مجموعة من الأصدقاء يصنعون مسلسلاً مهماً.. هذا هو الانطباع الأول الذى يقفز إلى مقدمة ذاكرتك وأنت تشاهد الحلقات الأولى من مسلسل «إمبراطورية ميم»، فالكاتب محمد سليمان عبدالمالك والمخرج محمد سلامة والممثل خالد النبوى ومدير التصوير محمد مختار والمطرب مدحت صالح وآخرون هم أنفسهم من قدموا قبل عامين المسلسل التليفزيونى «راجعين يا هوى»، والعملان يمثلان تعاوناً مشتركاً بين الشركة المتحدة والمنتج تامر مرتضى «أروما»، والفارق بين العملين هو أن الأول كان مسلسلاً إذاعياً تم تقديمه عام 2004 من تأليف الكاتب الراحل أسامة أنور عكاشة، والأخير عن قصة الأديب الكبير إحسان عبدالقدوس تم تحويله إلى فيلم شهير عام 1972 من بطولة سيدة الشاشة فاتن حمامة، ورغم النجاح الذى حققه «راجعين يا هوى» عند عرضه فإن التحدى هذه المرة كان أكبر، ليس فقط فى المحافظة على النجاح، وإنما للفوارق الكبيرة بين مسلسل إذاعى محدود الانتشار لم يكن يتذكره أحد تقريباً، وفيلم يحفظه المشاهد العربى عن ظهر قلب، وتداوم الفضائيات المختلفة على استدعائه كثيراً لا سيما فى مناسبات عيد الأم ويوم المرأة وغير ذلك من المناسبات التى تكون المرأة حاضرة فى صدارة المشهد، فضلاً عن أنه واحد من درر فاتن حمامة، وإحدى نقلاتها السينمائية، باعتباره الفيلم الذى شهد تحولها من أدوار الـ«فيديت» كما فى «الخيط الرفيع» المعروض فى العام السابق مباشرة إلى مرحلة أدوار الأمومة لشباب فى طور المراهقة يدرسون فى المرحلة الجامعية.

