ألقى فضيلة الشيخ الدكتور أسامة بن عبدالله خياط خطبة الجمعة اليوم بالمسجد الحرام، وافتتحها بتوصية المسلمين بتقوى الله – عز وجل – في السر والعلن.

وقال فضيلته: نحمد الله – عز وجل – الذي منَّ على عباده بفريضة الصيام، وجعل صوم رمضان وقيامه سببًا لغفران الذنوب والآثام.

وأضاف: بين لهو الحياة ولغوها، وفي غمرة خطوبها وأحداثها، وسعير صراعها وهجير مطامحها، يشعر المرء بأنَّه في حاجة إلى ملذات يثوب إليها، ويتفيأ ظلالها، ليأخذ الأُهبة ويعد العُدَّة، لتجديد العزم، وشحذ الهمة، وتقوية الإرادة، حتى يمضي على الطريق موفور الحظ من التوفيق، سالم الخطى من العِثار.

ولقد كان من نعم الله السابغة، ومننه الوافرة، وآلائه الجليلة، أن جعل للأمة أزمانًا تسمو على أشباهها، وتعلو على أمثالها، وهيأ لعباده من فرص العمر، ومواسم الخير، وميادين البر، ما يبلغون به المراد، ويصلون به إلى الغاية، ويحققون الأمل.

وأردف قائلاً: وفي الطليعة من هذه الفرص والمواسم هذا الشهر المبارك (رمضان)، سيد الشهور، الذي اختص منها بنزول هذا الهدى والنور، والشفاء لما في الصدور، القرآن العظيم، والذكر الحكيم ﴿شَهرُ رَمَضانَ الَّذي أُنزِلَ فيه القُرآنُ هُدًى لِلنّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الهُدى وَالفُرقانِ﴾.

وأوضح فضيلته أنه إذا كانت القوة للمسلم ضرورة وزادًا لا غناء له عنها، ورصيدًا لا مناص له منها، لأنها عونٌ على الحق، وسبيلٌ إلى التمكين، وطريقٌ إلى الظفر، وبابٌ إلى رضوان الله، وسببٌ لمحبته، فإنَّ في فرصة الصيام في هذا الشهر المبارك مجالاً رحبًا، ومضمارًا واسعًا، لتقوية الإرادة في نفس المسلم الصائم، فالأمساك بالنهار عن الأكل والشرب وسائر المُفطِّرات، وما يصحب ذلك من صبرٍ على الحِرمان، ومرارة الفقد لما اعتاده المرء من المشتهيات، وكذلك إحياء الليل بالقيام في صبرٍ على نصبه، يقتضي أن ينشأ في نفس المسلم شعور المقاومة لكل إحساسٍ بالضعف، ولكل رغبة في الممنوع المُحرَّم خلال النهار، مهما كثرت المغريات، ومهما تبذَّلت الشهوات.

وأبان الشيخ الدكتور أسامة خياط أنه إذا اجتاز الصائم الامتحان، ونجح في اكتساب زاده من التقوى، كان ذلك عونًا له على استمرار مقاومته، وتقوية لإرادته، في مواجهة المحرم من الشهوات، والصمود أمام التحديات، فكل موقفٍ يواجه فيه نزوة عابرة، أو رغبة ملحة، أو بلاءً عظيمًا، هو في الواقع امتحانٌ متجددٌ لإرادته، يعظم فيه نفع التقوى التي تحققت بالصيام، فهو إذن تصويبٌ في المسلك، وتصحيحٌ في المنهج، وتغييرٌ في المسار.

