رغم أنه كان ينص على "وقف إطلاق نار فوري ومستدام في غزة"، أسقطت روسيا والصين والجزائر مشروع القرار الأميركي في مجلس الأمن الدولي، الذي تضمن أيضا تسهيل عبور المساعدات والإفراج عن الرهائن. 

ووصفت مندوبة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة ليندا توماس-غرينفلد الفيتو الروسي والصيني بأنه ليس "خبيثا فحسب"، بل "سخيف" أيضا.

وقالت "بكل بساطة لا ترغب روسيا والصين بالتصويت لصالح قرار صاغته الولايات المتحدة". وتابعت "بكل صراحة، في ظل هذا الخطاب الحماسي كله، نعرف جميعا أن روسيا والصين لا تبذلان أي جهود دبلوماسية باتّجاه تحقيق سلام دائم أو للمساعدة بشكل مؤثر في جهود الاستجابة الإنسانية".

من جانبه، اعتبر المندوب الروسي أن مشروع قرار واشنطن، كان "منافقا" ولا يدعو بشكل مباشر إلى وقف الحرب، على الرغم من تطرقه إلى وجوب الوصول لـوقف إطلاق نار فوري و"مستدام"، الأمر الذي يطرح التساؤلات حول مفهوم الاستدامة في هكذا نوع من القرارات. 

دائم ومستدام؟

تضمنت النسخة السادسة لمشروع القرار الأميركي، إقرار ضرورة "الوقف الفوري والمستدام" لإطلاق النار لحماية المدنيين من جميع الأطراف، والسماح بإيصال المساعدات الإنسانية الأساسية، وتخفيف المعاناة الإنسانية، ودعم الجهود الدبلوماسية لتأمين وقف إطلاق النار والإفراج عن جميع الرهائن.

وفي حديثها لموقع "الحرة"، تؤكد المحامية السابقة في المحكمة الجنائية الدولية، ديالا شحادة، أن قرار وقف "إطلاق النار المستدام" يعني أن هناك أسباب تدعم استمراريته.

وتفرق شحادة بين "الدائم ومستدام"، وترى أن مصطلح "الاستدامة قد يفسر بعدة طرق"، لكنه يعني "أنه يتضمن عوامل تكفل استمرارية القرار".

وتقول: "كان يجب وضع فقرة إضافية تفسر ما المقصود من الاستدامة"، معتبرة أنه "طالما تم استخدام مستدام ولم يستخدم "دائم" فهذا الأمر متعمد".

ورفض المتحدث الإقليمي باسم وزارة الخارجية الاميركية، ساميويل وربيرغ، التوضيح الفارق بين دائم ومستدام، في حديث لموقع "الحرة" قبل انعقاد جلسة مجلس الأمن، قائلا: "ليس لدينا أي تفاصيل لمشاركتها حول ذلك".

بدوره، يشير المتخصص في إدارة النزاعات في كلية "جونز هوبكنز" للدراسات الدولية، البروفيسور دانيال سيروير، إلى "عدم وضوح" كون استخدام مصطلح "الوقف الفوري والمستدام لإطلاق النار" يعني "وقفا دائما أم لا".

ومن غير المعلوم ما إذا كانت هذه الجهود ستنجح أو تفشل" في تحقيق وقف "دائم لإطلاق النار"، ولكن مشروع القرار الأميركي "أوحى بمزيد من الجدية من قبل الولايات المتحدة لوقف إطلاق النار"، حسبما يؤكد البروفيسور دانيال سيروير.

في المقابل، يوضح خبير القانون الدولي، أيمن سلامة، أن "وقف إطلاق النار المستدام"، يعني "الدائم طويل الأمد الذي يتم إقراره لمدد طويلة، وقد يستمر تطبيقه لسنوات".

ويضرب سلامة مثالا بـ"وقف إطلاق النار الدائم المستدام"، على غرار ما حدث بعد حرب أكتوبر 1973 بين مصر وإسرائيل، ما أفضى في نهاية المطاف لمعاهدة السلام بين البلدين عام 1977، وفق حديث سلامة لموقع "الحرة".

