بوابة الوفد:
2025-03-04@13:07:19 GMT

تأملات رمضانية كيمياء السعادة..

تاريخ النشر: 22nd, March 2024 GMT

بداية هذا العنوان ليس من عندى بل هو عنوان أحد رسائل الإمام أبوحامد الغزالى المتوفى 505 هـ الفلسفية وهذه الرسالة على صغرها تكاد تلخص رؤية الغزالى العبقرية فى التوفيق بين الطريقين الفلسفى العقلى والصوفى الوجدانى بلغة بسيطة مقنعة لا يخطئها إلا جاحد أو غير منصف؛ فقد بدأها بالحديث على طريقة فلاسفة اليونان الكبار سقراط وأفلاطون وأرسطو عن ضرورة معرفة جوهر النفس الإنسانية مؤكداً أن من عرف نفسه عرف ربه، ونفس الانسان عنده من شيئين: القلب والروح، والنفس مركب القلب، وللقلب عساكر كما قال سبحانه «وما يعلم جنود ربك إلا هو» والقلب مخلوق لعمل الآخرة طلباً لسعادته، وسعادته فى معرفة ربه عز وجل، ومعرفة ربه تحصل له من صنع الله وهو من جملة عالمه، ولا تحصل له معرفة عجائب العالم إلا عن طريق الحواس، والحواس من القلب والقالب (أى الجسم) مركبه، والمركب لا يقوم الا بالطعام والشراب.

. ولدينا نوعان من العسكر؛ العسكر الظاهر وهم الشهوة والغضب ومنازلهم فى اليدين والرجلين والعينين والأذنين وجميع الأعضاء، والعسكر الباطن ومنزلهم فى الدماغ وهى قوى الخيال والفكر والحفظ والتذكر والوهم ولكل قوة من هذه القوى عمل خاص فإن ضعف واحد منهم ضعف حال ابن آدم فى الدارين (أى الدنيا والآخرة)!

وهنا يكون السؤال: ماعلاقة ذلك بالسعادة وكيميائها؟! 

إن تمام السعادة فى رأى الغزالى مبنى على أشياء ثلاثة هى قوة الغضب وقوة الشهوة وقوة العلم، ويحتاج المرء لتمام سعادته إلى أن يكون الأمر لكل منها متوسطاً بمعنى ألا تزيد قوة الشهوة فتخرجه إلى الرخص فيهلك أو تزيد قوة الغضب فتخرجه إلى الحمق فيهلك، فإذا توسطت القوتان بإشارة قوة العدل (عن طريق اعمال العقل والعلم ) دل على طريق الهداية وسلك الطريق المستقيم.

والطريف أن الغزالى يقرن بين السعادة واللذة ويرى أن سعادة كل شىء هى لذته وراحته وهى تكون بمقتضى طبعه؛ فلذة العين فى الصور الحسنة ولذة الأذن فى الأصوات الطيبة وكذلك سائر الجوارح. فماذا اذن عن لذة القلب؟!

أن لذته الخاصة هى بمعرفة الله سبحانه وتعالى لأنه مخلوق لها، فالمرء إذا وقع فى معرفة الله سبحانه وتعالى فرح بها، ولم يصبر عن المشاهدة لأن لذة القلب– كما قلنا – المعرفة وكلما كانت المعرفة أكبر كانت اللذة أكبر، وهى كمعرفتك بالوزير والملك فإن فرحك بمعرفة الأخير هى الأعظم فرحاً والأكثر لذة! وليس هناك موجود أعظم أو أشرف من الله سبحانه وتعالى لأن شرف كل موجود به ومنه وكل عجائب العالم آثار صنعته فلا معرفة أعز من معرفته ولا لذة أعظم من لذة معرفته وليس منظر أحسن من منظر حضرته. وكل لذات وشهوات الدنيا متعلقة بالنفس وهى تبطل بالموت، أما لذة معرفة الربوبية وهى متعلقة بالقلب فلا تبطل بالموت لأن القلب لا يهلك بالموت بل تكون لذته أكثر وضوؤه أكبر لأنه خرج من الظلمة إلى النور. 

لقد خرج بنا الغزالى هنا من لذة المعارف الحسية والعقلية الدنيوية إلى لذة المعرفة بحقيقة الذات الإلهية وهى المعرفة الأعز والأشرف والأكمل، هى معرفة القلب الذى لم يوهب للإنسان الا ليصله بمعرفة الذات الإلهية وجلالها، فإن لم تطلب أيها الانسان هذه المعرفة الأسمى وغفلت عنها وضيعتها كان ذلك – فيما يقول الغزالى فى نهاية رسالته البديعة – حسرة عظيمة عليك يوم القيامة!

ولذلك فهو يطالبنا بالاجتهاد فى طلبها وترك أشغال الدنيا كلها من أجلها والمعنى هنا أن تترك أشغال الدنيا بقلبك لا أن تترك عملك وتعطل مقومات حياتك كما يظن عامة المتصوفة من الناس! ان الغزالى يعتبر إذن أن الشعور الحقيقى بالسعادة لايتأتى الا بأمرين؛ الأول أن تحيا حياتك الحسية والعقلية منشغلاً بتدبير وسائل السعادة الدنيوية باعتدال وعقلانية، والثانى أن يظل قلبك معلقاً به سبحانه وتعالى فتتقرب اليه بالعبادات والنوافل متأسياً بحياة رسول الله محمد (صلى الله عليه وسلم) فى كل أفعاله وأقواله. وفى النهاية فكل شرف لم يظهر لك فى الدنيا فستراه فى الآخرة فرح بلا غم، وبقاء بلا فناء، وقدرة بلا عجز، ومعرفة بلا جهل وجمال وجلال عظيمان! تلك هى كيمياء السعادة الحقيقية للإنسان العاقل المؤمن، العارف بالله حق المعرفة.

