فيصل محمد صالح منطقة منحنى النيل في شمال السودان خازنة لإبداعات وفنون وأداب لا حد لها. عرفها الناس بشعر المحبة وأغنيات الحنين، وهم يجدلون كلمات وألحان أغانيهم من شجن دفين وحزن شجي تجاوز حاجز اللهجة المحلية ليدخل قلوب الناس في كل مكان. ربما جزء من وجع الحنين والغربة أنهم عرفوا الهجرة والاغتراب الداخلي، ثم الخارجي منذ عقود طويلة.
يعيش الناس على الزراعة في شريط ضيق عل شاطئ النيل، وحينما يكبر الابناء والبنات وتكبر الاسر لا تعود رقعة الأرض الصغيرة قادرة على كفالة الجميع، فيترك الصغار من الاشقاء الأرض وما فيها لكبارهم، ثم يضربون فجاج الارض بحثا عن الرزق، فينتشرون في كل بقاع السودان، شرقه وغربه وجنوبه، يعملون في كل الوظائف، أو يمتهنون التجارة. هذا أول تهميش اقتصادي معروف في تاريخ السودان، واجهه أهل
المنطقة بالهجرة والاغتراب، لكنهم حملوا داخلهم حنينهم وأشواقهم، ودوزنوها شعرا وغناءا حنينا ورقيقا. ثم كبرت المحنة حين تحول أبناء المنطقة الذي نزحوا للمدن والمغتربات إلى نقاط جذب، يعودون للبلد ويختطفون أجمل فتيات القرية بمغريات المدن، ويتركون أخوانهم الترابلة “المزارعين” يشكون حزنهم لطوب الأرض،ويلعنون كل وسائل النقل التي تنقل الحبيبات إلى المنافي. كانت وسائل النقل الاولى اللواري السفرية، والسفن النهرية التي خلدنها أغنيات المنطقة، وصبت عليها اللعنات، الزهرة والجلاء وكربكان وعطارد، ثم السكة حديد.
الشاعر حسن الدابي، عميد شعراء المنطقة، لم يترك منهن وسيلة إلا ولعنها : ” ربنا مالك الممالك، يحرق “الكومر” الشالك، انتي يا زهرة جنان مالك، فارقتي القرير مالك..؟”. وذات حين تجرأ الشاعر الشاب، وقتها، عبد
الله محمد خير، وشكا لود الدابي من ما فعلته الباخرة :” ود الدابي مالك ساكت، ما شفت “الجلاء” السواها، شال محبوبتي سافر بيها، كيف أقدر أعيش لولاها” ثم أوصاه أن يقابلها عند محطة القرير : ” ما بتحمل حبيبتى الغربة ..لا لا وحاتا مو قادراها، وكيف حالا إن مشت فى بلدا.. حارة وناسا مو شاكراها، كان فات المحطات جملة.. يا حسن القرير بغشاها، قوم يوم التلاتاء أندلا.. بى تالا الرصيف تلقاها، ما تعاين كتير وتشبه.. ديك إياها ديك مو ياها، باينة حبيبتى من بسماتا.. والنور يضوى من محياها” وبالمناسبة البلد المقصودة بورتسودان، وقد قلت لعبد الله محمد خير” يازول انت زعلان على سفر حبيبتك..مالك ومال بلدنا.. حارة ..باردة..