ومصر هي أول دولة عربية وقعت معاهدة سلام مع اسرائيل في العام 1979 وتمكنت بموجبها من استرداد شبه جزيرة سيناء التي احتلتها اسرائيل عام 1967 وخاضت مصر حربا لاستعادتها في 1973.

ويكشف سلامة أن مهما طال أمد "وقف إطلاق النار"، فهذا يعني فقط "التوقيف المؤقت للقتال والعدائيات العسكرية"، لكن هذا لا يعني "وقف الحرب".

ويشدد خبير القانون الدولي على أن "حالة الحرب لا تنتهي قانونا إلا بتوقيع معاهدة سلام". 

حق الفيتو 

يتكون مجلس الأمن من 15 دولة عضوا، بينما القرار بحاجة إلى تأييد تسعة دول على الأقل وعدم استخدام حق النقض "الفيتو" من الولايات المتحدة أو فرنسا أو بريطانيا أو روسيا أو الصين من أجل اعتماده.

ونال مشروع القرار تأييد 11 دولة من الأعضاء الـ15 للمجلس، بينما رفضته ثلاث دول هي الصين وروسيا والجزائر، وامتنعت غويانا عن التصويت.

وفي مؤشر على تزايد الدعوات لتهدئة في الحرب، كانت المملكة المتحدة وأستراليا الجمعة، قد طالبتا بـ"وقف فوري" للقتال للسماح "بإيصال المساعدات والإفراج عن الرهائن.

والخميس، أعلنت فرنسا، أنها تعمل على مشروع قرار في مجلس الأمن الدولي بشأن النزاع في غزة "يتجاوز الدعوة إلى وقف فوري لإطلاق النار".

وقال نائب المتحدث باسم وزارة الخارجية الفرنسية، كريستوف لوموان، الخميس، "نعتبر أن الوقت حان لاتخاذ مبادرات جديدة في مجلس الأمن الدولي بشأن النزاع الدائر"، مذكرا بالوضع الإنساني الكارثي، وفق وكالة "فرانس برس".

ومن أجل "الإلزام والإنفاذ" يجب صدور القرار دون استخدام أي دولة دائمة العضوية بلحق النقض "الفيتو"، حسبما يشير خبير القانون الدولي.

وقد يكون من المحال تطبيق "وقف إطلاق نار مستدام" في غزة إلا إذا صدر القرار تأسيسا على الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وفق سلامة. 

ولذلك تستخدم بعض الدول الأعضاء في مجلس الأمن "حق الفيتو" ما قد يعطل تمرير مشروع القرار، وفق المحامية السابقة في المحكمة الجنائية الدولية.

أما سيروير فيري أن "الجزء الصعب" يرتبط "بإطلاق سراح الرهائن" إذ يرهن مشروع القرار الأميركي "وقف إطلاق النار بإطلاق سراح جميع الرهائن".

وتقدر إسرائيل أن نحو 130 رهينة ما زالوا محتجزين في غزة، بينهم 33 يعتقد أنهم لقوا حتفهم، من بين نحو 250 شخصا اختطفوا في هجوم حماس.

ويؤكد المتخصص في إدارة النزاعات في كلية "جونز هوبكنز" أن حماس سوف ترفض ذلك لأنه قد يحرمها من كل نفوذ لها في أي مفاوضات مستقبلية، وقد يشجع إسرائيل على شن هجوم كامل.

وبشأن تأكيد مشروع القرار على مسار حل الدولتين، يؤكد سيروير، أنه لا يزال خيار متاحا للولايات المتحدة وهو ما تدعمه العديد من الدول، وربما حتى يؤيده إسرائيليون وفلسطينيون"، مشيرا إلى أن السؤال يبقى "ما إذا كان هذا المسار ممكنا أم لا؟".

وقال فاسيلي نيبينزيا سفير روسيا لدى الأمم المتحدة إن القرار "مُسيَّس بشكل مبالغ فيه ويتضمن فعليا منح الضوء الأخضر لإسرائيل لتنفيذ عملية عسكرية في رفح."

بينما اعتبرت مندوبة واشنطن لدى الأمم المتحدة، ليندا توماس غرينفيلد، أن "روسيا والصين رفضتا التنديد بانتهاكات حماس"، معتبرة أنهما "لا تؤديان أي شيء دبلوماسي لإنهاء الأزمة في غزة".

