَ قبل وقتٍ كافٍ إلى إحداثِ نَبرةٍ قويَّة في أوَّلِ مقطعٍ من كلمة “بَرَدَنْ”، علاوةً على تعزيزِ التَّنغيمِ بتتابعٍ سريعٍ لثلاثةِ مقاطع: “بَ”، “رَ”، “دَنْ”؛ مقطعانِ حَدِّيَّانِ وآخرُ رَدِّي؛ “تَ”، “تَ”، “تَمْ” (“تَتَتَمْ”)؛ وعلى مستوى الدَّلالة، يُسقِطُ هذا التَّتابعُ السَّريع للمقاطع في “بَرَدَنْ” الحاجةَ إلى استخدام أداةِ تعليلٍ لربط خفوتِ الشَّمسِ ببرودةِ الجو، لذلك يُصبِحُ لامُ التَّعليل وأيُّ عباراتٍ مرتبطة به أمراً زائداً في أحسنِ تقدير، إنْ لم تَخِلَّ كذلك بقوَّةِ الإيقاع.
عموماً، يفتحُ اعتبارُ المقطعِ أصغرَ وحدةٍ إيقاعيَّة مجالاً واسعاً للدَّارسينَ، خصوصاً في حقلِ تطوُّر العامِّيَّاتِ العربيَّة في السُّودان؛ فمن أجل هذا نُحِسُّ بالحُرقةِ في النَّفسِ والجارحة لرحيلِ هاشمٍ، لكنَّنا عبر هذا المقال نُهيبُ بزملائه وتلاميذِه مواصلةَ المسيرِ عبر ذاتِ المِسيارِ بتعرُّجاتِه الَّتي يفرِضُها أيُّ تطوُّرٍ ديناميكيٍّ للُّغات واللَّهجاتِ العامِّيَّة في البلاد. على سبيلِ المثال، ظاهرةُ الوقف بالتَّسكين تؤثِّرُ مباشرةً في اقتصاداتِ اللُّغة بتقليلِ مقاطعها، وبالتَّالي أزمنة إلقائها الشَّفهي؛ فسيَّان إذا قُلنا: “مُحَمَّدُ” أو “مُحمَدٌ” أو “مُحَمَّدٍ” أو “مُحَمَّدًا”، فإنَّ مقاطعَه أربعةٌ: “مُ حَمْ مَ دُ”، “مُ حَمْ مَ دُنْ”، “مُ حَمْ مَ دِنْ”، “مُ حَمْ مَ دَنْ”؛ ولكن إذا تمَّ الوقفُ على الاسمِ بالتَّسكين، فإنَّ مقاطعَه تُصبِحُ ثلاثةً فقط: “مُ حَمْ مَدْ”؛ ولنا أن نتخيَّلَ حجمَ التَّوفيرِ في محادثةٍ عابرة، ناهيكَ عن خُطبةٍ طويلة. من جانبٍ آخر، تتكشَّفُ عبر المقاطعِ الثَّلاثة بعضُ الظَّواهرِ اللُّغويَّة في الممارسةِ الشَّفهيَّة للكلام؛ فواوُ العطفِ تُغيِّرُ مواقعَها في الأعدادِ العَشريَّة، كما تتحوَّلُ أيضاً إلى همزةٍ في أوَّلها: فنحنُ نقولُ: “اتنينُوْ تلتين”، “تلاتَوْ تلتين”، “خمسَوْ ستين”، و”سبعَوْ تمانين”، و”تِسعَوُ تسعين”؛ ولكنَّنا نقول: “واحد أُ عشرين”، لمجيء الواحد في أوَّلِ المقطع، بخلافِ الأعداد الأخرى الَّتي جاءت في نهايةِ المقاطع. وهناك ظواهرُ أخرى لا حَصرَ لها، فليست هذه العُجالةُ مكانَها؛ إنَّما غرضُها الأساسيُّ هو تذكُّرُ الرَّاحلِ المقيم، وتذكيرٌ لأهلِه وأصدقائه باسترجاعِ أريجِه كُلَّما سَنَحَ سانِحٌ، وتنبيهٌ لزملائه وتلاميذه بفداحةِ الخَطب، وحثٌّ صادقٌ لهم كذلك بالتقاطِ الشُّعلةِ الَّتي سقطت برحيلِه، فقد كان الرَّاحلُ فقيرَ الأرومةِ، نصيراً للفقراءِ، باحثاً عن الحقيقةِ، ومُدقِّقاً في وسائلِ التَّعبيرِ عنها، هذا إضافةً إلى تعلُّقِه الجارفِ بخاصَّةِ الأصدقاء، وهم كُثرُ؛ ومن بينهم، أهلُ بيتِه.