والخطورة هنا ليست فقط فى المقارنة بين فيلم مستقر فى الذاكرة وبين عمل تليفزيونى حديث، فكل المسلسلات التليفزيونية التى كان لها ظهير سينمائى كان مصيرها -من وجهة نظرى- الفشل الكبير، أو على الأقل كان نجاحها مؤقتاً زمن عرض المسلسل التليفزيونى لأسباب يمكن تفهمها، والقائمة تطول وتطول فى هذا المجال، لكن المشكلة فى أن المشاهد يجلس أمام شاشة التليفزيون وهو يعرف مسبقاً حكاية ذلك الذى يشاهده أو على الأقل فى خطوطه العريضة، وهو التحدى الأعظم الذى ربما دفع مؤلف الحلقات محمد سليمان عبدالمالك إلى الاقتراب أكثر من النص الروائى الذى كتبه إحسان عبدالقدوس عام 1965 ضمن مجموعته القصصية «بنت السلطان»، فى محاولة أظنها موفقة للاختلاف عن الفيلم الراسخ فى المخيلة منذ اثنين وخمسين عاماً، فحذف شخصيات وأضاف أخرى، وأراد خلق أجواء جديدة لنص قصير لم يتجاوز بضع صفحات فى العمل الأدبى، فالبطولة فى القصة الأصلية كما فى المسلسل لرجل وليست لامرأة كما فى حالة فيلم فاتن حمامة، وهو ما استتبع نحت علاقة عاطفية مختلفة بين الأب (خالد النبوى) وجارته (حلا شيحا) على خلاف تلك العلاقة التى جمعت بين فاتن حمامة وأحمد مظهر فى الفيلم الشهير، ورغم هذا الاختلاف فى تبادل الأدوار بين العملين فإن كليهما قد حاد عن النص الأدبى، لأن الأسرة كانت مكتملة من أب وأم عند إحسان عبدالقدوس، لكن مقتضيات البناء الدرامى والذهنية الشرقية الباحثة دائماً عن قصة الحب فى أى عمل فنى استلزمت عند نجيب محفوظ، الذى قام بالإعداد السينمائى للفيلم، حذف شخصية الأب، وعند محمد سليمان عبدالمالك حذف شخصية الأم فى المسلسل، وإيجاد نصف آخر لأى من فاتن حمامة وخالد النبوى.وقد استتبع التوجه الذكورى للمسلسل أمر آخر، إذ ليس من المستحب أن تقيم والدة الأم المتوفاة مع الأسرة كما هى الحال فى الفيلم، ومن ثم تم الاستعاضة عنها بشخصية شقيقة رب الأسرة (نشوى مصطفى)، التى وفرت كذلك مطلباً درامياً آخر فى بناء العمل، وهو إضفاء قدر من خفة الروح على الأحداث، بعكس الشخصية التى أدتها دولت أبيض فى الفيلم بكل ما عرف عنها من صرامة وحزم، ولئن حاول كاتب المسلسل الاقتراب أكثر من أجواء النص الأدبى فإنه شارك نجيب محفوظ فى اختلاف العملين عن تركيبة الأسرة كما عند عبدالقدوس، فأفراد الإمبراطورية عنده هم جميعاً من الذكور، لكن الفيلم والمسلسل -على السواء- جعلاها تجمع بين الجنسين، وأظن أن هذا الاختلاف أعطى مزيداً من الثراء البنائى للعملين، ونسج خيوطاً درامية ما كانت تتوفر لو أبقى الاثنان على ذكورية التركيبة الأسرية التى أرادها صاحب النص الأدبى، وهو أمر كان بالتأكيد فى صالح الرغبة الأصيلة فى تقديم معالجة اجتماعية للنص الأدبى.غير أنه يجب هنا التأكيد على أن إحسان عبدالقدوس لم يكن فى النص الأصلى معنياً فى أولوية اهتماماته بالبعد الاجتماعى لتلك الإمبراطورية، وإنما كان يقدم لقارئ عام 1965 طرحاً فكرياً يلائم التوجه الاشتراكى الذى تقف وراءه دولة الرئيس عبدالناصر، ومن هنا كان المشهد الرئيسى وربما الوحيد فى النص الأدبى هو فكرة الانتخابات داخل الأسرة، باعتبارها النواة الأولى لأى كيان ديمقراطى، فكثرت مناقشات الأب والابن عن المجتمع الاشتراكى للأسرة، وضرورة التخلص من سطوة رأس المال، وأن جميعهم شركاء فى الإنتاج حتى لو كان هذا المنتج هو السعادة التى يمنحها الأبناء للأب، ناهيكم عن حتمية مشاركة كل المقيمين فى البيت بمن فيهم الخدم فى العملية الانتخابية، باعتبارهم أيدى عاملة وشريكاً أساسياً فى مجتمع الأسرة، ورغم أنه لا الفيلم ولا المسلسل أغفلا فكرة الانتخابات بكل تداعياتها ونتائجها فى محيط الأسرة، فإنهما تجاوزاها إلى خيوط درامية أخرى تخدم الهدف من وراء العملين، إذ شتان بين قصة قصيرة يمكن قراءتها فى ربع ساعة ليس أكثر، وفيلم سينمائى يقترب من الساعتين، أو مسلسل تليفزيونى يتخطى حاجز الخمس والعشرين ساعة مع اختلاف الأدوات الإبداعية فى كل مصنف وطبيعة المتلقى، وكذلك السياق الزمنى الذى ظهر فيه كل عمل، فضلاً عن الدوافع الإنتاجية التى تقف خلف كل عمل.. لقد كان إحسان عبدالقدوس عام 1965 ابن مرحلته معبراً عن اهتماماتها وتوجهاتها، وهو بالأساس ليس مسئولاً إلا عن الورق الذى كتبه، بينما كان كل شىء فى الفيلم الذى أخرجه حسين كمال سنة 1972 فى خدمة البطلة فاتن حمامة العائدة لتوها من منفى اختيارى خارج مصر على خلفية علاقتها المضطربة بجهاز صلاح نصر وأخريات فترة حكم الرئيس عبدالناصر، فى محاولة لاستعادة بريقها السينمائى الذى خفت فى سنواتها العجاف بعيداً عن الوطن، فحشد لها رمسيس نجيب منتج الفيلم كل ما يخدم ظاهرة النجم، من أول تغيير البطولة الرئيسية من رجل إلى امرأة إلى عكوف كل من نجيب محفوظ (الإعداد السينمائى) وإحسان عبدالقدوس (كتابة الحوار إلى جانب القصة بطبيعة الحال) ومحمد مصطفى سامى وكوثر هيكل (كتابة السيناريو) فضلاً عن بقية عناصر الفيلم الذى تم تقديمه بالألوان فى وقت كانت فيه غالبية الأفلام المنتجة بالأبيض والأسود. أما الشركة المتحدة و«أروما» فكان هدفهما من وراء المسلسل أمراً أكثر وضوحاً ومشروعية. لقد كان إحسان عبدالقدوس فى قصته القصيرة مهتماً بالجانب الفكرى من أول اختيار مفردة «إمبراطورية»، باعتبار أن الأسرة هى أساس كل مجتمع سياسى، بينما كان صناع الفيلم معنيين بمشاعر امرأة غاب عنها زوجها بحاجة لمن يلبى احتياجها العاطفى، ربما يخفف عنها ما تواجهه بمفردها من مشكلات أبنائها فى تلك المرحلة الحرجة التى يمرون بها.. أما مسلسل 2024 فهدفه الأساسى تقديم دراما اجتماعية معاصرة مشوقة أو مسلية يلتف حولها جميع أفراد الأسرة ربما يجدون فيها ظلاً لحياتهم اليومية، أو تلمس فيهم وتراً، أو تمس مشكلة نفسية أو تربوية كان من الضرورى الانتباه لها، وأعتقد المسلسل نجح بالفعل فى الوصول إلى هدفه.

