صحيفة التغيير السودانية:
2025-02-02@08:24:14 GMT

فنون المنحنى

تاريخ النشر: 22nd, March 2024 GMT

فنون المنحنى

فيصل محمد صالح منطقة منحنى النيل في شمال السودان خازنة لإبداعات وفنون وأداب لا حد لها. عرفها الناس بشعر المحبة وأغنيات الحنين، وهم يجدلون كلمات وألحان أغانيهم من شجن دفين وحزن شجي تجاوز حاجز اللهجة المحلية ليدخل قلوب الناس في كل مكان. ربما جزء من وجع الحنين والغربة أنهم عرفوا الهجرة والاغتراب الداخلي، ثم الخارجي منذ عقود طويلة.

يعيش الناس على الزراعة في شريط ضيق عل شاطئ النيل، وحينما يكبر الابناء والبنات وتكبر الاسر لا تعود رقعة الأرض الصغيرة قادرة على كفالة الجميع، فيترك الصغار من الاشقاء الأرض وما فيها لكبارهم، ثم يضربون فجاج الارض بحثا عن الرزق، فينتشرون في كل بقاع السودان، شرقه وغربه وجنوبه، يعملون في كل الوظائف، أو يمتهنون التجارة. هذا أول تهميش اقتصادي معروف في تاريخ السودان، واجهه أهل المنطقة بالهجرة والاغتراب، لكنهم حملوا داخلهم حنينهم وأشواقهم، ودوزنوها شعرا وغناءا حنينا ورقيقا. ثم كبرت المحنة حين تحول أبناء المنطقة الذي نزحوا للمدن والمغتربات إلى نقاط جذب، يعودون للبلد ويختطفون أجمل فتيات القرية بمغريات المدن، ويتركون أخوانهم الترابلة “المزارعين” يشكون حزنهم لطوب الأرض،ويلعنون كل وسائل النقل التي تنقل الحبيبات إلى المنافي. كانت وسائل النقل الاولى اللواري السفرية، والسفن النهرية التي خلدنها أغنيات المنطقة، وصبت عليها اللعنات، الزهرة والجلاء وكربكان وعطارد، ثم السكة حديد. الشاعر حسن الدابي، عميد شعراء المنطقة، لم يترك منهن وسيلة إلا ولعنها : ” ربنا مالك الممالك، يحرق “الكومر” الشالك، انتي يا زهرة جنان مالك، فارقتي القرير مالك..؟”. وذات حين تجرأ الشاعر الشاب، وقتها، عبد الله محمد خير، وشكا لود الدابي من ما فعلته الباخرة :” ود الدابي مالك ساكت، ما شفت “الجلاء” السواها، شال محبوبتي سافر بيها، كيف أقدر أعيش لولاها” ثم أوصاه أن يقابلها عند محطة القرير : ” ما بتحمل حبيبتى الغربة ..