وأفاد فضيلته بأن العبد الصائم المتقي ينتقل من ذُل الخطيئة إلى عزّ الطاعة، ومن مهابط العجز والكسل إلى ذُرا الجِد والعزم والنشاط، ومن أدران العوائد المقبوحة، والسنن المرذولة، والفِعال الشائنة المحظورة، إلى طِيب العوائد القويمة، والسنن الجميلة، والفِعال الحسنة المرضيّة. مؤكدًا أنَّ في الصيام الذي روعيت شروطه، واستكملت آدابه، بعثًا للقوة التي وهنت، والإرادة التي خمدت، والعزيمة التي خارت، وتلك آية بينة على بلوغ الصائم أوفر حظه من التقوى، لافتًا النظر إلى أنه ثبت في السنة الصحيحة الواردة عن رسول الله -صلى عليه وسلم- أنَّ عمرة في هذا الشهر المبارك تعدل حجَّة، فقد أخرج الشيخان في صحيحَيهما، وأبو داود وابن ماجه في سننهما، وأحمد في مسنده، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: “قالَ رَسولُ اللَّه -صَلَّى الله عليه وسلَّمَ لِامْرَأَة مِنَ الأنْصَارِ: ما مَنَعَكِ أنْ تَحُجِّي معنَا؟ قالَتْ: كانَ لَنَا نَاضِحٌ (أي البعير أو الدابة التي يستقى عليها) فَرَكِبَه أبو فُلَانٍ وابنُهُ، لِزَوْجِهَا وابْنِهَا، وتَرَكَ نَاضِحًا نَنْضَحُ عليه. قالَ: فَإِذَا كانَ رَمَضَانُ اعْتَمِرِي فِيهِ، فإنَّ عُمْرَة في رَمَضَانَ حَجَّة أو نَحْوًا ممَّا قالَ”. وفي لفظٍ لمسلمٍ -رحمه الله-: “فإنَّ عُمْرَة فيه تَعْدِلُ حَجَّةً”.

وقال الشيخ الخياط: إنه لفضلٌ قد بلغ الغاية وحاصله أنه صلى الله عليه وسلم أعلمها أنَّ العمرة في رمضان تعدل الحجة في الثواب، لكنها لا تقوم مقامها ولا تسدُّ مسدها في إسقاط الفريضة عمَّن لم يحج حجة الإسلام، لأنَّ الإجماع قائمٌ على أنَّ الاعتمار لا يُجزئ عن حجة الفريضة. وفيه كما قال أهل العلم بالحديث: أنَّ ثواب العمل يزيد بازدياد شرف الزمان، كما يزيد بحضور القلب وإخلاص القصد. مضيفًا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعتمر عمرة واحدة في رمضان من عُمَرَه الأربع، ويُحتمل أن يكون سبب ذلك كما قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: “أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يشتغل في رمضان من العبادة بما هو أهم من العمرة، وخشي من المشقة على أمته، إذ لو اعتمر لبادروا إلى ذلك مع ما هم عليه من المشقة بالجمع بين العمرة والصوم، وقد كان -صلى الله عليه وسلم- يترك العمل وهو يحب أن يعمله خشية أن يُفرض على أمته، وخوفًا من المشقة عليهم”. انتهى كلامه -رحمه الله-.

وأكد فضيلته أنَّ هذا الأجر والجزاء الكريم يحصل -إن شاء الله- لمن اعتمر عمرة واحدة في رمضان، ويُخطئ كثير من الناس بتعمدهم تكرار هذه العمرة مرات ومرات خلال هذا الشهر، فيعتمر مرة كل عشرة أيام، أو مرة كل أسبوع، أو مرة كل ثلاثة أيام، فيشق على نفسه مشقة بالغة، ويُدخل عليها الحرج، ويزداد الأمر حين يترتب على ذلك: تضييقٌ على إخوانه، أو إيذاءٌ لهم، ولاسيما عند شدة الزحام وكثرة المعتمرين.

* وفي المدنية المنورة تحدّث فضيلة إمام وخطيب المسجد النبوي الشيخ الدكتور عبدالمحسن بن محمد القاسم عن فضائل شهر رمضان، وما خصّ الله به هذا الشهر العظيم من فضائل ينالها العبد بالعبادات من ثواب الصيام، وأداء الصلوات المفروضة في وقتها، وقيام الليل، والذكر، وتلاوة القرآن، والعمرة، والصدقة، والتوبة الصادقة، والاستغفار.

