النفوذ الإيراني في السودان ومخاطره على المنطقة
تاريخ النشر: 22nd, March 2024 GMT
يُثار الجدل في السنوات الأخيرة حول مدى التمدد والنفوذ الإيراني في المنطقة العربية ومنطقة الشرق الأوسط، إلا أن جدلاً أقل حدة ذلك الذي تتناوله وسائل الإعلام بمختلف أذرعها حول محاولة مد إيران نفوذها في قارة إفريقيا وآثار ذلك على الدول العربية الإفريقية. حيث شكّلت محاولات إيران مدّ نفوذها خلال العقود القليلة الماضية في إفريقيا أمراً لا يمكن إغفاله؛ وذلك لمحاولتها مد نفوذها بشكل ملحوظ لعدد من دول القارة الإفريقية، خاصة دول شمال غربي إفريقيا ثم دول غرب القارة.
بالنسبة لإيران، وفي تلك الأثناء، يعد السودان أرضًا خصبة في ظل الصراع العسكري المسلح، والذي يعد فرصة لتعزيز التسرب الإيراني داخل السودان بناء على تصاعد وتيرة الأحداث السياسية هناك، وهو ما يمكنها من إقامة علاقات مع أحد طرفي الصراع وغالبًا سيكون قائد الجيش السوداني البرهان بحكم العلاقة المتراكمة بين النظام الإيراني الخميني والجيش الذي مثله البشير وجاء البرهان من نفس الخلفية.
لم تتوقف إيران عن محاولاتها تمديد نفوذها في السودان منذ زمن بعيد، حيث سمحت العلاقات السودانية ــ الإيرانية لطهران بأن تستعرض قدرتها على التغلغل والتأثير في مراكز صناعة واتخاذ القرار في السودان وبالتحديد بعد صعود عمر البشير إلى حكم السودان عام 1989، حيث رفعت الحركات الثورية السودانية شعارات ثورية تشبه نظيرتها في إيران من ناحية مواجهة أمريكا وتعزيز شعارات تطبيق الشريعة الإسلامية وما شابه.
ويحظى السودان بإطلالة على البحر الأحمر بطول يقارب 800 كلم، وهو ما جعله محورا للتنافس الإقليمي والدولي على تشغيل موانئه.
أهداف الدور الإيراني في القارة الإفريقية:
من خلال رصد و تتبع للدور الإيراني في الدول الإفريقية، يمكن حصر واستنتاج بعض أهدافه في إفريقيا كالتالي:
- مد النفوذ الإيراني في دول إفريقية وتصدير ما يُطلق عليه "تصدير الثورة" والمنصوص عليه في الدستور الإيراني، وذلك من خلال نشر المذهب الشيعي في دول هذه القارة، فكل من يتشيع تَعُده طهران ذخراً لها؛ لأنه تلقائياً يكون تابعاً لإيران ونظام ولاية الفقيه، مثل كثيرين من الشيعة في نيجيريا على سبيل المثال.
- الخروج من العزلة السياسية الدولية المفروضة على النظام الإيراني بسبب العديد من الملفات المثارة، كالملف النووي والصاروخي ودعم الإرهاب والفوضى وخرق القانون الدولي.
- وجود منافذ اقتصادية تجارية لإيران مع الدول الإفريقية.
- استخدام بعض الدول الإفريقية كتهديد استراتيجي لبعض الدول الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط كالمملكة العربية السعودية، فإيران تستخدم -على سبيل المثال- السواحل الإريترية والجيبوتية لتهريب الأسلحة وتقديم الدعم العسكري إلى الحوثيين في اليمن.
التشيع في السودان:
رغبة إيران في زيادة أعداد المتشيعين من سكان منطقة الشرق الأوسط باعتبارها امتدادا جغرافياً واستراتيجيا مهما للغاية بالنسبة للمشروع الفارسي تحت راية التشيع السياسي المعبرة عنه الخمينية وما يعرف عنها بتصدير الثورة، وقد قام أحد المدونين على شبكة الإنترنت باختصار هذا الجانب بقوله: "المذهب في خدمة الأهداف الاستراتيجية، والأهداف السياسية والاقتصادية في خدمة نشر المذهب الشيعي.