وقدمت الولايات المتحدة مشروع قرار لمجلس الأمن الدولي تدعو فيه للتصويت على قرار بوقف "فوري ومستدام" للنار في غزة، وتضمن أيضا دعوة لتسهيل عبور المساعدات والإفراج عن الرهائن في غزة، بالإضافة إلى تأكيد أهمية حل الدولتين. 

ودعا وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، الخميس، جميع الدول لدعم "مشروع القرار الأميركي في مجلس الأمن لوقف إطلاق النار في غزة"، وذلك خلال حديثه في مؤتمر صحفي مع نظيره المصري، سامح شكري، عقب اجتماعه بوزراء خارجية دول عربية.

وكان بلينكن قد أعلن في تصريحات سابقة، الخميس، إن واشنطن طرحت على مجلس الأمن الدولي مشروع القرار، مشيرا إلى أن "وقف فوري لإطلاق النار" في قطاع غزة يرتبط بالإفراج عن الرهائن الذين خطفوا في السابع من أكتوبر من قبل حركة حماس.

خلال جولته السادسة في الشرق الأوسط منذ بداية الحرب، التقى بلينكن الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، في القاهرة، الخميس، ووزراء خارجية مصر وقطر والسعودية والأردن والإمارات.

وأصدر الوزراء الخمسة إلى جانب ممثل للسلطة الفلسطينية قبل اللقاء بيانا مشتركا أكدوا فيه "أولوية تحقيق وقف شامل وفوري لإطلاق النار وزيادة نفاذ المساعدات الإنسانية، وفتح جميع المعابر بين إسرائيل وقطاع" غزة.

وقال بلينكن إثر لقائه الوزراء إن "من الخطأ" تنفيذ عملية عسكرية إسرائيلية كبيرة في رفح، مضيفا "هناك طريقة أفضل للتعامل مع التهديد المستمر الذي تمثله حماس".

بلينكن كان قد اجتمع أيضا مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في القاهرة وولي عهد السعودية الأمير محمد بن سلمان في جدة.

أبرز بنود المشروع

وكان موقع "الحرة" قد حصل على نص النسخة السادسة لمشروع القرار الأميركي، وتاليا أبرز بنوده:

-إقرار ضرورة الوقف الفوري والمستدام لإطلاق النار لحماية المدنيين من جميع الأطراف، والسماح بإيصال المساعدات الإنسانية الأساسية، وتخفيف المعاناة الإنسانية، ودعم الجهود الدبلوماسية لتأمين وقف إطلاق النار والإفراج عن جميع الرهائن.

- استغلال وقف إطلاق النار لتكثيف الجهود الدبلوماسية الرامية إلى تهيئة الظروف لوقف مستدام للأعمال العدائية وتحقيق السلام الدائم بما يتناسب مع القرار 2720.

- مطالبة جميع الأطراف بالامتثال للالتزامات بموجب القانون الدولي، بما في ذلك القانون الإنساني الدولي، فيما يتعلق بحماية المدنيين والأعيان المدنية، وإيصال المساعدات الإنسانية، وحماية المنظمات الإغاثية والخدمات الطبية والبنية التحتية.

- التأكيد على الحاجة الملحة لتوسيع تدفق المساعدات الإنسانية للمدنيين في قطاع غزة بأكمله، ورفع جميع الحواجز التي تحول دون تقديم المساعدة الإنسانية على نطاق واسع.

- رفض أي تهجير قسري للسكان المدنيين في غزة وانتهاك القانون الدولي والقانون الإنساني الدولي.

- تكرار مطالبة حماس والجماعات المسلحة الأخرى على إيصال المساعدات لجميع الرهائن المتبقين.

- مطالبة جميع الأطراف بالامتثال لالتزاماتهم الدولية فيما يتعلق بجميع الأشخاص الذين تحتجزهم.. واحترام كرامة وحقوق الإنسان لجميع الأفراد المحتجزين.

- حث جميع الدول الأعضاء على تكثيف جهودهم لوقف تمويل الإرهاب، وتقييد تمويل حماس وفقا للقانون الدولي.