وأوضح الشيخ عبدالمحسن القاسم في خطبة الجمعة من المسجد النبوي أن الله فضّل الأيام والليالي بعضها على بعض، واصطفى من الشهور شهراً جعله قرّة شهور العام، وخصّه بمزيد من الفضل والإكرام، ففي شهر رمضان أنزل القرآن، وفيه تُفتح أبواب الجنان، وتُغلق أبواب النيران، وتصفّد الشياطين، وتكفّر فيه الخطايا إذا اجتُنبت الكبائر، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: “الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتُنبت الكبائر” رواه مسلم. وقال فضيلته: إن صيام رمضان يقي من الآثام والنار، وأما ثوابه فالذي يتولّاه هو الربّ الكريم، لقول النبي – صلى الله عليه وسلم –: “قال الله عزّ وجلّ (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به)” متفق عليه.

وأضاف: العمل الصالح يشرُفُ في الزمن الفاضل. وإن أفضل القربات توحيد الله، وإخلاص العمل له، وبهذا أُمر جميع الخلق. مبيناً أن الأعمال الصالحة لا تُقبل إلا بمتابعة سُنة النبي – صلى الله عليه وسلم – وطاعته موجبة للجنة، لقوله عليه الصلاة والسلام: “من أطاعني دخل الجنة” رواه البخاري.

وأوضح الشيخ عبدالمحسن القاسم أن الصلاة عمود الدين، وعهدٌ على الله من حافظ عليها دخل الجنة، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: “خمس صلوات كتبهن الله على العباد، من أتى بهن لم يضيّع منهن شيئاً استخفافاً بحقهن كان له عند الله عهدٌ أن يدخله الجنة” رواه أحمد.

وبيّن أن القرآن الكريم مما امتنّ الله به على هذه الأمة، لقوله جلّ وعلا: {لَقَدْ مَنَّ اللَّه عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ}. وذكر أن تلاوة القرآن تزيد في الإيمان، وآياته أبكت العظماء، وامتدح الله من تلاه وعمل به، ووعده بالزيادة والوفاء، مبيناً أن أفضل ما يُتلى القرآن في الشهر الذي نزّل فيه، قال ابن عباس رضي الله عنهما: ” كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن” متفق عليه.

اقرأ أيضاًالمملكة“الشؤون الإسلامية” تدشن برنامجَي هدية خادم الحرمين لتوزيع التمور وتفطير الصائمين بمقدونيا الشمالية

وأشار إلى أن قيام الليل من صفات أهل الجنة، فقال الله تعالى: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ}. داعياً إلى المحافظة على صلاة القيام في رمضان مع الإمام حتى ينصرف، ليتعرّض لنفحات الله، مبيناً فضائل رمضان، ومذكّراً بفضل الدعاء، إذ قال الله سبحانه: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}. مؤكدًا فضل الدعاء بطلب الهداية، وصلاح الذرية، والسعادة، والفلاح، والرزق الحلال من الله –عزّ وجلّ-، والدعاء بطلب المغفرة ودخول الجنة.

كما أوضح الشيخ الدكتور عبدالمحسن القاسم فضل الصدقة في رمضان، مبيناً أنها برهان على الإيمان، وأفضلها في رمضان، وأن إنفاق المال خير للنفس، إذ تدعو الملائكة للمنفق كل يوم بالخُلف عمّا أنفق، إذ قال عليه الصلاة والسلام: “ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر اللهم أعط ممسكاً تلفاً” متفق عليه.

وبيّن أن مما يُندم عليه عند الممات ترك الصدقة، قال تعالى {وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِي أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ}.

وذكر فضل العمرة في رمضان وعظيم ثوابها، مستدلاً بقول النبي – صلى الله عليه وسلم –: “إن عمرة في رمضان حجة” رواه البخاري.

