كتاب جديد: إشكالية الموت لا تزال مطروحة في جميع الأزمنة والأمكنة
تاريخ النشر: 22nd, March 2024 GMT
الكتاب: الموت بين المجتمع والثقافة
المؤلف: أحمد زين الدين
الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ـ الدوحة ـ 2024
صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب "الموت بين المجتمع والثقافة"، وهو من تأليف الباحث اللبناني أحمد زين الدين.
يعرض الكتاب موضوع العرض لواحد من أهم القضايا تعقيدا في حياة الإنسان، والتي لا تزال عصية عن الفهم علميا، وهي الموت.
"عربي21" تنشر جزءا من العرض الذي نشره "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، عن الكتاب الذي يلامس واحدا من أهم القضايا التي ظلت مجالا خصبا للتأويلات الفلسفية والفكرية، وبالقطع الدينية.
احتوى الكتاب على ثلاثة أقسام: ناقش الأول التحديق في الموت وهاجس الحديث عنه، وطقوس الوداع، وطرائق الدفن المتعددة. أما الثاني فقد تناول مظاهر العبادات المحلية التي تمارَس في المقامات الدينية، وتقوم على تعظيم الأولياء الموتى، والتماس المدد الروحي من زيارتهم، وإقامة الولائم على شرفهم. في حين كُرِّس الثالث للحديث عن العنف الدموي ذي المرجعية الدينية، حيث شهدت أقطار العالم الحديث تفاقم النزاعات الدينية القتالية تحت مسميات عدّة، على رأسها الجهادية والعمل الاستشهادي.
توزعت الأقسام الثلاثة على أربعة وعشرين فصلًا، تتمحور جميعًا حول تيمة الموت ومعناه لدى الأمم والشعوب وطرائق التعامل معه ومساهمة المعتقدات حوله في بناء الميثولوجيات، ومساهمة الموروثَين الإسلامي والمسيحي والفلسفة الإغريقية خلال مراحلها كافة في بناء تصور عن الموت. ويقع في 224 صفحة، شاملةً ببليوغرافيا وفهرسًا عامًّا.
ينفر معظم الناس من الموت، لِما يُحدثه من اضطرابٍ نفسي وهواجسَ مقلقة وانطباعات سلبية، إذ هو "المجهول" المتجاوِزُ كلَّ مقاربة مفاهيمية، وكلَّ محاولة لاستيعابه عقلًا وواقعًا. وقد عاين الأحياء أشخاصًا يموتون، واقتحم الموت بيوتهم مختطِفًا أحد أفراد أُسَرهم فأَمَرَّهم بتجارب قاسية ولَّدت في بعضهم مشاعر حادّة تقارب الشعور بالرهبة، خشية الانفصال عن حبيب والحرمان من عزيز، وغير هذا.
ويحيِّر الموتُ الأحياءَ ويذرهم بلا إجابة تروي الغليل أمام مروحة واسعة من الأسئلة عن الموت: موت الحامل وهي تضع مولودها، وموت المحارب في ساحة الوغى، وموت المتعرض لحادث عرضي، وموت مَن بلغ من العمر عِتِيًّا فتعطَّلت وظائفه الحيوية، وموت المنتحِر بقرار ذاتي، وغيرها كثير من الأسباب؛ فالموت في أيٍّ من حالاتٍ لا تقبل العدَّ لا يُقاربه البشر معنويًّا بالطريقة عينها، وكذلك الأمر في التعامل ماديًّا مع الجثمان، سواء بالدفن أو الحرق أو التحنيط أو جعله طُعمةً لحيوان جارح أو طير كاسر، وكذا بالنسبة إلى مصير المتبقّي من العظام أو الأشلاء أو الرماد، وإلى فترة الحِداد، ومدة الفصل بين الحيّ والميّت، ومصير المتوفّين بعد موتهم، وأشكال وجودهم في العالم السماوي.