- يطلب من الأمين العام تكليف منسق للشؤون الإنسانية وإعادة الإعمار في غزة، والمنسق الخاص لعملية السلام في الشرق الأوسط ومسؤولين آخرين وتوفير الموارد والدعم اللازم للإسراع بإنشاء آلية تابعة للأمم المتحدة لتسريع وتبسيط تقديم المساعدات وضمان وصولها للجهات المدنية.

- مطالبة أطراف النزاع بالتعاون مع جهود الأمم المتحدة على الأرض لتوسيع نطاق تقديم المساعدات وضمان التدفق المستدام دون عوائق عبر جميع الطرق المتاحة، ومن خلال نقاط العبور مثل: معبر كرم أبو سالم الحدودي، والتعاون لفتح معابر إضافية وممر بحري.

- إجراء تقييم سريع للأضرار والاحتياجات في شمال غزة، من أجل تنسيق جهود إعادة الإعمار من خلال مكتب المنسق الخاص للأمم المتحدة بالتعاون مع البنك الدولي والاتحاد الأوروبي.

- التأكيد على ضرورة احترام وحماية المستشفيات والمرافق الطبية والعاملين فيها ووسائل النقل من قبل جميع الأطراف وفقا للقانون الإنساني الدولي.

- السماح بتوفير المعدات اللازمة لموظفي الأمم المتحدة والوكالات المرتبطة بها، بما في ذلك الهواتف المرتبطة بالأقمار الصناعية، وأجهزة الاتصالات والمركبات المدرعة وغيرها من العناصر الضرورية لسلامتهم.

- التأكيد على الدور الرئيسي لجميع الوكالات الإنسانية التابعة للأمم المتحدة في تقديم المساعدات، والترحيب بقرار الأمين العام في إجراء تحقيق في الاتهامات بأن بعض موظفي الأمم المتحدة و"الأونروا" شاركوا في هجمات السابع من أكتوبر.

- رفض الإجراءات التي تؤدي إلى تقليص مساحة قطاع غزة، بما في ذلك إنشاء مناطق عازلة، أو أي تدمير للبنية التحتية المدنية.

- إدانة دعوات وزراء في الحكومة بإنشاء مستوطنات في غزة، ورفض أي محاولة للتغيير الديمغرافي أو الإقليمي لغزة.

- التشديد على أهمية منع امتداد الصراع إلى المنطقة، ودعوة الجميع إلى ممارسة أقصى درجات ضبط النفس.

- إدانة الهجمات التي ينفذها الحوثيون على السفن في البحر الأحمر والمطالبة بوقفها فورا.

- التأكيد على أن السلام الدائم لا يمكن أن يقوم إلا على الالتزام الدائم بالاعتراف المتبادل والاحترام الكامل لحقوق الإنسان والتحرر من العنف أو التحريض عليه.

- تجديد الالتزام الثابت برؤية حل الدولتين، حيث تعيش دولتان ديمقراطيتان، وتعيش إسرائيل وفلسطين جنبا إلى جنب في سلام داخل حدود آمنة ومعترف بها، بما يتفق مع القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، والتأكيد على توحيد قطاع غزة مع الضفة الغربية في ظل السلطة الفلسطينية.

دولة فلسطينية مستقلة.. هل تتحقق على أرض الواقع؟ وسط مطالب عربية ودولية بإقامة دولة فلسطينية مستقبلية مستقلة بجوار إسرائيل، تظهر تساؤلات حول كيف يمكن أن تكون شكل هذه الدولة؟ ومن يحكمها ويسيطر عليها؟ وهل تقلب الحكومة الإسرائيلية الحالية بوجودها؟، وهو ما يجب عليه مسؤولون ومختصون إسرائيليون وفلسطينيون تحدث معهم موقع "الحرة".

واندلعت الحرب في قطاع غزة إثر هجوم حركة حماس غير المسبوق في السابع من أكتوبر، الذي أسفر عن مقتل 1200 شخص، معظمهم مدنيون، وبينهم نساء وأطفال، وفق السلطات الإسرائيلية.

وردا على الهجوم، تعهدت إسرائيل "القضاء على الحركة"، وتنفذ منذ ذلك الحين حملة قصف أتبعت بعمليات برية منذ 27 أكتوبر، ما تسبب بمقتل 31988 فلسطينيا، غالبيتهم من النساء والأطفال، وإصابة 74188، وفق ما أعلنته وزارة الصحة التابعة لحماس، الخميس.