وتابع فضيلته قائلاً: إن أكثر الناس لا يدركون فضل التوبة وحقيقتها، فالتوبة الصادقة من أفضل العبادات، ولا يكملُ عبدٌ ولا يحصل له كمال قربٍ من الله إلا بها، وقد أمر الله جميع المؤمنين بالتوبة لينالوا الفلاح، فقال الله تعالى {وَتُوبُوا إلى الله جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. وخير يوم في عمر العبد يومٌ يتوبُ فيه إلى الله.

وبيّن فضيلته فضل الاستغفار على المرء من محو الذنوب والآثام، ودفع العذاب، كما أن الاستغفار يرفع الدرجات ويجلب الغيث، ويكثر الأموال والبنين، ويُنبت الثمار، ويجلي الأنهار، وبه تتنزّل الرحمات لقوله تعالى {وَمَا كَانَ اللَّه مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}، وقوله جلّ وعلا {لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}.

واختتم فضيلته الخطبة مذكّراً بأن المرأة مأمورة بما يؤمر به الرجال من العبادات من تلاوة القرآن والدعاء والصدقة والذكر والاستغفار والتوبة وقيام الليل، إلا أن صلاتها في دارها خيرٌ لها من صلاتها في المسجد.

وأوصى باستغلال أيام وليالي رمضان، وأن العاقبة لمن اغتنمها، وتدارك ما فات من العمر، والعمل والتوكّل على الله، واستبشار الخير بفضله عزّ وجلّ، مبيناً أن المغبون من انصرف عن طاعة الله أو تكاسل عنها، والمحروم من حُرم الخير في رمضان، والعبرة بكمال النهايات لا بنقص البدايات، والأعمال بالخواتيم.

المصدر: صحيفة الجزيرة

كلمات دلالية: كورونا بريطانيا أمريكا حوادث السعودية صلى الله علیه وسلم الشیخ الدکتور رسول الله هذا الشهر فی رمضان قال الله عمرة فی

إقرأ أيضاً:

ما حكم القتـ.ل الرحيم للمريض؟.. مفتي الجمهورية يجيب

تلقت دار الإفتاء المصرية سؤالا يقول صاحبه: ما حكم ما يعرف في بعض بلاد غير المسلمين بالقتل الرحيم أو الموت الرحيم للآدمي المريض عند اشتداد المرض عليه والألم، وذلك بطلب منه، أو من قريبه المسؤول عنه، أو بقرار الطبيب باعتباره المشرف المسؤول عنه؟
 

وأجابت دار الإفتاء المصرية عبر موقعها الرسمى عن السؤال قائلة: ما يسمى بـ"القتل الرحيم" أو "الموت الرحيم" للآدمي حال اشتداد المرض عليه والألم -مُحرَّمٌ شرعًا، بل هو من كبائر الذنوب وأعظمها، سواء كان ذلك بفعل المريض نفسِه، أو بفعل الطبيب بناءً على طلب المريض أو ذويه، أو بقرار منه باعتباره المشرف المسؤول عنه.

والواجب على مَن ابتُلي بمصيبة ألَّا يجزع لها، بل يستقبل قضاءَ الله بنفس راضية صابرة، ولا ييأس من رحمة الله تعالى.
 

عمل مذكور في القرآن لسعة الرزق والذرية الصالحة.. داوم عليه سترى العجبهل الأنبياء أحياء في القبور ؟.. الإفتاء توضحمرصد الأزهر: ضحايا العمليات الإرهابية في وسط إفريقيا يتراجع خلال أكتوبرما حكم ضرب الزوجة تاركة الصلاة؟.. دار الإفتاء تجيب



بيان المقصود بالقتل الرحيم
"الموت الرحيم" أو "القتل الرحيم" أو "تَيسير الموت": هو عبارة عن إنهاء حياة المريض الذي لا أمل في شفائه عن طريق تناوله بنفسه أو إعطاء غيره إياه جرعةً من مادةٍ تؤدي به إلى الوفاة، ويُلجأ إلى هذا الإجراء عند الإصابة بمرض عضال أو المعاناة من ألم مزمن، وقد يكون هذا الإجراء بفعل المريض نفسه، أو يفعله غيرُه بطلب منه، أو يقرره الطبيب المعالج له بسبب الحالة التي وصل إليها المريض، أو يكون بطلب من أهل المريض أو القائم على رعايته.