بخلاف الحيوانات، التي لا تقلق أو لا تتألم لمصير غيرها من ذوات جنسها، وإنْ ذهب بعضُهم إلى تصنيف حركاتٍ وأصواتٍ لديها في خانة التأثّر، يقع بنو آدم في اليأس فيخترعون قصصًا تُعينهم على موضعة حياتهم داخل محيط كوني أوسع، لكشف انتظامه واكتساب شعور مضادٍّ للاكتئاب وباعث على الشعور بأن للحياة قيمةً ومعنًى، ولجعل أذهانهم تولِّد أفكارًا وتجارب لا يمكن تفسيرها منطقيًّا، فيشطحون بخيالهم ليستحضروا شيئًا غير شاخص أمامهم، ولا يوجد موضوعيًّا، فينتِج الخيالُ عندهم الدينَ والميثولوجيا.
الميثولوجيا والموت
لا يزال الخيال الملَكة التي تمكّن العلماء من إخراج معارف جديدة إلى الضوء، على الرغم من سوء سمعة التفكير الميثولوجي في زماننا، التي دفعتنا إلى استبعاده بحجة لاعقليته وقلة دقته. وترتِّبُ الميثولوجيا، من خلال إدخال معنى ونظام، العالمَ عميقًا وهرميًّا، وهي تسنّ التاريخ الأصلي للجماعة البشرية، وتروي ولادة الآلهة والبشر والحيوانات، وكذلك عناصر الطبيعة والأحداث العظيمة. وقد ظهرت الإشارات الأولى لمأسسة دين الأصول مع الإنسان العاقل، وكذا تجذّرت معه الممارسات الشعائرية والطقوس الجنائزية، وتبلورت فكرة المقدّس، وطقوس التنظيم الاجتماعي قبل عصر الحداثة .
كرَّست الثقافاتُ الكونية استراتيجياتٍ للتعايش مع حتمية الفناء تمثلت بتقاليدَ ورموزٍ اجتماعية وسرديات وأساطيرَ وطقوسٍ لاستيعاب الانفعالات الناجمة عن انتزاع أحد أفراد الجماعة، محوّلة إياها تضامنًا قويًّا بين جميع أعضائها، وهنا تدخل الديانات لتُسيِّج الموت بأجوبة مبرمة عن مصير الأرواح والأجساد تجعل المرء يرى في الموت أمرًا معقولًا لا عبث فيهتُخبرنا قبور إنسان نياندرتال البدائي أمورًا مهمة حول الأسطورة، منها أنّ أصولها مستندة إلى تجربة الخوف من الفناء، بسبب عظام الحيوانات بالقرب منها، ما يدلّ على تقديم أضحية عند الدفن. إنّ ارتباط الموت بقضايا المجتمع والتنمية كان ولا يزال مجالًا لدراسات غربية معمّقة في تاريخ العقليات، وقد نشأ في العقود الأخيرة وتطوَّرَ "علم دراسة الموت والاحتضار" Thanatologie، أما المساهمة العربية، فموقوفة على تواريخ ومناطق ومعتقدات دينية محدّدة، لا على الأدوات الإناسية، فالرّحالةُ العرب وصفوا مشاهداتهم طقوس الموت من دون تحليل أو وقوف على أبعادها الدقيقة، والكتب العربية نَحَتْ إلى الوعظ بالاستعداد للموت وإن كان بعضُها لم يَعدم النظرة إلى فوارق طبقية واجتماعية وثقافية بين المتوفّين، التي تمثلت بالحضور الكثيف لجنائز رجال السياسة والأعيان والفقهاء والمتصوّفة والإقبال على حمل نعوشهم، بينما كان الحضور في جنائز العوام والناس العاديين يقتصر على الأهل والجيران، وبالأخص في المغرب العربي، نظرًا إلى شدة اهتمام المنطقة بالأولياء وبناء مراقد لهم بعد موتهم. وقد استندت دراسات الغربيين لموضوع الموت إلى وثائق مكتوبة وشفوية وإيقونوغرافية Iconographie (الرسوم واللوحات)، أمّا ما كُتب باللغة العربية فقد اهتم بالطقوس والبِدع وأحوال القبور وأهوال يوم القيامة.