المصدر: الوطن

كلمات دلالية: الدراما راجعين يا هوى إمبراطورية ميم إحسان عبدالقدوس إحسان عبدالقدوس فاتن حمامة فى الفیلم

إقرأ أيضاً:

«دُفعة المراوح وتخفيف الأحمال»

يبدو أن الأسرة المصرية التى لديها طالب أو طالبة فى الثانوية العامة كُتب عليها أن تعيش المعاناة، ليس فقط على مدار العام بسبب ضغوط وتكاليف المصروفات الدراسية، والدروس الخصوصية التى فشلت كل الجهود فى القضاء عليها لأسباب كثيرة، وإنما أيضًا فى ضياع حلم الكثير من الأسر فى دخول أبنائهم كليات القمة التى يحلمون بها، واليقين بذلك قبل ظهور نتيجة الامتحانات.

نقول ذلك بمناسبة ما حدث فى امتحان مادة الفيزياء لطلاب الشعبة العلمية فى الثانوية العامة الذى أثار الجدل، سواء بسبب طبيعة وطريقة الأسئلة، أو تداوله بمواقع التواصل الاجتماعى، بغض النظر عن طبيعة اللجنة التى تم تشكيلها لمراجعة الامتحان أو قراراتها، لأنه فى النهاية تبقى صدمة الامتحان ذات تأثير معنوى على الطلاب كما رأينا يوم الامتحانات.

والغريب فى الأمر أن امتحانات هذا العام يجب أن تتفق فى كل الأحوال مع الظروف التى يعيشها الطلاب على مدار الشهور الماضية، خاصة منذ بداية أزمة انقطاع الكهرباء، وتخفيف الأحمال، وأداء الطلاب للامتحانات فى درجات الحرارة المرتفعة، وأزمة أولياء الأمور فى توفير المراوح داخل اللجان رأفة بأبنائهم، الأمر الذى جعلنا نصف طلاب هذا العام بأنهم «دُفعة المراوح وتخفيف الأحمال» أو«ثانوية المراوح وتخفيف الأحمال».