الوسوماللغة النحو ايقاع اللغةالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
إقرأ أيضاً:
في ذكرى رحيل الشيخ الحصري.. أول من سجل المصحف الصوتي بالعالم
تحل اليوم، الأحد، الرابع والعشرون من شهر نوفمبر، ذكرى وفاة القارئ الشيخ محمود خليل الحصري، أحد أشهر قُرّاء القرآن الكريم في العالم الإسلامي، وهو أحد أبرز القراء المصريين القدماء، وأحد مؤسسي إذاعة القرآن الكريم، وله العديد من المصاحف المسجلة بروايات مختلفة، كان أكثر قراء القرآن علمًا وخبرة ووعيًا بفنون القراءة، مستفيضًا بعلوم التفسير والحديث، فلقد كان يجيد قراءة القرآن الكريم بالقراءات العشر.
ويعد الحصري أول من سجل المصحف الصوتى المرتل، برواية حفص عن عاصم، وأول من نادى بإنشاء نقابة لقراء القرآن الكريم، ترعى مصالحهم وتضمن لهم سبل العيش الكريم، ونادى بضرورة إنشاء مكاتب لتحفيظ القرآن في جميع المدن والقرى، وقام هو بتشييد مسجد ومكتب للتحفيظ بالقاهرة.
نشأته وحياته:
وُلد في غرة ذي الحجة سنة 1335هـ الموافق 17 سبتمبر من عام 1917 في قرية شبرا النملة، التابعة لطنطا بمحافظة الغربية، وكان والده قبل ولادته انتقل من محافظة الفيوم إلى هذه القرية التي ولد فيها، وقد أجاد قراءة القرآن الكريم بالقراءات العشر.
انتقل والده قبل ولادته من محافظة الفيوم إلى قرية شبرا النملة، حيث ولد الحصري، أدخله والده الكُتاب في عمر الأربع سنوات ليحفظ القرآن، وأتم الحفظ في الثامنة من عمره، كان يذهب من قريته إلى المسجد الأحمدى بطنطا يوميًا ليحفظ القرآن، وفي الثانية عشرة انضم إلى المعهد الديني في طنطا، ثم تعلم القراءات العشر بعد ذلك في الأزهر.
الأول على المتقدمين للامتحان في الإذاعة:
حصل على شهاداته في ذلك العلم (علم القراءات) ،ثم تفرغ لدراسة علوم القرآن لما كان لديه من صوت مميز وأداء حسن، وفي عام 1944م تقدم إلى امتحان الإذاعة وكان ترتيبه الأول على المتقدمين للامتحان في الإذاعة، وفي عام 1950م عُين قارئًا للمسجد الأحمدي بطنطا، كما عُين في العام 1955م قارئًا لمسجد الحسين بالقاهرة.
أدرك الشيخ الحصري منذ وقت مبكر أهمية تجويد القرآن في فهم القرآن وتوصيل رسالته، فالقراءة عنده علم وأصول، فهو يرى أن ترتيل القرآن يجسد المفردات القرآنية تجسيدًا حيًا، ومن ثَمَّ يجسد مدلولها التي ترمي إليها تلك المفردات، كما أن ترتيل القرآن يضع القارئ في مواجهة عقلانية مع النص القرآني، تُشعر القارئ له بالمسؤولية الملقاة على عاتقه.
