صحيفة التغيير السودانية:
2024-09-02@01:40:33 GMT

فنون المنحنى

تاريخ النشر: 22nd, March 2024 GMT

فنون المنحنى

فيصل محمد صالح منطقة منحنى النيل في شمال السودان خازنة لإبداعات وفنون وأداب لا حد لها. عرفها الناس بشعر المحبة وأغنيات الحنين، وهم يجدلون كلمات وألحان أغانيهم من شجن دفين وحزن شجي تجاوز حاجز اللهجة المحلية ليدخل قلوب الناس في كل مكان. ربما جزء من وجع الحنين والغربة أنهم عرفوا الهجرة والاغتراب الداخلي، ثم الخارجي منذ عقود طويلة.

يعيش الناس على الزراعة في شريط ضيق عل شاطئ النيل، وحينما يكبر الابناء والبنات وتكبر الاسر لا تعود رقعة الأرض الصغيرة قادرة على كفالة الجميع، فيترك الصغار من الاشقاء الأرض وما فيها لكبارهم، ثم يضربون فجاج الارض بحثا عن الرزق، فينتشرون في كل بقاع السودان، شرقه وغربه وجنوبه، يعملون في كل الوظائف، أو يمتهنون التجارة. هذا أول تهميش اقتصادي معروف في تاريخ السودان، واجهه أهل المنطقة بالهجرة والاغتراب، لكنهم حملوا داخلهم حنينهم وأشواقهم، ودوزنوها شعرا وغناءا حنينا ورقيقا. ثم كبرت المحنة حين تحول أبناء المنطقة الذي نزحوا للمدن والمغتربات إلى نقاط جذب، يعودون للبلد ويختطفون أجمل فتيات القرية بمغريات المدن، ويتركون أخوانهم الترابلة “المزارعين” يشكون حزنهم لطوب الأرض،ويلعنون كل وسائل النقل التي تنقل الحبيبات إلى المنافي. كانت وسائل النقل الاولى اللواري السفرية، والسفن النهرية التي خلدنها أغنيات المنطقة، وصبت عليها اللعنات، الزهرة والجلاء وكربكان وعطارد، ثم السكة حديد. الشاعر حسن الدابي، عميد شعراء المنطقة، لم يترك منهن وسيلة إلا ولعنها : ” ربنا مالك الممالك، يحرق “الكومر” الشالك، انتي يا زهرة جنان مالك، فارقتي القرير مالك..؟”. وذات حين تجرأ الشاعر الشاب، وقتها، عبد الله محمد خير، وشكا لود الدابي من ما فعلته الباخرة :” ود الدابي مالك ساكت، ما شفت “الجلاء” السواها، شال محبوبتي سافر بيها، كيف أقدر أعيش لولاها” ثم أوصاه أن يقابلها عند محطة القرير : ” ما بتحمل حبيبتى الغربة ..لا لا وحاتا مو قادراها، وكيف حالا إن مشت فى بلدا.. حارة وناسا مو شاكراها، كان فات المحطات جملة.. يا حسن القرير بغشاها، قوم يوم التلاتاء أندلا.. بى تالا الرصيف تلقاها، ما تعاين كتير وتشبه.. ديك إياها ديك مو ياها، باينة حبيبتى من بسماتا.. والنور يضوى من محياها” وبالمناسبة البلد المقصودة بورتسودان، وقد قلت لعبد الله محمد خير” يازول انت زعلان على سفر حبيبتك..مالك ومال بلدنا.. حارة ..باردة..عاجبانا” وبالطبع لم يقصر حسن الدابي ولم يتردد في الرد عل الشاعر الشاب غير المعروف، ويكفي أنه استنجد به، فكتب قصيدته التي استهدف فيها الباخرة “الجلاء” بالدمار الشامل، ويبدو أن له تار قديم معها :” صحيح ياعبدو أخوى قولك حقيقة، كتير الطفشا ( الجلا ) من فريقا، يزازى نقل سميحات الخليقة، ورنين صفارتو نفسى أبت تطيقا، معاها انا كيف اسوى شنو الطريقة، تعيق فى الناس اله الناس يعيقا، أنا إتمنالا فى دالة غريقة، تحتل فيها ما تفضل شقيقة، تطير ريشاتا منها بى فريقه، وصميم مكناتا تلتهمو الحريقة، قمرات نوما تسكنن أم دريقة، وتولد فى عنابره عشان غريقة” وأم دريقة هي سلحفاة النيل. ويبدو أن كل الحبيبات قد جئن لبورتسودان، فالباخرة “الزهرة” حملت حبيبة الشاعر كنة من الدبة لبورتسودان، وسجل رحلتها شعرا قريبا من رحلة “من الاسكلة وحلا” “ﻳﻮﻡ ﺑﺎﺑﻮﺭﺍ ﻗﺎﻡ ﻓﺮﺍ، ﻭﺭﺍﻫﻮ ﺍﺻﺒﺤﺖ ﻓﻲ ﺣﺴﺮة، ﻣﻦ ﺍﻟﺪﺑﺔ ﻭﺍﻧﺠﺮﺍ، ﺳﺮﻳﻊ ﺍﻟﻨﻬﻤﺔ ﻓﺎﺗﺎ ﺟﺮﺍ، ﺟﺮﻭﺡ ﻗﻠﺒﻲ ﺍﻻﺑﺖ ﺗﺒﺮﺍ، ﺯﻭﻟﻲ ﺍﻟﺸﺎﻟﺘﻮ ﺍﻟﺰﻫﺮة، ﺩﻗﺎﺋﻖ ﻭﺗﺎﻧﻲ ﻗﺎﻡ ﻓﺮﺍ، ﻭﻓﺎﺗﻬﺎ ﻗﺸﺎﺑﻲ ﺑﺎﻟﻤـﺮة، ﺍﻟﻌﻔﺎﺽ ﺧﻼﻫــﻮ ﻭﺭﺍ، ﻭﻫﻮ ﺧﺎﺷﻲ ﻗﻨﺘﻲ ﺑﺎﻥ ﺷﺪﺭﺍ، ﻣﻦ ﻣﻨﺼﻮﺭﻛﺘﻲ ﻗـﺎﻡ ﻭﺟﺮﺍ..” ويواصل الشاعر الرحلة بعد ذلك بالقطار من عطبرة، حتى يسلمها لنا في حينا في بورتسودان ” ﻭﻫﻴﺎ ﻭﺳﻨﻜﺎﺕ ﻃﺮﻕ ﻭﻋﺮة، ﻃﻮﻳﻠة ﻣﻤﻠة ﺩﻱ ﺍﻟﺴﻔﺮة، ﻭﺑﻮﺭﺳﻮﺩﺍﻥ ﺣﺪ ﺍﻟﺮﺣﻠة، ﺍﻟﺴﻜﻮﻥ ﺩﻳﻢ ﺳﻠﺒﻮﻧﺎ ﺑﺮة..