يحظى السودان بأهمية كبرى في السياسة الخارجية الإيرانية ولقد وصف التقرير السنوي لوزارة الخارجية الإيرانية عام 1996 بأن السودان يمثل –أولى أوليات السياسة الخارجية الإيرانية، وأن إيران تنظر لشرق إفريقيا بوصفه تربة خصبة لنشاطاتها السياسية والفكرية والعسكرية والاقتصادية وتعتبر إيران السودان ذا أهمية خاصة بسبب موقعه الجيوسياسي، فهي قريبة من العالم العربي وبخاصة مصر ومقابلة لشواطئ المملكة، ويمكن أن تكون البوابة الخلفية لإفريقيا السوداء وشمال إفريقيا.
ومن أجل تصدير الثورة الإيرانية من خلال المؤسسات أو المراكز الثقافية التي تنشر الفكر الشيعي وتوجد العديد منها في السودان، وتعزيز نفوذها من خلال نشر جهودها في البلدان العربية والمجتمعات الإسلامية التي تعيش في شرق إفريقيا، وخصوصاً السودان، وأن الاهتمام الإيراني بالسودان قد أتاح لها فرصة استراتيجية لا تعوض لإيجاد قاعدة حيوية لها في السودان تمارس من خلالها نشر مذهبها وسياستها وتفرض ضغوطها السياسية والأمنية عبر البحر الأحمر، ومنطقة القرن الإفريقي، بهذا الحضور القوي في السودان الذي تعتبره إيران بوابتها على القارة الإفريقية والبحر الأحمر.
إن الوجود العلني الحذر للشيعة في السودان بدأ منذ النصف الأخير للثمانينات من القرن الماضي بعد ما يُعرف بالثورة الخمينية وازدهرت أثناء تولي الرئيس السوداني السابق عمر البشير نتيجة لكونه منتميا لجماعة الإخوان المسلمين، وتركز تواجدها في الخرطوم وأم درمان وشرق النيل و حالياً في بورتسودان، كما أن هناك مؤشرات عديدة تؤكد وجود مد شيعي في السودان، برعاية إيرانية من بينها زيادة عدد معتنقي المذهب الشيعي وانتشار الحسينيات، ما يهدد بازدياد النزعات الطائفية ويمهد الطريق لعدم الاستقرار السیاسي والاجتماعي وتحويل السودان لدولة تابعة لمحور إيران.
وبينت بعض المصادر أن أول منظمة شيعية في السودان هي جمعية الرسالة والتضامن، التي تم تسجيلها بشكل رسمي في العام 1984م، وقامت بأنشطة كثيرة، منها معارض بالجامعات السودانية وخاصة في جامعة النيلين، وهذه الجمعية تعتبر أول نواة لعمل شيعي في السودان، وللشيعة في السودان ما يعرف بالحسينيات، وهي أماكن تجمع الحسينيات التي اُستبدلت مكان الجوامع والمساجد، وقد تعددت المصادر عن عددها وتوزيع هذه الحسينيات في السودان، حيث بلغ عددها في العام 2012م 114 حسينية في مقدتمها حسينية المرتضى بمنطقة الخرطوم شرق والتي أسست في العام 1990م.
أعداد الشيعة في السودان:
لا توجد إحصائية دقيقة والتي دار حولها الكثير من النقاش وهو ما يشير إلى عدم وجود أرقام محددة يمكن أن يتم الاتفاق عليها. ولكننا هنا سوف نسرد معتمدين على عدد من المصادر حول أعداد الشيعة في السودان. حيث قدمت دائرة المعارف الحسينية، وهي جهة شيعية تختص في جدول اهتماماتها برصد الوجود الشيعي في العالم، في عام 2010 قدمت بعض مصادرها إحصائيات تشير إلى أن الشيعة في السودان عددهم حوالي 667 ألف شخص، أي ما نسبته (1.9%) من إجمالي السكان. ما يلفت الانتباه في هذا العدد أنه ليس برقم تقديري فهو رقم دقيق بشكل كبير خاصة في عرض النسبة المذكورة.