لا لا وحاتا مو قادراها، وكيف حالا إن مشت فى بلدا.. حارة وناسا مو شاكراها، كان فات المحطات جملة.. يا حسن القرير بغشاها، قوم يوم التلاتاء أندلا.. بى تالا الرصيف تلقاها، ما تعاين كتير وتشبه.. ديك إياها ديك مو ياها، باينة حبيبتى من بسماتا.. والنور يضوى من محياها” وبالمناسبة البلد المقصودة بورتسودان، وقد قلت لعبد الله محمد خير” يازول انت زعلان على سفر حبيبتك..مالك ومال بلدنا.. حارة ..باردة..عاجبانا” وبالطبع لم يقصر حسن الدابي ولم يتردد في الرد عل الشاعر الشاب غير المعروف، ويكفي أنه استنجد به، فكتب قصيدته التي استهدف فيها الباخرة “الجلاء” بالدمار الشامل، ويبدو أن له تار قديم معها :” صحيح ياعبدو أخوى قولك حقيقة، كتير الطفشا ( الجلا ) من فريقا، يزازى نقل سميحات الخليقة، ورنين صفارتو نفسى أبت تطيقا، معاها انا كيف اسوى شنو الطريقة، تعيق فى الناس اله الناس يعيقا، أنا إتمنالا فى دالة غريقة، تحتل فيها ما تفضل شقيقة، تطير ريشاتا منها بى فريقه، وصميم مكناتا تلتهمو الحريقة، قمرات نوما تسكنن أم دريقة، وتولد فى عنابره عشان غريقة” وأم دريقة هي سلحفاة النيل. ويبدو أن كل الحبيبات قد جئن لبورتسودان، فالباخرة “الزهرة” حملت حبيبة الشاعر كنة من الدبة لبورتسودان، وسجل رحلتها شعرا قريبا من رحلة “من الاسكلة وحلا” “ﻳﻮﻡ ﺑﺎﺑﻮﺭﺍ ﻗﺎﻡ ﻓﺮﺍ، ﻭﺭﺍﻫﻮ ﺍﺻﺒﺤﺖ ﻓﻲ ﺣﺴﺮة، ﻣﻦ ﺍﻟﺪﺑﺔ ﻭﺍﻧﺠﺮﺍ، ﺳﺮﻳﻊ ﺍﻟﻨﻬﻤﺔ ﻓﺎﺗﺎ ﺟﺮﺍ، ﺟﺮﻭﺡ ﻗﻠﺒﻲ ﺍﻻﺑﺖ ﺗﺒﺮﺍ، ﺯﻭﻟﻲ ﺍﻟﺸﺎﻟﺘﻮ ﺍﻟﺰﻫﺮة، ﺩﻗﺎﺋﻖ ﻭﺗﺎﻧﻲ ﻗﺎﻡ ﻓﺮﺍ، ﻭﻓﺎﺗﻬﺎ ﻗﺸﺎﺑﻲ ﺑﺎﻟﻤـﺮة، ﺍﻟﻌﻔﺎﺽ ﺧﻼﻫــﻮ ﻭﺭﺍ، ﻭﻫﻮ ﺧﺎﺷﻲ ﻗﻨﺘﻲ ﺑﺎﻥ ﺷﺪﺭﺍ، ﻣﻦ ﻣﻨﺼﻮﺭﻛﺘﻲ ﻗـﺎﻡ ﻭﺟﺮﺍ..” ويواصل الشاعر الرحلة بعد ذلك بالقطار من عطبرة، حتى يسلمها لنا في حينا في بورتسودان ” ﻭﻫﻴﺎ ﻭﺳﻨﻜﺎﺕ ﻃﺮﻕ ﻭﻋﺮة، ﻃﻮﻳﻠة ﻣﻤﻠة ﺩﻱ ﺍﻟﺴﻔﺮة، ﻭﺑﻮﺭﺳﻮﺩﺍﻥ ﺣﺪ ﺍﻟﺮﺣﻠة، ﺍﻟﺴﻜﻮﻥ ﺩﻳﻢ ﺳﻠﺒﻮﻧﺎ ﺑﺮة..وسلام يا ساكن الحارة” وللقطار نصيب من لعنات شعراء المنطقة، فهاهو ود الدابي نفسه، وهذا ظن مني ولست متأكدا، لا يترك للقطار صفحة يرقد عليها ” يا حليلا بلا عدد.. قالوا شالا قطار الاحد، فى الرصيف حسو بلا الرعد… اسأل الله مكنتو تنقد، قولو آمين باكمو ينسد.. يلقو فى الكاسنجر خرد، تمو يا مولاى لى غرد.. القضيب للداخلة ينهد، شال حبيبتى من البلد.. سابنى حوت منو النيل شرد” ..أها شفتوا حسادة زي دي، المهم أن هذه الحبيبة قد رحلت للخرطوم، ونجت بورتسودان، حفظها الله ، من لعنات الشاعر. الشاعر حسن الدابي عالم قائم بذاته، وهو رفيق رحلة الفنان العظيم النعام أدم، وصاحب مجموعة من أجمل أغنيات للنعام ولفنانين أخرين .. مثل ” مادام طار جنى الوزين يادوب قل نوم العين”وأغنية ” يا عيون ابكي دمع الدم” …و”الرايقة شتيلة قريرا.” ..”