مواجهة متخيَّلة
الموت "المختفي في وضح النهار"، في نظر زيغمونت باومان، يخوض مع الحياة مواجهة دائمة وصعبة لا تضع أوزارها، تُجبر البشر على ألّا يديروا ظهورهم له أو ألّا يحاولوا نزع وصمة "الهول" عنه، إذ إن الحياة بذاتها متشبِّعةٌ بأشكال مختلفة منه، ومن رعب الإنسان من إقصاء جسده الذي لا يرتوي من منابع الحياة، رغم أن الأوبانيشاد (جزء في مجموعة كتابات تسمّى فيدات هي جزء أساسي من مصادر الديانة الهندوسية) وصفت الجسد بأنه "منتن، منعدم الأهمية، عرَضي، كتلة من جلد وعضلات ونخاع ولحم ومني ومخاط ودموع وبول وريح وصفراء ولمفا" (بلازما وصفائح دموية). ومع إخفاق تقنيات العصر الحديث في استئصال المخاوف، سادت المصالحة والتطبيع مع الموت، وحُوِّلت المجابهة إبقاءً على إرادة الحياة وتأقلمًا معها.
ويرى باومان أنّ الثقافات كافة أدواتٌ عبقرية لإخفاء وجه الموت، أو تزيينه لإتاحة احتمال التعايش معه، إذ لا يمكن طرده من حياة البشر مع أنه يبقى على الدوام النموذج الأوّلي لجميع أشكال الخوف الأخرى، التي لم يلطِّفها تطور العناية الطبية والنفسية والمؤسسات الاستشفائية، الذي كان جلُّ ما حقّقه تقليص المعاناة وتلطيف الآلام وإيصال المرء إلى "الموت الجميل"، الذي تُستعاد عنده الصور التخييلية الطفولية، وموضوعات متأرجحة بين الحياة والموت، مثل: النفق المظلم، والضوء، والكائن النوراني، والعرْض البانورامي للحياة، ورؤية الأقارب المتوفّين، والخروج من الجسد، وغيرها؛ فخلال هجمة الخوف عند الموت "يفصل اللاوعيُ الجسدَ عن الوعي، ويمنح شعورًا بالهروب المكاني من الزمن، فتُطرد حقيقة الموت خارج الوعي، ويتلقى المحتضرُ رسالةَ حياة"، بآليات بيولوجية واضطرابات تنفّسية وتفريغات عصبية.
ولا يزال الموت الحقيقي غير المتصوَّر بمنأى عنّا، ولا تزال الفجوةُ ماثلةً بين مشهد "موت" شخص أمام امرئ وبين فهْمِه موتَه هو وكيف سيكون، فالمسألة في عمقها ليست موت الآخر، بل موته هو، ليست في المشاهدة بل في التوقّع الدائم والمواجهة مع الذات ومعاناة هذا اللغز المحيّر المضني، الذي يفلت في النهاية من كل تفسير؛ فالتمعّن في الموت باعتباره إعدامًا للجسد غيرُ قابل للتصور، بل ثمة استحالة لفهم الوعي البشري عدمه، أو لاوجوده، أو كونه لا شيء، فوعي الموت مستحيل؛ لأنّه يتعارض مع الكوجيتو "أنا أفكّر إذًا أنا موجود"، إذ إنّ العالم هو الأنا، ونحن نعجز عن تصوّره بعد عدمنا بالموت.