أما صحيفة سودانيل الإلكترونية أشارت إلى إحصائيات غير رسمية في العام 2013 بأن نسبة الشيعة في السودان وصلت إلى ما يقارب (5%) من السكان، أي مليون و550 ألف شخص، وهو أكثر من ضعفي العدد الذي ذكرته دائرة المعارف الحسينية. ويظل هذا العدد تقديريا بشكل ملفت وقد يبدو منطقيا من ناحية بحكم وجود علاقات بين النظام السوداني السابق وطهران مما سهل مهمة إيران في نشر التشيع كونها تعتمد عليه في خلق أذرعة تابعة لها وهذا ضمن استراتيجية الحرس الثوري ومنهج إيراني يُسمى تصدير الثورة.
الأسلحة الإيرانية التي تم تقديمها للجيش السوداني:
تتعمد إيران اختراق الدول التي تنشب فيها صراعات سياسية أو عسكرية مسلحة، وقد برزت فرصة إيران لتحقيق هذا الهدف في عدة مناطق كالعراق وسوريا بعد ثورات الربيع العربي والحرب الأهلية هناك، فضلًا عن اليمن ودعمها الحوثيين، ولبنان ودعمها حزب الله، وكذلك السودان بعد أن دعمت في وقت سابق نظام البشير، ورأت في السودان مغنمًا كبيرًا لتحقيق هدفها بالتغلغل داخل القارة السمراء وإقامة مصانع أسلحة لها هناك، وهو ما سهل لها توريد تلك الأسلحة لوكلائها كحركة حماس في قطاع غزة.
وفي الوقت الذي تزود إيران فيه الجيش السوداني بالأسلحة وأهمها الطائرات بدون طيار من طراز "مهاجر6". وهي طائرة بدون طيار ذات محرك واحد تم تصنيعها في إيران، بواسطة شركة القدس للصناعات الجوية، وتحمل ذخائر موجهة بدقة. أعقب ذلك اتفاق استخباري بين أجهزة البلدين سمحت الخرطوم من خلاله لطهران بإمدادها بمساعدات مالية بقيمة 17 مليون دولار وأسلحة صينية بقيمة 300 مليون دولار، فضلًا عن إرسال إيران 2000 فرد من الحرس الثوري الإيراني للسودان لإنشاء وتدريب “قوات الدفاع الشعبي” على غرار قوات الباسيج الإيرانية . كما أكد مراقبون إرسال نماذج من مسيرات إيرانية وصلت بشكل قانوني إلى الخرطوم بصفقة إيرانية سودانية.
أطماع وأهداف إيران في السودان:
فيما يهدد الحوثيون أخطر الأذرع الإيرانية، حرية الملاحة وفرضوا هيمنتهم العسكرية من خلال التقنية المقدمة لهم من طهران على مضيق باب المندب، تطمح إيران إلى موطئ قدم لها على الضفة الأخرى من الممر البحري الاستراتيجي للبحر الأحمر من خلال نفوذها في السودان عبر دعمها للجيش السوداني مما يثير قلق القوى الدولية مما يشكله ذلك من تهديد للمصالح الإقليمية و الدولية، والذي يعطي لإيران قدرة لمراقبة حركة المرور البحرية من وإلى قناة السويس، وكذلك بالنسبة لإسرائيل إضافة إلى جمع المعلومات الاستخباراتية.
ونجحت إيران في إرسال خبراء من الحرس الثوري للسودان لتدريب الجيش السوداني مثلما تم في اليمن، ويرى مراقبون أن تسليح السودان عسكريا من شأنه أن يعزز النفوذ العسكري لطهران في الشرق الأوسط، حيث تدعم بالفعل جماعات مسلحة، من حماس في غزة إلى حزب الله اللبناني والحوثيين في اليمن، بالإضافة إلى برنامجها المتنامي للطائرات بدون طيار. وعلى الجانب الآخر فإن إعادة العلاقات في ظل انقسام السودان تعني الكثير بالنسبة لطهران وتنم عن خطورة وتهديد للأمن القومي العربي والدولي لما تشكله السودان من أهمية استراتيجية بحكم موقعها الجغرافي وكونها من أهم الدول المشاطئة للبحر الأحمر.