المصدر: الحرة

كلمات دلالية: مشروع القرار الأمیرکی المساعدات الإنسانیة مجلس الأمن الدولی الولایات المتحدة وقف إطلاق النار القانون الدولی الأمم المتحدة فی مجلس الأمن جمیع الرهائن لإطلاق النار جمیع الأطراف روسیا والصین التأکید على والإفراج عن عن الرهائن السابع من قطاع غزة من الدول فی غزة

إقرأ أيضاً:

ماذا يعني وقف إطلاق النار في غزّة؟

شعر الكثيرون بارتياح نسبي لوقف إطلاق النار في غزّة بعد أن قتل الإسرائيليون ما يقرب من 50 ألفا من سكانها خلال 100 يوم من القصف المركز في غياب دعوات جادّة لوقف العدوان.

والسؤال هنا: هل ستستمر الهدنة طويلا أم أن الاحتلال سيواصل سياساته العدوانية مجدّدا؟ وتكفي الإشارة ألى أن أكثر من 80 من الفلسطينيين قتلوا بعد إعلان «إسرائيل» موافقتها على وقف إطلاق النار. هذه الأرقام لم تعد ذات معنى، لأنها أصبحت تتكرر يوميا بدون أن تدفع هذا العالم لمواقف وسياسات توقف العدوان.

ويقلّل من شأن هذه الأرقام تحوّل مناطق واسعة من غزة إلى أكوام من الحطام لم يرها العالم منذ الحرب العالمية الثانية، حيث تُسوّى الأحياء السكنية بالأرض بدون رحمة. ومن يشاهد التقارير الإعلامية على شاشات التلفزيون يراها واضحة ليس من خلال الصور فحسب بل من الكلمات التي تنطلق من حناجر الإعلاميين الدوليين الذين يقومون بالتغطية. فهذه المشاهد ليس لها وصف دقيق أو أهمية بعد أن تكرّرت كثيرا وأصبحت روتينا ربما يراه البعض مملّا.

وليس العالم الأجنبي وحده هو الذي وقع في حالة اللامبالاة وأقفل عينيه وغضّ بصره وأغلق قلبه عن المجازر التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي يوميا في غزّة، بل أن الشعوب العربية والإسلامية أصيبت بداء تكلّس القلوب والمشاعر، ولم تعد تلك المشاهد تثير فيها أحاسيس الأذى والغضب. فقد يكون مفهوما أن يكون هناك حزم في الحرب، ولكن استهداف المناطق السكنيّة على نطاق واسع وتدمير البنى التحتية بما فيها مصادر الطاقة والماء والملاجئ والمدارس والمستشفيات، يمثل جرائم حرب خطيرة يجب التصدّي لها.

برغم وقف إطلاق النار هناك توجس قلق لدى الكثيرين، خصوصا مع ترقّب التنصيب الرسمي للرئاسة الامريكية هذه الأيام. فالمعروف أن دونالد ترامب لا يمكن تصنيفه ضمن البشر ذوي القلوب الإنسانية ومشاعر الرحمة والرأفة، بل أنه أكثر جنوحا للعنف من جهة وأشد ميلا للصهاينة من جهة ثانية. وهل هناك من دليل على نزعته العنيفة أقوى من موقفه في مثل هذه الأيام قبل أربعة أعوام عندما رفض نتائج الانتخابات الرئاسية آنذاك ودفع أتباعه لاقتحام مبنى الكونغرس، متسبّبا في مقتل خمسة أشخاص لم يرتكبوا جرمًا؟

الرئيس ترامب محسوب على مجموعات سياسية إنجيلية تدعم الممارسات الإسرائيلية أيا كان شكلها. كما أنه يشعر بالقرب من نتنياهو الذي تناغم معه خلال مفاوضات وقف إطلاق النار، ويريد ترامب مكافأته على ذلك. أما العامل الثالث فيرتبط بالسيد مايك وولتز، الذي عيّنه ترامب مستشارا بمجلس الأمن القومي. هذا الشخص معروف بتحسسه من حلف الناتو وعضوية أمريكا فيه، ويدعو لوقف أي دعم للمجموعات المقاتلة في أوكرانيا، وهو منحاز بشكل كبير للكيان الإسرائيلي.