وسلام يا ساكن الحارة” وللقطار نصيب من لعنات شعراء المنطقة، فهاهو ود الدابي نفسه، وهذا ظن مني ولست متأكدا، لا يترك للقطار صفحة يرقد عليها ” يا حليلا بلا عدد.. قالوا شالا قطار الاحد، فى الرصيف حسو بلا الرعد… اسأل الله مكنتو تنقد، قولو آمين باكمو ينسد.. يلقو فى الكاسنجر خرد، تمو يا مولاى لى غرد.. القضيب للداخلة ينهد، شال حبيبتى من البلد.. سابنى حوت منو النيل شرد” ..أها شفتوا حسادة زي دي، المهم أن هذه الحبيبة قد رحلت للخرطوم، ونجت بورتسودان، حفظها الله ، من لعنات الشاعر. الشاعر حسن الدابي عالم قائم بذاته، وهو رفيق رحلة الفنان العظيم النعام أدم، وصاحب مجموعة من أجمل أغنيات للنعام ولفنانين أخرين .. مثل ” مادام طار جنى الوزين يادوب قل نوم العين”وأغنية ” يا عيون ابكي دمع الدم” …و”الرايقة شتيلة قريرا.” ..”ويا خلايا فجولي الأشوفا” وبالمناسبة أول أغنية معروفة لحميد كانت عن الغربة، حيث سافر من نوري لعطبرة للدراسة، وكتب ” وريني شن طعم الدروس ما دام مكانا مشي قطر، كيف زاتا ترتاح النفوس تقبل قراية في سفر. ولا تندهش من كونه اعتبر عطبرة غربة ، فالشاعر الأخر أيضا يتحسر.. ” قريرنا معاكي شن لوما..تفضلي نوري وسموما، وتسوي السبب الحكومة” وأظنها كانت مدرسة تم نقلها هي أو ولي أمرها، وبين نوري والقرير فركة كعب. وهناك شعر وغناء ولعنات أيضا لسائقي اللواري السفرية والبصات ، وأشهرهم صابر جرا، أشهر سائقي تلك الفترة بين أمدرمان والدبة ” البلد مالك هاجرا،.. صابحي حزناني مقنجرة..وادو وين يا صابر جرا..؟” تحية لشعراء المنطقة، من جيل خضر محمود، حسن الدابي، إيراهيم أبنعوف، نور الهدى كنة، إلى جيل الوسط السر عثمان الطيب، محمد سعيد دفع الله، سيد أحمد عبد الحميد، ثم محمد الحسن سالم حميد، خالد شقوري، محمد سفلة، الفاتح إبراهيم بشير، عطا الكنيبلي، محمد أحمد الحبيب، وعشرات غيرهم لم أذكرهم لقلة معرفتي وعدم التفرغ للبحث وإن بقي وقت قريب فغاية أملي أن استطيع أن أكتب عن صديقي الراحل الشاعر عبد الله محمد خير الذي جمعتني به الصدف الجميلة، ثم عن ظاهرة شعرية وإنسانية عجيبة هي الشاعر محمد أحمد الحبيب، شاعر العابرات، ثم الظاهرة الاخرى وهي الفنان محمد النصري. هل سمعتم محمد النصري يغني للشاعر عطا الكنيبلي ” عمر الضحكة أقصر…من أن نشهقا، وحبل المنية أفتر..من نتعلقا، وكلهن احتمالين..يا شقا..ياشقا”..أها شفتوا جن زي دة..؟ محنة أهل المنطقة وحنينهم الدائم لها لا تجسده الاغنيات والاشعار وحدها، بل حتى النكات، قالوا أن واحد من أبناء المنطقة يبيع التمبك في كسلا، وجاءه إثنان من أبناء البجا ليشتروا نصيبهم من الفرح المعبأ في أكياس، على قول صديقنا الشاعر مختار دفع الله، وجدوه يرفع عقيرته مع المسجل وهو يغني “متين نرجع للبلد طولنا ..من أرض الحنان” ودموعه تسيل، أخذ البجاوي سفة كاربة..ثم مال على رفيقه ليهمس له..”يبكي…لكن ما بيرجع”. الوسومفيصل محمد صالح