نظرة المؤسسات الإيرانية للسودان وتعاطيها مع الأزمة السودانية:
يلاحظ المتابع لأدبيات الفكر الاستراتيجي الإيراني منذ بداية العقد الماضي وجود رؤية واضحة حول أولوية إفريقيا في أجندة السياسة الخارجية الإيرانية، فقد اتسع نطاق العلاقات الإيرانية الإفريقية بشكل كبير منذ بداية الألفية الجديدة.
ومن اللافت للانتباه أن قراءة الملف الإيراني-السوداني تعكس تبايناً واضحاً في الرؤى والتوجهات، فثمة من يقف عند حدود التبشير ونشر المذهب الشيعي، وهناك من يقف عند حدود التوجه الأمني والعسكري، ويتحدث عن مخاطر الوجود الإيراني بالنسبة لتنامي النزعات الراديكالية المناوئة للغرب في إفريقيا. ولا شك أن هناك أبعاداً ودلالات أخرى كثيرة تفسر لنا حقيقة التدافع الإيراني الكبير نحو السودان.
تنبع أهمية السودان الاستراتيجية من موقعها الجيواستراتيجي، فهي قريبة من (قلب) العالم العربي، وبخاصة مصر. فهناك اعتماد متبادل بين السودان ومصر، بمعنى أن ما يحدث لأي طرف يتأثَّر به الطرف الآخر، ووقوع السودان بين أهم معبرين للتجارة العالمية والنفط في المنطقة، وهما قناة السويس وباب المندب، حيث تعْبر يومياً نحو مائة سفينة و120 ألف برميل من نفط الخليج، وما يحتويه السودان من ثروات طبيعية كالذهب واليورانيوم، كما يمكن للسودان أن يكون البوابة الخلفية للقارة الإفريقية.
ويعتبر السودان من أكثر الدول مواءمة مع السياسة الإيرانية من حيث البعد الديني، لتوجه الدولة بالرغم من الاختلاف المذهبي، وزادت هذه الخصوصية في العلاقات بعد تحول السودان إلى دولة تستقطب الاستثمارات العربية والعالمية بعد اكتشاف النفط، ففي تسعينيات القرن الماضي وفي عهد الرئيس الإيراني الأسبق علي أكبر هاشمي رفسنجاني قدمت إيران دعمًا مالياً للسودان، وتواصل الدعم في عهد خلفه الرئيس محمد خاتمي، تبع ذلك دعم عسكري أقامت به إيران مصنعاً للأسلحة والذخيرة لتعزيز معاهدة التعاون العسكري الذي لم يغفل عن التركيز على استعداد إيران لعرض مشاريع للشراكة التكنولوجية النووية.
بالإضافة إلى أن السودان أصبح أرض المعركة الجديدة بين إيران لفرض الهيمنة والسيطرة الإيرانية. وعن طريق السودان يتم بيع صفقات الأسلحة الإيرانية إلى المسلحين في القارة الإفريقية، كما أنه يتم تصنيع الأسلحة الإيرانية على الأراضي السودانية،.
انعكاسات التقارب الإيراني مع الجيش السوداني وانعكاساته على الأزمة والمحيط الإقليمي وخاصة البحر الأحمر وأمنه والتقييم للتحركات الإيرانية في السودان:
يعكس نفوذ إيران في السودان وهوسها في إعادة إنتاج العلاقات الدبلوماسية التي توقفت منذ عام 2016 وعادت في آواخر العام 2023 لتظهر للعلن من خلال صفقات تسليح وزيارات لوزراء خارجية البلدين ويعلل البعض وصول أسلحة إيرانية ضمن صفقات تبادل لدعم الجيش السوداني أنه يعود لرفع الحظر الأممي على الأسلحة الإيرانية.