وهكذا يبدو المشهد الأمريكي عاملا مهما لاستشراف ما يمكن أن تؤول إليه القضية الفسطينية في المستقبل المنظور. وقبل الحرب الحالية كان نتنياهو قد أعلن سياسة راديكالية مفادها أنه يريد القضاء على مجموعات المقاومة. والواضح أنه لم ينجح في تنفيذ ذلك الوعد، الأمر الذي يضعه في موقف محرج أمام ناخبيه من جهة ومناوئيه السياسيين من جهة أخرى.

والسؤال هنا: ما هذا العالم الذي يسمح بربط مصير شعب كامل بسياسات بعض السياسيين ورغباتهم التي كثيرا ما انتهكت القواعد السياسية الدولية والمنطق المقبول أو الواقعي حتى لو اتسم بقدر من التطرف. ولذلك، فبرغم وقف إطلاق النار، فإن سكان غزة الذين يتجاوز عددهم المليونين غير مطمئنين تماما لحالة الهدوء النسبية، فهم يرونها مؤقّتة وناجمة عن بعض الضغوط التي ساهم فيها حجم العدوان ومآسيه ومشاهده التي حرّكت مشاعر الكثيرين وقلوبهم. فما أن أعلن عن وقف إطلاق النار حتى هرع الآباء والأمهات للحديث عن تعليم أولادهم المحرومين من فرص الدراسة بعد تدمير أغلب مدارس غزة ومستشفياتها وأغلب الخدمات الحياتية.

وفي غياب الموقف الدولي أو الإسلامي أو العربي الفاعل، ليس هناك من الضمانات ما يشجّع الفلسطينيين على البدء الفوري بإعادة بناء حياتهم. فالشعور العام السائد يتمحور حول حتمية اندلاع التوتر الأمني والسياسي والعسكري في المستقبل غير البعيد. لذلك فالأرجح استمرار الوضع الراهن بدون تغيير جوهري لصالح الفلسطينيين، فوقف إطلاق النار هدنة مؤقتة تتعرض لاختراق متواصل ولا تسمح بالتخطيط الاستراتيجي لإعادة بناء غزّة المدمّرة في غياب استقرار طويل ووضع سياسي آمن.

وبرغم محاولة القفز على حقائق الصراع العربي ـ الإسرائيلي خصوصا من قبل السياسيين العرب والغربيين، فإن هناك استيعابا لما نجم عنه من دمار في كافة فصوله، خصوصا الفصل الحالي من الصراع. فحجم الدمار البشري تجاوز ما هو معقول أو متوقع. فقد حصدت الطائرات الإسرائيلية التي حصلتها من أمريكا خصوصا إف ـ 35 أرواح الآلاف بدون رحمة، فهي تقذف الحمم من مرتفعات عالية وتوجهها بأجهزة راداراتها المتطورة. إنه «تطوّر» عملاق في مجال قتل الروح البشرية بدون حساب.

فإزهاق أرواح قرابة الخمسين ألفا ليس أمرا عاديا، بل مؤشر لفظاعة الصراع ووحشيته. وما يزال العدد في تصاعد برغم وقف إطلاق النار. وهناك مؤشر آخر لهذه الوحشية. فقد بلغ عدد الصحافيين والإعلاميين الذين فقدوا حياتهم 166، منهم 158 فلسطينيا وإسرائيليان وستة لبنانيين. وهذا الاستهداف أساسه خشية الإسرائيليين وحلفائهم من كشف حجم الخسائر البشرية في أوساط الفلسطينيين، وإخفاء سياسة القتل والإبعاد التي تعتبر مؤشرا لما أصبح يسمّى على نطاق واسع «الإبادة». كما دمّر القصف الإسرائيلي ثلثي المباني في غزّة، وبلغ عددها حوالي 164 ألفا.