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: فيصل محمد صالح

إقرأ أيضاً:

إعلاميون يعددون مآثر الفقيد.. الموت يغيب رجل الخير والإنسانية عبدالله رضوان

جدة – ياسر خليل

فُجعت الأوساط الاجتماعية والصحفية برحيل عضو الجمعية العمومية بمؤسسة البلاد للصحافة والنشر السيد عبدالله بن السيد بكر رضوان، الذي وافته المنية في مدينة هيوستن بالولايات المتحدة الأمريكية بعد مشوار حافل بالإنجازات في مجال الإدارة وريادة الأعمال.

عبد الله رضوان، الذي درس في مدرسة طيبة الثانوية بالمدينة المنورة، وتخرج في جامعة الملك عبد العزيز بجدة، بكالوريوس إدارة الأعمال قسم المحاسبة، شغل مناصب عدة من بينها: رئيس لجنة التشييد والعقار بالغرفة التجارية الصناعية بجدة سابقاً، والرئيس السابق للجنة المقاولين الوطنية بالرياض، وكان عضواً بإدارة المجلس المحلي لتطوير محافظة جدة سابقاً، وعضو مجلس إدارة سابق للمؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية بالرياض، وعضو اللجنة التنفيذية في جمعية الأمير ماجد للتنمية الاجتماعية، وعضو الاتحاد العربي للخرسانة الجاهزة، وكذلك عضو اتحاد المقاولين الإسلامي، وعضو اللجنة الاستشارية لتطوير المدينة المنورة، وعضو مجلس إدارة الاتحاد العربي للأسمنت، وعضو لجنة تطوير مدرسة طبية بالمدينة المنورة، وعضو سابق في مجلس إدارة اللجنة الوطنية للمحاسبين القانونيين بالرياض.


وقال الأستاذ حسن سليمان رضوان: عند ذكر اسم عبدالله رضوان يتبادر إلى ذهني ذلك المواطن الكريم الذي قدم لوطنه كل ما يستطيع من خدمات، أولها تلك المنشآت الضخمة والمرافق الباذخة التي قامت شركته بإنشائها سواء في جدة أو مكة وغيرها من المدن.

وأضاف: لقد نذر عبد الله رضوان -رحمة الله- شبابه لخدمة وطنه ولم يتردد في مساعدة من يستحق المساعدة، ولقد خسرنا بوفاته مواطناً كريماً ونبيلاً. نرجو من الله عز وجل أن يحتسب له كل ما قدمه، وأن يجعل مرضه كفارة لذنوبه. وختم حسن بقوله: أعزي أسرته وإخوانه وآل رضوان وأعزي الوطن في الفقيد الكريم رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته.