ويا خلايا فجولي الأشوفا” وبالمناسبة أول أغنية معروفة لحميد كانت عن الغربة، حيث سافر من نوري لعطبرة للدراسة، وكتب ” وريني شن طعم الدروس ما دام مكانا مشي قطر، كيف زاتا ترتاح النفوس تقبل قراية في سفر. ولا تندهش من كونه اعتبر عطبرة غربة ، فالشاعر الأخر أيضا يتحسر.. ” قريرنا معاكي شن لوما..تفضلي نوري وسموما، وتسوي السبب الحكومة” وأظنها كانت مدرسة تم نقلها هي أو ولي أمرها، وبين نوري والقرير فركة كعب. وهناك شعر وغناء ولعنات أيضا لسائقي اللواري السفرية والبصات ، وأشهرهم صابر جرا، أشهر سائقي تلك الفترة بين أمدرمان والدبة ” البلد مالك هاجرا،.. صابحي حزناني مقنجرة..وادو وين يا صابر جرا..؟” تحية لشعراء المنطقة، من جيل خضر محمود، حسن الدابي، إيراهيم أبنعوف، نور الهدى كنة، إلى جيل الوسط السر عثمان الطيب، محمد سعيد دفع الله، سيد أحمد عبد الحميد، ثم محمد الحسن سالم حميد، خالد شقوري، محمد سفلة، الفاتح إبراهيم بشير، عطا الكنيبلي، محمد أحمد الحبيب، وعشرات غيرهم لم أذكرهم لقلة معرفتي وعدم التفرغ للبحث وإن بقي وقت قريب فغاية أملي أن استطيع أن أكتب عن صديقي الراحل الشاعر عبد الله محمد خير الذي جمعتني به الصدف الجميلة، ثم عن ظاهرة شعرية وإنسانية عجيبة هي الشاعر محمد أحمد الحبيب، شاعر العابرات، ثم الظاهرة الاخرى وهي الفنان محمد النصري. هل سمعتم محمد النصري يغني للشاعر عطا الكنيبلي ” عمر الضحكة أقصر…من أن نشهقا، وحبل المنية أفتر..من نتعلقا، وكلهن احتمالين..يا شقا..ياشقا”..أها شفتوا جن زي دة..؟ محنة أهل المنطقة وحنينهم الدائم لها لا تجسده الاغنيات والاشعار وحدها، بل حتى النكات، قالوا أن واحد من أبناء المنطقة يبيع التمبك في كسلا، وجاءه إثنان من أبناء البجا ليشتروا نصيبهم من الفرح المعبأ في أكياس، على قول صديقنا الشاعر مختار دفع الله، وجدوه يرفع عقيرته مع المسجل وهو يغني “متين نرجع للبلد طولنا ..من أرض الحنان” ودموعه تسيل، أخذ البجاوي سفة كاربة..ثم مال على رفيقه ليهمس له..”يبكي…لكن ما بيرجع”. الوسومفيصل محمد صالح