ولم تكن هناك أى مراعاة من واضعى الامتحانات تجاه هؤلاء، خاصة أن كل المواد التى أدى فيها الطلاب الامتحانات تضمنت العديد من الأسئلة الصعبة التى جعلت الكثير من الطلاب يشعرون بضياع حلم العمر، أو ضياع فرصة الالتحاق بكليات القمة، وهو ما جعل الكثير من الأسر لم يعد أمامها الآن سوى التفكير بقوة فى تدبير مصروفات الجامعات الخاصة ليقينها بضياع مبدأ تكافؤ الفرص لأسباب كثيرة.

والسؤال الذى يفرض نفسه بقوة الآن هو «هل تبقى الثانوية العامة بعبع كل بيت فى مصر وعرض مستمر لفوضى التداول والتسريب؟!». المؤكد أن دولة بحجم مصر ومؤسساتها لا يجب أن تظل على هذا الوضع الذى يؤكد صعوبة السيطرة على الامتحانات لتحقيق مبدأ تكافؤ الفرص بين الطلاب، وانتشار الغش الذى يستفيد منه قلة قليلة تدمر أحلام وجهود المتفوقين.

والحديث عن ضبط الطلاب المتورطين فى الغش أو معاقبتهم بالرغم من كونه ضرورة، إلا أنه لن يعيد الأمور إلى نصابها الصحيح. ومن هنا يجب التفكير فى حلين لا ثالث لهما، وهو إما السيطرة الكاملة على الامتحانات وتحقيق العدالة بين الطلاب، أو حتمية التطبيق الفورى لنظام ثانوية عامة يجعلها شهادة نجاح ورسوب فقط دون أى مقياس أو شروط للحاق بالكليات، مع الأخذ فى الاعتبار بأن الطريق الثانى سيفتح الباب أمام الكثير من خريجى الجامعات من عديمى الكفاءة للاعتماد هنا على الغش طوال سنوات التعليم.

كما أن الأسرة المصرية التى تعانى ويلات الظروف الاقتصادية الحالية، وغلاء الأسعار، وجبروت أباطرة الدروس الخصوصية من حقها أن تعيش أجواء الفرحة والاطمئنان على مستقبل أبنائها على الأقل خلال أيام الامتحانات بدلًا من تصدير اليأس لهم مع بداية الامتحانات أو منتصف الطريق خلال أداء الامتحانات فى المواد التخصصية.

خلاصة القول أن «دُفعة المراوح وتخفيف الأحمال» كانت تستحق الكثير من التقدير الجيد للأوضاع التى يعيشها الطلاب وأولياء الأمور. كما أنها كانت تستحق الرحمة من واضعى الامتحانات، وتستحق تكافؤ الفرص وتحقيق العدالة التى غابت لسنوات طويلة سواء بسبب التسريب، أو التداول، أو عدم المعرفة الجيدة للطريق الذى نسير عليه فى قطاع التعليم..حفظ الله مصر وشعبها وجيشها من كل سوء وللحديث بقية إن شاء الله.

مقالات مشابهة

  • أشرف غريب: مهرجان العلمين يحمل صفة الاستمرارية ويساهم في إنعاش السياحة
  • الأنبا ديمتريوس يكتب: 30 يونيو.. وعودة مصر لمكانتها
  • «دُفعة المراوح وتخفيف الأحمال»
  • في ذكرى يوم عظيم
  • المناظرة «راكبة جمل»!
  • خالد ميري يكتب: حكايتي مع «الإخوان»
  • قداسة البابا تواضروس الثاني يكتب: في ذكرى 30 يونيو.. تحديات وأمنيات
  • الشيخ خالد الجندي يكتب: ثورة انتصار لمقاصد الشرع الشريف
  • د. علي جمعة يكتب: سنوات التحدي والإنجاز
  • للتاريخ.. ليس كل ما يعرف يُقال