ويقول عضو مجلس إدارة مؤسسة البلاد للصحافة والنشر الأستاذ خالد المعينا: عبدالله بكر رضوان رجل امتاز بالحس الإنساني النبيل، فنال حب الناس. أعرفه منذ زمن طويل فهو بشوش وتقي ونقي، وملامح الطيبة فيه تعكس كم كانت أياديه بيضاء. لا يبخل على الناس وعمل بقدر ما يستطيع لخدمتهم. وكنا نثقل عليه في طلباتنا لمساندة من نعرفهم من الناس فلا يتردد، وظل دوماً مسانداً لكل محتاج.

وأضاف: في مرحلة صحيفة البلاد ظل الرجل المساند والداعم والمتفهم لمشاكل الصحيفة وحريص كل الحرص على الاستمرارية ومساند الإدارة بكل إخلاص وتفاني، ومستوعب بشكل عصري لمرحلة الانتقال من التقليد الصحفي القديم للجديد، ومشجع لها بكل حماس المترقب للجديد الذي يواكب العصر. ولم يشتك من مرضه، بل دائم الحمد لله، والآن بوفاته خسرنا إنساناً طابعه الكرم والنبل، ندعو الله يجعل كل ما قدمه من أعمال الخير ومساعدة المحتاجين في موازين حسناته، وأن يدخله جنات عرضها السموات والأرض.


في السياق، يقول الكاتب طلال سالم تركي: رحم الله أستاذنا ووالدنا الجليل الذي كان مثالاً وقدوة في حياتنا، ورحيله سيترك فراغاً كبيرًا في مجتمعه ووطنه، فكان -رحمه الله- محبا للجميع وساعياً للخير، وكان نموذجاً ومثالاً للإنسانية، ويحرص على صلة الرحم ومحباً لأبنائه وأحفاده. لقد رحل لكنه سيبقى في قلوب محبيه، ورفاقه، بما تركه فيهم من أثر، وما أورثه لمحبيه من سيرة حسنة، وذكريات نبيلة ماثلة في ذاكرة محبيه وأصدقائه قبل ذويه.

ومضى طلال قائلاً: لقد كان -رحمه الله- يتمتع بمكانة كبيرة في نفوس أبنائه المواطنين بمختلف فئاتهم وشرائحهم، تلك المكانة التي غرسها في قلوب الناس أبوة حانية ورعاية كريمة واهتماماً لا ينتهي أو يضمحل، وسطرها في سجل التاريخ إنجازاً يستحق التقدير والإعجاب وأعمالاً ماثلة تحكي مسيرة العظماء وعطاءات المخلصين.


إلى ذلك، نعى الكاتب إسماعيل شعراوي الفقيد قائلاً: تلقيت ببالغ الحزن والأسى نبأ وفاة الوالد عبدالله رضوان، وأتقدم بخالص العزاء وصادق المواساة إلى أهله وذويه ومحبيه، سائلًا الله تعالى أن يتغمده بواسع رحمته، وأن يسكنه فسيح جناته. وأضاف: رحلة والدنا عبدالله كانت مليئة بالكفاح والنضال حمل معهما رسالة إنسانية آمن بها، وترك إرثاً من محبة الناس له، فالجميع يدعون له بالرحمة والمغفرة، كما لا ننسى اهتمامه الكبير بالمساهمة في دفع عجلة التنمية في الوطن عبر شركته ومشاريعه المتنوعة. وأؤكد أن للفقيد ميزة أجمع عليها كل من عرفوه وهي حسن الخلق والتواضع في التعامل والمهنية في عمله، لذلك ملك قلوب الكثيرين واحترامهم، فرحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته.

مقالات مشابهة

  • .. وتكتشف بأنك أضعت حياتك خوفا مما سيقال
  • قصور الثقافة تكرّم ٧٠ موهبة أدبية في ختام أنشطة نادي الكتابة الإبداعية بمركز طنطا الثقافي
  • محمود عامر: الناس استفادت من ورايا بسبب تريند جوازي وأنا الوحيد اللي مستفدش
  • انطلاق مؤتمر مرجعية التراث الثقافي وإشكالية التجريب في إقليم وسط الصعيد الثلاثاء المقبل
  • إعلاميون يعددون مآثر الفقيد.. الموت يغيب رجل الخير والإنسانية عبدالله رضوان
  • الثلاثاء .. انطلاق مؤتمر "مرجعية التراث الثقافي وإشكالية التجريب في إقليم وسط الصعيد"
  • علي جمعة: الإسلام دينًا يتمنى كل عاقل لو انتسب إليه
  • الأزهر للفتوى: النبي قدم بر الوالدين على الجهاد في سبيل الله
  • العلامة فضل الله: على القوى السياسية تحمل مسؤوليتها تجاه الناس والعمل لإخراجهم من معاناتهم
  • محمد موسى: التسول الإلكتروني يواكب تطورات العصر