عاجبانا” وبالطبع لم يقصر حسن الدابي ولم يتردد في الرد عل الشاعر الشاب غير المعروف، ويكفي أنه استنجد به، فكتب قصيدته التي استهدف فيها الباخرة “الجلاء” بالدمار الشامل، ويبدو أن له تار قديم معها :” صحيح ياعبدو أخوى قولك حقيقة، كتير الطفشا ( الجلا ) من فريقا، يزازى نقل سميحات الخليقة، ورنين صفارتو نفسى أبت تطيقا، معاها انا كيف اسوى شنو الطريقة، تعيق فى الناس اله الناس يعيقا، أنا إتمنالا فى دالة غريقة، تحتل فيها ما تفضل شقيقة، تطير ريشاتا منها بى فريقه، وصميم مكناتا تلتهمو الحريقة، قمرات نوما تسكنن أم دريقة، وتولد فى عنابره عشان غريقة” وأم دريقة هي سلحفاة النيل. ويبدو أن كل الحبيبات قد جئن لبورتسودان، فالباخرة “الزهرة” حملت حبيبة الشاعر كنة من الدبة لبورتسودان، وسجل رحلتها شعرا قريبا من رحلة “من الاسكلة وحلا” “ﻳﻮﻡ ﺑﺎﺑﻮﺭﺍ ﻗﺎﻡ ﻓﺮﺍ، ﻭﺭﺍﻫﻮ ﺍﺻﺒﺤﺖ ﻓﻲ ﺣﺴﺮة، ﻣﻦ ﺍﻟﺪﺑﺔ ﻭﺍﻧﺠﺮﺍ، ﺳﺮﻳﻊ ﺍﻟﻨﻬﻤﺔ ﻓﺎﺗﺎ ﺟﺮﺍ، ﺟﺮﻭﺡ ﻗﻠﺒﻲ ﺍﻻﺑﺖ ﺗﺒﺮﺍ، ﺯﻭﻟﻲ ﺍﻟﺸﺎﻟﺘﻮ ﺍﻟﺰﻫﺮة، ﺩﻗﺎﺋﻖ ﻭﺗﺎﻧﻲ ﻗﺎﻡ ﻓﺮﺍ، ﻭﻓﺎﺗﻬﺎ ﻗﺸﺎﺑﻲ ﺑﺎﻟﻤـﺮة، ﺍﻟﻌﻔﺎﺽ ﺧﻼﻫــﻮ ﻭﺭﺍ، ﻭﻫﻮ ﺧﺎﺷﻲ ﻗﻨﺘﻲ ﺑﺎﻥ ﺷﺪﺭﺍ، ﻣﻦ ﻣﻨﺼﻮﺭﻛﺘﻲ ﻗـﺎﻡ ﻭﺟﺮﺍ..” ويواصل الشاعر الرحلة بعد ذلك بالقطار من عطبرة، حتى يسلمها لنا في حينا في بورتسودان ” ﻭﻫﻴﺎ ﻭﺳﻨﻜﺎﺕ ﻃﺮﻕ ﻭﻋﺮة، ﻃﻮﻳﻠة ﻣﻤﻠة ﺩﻱ ﺍﻟﺴﻔﺮة، ﻭﺑﻮﺭﺳﻮﺩﺍﻥ ﺣﺪ ﺍﻟﺮﺣﻠة، ﺍﻟﺴﻜﻮﻥ ﺩﻳﻢ ﺳﻠﺒﻮﻧﺎ ﺑﺮة..وسلام يا ساكن الحارة” وللقطار نصيب من لعنات شعراء المنطقة، فهاهو ود الدابي نفسه، وهذا ظن مني ولست متأكدا، لا يترك للقطار صفحة يرقد عليها ” يا حليلا بلا عدد.. قالوا شالا قطار الاحد، فى الرصيف حسو بلا الرعد… اسأل الله مكنتو تنقد، قولو آمين باكمو ينسد.. يلقو فى الكاسنجر خرد، تمو يا مولاى لى غرد.. القضيب للداخلة ينهد، شال حبيبتى من البلد.. سابنى حوت منو النيل شرد” ..أها شفتوا حسادة زي دي، المهم أن هذه الحبيبة قد رحلت للخرطوم، ونجت بورتسودان، حفظها الله ، من لعنات الشاعر. الشاعر حسن الدابي عالم قائم بذاته، وهو رفيق رحلة الفنان العظيم النعام أدم، وصاحب مجموعة من أجمل أغنيات للنعام ولفنانين أخرين .. مثل ” مادام طار جنى الوزين يادوب قل نوم العين”وأغنية ” يا عيون ابكي دمع الدم” …و”الرايقة شتيلة قريرا.” ..”ويا خلايا فجولي الأشوفا” وبالمناسبة أول أغنية معروفة لحميد كانت عن الغربة، حيث سافر من نوري لعطبرة للدراسة، وكتب ” وريني شن طعم الدروس ما دام مكانا مشي قطر، كيف زاتا ترتاح النفوس تقبل قراية في سفر. ولا تندهش من كونه اعتبر عطبرة غربة ، فالشاعر الأخر أيضا يتحسر.. ” قريرنا معاكي شن لوما..تفضلي نوري وسموما، وتسوي السبب الحكومة” وأظنها كانت مدرسة تم نقلها هي أو ولي أمرها، وبين نوري والقرير فركة كعب. وهناك شعر وغناء ولعنات أيضا لسائقي اللواري السفرية والبصات ، وأشهرهم صابر جرا، أشهر سائقي تلك الفترة بين أمدرمان والدبة ” البلد مالك هاجرا،.. صابحي حزناني مقنجرة..