حياته العائلتة:
تزوج عام 1938م، وكانت معظم مسئوليات التربية تقع على كاهل زوجته بسبب انشغاله بعمله وأسفاره، ويروي أحد أبنائه: "كان يعطي كل من حفظ سطرًا قرش صاغ بجانب مصروفه اليومي، وإذا أراد زيادة يسأل ماذا تحفظ من القرآن فإن حفظ وتأكد هو من ذلك أعطاه، وقد كانت له فلسفة في ذلك فهو يؤكد دائمًا على حفظ القرآن الكريم حتى نحظى برضاء الله علينا، ثم رضاء الوالدين، فنكافأ بزيادة في المصروف، وكانت النتيجة أن التزم كل أبنائه بالحفظ، وأذكر أنه في عام 1960م كان يعطينا عن كل سطر نحفظه خمسة عشر قرشًا وعشرة جنيهات عن كل جزء من القرآن نحفظه، وكان يتابع ذلك كثيرًا إلى أن حفظ كل أبنائه، ذكورًا وإناثًا، القرآن الكريم كاملًا والحمدلله".
مؤلفاته:
كتب العديد من المؤلفات منها "أحكام قراءة القرآن الكريم، القراءات العشر من الشاطبية والدرة، معالم الاهتداء إلى معرفة الوقف والابتداء، الفتح الكبير في الاستعاذة والتكبير، أحسن الأثر في تاريخ القراء الأربعة عشر، مع القرآن الكريم، قراءة ورش عن نافع المدني.
في عام 1965م قضى الشيخ محمود خليل الحصرى عشرة أيام كاملة فى مسجد بباريس، وهناك وعلى يديه أشهر عشرة من الفرنسيين إسلامهم، أيضًا أشهر ثمانية عشرة أمريكيًا إسلامهم، من بينهم طبيبان وثلاثة مهندسين، وفى مدينة سان فرانسسكو تقدمت سيدة أمريكية مسيحية لتعلن أن قراءته مست وجدانها وأحست من عمق نبرات القراءة أن القرآن الكريم على حق، رغم أنها لم تفهم كلماته، ولذلك أشهرت إسلامها على يد الشيخ الحصرى، ووعدته بأن تلتحق بأحد المراكز الإسلامية لتتعلم اللغة العربية.
رؤيا والده:
كان أبوه خليل السيد يشتغل بصناعة الحصير، فلقب بالحصري، وكان كلما وجد مصلى بلا حصير أو مفروشًا بقش الأرز، هرع إليه وفرشه بالحصير الجديد، حتى جاءته الرؤيا العجيبة، حيث رأى عموده الفقري يتشكل ويتدلى عنقودًا من العنب، والناس تأتي جماعات جماعات، يأكلون من عنقود العنب، وعنقود العنب لا ينفد.
ولما تكررت الرؤيا ذهب لأحد الشيوخ وقصها عليه، فسأله الشيخ إن كان له ذرية، قال: "ولدي محمود عمره عامان"، قال: "ألحقه بالأزهر، يتعلم العلوم الشرعية، فسوف يكون له شأن كبير"، وقد كان! ولا نزال نأكل من عنقود العنب، وعنقود العنب لا ينفد.
حرص في أواخر أيامه على تشييد مسجد ومعهد ديني ومدرسة تحفيظ بمسقط رأسه قرية شبرا النملة، وأوصى في خاتمة حياته بثلث أمواله لخدمة القرآن الكريم وحُفَّاظه، والإنفاق في جميع وجوه البر.
وفاته:
توفى مساء يوم الإثنين 16 محرم سنة 1401 هـ الموافق 24 نوفمبر 1980 بعد صلاة العشاء، بعد أن امتدت رحلته مع كتاب الله الكريم ما يقرب من خمسة وخمسين عامًا.