ومن ضمن انعكاسات الدور الإيراني في السودان هو تأكيد النظام الإيراني على عدم تخليه عن أهدافه الاستراتيجية ضمن مشروعه القومي تحت لافتة التشيع في فرض وجوده كقطب أول في الشرق الأوسط والتعامل معه في مختلف القضايا وهذا يعني إصرار النظام الإيراني على استهداف الدول العربية وإسقاط الدولة الوطنية من خلال الطائفية الذي يعزز الهيمنة الإيرانية ويشيع مبدأ تصدير الثورة الإيرانية مستغلة الصراعات البينية والتباينات وعدم وجود تحالف عربي استراتيجي مع الولايات المتحدة وإسرائيل للعمل على بلورة رؤية استراتيجية تفضي لعمل عسكري مشترك يقضي على النظام الإيراني الإرهابي.
ومن الصعب فصل سياسة إيران تجاه دول الخليج عن مجمل رؤيتها الاستراتيجية للمنطقة العربية ودورها فيها، تلك الرؤية التي لم تختلف سواء في عهد “الشاه” أو عهد الجمهورية الإسلامية، وتقوم على اعتبار إيران قوة إقليمية مهيمنة، وأن منطقة الخليج ودولها تدخل في نطاق نفوذها، وترتبط ارتباطًاً مباشرًا بالأمن القومي الإيراني، وظهرت تجلياتها بوضوح من خلال تدخلاتها في الشؤون الداخلية لدول المنطقة، مستخدمة في ذلك أساليب ووسائل كثيرة، منها المال السياسي، والمتاجرة بآلام ومشكلات الشعوب، واللعب على وتر الشعارات البراقة مستغلة وضعاً اجتماعيّاً يتفاوت بين دولة وأخرى، ويحاول الخطاب الإيراني استغلال الاستقطاب السياسي باللعب على الوتر الديني، لتكريس تواجده في الدول العربية والخليجية بشكل خاص، معتمدة على وجود أقليات مذهبية، ومحاولتها إثارة مشاكل مع دول الخليج العربي والضغط عليها خاصة الإمارات، بهدف عدم التزامها بالعقوبات الأمريكية المفروضة عليها بسبب برنامجها النووي.
ليس ثمة شك فى أن الوضع فى السودان يقترب من مرحلة الخطر ليس فقط على سيادة السودان ووحدة أراضيه، ولكن كذلك بالنسبة لمصالح دول الجوار الجغرافى وفى مقدمتها مصالح مصر ودول الخليج. حيث تسعى إيران إلى تطويقها وفرض واقع جديد فيها، يكون من أبرز ملامحه الرضوخ للمشروع الإيراني، وإفساح المجال أمام أفكار الثورة الخمينية الشيعية الفارسية.
بعد إعادة فتح السفارة السودانية في طهران، وبحسب وسائل الإعلام الحكومية الإيرانية، فإن طهران ستنقل تجربتها في مجال الخدمات الصناعية والفنية والهندسية، وكذلك المنتجات الطبية والصيدلانية إلى السودان. ويرى مراقبون وفي الآونة الأخيرة، أظهرت طهران مهارة في استخدام عدم الاستقرار في البلدان لإنشاء ميليشيات داعمة لها مثل ما حصل في العراق وسوريا واليمن. ويرى محللون أنه يمكن استخدام نموذج مماثل في السودان. ومع توسع الوجود الإيراني العسكري في السودان فإن طهران تخطط لاستخدام علاقاتها مع الجيش السوداني لتعزيز تحالفاتها الإقليمية لممارسة المزيد من القوة في الممرات المائية الاستراتيجية في البحر الأحمر. فالحقيقة هي أن طهران كانت تنشئ هذا التحالف منذ عقود، فالحصول على النفوذ، والسيطرة، على الممرات المائية الاستراتيجية في الشرق الأوسط -بما في ذلك المياه الخليجية، وقناة السويس، ومضيق باب المندب- هي سمة أساسية لاستراتيجية إيران في المنطقة.