استراتيجيات الثقافات والأديان مع الموت
الموت أكثر الظواهر البيولوجية "ميتافيزيقيةً"، لما يثيره في أذهان الأحياء من تساؤل؛ ونظرًا إلى تباين هؤلاء الأحياء بشدة كان النظر إليه متباينًا بمقدارهم. وقد كرَّست الثقافاتُ الكونية استراتيجياتٍ للتعايش مع حتمية الفناء تمثلت بتقاليدَ ورموزٍ اجتماعية وسرديات وأساطيرَ وطقوسٍ لاستيعاب الانفعالات الناجمة عن انتزاع أحد أفراد الجماعة، محوّلة إياها تضامنًا قويًّا بين جميع أعضائها، وهنا تدخل الديانات لتُسيِّج الموت بأجوبة مبرمة عن مصير الأرواح والأجساد تجعل المرء يرى في الموت أمرًا معقولًا لا عبث فيه، ففكرة الحياة الأخرى أجبرت الإنسان على ابتكار ممارسات جنائزية تضمن مرور الميت إلى زمنٍ ووضعٍ آخرَين يُطَمْئنان مقرّبيه الأحياء ويهدِّئان من روعهم.
يسعى كتاب الموت بين المجتمع والثقافة إلى مقاربة إشكالية الموت الشائكة عبر الأدوات الإناسية التي بلورتها جهود الدوائر الأكاديمية الغربية، وإلى رصد الظواهر الاجتماعية السابقة والمواكبة للموت وحمولاتها العاطفية والوجدانيةلا تزال إشكالية الموت مطروحة في جميع الأزمنة والأمكنة، وما انفكّ الباحثون يُنشئون شبكة معقدة من التفسيرات الأسطورية أو العقلانية أو الفلسفات لقراءة شفرة الموت فلا يفلحون؛ فمنذ بزوغ العقل الفلسفي ما قبل اليوناني إلى العصر الحديث، طغت ثنائية شهيرة تقرن الروح بالجسد ليثمرا الحياة، ثم يفترقان بعدها بالموت، وحتى الفكر اليوناني العقلاني سلك هذه الثنائية بتشرُّبه الفكر المسيحي مع الوقت، في حين نحت فلسفات أخرى إلى اعتبار الأرواح آلهة ذات أصل سماوي تنزّلت في أجساد قابلة للتلف وتناسخت في أدوار عدّة تتعرّض فيها للإغواء، وفي أجساد قابلة للخطايا، لتتحرر بعد ذلك بموت الأجساد.
ثم أرسى فيلون الإسكندري (حوالى عام 20 ق.م) دعائم فكر توفيقي بين اليهودية والفلسفة الإغريقية ولَّد "الأفلاطونية المحدثة" التي تبنّاها آباء الكنيسة الشرقية في ما بعد، فاستُبدلت ثنائية "روح – جسد" باتحادهما، فلم يعد الجسد موضع شبهة بتمثيله عالم الأحاسيس والرغائب أو بكونه قالبًا أرضيًّا لسقوط الروح العلوية، بل غدا الإنسان كُلًّا تتواشج فيه النشاطات البيولوجية بالنفسية، وغدا الموت إيقافًا لعمل الآلة المُنتجة بسبب فساد الأعضاء التي تحرّك الجسد، أما الروح المخلوقة من جوهر رباني فبقيت بلا تغيير يُفقدها ماهيتها.
ومع انحسار التأثير الكنسي في العصور الوسطى تراجعت فكرة الوحدة الجوهرية الأرسطية، حيث أفادت الكشوفات الطبية باستحالة تصور جسد مستقل تُشعل روحٌ إلهية فيه الحياة، وغدت الروح تشكّل مع الجسد وحدةً غير قابلة للتجزئة، وبات ما يُحدث الموت ليس انفصال الروح عن الجسد بل ما ينتاب الجسد من قصور يؤدي إلى تلاشيهما معًا.