حكم إقدام المريض على إنهاء حياته بنفسه لمجرد المرض أو الألم
أما الحالة التي يُنهي فيها المريضُ حياتَه بنفسه بأي شكل من الأشكال، فتُكيَّف في الشريعة الإسلامية على أنها "الانتحار" أو "قتل الإنسان نفسَه".

وقد حَرَّمت الشريعةُ الإسلامية إتلافَ البدن وإزهاقَ الروح عن طريق الانتحار أو ما يؤدي إلى إتلافه؛ فأَمَرَت الإنسانَ بالمحافظة على نفسه وجسده من كل ما يُهلِكه أو يَسوؤه، ونَهت عن أن يقتل الإنسانُ نفسَه أو يُنزِلَ بها الأذى، وبيَّنت أنَّ كلَّ إنسانٍ وإن كان صاحب إرادةٍ حُرة -فيما يَتعلق بشخصه-، إلا أن هذه الإرادة مُقَيَّدةٌ بالحدود التي شرعها الله تبارك وتعالى، فقال سبحانه وتعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ [النساء: 29].

وقد "أجمع أهل التأويل على أنَّ المراد بهذه الآية النهي أن يقتل بعضُ الناس بعضًا، ثم لفظُها يتناول أن يقتل الرجل نفسه"، كما في "الجامع لأحكام القرآن" للإمام القرطبي (5/ 156-157، ط. دار الكتب المصرية).

ونهت أيضًا عن التهلكة، فقال سبحانه: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [البقرة: 195]. والتهلكة: مصدرٌ مِن هلك يهلك هلاكًا وهلكًا وتهلكةً، أي: لا تأخذوا فيما يهلككم، والحق أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فكل ما صدق عليه أنَّه تهلكة في الدِّين أو الدنيا فهو داخل في هذا، كما في "فتح القدير" للعلامة الشوكاني (1/ 222، ط. دار ابن كثير).

وقال الإمام الطَّبَرِي في "جامع البيان" (3/ 593، ط. مؤسسة الرسالة): [إنَّ الله نَهى عن الإلقاء بأيدينا لما فيه هلاكنا، والاستسلام للهلكة] اهـ.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَن تَرَدَّى مِن جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفسَهُ، فَهُوَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ يَتَرَدَّى فِيهِ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَن تَحَسَّى سُمًّا فَقَتَلَ نَفسَهُ، فَسُمُّهُ فِي يَدِهِ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَن قَتَلَ نَفسَهُ بِحَدِيدَةٍ، فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَجَأُ بِهَا فِي بَطنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا» أخرجه الإمامان: البخاري واللفظ له، ومسلم.

وعن ثابت بن الضحّاك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَن قَتَلَ نَفسَهُ بِشَيءٍ عُذِّبَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ» متفقٌ عليه.

ومن الضروريات التي أمر الشرع الشريف بالمحافظة عليها والعناية بها: حفظُ النفس الإنسانية بما يشمل حفظ الجسد علاجًا ووقايةً وترقيةً.

ولم تكتف الشريعة الغراء بتقرير حق الإنسان في الحياة وسلامة نفسه، بل أوجبت عليه اتخاذ الوسائل التي تحافظ على حياته وصحة بدنه وتمنع عنه الأذى والضرر.