وادو وين يا صابر جرا..؟” تحية لشعراء المنطقة، من جيل خضر محمود، حسن الدابي، إيراهيم أبنعوف، نور الهدى كنة، إلى جيل الوسط السر عثمان الطيب، محمد سعيد دفع الله، سيد أحمد عبد الحميد، ثم محمد الحسن سالم حميد، خالد شقوري، محمد سفلة، الفاتح إبراهيم بشير، عطا الكنيبلي، محمد أحمد الحبيب، وعشرات غيرهم لم أذكرهم لقلة معرفتي وعدم التفرغ للبحث وإن بقي وقت قريب فغاية أملي أن استطيع أن أكتب عن صديقي الراحل الشاعر عبد الله محمد خير الذي جمعتني به الصدف الجميلة، ثم عن ظاهرة شعرية وإنسانية عجيبة هي الشاعر محمد أحمد الحبيب، شاعر العابرات، ثم الظاهرة الاخرى وهي الفنان محمد النصري. هل سمعتم محمد النصري يغني للشاعر عطا الكنيبلي ” عمر الضحكة أقصر…من أن نشهقا، وحبل المنية أفتر..من نتعلقا، وكلهن احتمالين..يا شقا..ياشقا”..أها شفتوا جن زي دة..؟ محنة أهل المنطقة وحنينهم الدائم لها لا تجسده الاغنيات والاشعار وحدها، بل حتى النكات، قالوا أن واحد من أبناء المنطقة يبيع التمبك في كسلا، وجاءه إثنان من أبناء البجا ليشتروا نصيبهم من الفرح المعبأ في أكياس، على قول صديقنا الشاعر مختار دفع الله، وجدوه يرفع عقيرته مع المسجل وهو يغني “متين نرجع للبلد طولنا ..من أرض الحنان” ودموعه تسيل، أخذ البجاوي سفة كاربة..ثم مال على رفيقه ليهمس له..”يبكي…لكن ما بيرجع”. الوسومفيصل محمد صالح
المصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية:
فيصل محمد صالح
إقرأ أيضاً:
مكتبة الإسكندرية تنعي الشاعر محمد إبراهيم أبو سنة
نعت مكتبة الإسكندرية ببالغ الحزن والأسى الشاعر المصري الكبير محمد إبراهيم أبو سنة، والذي توفي أمس الأحد 10 نوفمبر 2024، عن عمر ناهز 87 عامًا.
وقال بيان المكتبة: «يتقدَّم الدكتور أحمد زايد مدير مكتبة الإسكندرية، نيابة عن إدارة المكتبة وجميع العاملين بها بخالص العزاء لأسرة ومحبي الفقيد الراحل، راجين الله تعالى أن يلهمهم الصبر والسلوان».
معلومات عن محمد إبراهيم أبو سنة
جدير بالذكر أنَّ محمد إبراهيم أبو سنة ولد عام 1937 بمحافظة الجيزة، وتخرج في كلية اللغة العربية بجامعة الأزهر قبل أن يعمل محرراً بالهيئة العامة للاستعلامات، ثم مشرفًا على البرامج الإبداعية والنقدية بإذاعة القاهرة ثم مديرًا عامًا لإذاعة البرنامج الثقافي.
أصدر ديوانه الأول عام 1965 بعنوان: قلبي وغازلة الثوب الأزرق، وتوالت بعده سلسلة طويلة، منها: حديقة الشتاء، أجراس المساء، تأملات في المدن الحجرية، البحر موعدنا، موسيقى الأحلامكما أصدر مسرحيتين شعريتين تستلهمان جوانب من التاريخ، وهما: حمزة العرب، حصار القلعة، كما كتب دراسات نقدية ذات صلة بالشعر وجمعها في كتب منها: دراسات في الشعر العربي، أصوات وأصداء، قصائد لا تموت، مختارات ودراسات. إضافة إلى كتابه: فلسفة المثل الشعبي.
ونال أبو سنة جائزة الدولة التشجيعية في الشعر عام 1984، وجائزة الدولة التقديرية عام 2011 في الآداب، وجائزة النيل عام 2024.