لذلك ليس غريبا أن تُظهر الصور دمارا ليس له نظير في العقود الثمانية الأخيرة، أي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. فالحرب بين الطرفين لم تكن متكافئة أبدا. فبينما خاضها الفلسطينيون وحدهم بدون تدخل خارجي داعم، ألقت أمريكا بثقلها إلى جانب الإسرائيليين، ولم تكتف بتزويدها بالسلاح والعتاد فحسب، بل وضعت أساطيلها العسكرية في البحر الأبيض المتوسط قريبا من منطقة الصراع، وشاركت في استهداف مواقع المقاومة مع الجانب الإسرائيلي. فكانت حربا غير متكافئة سواء من حيث القوة العسكرية لكل من الطرفين أم حجم الضحايا والخسائر.

ثمة سؤال جوهري يفرض نفسه في ضوء العدوان الإسرائيلي الكاسح: هل حققت «إسرائيل» أهدافها من خوض واحدة من أبشع الحروب التي شنّتها؟ قبل بدء العدوان أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي أن هدف الحرب كان القضاء على قوى المقاومة وفي مقدمتها حركة حماس وحزب الله. وفي الأيام الأخيرة التي حدثت فيها مفاوضات وقف إطلاق النار في العاصمة القطرية، الدّوحة، كان واضحا أن الإسرائيليين يتفاوضون مع حماس حول شروط الهدنة.

وبدون ذلك التفاوض لم يكن هناك مجال لوقف المواجهات. هذا يعني أن أهم أهداف الحرب من وجهة النظر الإسرائيلية لم يتحقق، وأن طرفيها ما يزالان في موقعيهما. وفي غياب حالة الصلح بينهما سيظل الباب مفتوحا لصراعات ومواجهات مستقبلية. وهذا أمر محرج لرئيس الوزراء الإسرائيلي الذي قطع على نفسه عهدا لا يستطيع الوفاء به.

ولذلك يُتوقع أن يواجه تحديات أكبر بعد تركه منصبه، إذ أن هناك قضايا قضائية مرفوعة ضده تتعلق بالاختلاس وسوء الإدارة. وتقع مسؤولية التصدّي لعقلية الاستئصال والقتل والتدمير الشامل على الجهات العربية والدولية المعنية بقضية فلسطين من جهة وبأمن العالم من جهة أخرى. وهذه الجهات مدعوّة لتوثيق الانتهاكات للقانون الإنساني الدولي التي تحدث يوميا، بهدف وقفها من جهة ومحاسبة ممارسيها من جهة ثانية. فشخصية نتنياهو مثيرة للجدل ليس لدى الجانب العربي فحسب، بل في الأوساط السياسية والشعبية الإسرائيلية.

يضاف إلى ذلك أن بإمكان النشطاء الحقوقيين فتح ملف جرائم الحرب لمقاضاة قوات الاحتلال وقياداتها السياسية خصوصا نتنياهو. وبدون تفعيل ذلك سوف تتواصل الانتهاكات وستكون ظاهرة «الإفلات من العقاب» عنوانا آخر للعدوان والعجز الدولي وخذلان المظلوم والتواطؤ مع الظالم.
إن ما يكابده سكان غزّة من متاعب يومية وحرمان من أبسط مستلزمات الحياة في ظل حصار إسرائيلي شرس، لا يمكن استيعابه إلا من خلال العدسة الفلسطينية نفسها.

القدس العربي

مقالات مشابهة

  • وقف إطلاق النار في غزة.. ماذا بقي للغزاويين؟
  • غوتيريش يحث على إطلاق سراح جميع الأسرى وضمان وقف إطلاق النار دائم في غزة
  • أونروا: نأمل استمرار وقف إطلاق النار في غزة حتى تنفيذ جميع عناصر الاتفاق
  • الأونروا: نأمل استمرار وقف إطلاق النار في غزة حتى تنفيذ جميع مراحل الاتفاق
  • أونروا تطالب باستمرار وقف إطلاق النار في غزة وتنفيذ جميع عناصر الاتفاق
  • مفوض الأونروا يؤكد ضرورة استمرار وقف إطلاق النار في غزة وتنفيذ جميع عناصر الاتفاق
  • ماذا يعني وقف إطلاق النار في غزّة؟
  • ماذا يعني غلق التيك توك بالولايات المتحدة؟
  • جيش الاحتلال: لدينا التزام عميق بإعادة جميع المحتجزين في غزة
  • مصر تدعو المجتمع الدولي لدعم الوقف الدائم لإطلاق النار في غزة