يقول حجة الإسلام أبو حامد الغزالي في "المستصفى" (ص: 174، ط. دار الكتب العلمية): [مقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم، فكلُّ ما يتضمَّن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوِّت هذه الأصول فهو مفسدة، ودفعها مصلحة] اهـ.ومن ثَمَّ فيَحرُم على الإنسان أن يُقدِم على إنهاء حياته بنفسه لمجرد المرض أو الألم؛ لأن ذلك يعد قتلًا للنفس، وهو منهي عنه شرعًا، بل وفيه حرمان من مقام الشهادة؛ لما روي عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التَقَى هو والمشركون، فاقتتلوا، فلما مالَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى عسكره، ومالَ الآخَرون إلى عسكرهم، وفي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجلٌ لا يَدَعُ لهم شاذَّةً ولا فاذَّةً إلا اتَّبَعَهَا يَضرِبُها بسَيفه، فقال: ما أجزأ منا اليومَ أحدٌ كما أجزأ فلان، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أَمَا إِنَّهُ مِن أَهْلِ النَّارِ»، فقال رجلٌ من القوم: أنا صاحِبُه، قال: فخرج معه، كلما وقف وقف معه، وإذا أسرع أسرع معه، قال: فجُرِحَ الرجلُ جرحًا شديدًا، فاستعجل الموت، فوضع نَصلَ سَيفه بالأرض، وذُبابَهُ بين ثدييه، ثم تَحَامَل على سَيفه، فقتل نفسه، فخرج الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: أشهد أنك رسول الله، قال: «وَمَا ذَاكَ؟» قال: الرجل الذي ذكرت آنفًا أنه من أهل النار، فأعظَم الناسُ ذلك، فقلت: أنا لكم به، فخرجتُ في طَلَبه، ثم جُرِحَ جرحًا شديدًا، فاستعجل الموت، فوضع نَصلَ سَيفه في الأرض، وذُبابَهُ بين ثدييه ثم تَحَامَل عليه، فقتل نفسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند ذلك: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعمَلُ عَمَلَ أَهلِ الجَنَّةِ فِيمَا يَبدُو لِلنَّاسِ وَهُوَ مِن أَهلِ النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعمَلُ عَمَلَ أَهلِ النَّارِ فِيمَا يَبدُو لِلنَّاسِ وَهُوَ مِن أَهلِ الجَنَّةِ» متفق عليه.



حكم إقدام الطبيب على إنهاء حياة المريض
أما الحالة التي يُقدِم فيها الطبيب على إنهاء حياة المريض، سواء بتوجيهٍ من المريض نفسِه أو من ذويه، أو بقرار منه باعتباره المشرف المسؤول عنه، وسواء كان ذلك بعلم المريض أو بغير علمه، فذلك قتل الإنسانِ غيرَه بغير حقٍّ؛ لأن الأصل في النفس الإنسانية عِصمتُها، وعدمُ جواز الاجتراء على إنهاء حياتها، قال تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ [الأنعام: 151].

قال الإمام الرازي في "مفاتيح الغيب" (13/ 179، ط. دار إحياء التراث العربي): [الأصل في قتل النفس هو الحرمة، وحِلُّه لا يثبت إلا بدليلٍ منفصل] اهـ.

بل جعل الله تعالى قتل النفس بغير حقٍّ كأنه قتلٌ للناس جميعًا، فقال سبحانه: ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾ [المائدة: 32].

قال الإمام الرازي في "مفاتيح الغيب" (11/ 344): [المقصود من تشبيه قتل النفس الواحدة بقتل النفوس: المبالغة في تعظيم أمر القتل العمد العدوان وتفخيم شأنه، يعني: كما أن قتل كل الخلق أمرٌ مستعظمٌ عند كل أحدٍ، فكذلك يجب أن يكون قتل الإنسان الواحد مُستَعظَمًا مَهيبًا] اهـ.