موضوع البحث وأهميته
يسعى كتاب الموت بين المجتمع والثقافة إلى مقاربة إشكالية الموت الشائكة عبر الأدوات الإناسية التي بلورتها جهود الدوائر الأكاديمية الغربية، وإلى رصد الظواهر الاجتماعية السابقة والمواكبة للموت وحمولاتها العاطفية والوجدانية، مستفيدًا من ثمرة أعمال باحثين عرب، على ندرتهم، وأجانب عايشوا الظواهر الاجتماعية التي تخص موضوع الموت وكشفوا عن العادات والسلوكات المتّبعة في هذا الشأن، ولا سيما طقوس الحِداد المقنّنة وطرائق إظهار علامات الجزع والحزن والبكاء على المتوفين من أقارب وأصدقاء.
واعتمد الكتاب على أطروحات جامعية ساهمت في إظهار معطيات ميدانية وجمْعِها وتحليلها واستخلاص العِبر منها، في وصف أشكال وصور وفنون غنائية ومرثيات تراثية محفوظة منذ القدم. ومن هنا، تتأتى أهمية البحث، الذي نظر إلى الموت ضمن سياقاته الاجتماعية والثقافية والحضارية من بيئة إلى أخرى، ومن مكانة متوفّى إلى مكانةِ آخَر، ومن ابن بيئته إلى الغريب الذي عاش فيها، وغيرها، وقد ظهر هذا في مقارنة أجراها الكتاب بين مظاهر الموت في المجتمعات الغربية والشرقية، وكيف أنها تنحسر في الغرب عن الفضاء العام إلى المستشفى أو العائلة، بينما تنتشر في الشرق الطقوس الجنائزية والشعائرية المأتمية الكبرى وذات الأبعاد المسرحية.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب الكتاب العرض نشره قطر كتاب عرض نشر كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة فی الموت لا تزال ی الموت الموت ا
إقرأ أيضاً:
قرن على كتاب هز العقول !
(1)
في السابع من أبريل القادم يكون قد مر قرن كامل على صدور كتاب أثار وما زال يثير نقاشا حيويا وخصبا، يمكن اعتباره الكتاب المؤسس في الثقافة العربية الحديثة؛ وأول كتاب يثير من المعارك والجدال ما زال قائما حتى وقتنا هذا، رغم ما شهده هذا القرن من أحداث مهولة بل أحداث جسام!
عن كتاب «الإسلام وأصول الحكم»، للشيخ الجليل المستنير علي عبد الرازق (1888-1966) الذي أقام الدنيا ولم يقعدها منذ ذلك الحين بكتابه هذا (لم يتجاوز عدد صفحاته الـ136 صفحة من القطع الأقل من المتوسط)، وهو كتاب دشّن (معركة القدامى والمحدثين) أو (صراع المحافظين والمجددين)؛ مرحلة الإعلان عن بنية الثقافة والدولة الحديثة، في مواجهة تصورات وأنظمة بشرية وتجارب تاريخية انتهت ومضت، ولن يعيد التاريخ دورتها لأن التاريخ لا يعيد نفسه مهما جرى!
هذا بالضبط ما حدا بالبعض إلى النظر للكتاب، وقيمته وأهميته، كما يقول المؤرخ القدير الدكتور محمد عفيفي، من ناحية هذا المضمون الفكري "التجديدي" في بيان تاريخية نظام الخلافة وبشريته، في مقابل مَن روَّج إلى قداسة نظام الخلافة؛ إذ أوضح أن الخلافة نظام سياسي ابتدعه المسلمون، وليس نظامًا مقدسًا لا يستقيم الإسلام بدونه.
في نشرته الأولى من الكتاب يقول الدكتور محمد عمارة في تصديره لهذه الطبعة (1971): "منذ أن عرفت الطباعة طريقها إلى بلادنا لم يحدث أن أخرجت المطبعة كتابا أثار من الجدل واللغط والمعارك والصراعات مثلما أثار كتاب «الإسلام وأصول الحكم» للشيخ علي عبد الرازق الذي نشر قبل ما يقرب من نصف قرن" (كتب هذه السطور سنة 1971).