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: فيصل محمد صالح

إقرأ أيضاً:

" علاء سمير " السروجى الكفيف حولت النقمة لنعمة

في محافظة القليوبية وفى دكان بسيط منحه له احد جيرانه بدون مقابل يعمل علاء سمير عبد البديع ابن محافظة الشرقية  البالغ من العمر ٤٨ عاما والذى يعيش حاليا بمدينة شبين القناطر مع زوجته وابنائه
والذى تحولت حياته وفقا لتعبيره الى جحيم لفترة من الزمن بعد أن فقد بصره عام ٢٠١٦ أى منذ قرابة ال ٩ سنوات .
يقول علاء وقتها فقدت الأمل في كل شيء ولم ارى ماذا أفعل في حياتى التى تغيرت رأسا على عقب فأصبحت أعيش على الدنيا وكأنني " ميت" حتى قررت ان أجلس مع نفسي قلت لنفسي أنا ماهر في مهنتى ولكننى الآن لا أرى وكيف أستطيع استخدام الادوات من مقص وشاكوش ومسله وغيرها من مستلزمات المهنة بدون رؤية وقررت ان اجرب
واحضرت ادواتى وجلست في الشارع بحثت عن عودة الامل وابدء رحلة البحث عن الرزق للإنفاق على اسرتى وكانت البداية في حضور احد الزبائن والذى احضر لى " رقبية" للحصان والتى توضع حول رقبة الحصان والحمار لحمايتها واضفاء لمسة جمالية عليه وخاصة للمهتمين بالخيول وتربيتها وخاصة الخيل  العربي وكذلك الحمير .
مضيفا مع اول طلب للرزق وعودة الأمل في حياة جديدة معتمدا على نور البصيرة والعودة للعمل من جديد في صناعة كافة اكسسورات الخيول استحيت ان ارفض طلبه وقلت له  اتركها .
وعندما تركها لى جلست افكر اعملها ازاى اعيش معاها ازاى وأنا لا أرى .
بعدها احضرت المسامير والأدوات وغيرت الكسوة بالكامل والحمد لله طلعت حلوة.
قررت بعدها ان استمر في العمل وأن امشي وسط الناس باحثا عن رزق اسرتى حتى توقفت رحلة السير في مكانى الحالة.
معقبا بقوله: الجميع لم يكن ليصدق اننى اعمل في تلك المهنة وكيف أمسك بالمسلة والضم الخيوط والألياف واخيط قطع القماش والجلود بدون رؤيتها.
ومع الوقت انزل الله محبتى في قلوب الناس وبدأوا في إحضار كل مستلزمات الخيول والحمير لاصنعها لهم واصلح التالف منها وكانوا يحضرون لى اكسسورات ربما لا تصلح للاصلاح فالتلف نال منها بالكامل ولكننى بفضل الله كنت اعيدها لحالتها الاولى وبمهارة وبأجر بسيط فانا ارضى بقليل الرزق واسعد به فقد كان همى ان اعمل واعود وسط الناس ولم يكن هدفى جمع المال 
فقد تعلمت هذه المهنة من والدى واجدادى وكنت احبها وابدع فيها.
وعندما وجدنى احد المواطنين أعمل في الشارع منحنى هذا المحل وقال لى اعتبره مكانا للرزق وبدأت رحلة العودة للحياة من جديد من أجل الانفاق على ٣ أبناء وعلى تعليمهم ففقدانى البصر لم يكون ولن يكون سببا في فقدانهم لمدارسهم وتعليمهم.
وواصلت العمل من اجل اسرتى داعيا الله ألا يحوجنى لأحد .
وناشد علاء السروجى الكفيف وزير الصحة للتدخل وعلاجه واعادة نور عينيه الذى فقده دون مقدمات فقد استيقظ فاقد البصر منذ ٩ سنوات معقبا بقوله " لو وزير الصحة شايفنى ياريت يعالجنى ويبقي كتر خيره" 
مضيفا .. أنا فقدت بصرى لكن أرى بقلبي وبعقلى وهذه نعمة من الله عز وجل اشكره عليها .
مستطردا بقوله " الاعاقة ليست في البصر ولكن الأعاقة في العقل والتفكير ولا املك ألا ان اشكر الله على كل ما ما منحنى اياه من نعم البصيرة

السروجى الكفيف 1000279740 1000279727 1000279645 1000279741 1000279728

مقالات مشابهة

  • وكيل الأزهر: الكليات العلمية بالأزهر تعيش نهضة حقيقية
  • " علاء سمير " السروجى الكفيف حولت النقمة لنعمة
  • وكيل الأزهر يشارك في حفل تخريج دفعتين لطب الأزهر بدمياط
  • كيف يكون النداء على الناس يوم القيامة بأبائهم أم أمهاتهم؟.. الإفتاء تكشف
  • دار الكتب تناقش كتاب المراغي في معرض الكتاب
  • الشاعر الماليزي رجا أحمد أمين الله يلقي أربع قصائد في معرض الكتاب
  • محاكمة المتهم بقتل "مالك مقهى أسوان" في مصر الجديدة
  • الدكتور محمد مهنا: تعدد الطرق الصوفية يعكس قدرات الناس في إدراك الحقيقة الإلهية
  • القبيلة اليمنية … استهدافها في الماضي ودورها في الحاضر والمستقبل
  • كيف كان النبي يستقبل شهر شعبان؟ أعمال مأثورة ومستحبة