كما جاء النص الشرعي مخبرًا بأن المسلم في أي ذنبٍ وقع كان له في الدِّين والشرع مخرجٌ إلا القتل؛ فإن أمرَهُ صعبٌ، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لَن يَزَالَ المُؤمِنُ في فُسحَةٍ مِن دِينِهِ مَا لَم يُصِب دَمًا حَرَامًا»، ويوضح هذا المعنى ما جاء في تمام الحديث من قول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: «إِنَّ مِن وَرَطَاتِ الأُمُورِ الَّتِي لَا مَخرَجَ لِمَن أَوقَعَ نَفسَهُ فِيهَا: سَفكَ الدَّمِ الحَرَامِ بِغَيرِ حِلِّهِ» أخرجهما الإمام البخاري.

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «لَزَوَالُ الدُّنيَا أَهوَنُ عَلَى اللهِ مِن قَتلِ رَجُلٍ مُسلِمٍ» أخرجه الأئمة: الترمذي، والنسائي، والبيهقي، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.ومِن عِظَم شأن الدم فإنه أول ما يقضى فيه بين الخلائق يوم القيامة، فعن عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «أَوَّلُ مَا يُقضَى بَينَ النَّاسِ فِي الدِّمَاءِ» متفق عليه.

ما يجب على المريض إذا اشتدَّ به المرض والألم
الذي تُوصي به دارُ الإفتاء المصريةُ مَن ابتُلي بمصيبة: ألَّا يجزع لها، بل يستقبل قضاءَ الله بنفس راضية صابرة؛ لقول المولى تبارك وتعالى: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: 155].

قال الإمام أبو حيَّان الأندلسي في "البحر المحيط في التَّفسير" (2/ 56، ط. دار الفكر): [كلُّ مَن صبر صبرًا محمودًا شرعًا، فهو مندرجٌ في الصابرين] اهـ.

وقال حجة الإسلام أبو حامد الغزالي في "إحياء علوم الدين" (4/ 72، ط. دار المعرفة): [أما الصبرُ على بلاء الله تعالى فلا يقدِر عليه إلا الأنبياءُ؛ لأنَّه بضاعةُ الصديقين، فإنَّ ذلك شديدٌ على النفس، ولذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم: «أَسأَلُكَ مِنَ اليَقِينِ مَا تُهَوِّنُ عَلَيَّ بِهِ مَصَائِبَ الدُّنيَا»، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «انتِظَارُ الفَرَجِ بِالصَّبرِ عِبَادَةٌ»] اهـ.وأكدت بناءً على ذلك: أن ما يسمى بـ"القتل الرحيم" أو "الموت الرحيم" للآدمي حال اشتداد المرض عليه والألم -مُحرَّمٌ شرعًا، بل هو من كبائر الذنوب وأعظمها، سواء كان ذلك بفعل المريض نفسِه، أو بفعل الطبيب بناءً على طلب المريض أو ذويه، أو بقرار منه باعتباره المشرف المسؤول عنه، والواجب على مَن ابتُلي بمصيبة ألَّا يجزع لها، بل يستقبل قضاءَ الله بنفس راضية صابرة، ولا ييأس من رحمة الله تعالى.

طباعة شارك القتل الرحيم المقصود بالقتل الرحيم حكم إقدام الطبيب على إنهاء حياة المريض الموت الرحيم

مقالات مشابهة

  • هَلّا شَقَقْتَ عَن قَلْبِهِ.. نص خطبة الجمعة 14 نوفمبر 2025
  • ما حكم القتـ.ل الرحيم للمريض؟.. مفتي الجمهورية يجيب
  • دعاء دخول السوق .. احرص على هذه الكلمات
  • بعد الدعوات إليها في عدة دول.. ما هي صلاة الاستسقاء وموعدها؟
  • محمد رمضان يقدم واجب العزاء في وفاة المطرب إسماعيل الليثي بإمبابة
  • موضوع خطبة الجمعة 14 نوفمبر 2025.. «هلّا شققتَ عن قلبه»
  • ما حكم اللجوء إلى الدجالين والمشعوذين؟.. الإفتاء تجيب
  • حكم رد الهدية من دون سبب شرعي .. الإفتاء توضح
  • حكم تعدد المسجد الواحد في البلدة دون حاجة
  • الرحمة في الإسلام