(2)
وها نحن الآن، بدورنا، نؤكد صحة هذه الأسطر بعد مرور مائة عام على صدور الكتاب؛ لأسبابٍ كثيرة جدا منها أن الشيخ المستنير قد قدم وللمرة الأولى في تاريخ الثقافة العربية نقدا منهجيا لتجربة الحكم في ظلال ما سمي بالخلافة الإسلامية؛ وهي نظام للحكم أقيم على أسس حدّدتها سياقات الحكم والسياسة والعمران في وقتها؛ ولم يكن لها أدنى صلة بالعقيدة كعقيدة؛ إنما أريد لها ذلك في أزمنة تالية على نزول الوحي، ومن ثم تم تكريس هذا النظام باعتباره نظاما دينيا.
تاريخيا، وبعد الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، وما جرى للدولة العثمانية، رجل أوروبا المريض، ونجاح أتباع تركيا الفتاة، قرر المجلس الوطني الكبير في أنقرة في نوفمبر من سنة اثنتين وعشرين (1922)، إعلان تركيا "جمهورية" وفصلها عن الخلافة، وكان قرار الفصل بين منصب رئيس الجمهورية ومنصب الخليفة، يعني الاعتراف بالاستقلال السياسي الكامل والتام عن الأتراك.
وتصدى بعض الكتاب الأتراك -آنذاك- لتأليف الكتب والدراسات التي تعضد هذا الموقف، فخرج كتاب «الخلافة وسلطة الأمة» لعبد الغني السني بك الذي أعيد نشره، كدراسة فقهية اعتمد عليها الكماليون للفصل بين الخلافة والسلطة، وفي المقابل (خاصة في مصر) كتب آخرون يرفضون هذا الإجراء مثل الشيخ الأصولي محمد رشيد رضا في المنار، وكتاب لمصطفى صبري أحد المعارضين لحزب تركيا الفتاة.
وفي مارس من سنة 1924، أُلغي منصب الخلافة ذاته في تركيا، فسَعَت أطراف عديدة إلى حيازة اللقب وفي القلب منهم ملك مصر آنذاك الملك فؤاد الأول، وكان المؤتمر الإسلامي في القاهرة جزءا من هذه الجهود.
(3)
وفي وسط هذه الموجة المحمومة من التطلع إلى وراثة نظام الخلافة ولقب الخليفة، خرج الشيخ علي عبد الرازق في أبريل من عام 1925 بكتابه «الإسلام وأصول الحكم»، ليعلن من خلاله أن الخلافة ليست أصلا من أصول الدين، أبدا، بل هي اجتهاد بشري للمسلمين،
واستعرض تاريخ الخلافة والفصل الفعلي بين الخلافة وغيرها منذ العصر العباسي حتى القرن العشرين. وهناك دائما فجوة بين النموذج النظري في كتب العقائد، وبين التحقق الفعلي في التاريخ الاجتماعي للمسلمين. وتلك هي الإشكالية التي يتعرض لها الكتاب. فمشكلة الخلافة ما زال البعض يناقشها من زاوية الدين، لا من زاوية الدنيا، ومن باب العقيدة، لا من باب السياسة.
(4)
إجمالًا -وإذن- يمكن القول إن كتاب «الإسلام وأصول الحكم» قد ظهر في أعقاب إلغاء نظام الخلافة الإسلامية في تركيا عام 1924 حين انقسم الناس فريقين؛ فريق يطالب بإعادتها مرة ثانية (وستكون هذه الفكرة هي النواة التي التف حولها كل دعاة الإسلام السياسي وتسييس الإسلام من الشيخ رشيد رضا ومن بعد حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان).. وتيار آخر يعيد النظر تماما ونقديا في نظام الخلافة، ويدعو إلى الحيلولة دون قيامها، ويتزعمه حزب (الأحرار الدستوريين)، الذي ينتمي إليه الشيخ علي عبد الرازق وعائلته، ويرأس تحرير صحيفته الدكتور محمد حسين هيكل (صاحب كتاب «حياة محمد») الذي احتفى بالكتاب احتفاءً كبيرًا في جريدة «السياسة»، لسان حال الحزب.