[email protected]

المصدر: بوابة الوفد

كلمات دلالية: نحو المستقبل العنوان رسائل الإمام النفس الإنسانية القلب والروح سبحانه وتعالى

إقرأ أيضاً:

الأيام المعدودات تمضى سريعا

الأيام المعدودات تمضى بنا سريعا فى شهر الرحمة والمغفرة والعتق من النار، فما إن بدأ رمضان حتى تجلت علينا الرحمات واستشعرنا فضل الله علينا، بالتوفيق إلى الصيام والقيام وقراءة القرآن، وسرعان ما ينقضى ثلث الرحمة من رمضان كلمح البصر، ثم نبدأ ثُلث المغفرة من الشهر الكريم، الذى تتنوع فيه العطائات والمنح من الله سبحانه وتعالى لعباده الصائمين.

وإذا كان الثلث الثانى من شهر رمضان المعظم قد ارتبط بالمغفرة، كما بشرنا بذلك النبي صلوات الله وسلامه عليه حيث قال فى الحديث الشريف: " شهر رمضان أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار"، فإن رمضان كله مغفرة ولكن خص الله أوسطه بالمغفرة على سبيل زيادة المغفرة في تلك الأيام لنغتنمها قبل رحيلها، وفي عموم المغفرة في الشهر المبارك قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدَّم من ذنبه"، وقال كذلك: "من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدَّم من ذنبه".

لذا فإن النبي الخاتم سيدنا محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - قد حثنا على اغتنام الأوقات في شهر رمضان طلبا للمغفرة من الله - عز وجل - بأن نؤدى فريضة الصيام على أكمل وجه، موقنين بجزيل ثواب الله وكرمه، محتسبين الأجر عنده سبحانه، وهو الكريم الذي لا تنفد خزائنه.

ودعونا من الحديث عن السنة والبدعة فى التسابق خلال هذا الشهر الكريم إلى فعل الخيرات والطاعات التى لها أصل فى دين الله وإن اختلفت هيئتها وطريقتها وأسلوبها بما يتناسب وطبيعة العصر الذى نعيشه، ما دامت لا تُدخل فى أصل العبادة ماليس فيها بزيادة أو نقصان، ومن ذلك ما يقوم به البعض قبيل أذان المغرب بإعطاء المارة وراكبى السيارات والمواصلات العامة ما يكسر به صيامه من تمر أو عصير أو زجاجة مياه، فيأتى متنطع ذات جهل ويقول: إن هذا لم يفعله الرسول ولا الصحابة ولا التابعون، وهو إن أراد أن يمحو أميته الدينية ويخرج من ظلمة جهله وسأل أهل العلم الشرعى، لأوضحوا له أن هذا الفعل له أصل فى الدين، ومن السنن الحسنة التى تملأ حياتنا ولم يكن لها سابق مثال على نفس الهيئة فى حياة النبى أو الصحابة، وإنما لها أصل فى عموم مفهوم النصوص القرآنية والأحاديث النبوية التى لا يدركها إلا أهل العلم والبصيرة من المتخصصين فى علوم الدين.

إن قيام الليل في رمضان وإحياء لياليه بالصلاة والذكر والتسبيح والاستغفار وقراءة القرآن، وغيرها من الطاعات المستحدثة، مثل توزيع شنط وكراتين المواد الغذائية على المحتاجين، هي سبيل آخر لمغفرة الله سبحانه وتعالى في هذا الشهر الكريم.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يبلغنا ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وفيها تتنزل الرحمات على من قام فيها وأحياها تائبا من ذنبه طائعا لله، لقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: "من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه".

وكذلك من أسباب حصول المغفرة في شهر رمضان، كثرة الاستغفار خاصة في الجزء الأخير من الليل، وهو وقت السحر، الذي ذكره الله تعالى في سورة الذاريات وعده من صفاتِ المتقين، فقال: " إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَٰلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) ". وقال تعالى في سورة آل عمران: "وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ".

اللهم تقبل منا الصيام والقيام وصالح الأعمال، ولا تخرجنا من شهر رمضان إلا مغفورا لنا، اللهم آمين.

[email protected]

مقالات مشابهة

  • الأيام المعدودات تمضى سريعا
  • عالم بالأوقاف يكشف أعظم نعمة يمنحها الله لعباده في الدنيا
  • التقوى مفتاحُ الفوز في الدنيا والآخرة
  • الغايةُ من الصيام
  • رمضان.. الأيام السعيدة
  • صور| كيف حوّل شاب ممراً في تاروت إلى وجهة سياحية رمضانية؟
  • تهنئة رمضانية من أبو تريكة إلى أهل غزة أفضل بشر على كوكب الأرض
  • “فليصمه”
  • «إسلامية دبي» تطلق سلسلة محاضرات رمضانية
  • «تأملات بيانية بالذكر الحكيم» محاضرة قرآنية في نادي مليحة