وقد عالج الكتاب قضية الخلافة من حيث نشأتها، وتاريخها وتطورها، وعلاقتها بالإسلام، كما يعرض لتفاصيل ذلك النظام السياسي الذي أوجده الإسلام منذ قيامه إلى زمن أو عصر المؤلف. وينتهي إلى أن الإسلام لا صلة له بالحكم، ولا بالمجتمع وشؤونه الدنيوية، وأنه يجب إنهاء الخلافة في العالم الإسلامي، بما أنها نظام غريب عن الإسلام، ولا أساس له في المصادر والأصول المعتمدة من كتاب وسنة وإجماع.
والكتاب عبارة عن مقدمة وثلاثة أقسام، القسم الأول بعنوان "الخلافة في الإسلام" تناول فيه طبيعة الخلافة، وحكم الخلافة، والخلافة من الوجهة الاجتماعية، أما القسم الثاني فيدور حول "الحكومة والإسلام" وقد تناول فيه الشيخ علي عبد الرازق نظام الحكم في عصر النبوة، مميزًا بين الرسالة والحكم، طارحًا فيه فكرته عن الإسلام باعتباره "رسالة لا حكم ودين لا دولة"، أما القسم الثالث فيتتبع فيه "الخلافة والحكومة في التاريخ"
ومنذ صدوره، أثار الكتاب جدلًا طويلًا في الأوساط الفكرية، وانقسم المثقفون إلى تيار "ليبرالي" مؤيد يمثله مفكرون ينتمون إلى حزبي (الوفد)، و(الأحرار الدستوريين)، وتيار سلفي معارض يأتي في طليعتهم الشيخ محمد رشيد رضا على صفحات مجلة «المنار»، والشيخ محمد الخضر حسين في كتابه «نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم»؛ فضلًا عن هيئة كبار علماء الأزهر.
وقد نشرت دراسات كثيرة حول الكتاب، باللغة العربية واللغات الأجنبية، ومن بينها كتابا «الإسلام والخلافة في العصر الحديث» لمحمد ضياء الدين الريس، و«الإسلام وأصول الحكم» لعلي عبد الرازق «دراسة ووثائق» لمحمد عمارة، وهو الذي نعتمد عليه هنا في هذه الحلقة من مرفأ قراءة والحلقات التالية التي سنفصل فيها القول عن الكتاب وحوله بمشيئة الله.
(5)
لقد أراد الشيخ علي عبد الرازق من كتابه، وبما أعلنه من أفكار حرة جريئة، تحرير العقول الإسلامية؛ لكي يتمكن المسلمون من أن يسابقوا الأمم الأخرى في علوم الاجتماع والسياسة كلها، وأن يهدموا ذلك النظام العتيق الذي ذلوا له واستكانوا إليه، وأن يبنوا قواعد ملكهم ونظام حكومتهم على أحدث ما أنتجت العقول البشرية، وأمتن ما دلت تجارب الأمم على أنه خير أصول الحكم.
وتلك ببساطة -مع ضرورات الاختزال والتكثيف لحدود المساحة- هي أهم الأفكار التي يقوم عليها كتاب الشيخ المستنير علي عبد الرازق الذي كان ثائرًا بحق على الأوتوقراطية والثيوقراطية معا، والذي التقط أسلحته من الإنجاز العقلاني التراثي الإسلامي الأصيل، ومن الإنجاز الموازي لدعاة الدولة المدنية في الغرب الأوروبي الذي كان يعرفه، ولا يتردد في الإفادة منه عملًا بقول الرسول (صلى الله عليه وسلم): «اطلبوا العلم ولو في الصين»، وكان هدفه إعادة فتح أبواب الاجتهاد على مصاريعها، وهو أمر لا يقل عن إيمانه بالدولة المدنية ودفاعه عنها.