لذلك فإن سقوط النظام السودانى الحالي مع احتمال عودة العلاقات الطبيعية مع مصر يشكل نكسة سياسية واستراتيجية كبرى لطهران، وبالتالي ترى إيران ضرورة استمرار دعم النظام السودانى بشتى الوسائل لمنع سقوطه، وذلك من خلال مواصلة تعزيز العلاقات الثنائية وتكريس الوجود الإيرانى فى السودان.
ويبقى السيناريو الأكثر ملاءمة هو محاولة منع إيران من مد نفوذها في المنطقة ومحاصرة أنشطتها المريبة، وإجهاض محاولتها للتسلل إلى دولها ودول أخرى بعينها كما يحدث في مصر والسودان، فضلاً عن محاولة تقليص نفوذها في دوائر نفوذها التقليدية في لبنان والعراق وسورية واليمن وكشف خلاياها، وإضعاف حلفائها في المنطقة. ومحاولة استرجاع السودان وضمها إلى الصف العربي الموحد، ومساعدتها على تجاوز أزماتها الداخلية والخارجية في إطار تجميع الدول العربية ضمن مشروع واحد ضد المشروع الإيراني.
المصدر: نيوزيمن
كلمات دلالية: الخارجیة الإیرانیة الأسلحة الإیرانیة القارة الإفریقیة النظام الإیرانی الجیش السودانی الشرق الأوسط البحر الأحمر الإیرانی فی السودان من فی المنطقة نفوذها فی فی العام إیران فی من خلال وهو ما
إقرأ أيضاً:
ثورة أكتوبر وتوق الشعب السوداني إلى حركة حقوق مدنية (6-6)
مجتزأ من ورقة: عبد الله الفكي البشير، "ثورة أكتوبر ومناخ الستينيات: الانجاز والكبوات (قراءة أولية)"، نُشرت ضمن كتاب: حيدر إبراهيم وآخرون (تحرير)، *خمسون عاماً على ثورة أكتوبر السودانية (1964- 2014): نهوض السودان المبكر*، مركز الدراسات السودانية، القاهرة، 2014.
عبد الله الفكي البشير
abdallaelbashir@gmail.com
الكبوة الأخلاقية: الفشل في حقن الدماء وتحقيق التسوية الوطنية
وضعت ثورة أكتوبر الأحزاب التقليدية أمام تحد أخلاقي. فالمطلوب حسن التصرف في الحرية في اتجاه مبادئ الثورة حيث حقن الدماء في الجنوب، وتحقيق التسوية الوطنية الشاملة، حفاظا على وحدة السودان. فخروج الجماهير في ثورتهم بسبب قضية الجنوب، التي وفرت شرارة الانفجار للغضب الشعبي، كان تعبيرا عن الورع الأخلاقي عبر رفض الحسم العسكري للقضية، وبحثا عن سبل تحقيق التسوية الوطنية الشاملة وبناء الوحدة. كان مؤتمر المائدة المستديرة للجنوب، والذي عقد في مناخ ثورة أكتوبر وكان من ثمارها، وهو أول محاولة سودانية جادة للبحث عن السلام، فرصة عظيمة لتحقيق التسوية الوطنية الشاملة. إلا أن فشل مؤتمر المائدة المستديرة ولجنة الاثنى عشر التي خرجت منه، كان تعبيرا قويا عن عجز الأحزاب السودانية في تحقيق التسوية الوطنية، ومن ثم المفارقة لأشواق الجماهير و"تجميد الأوضاع". ففي الحفل الذي أقامته لجنة الاثني عشر في مساء يوم 26 سبتمبر 1966 لتقديم تقريرها رسميا إلى الحكومة، جاء في خطاب التقديم: "لقد أجمعت الأحزاب السودانية في مؤتمر المائدة المستديرة على أن الوضع الحالي للحكم- الحكومة الموحدة الممركزة- لم يعد يخدم المصلحة القومية، إذ ثبت عجزه عن مواجهة التحديات التي تواجه البلاد الناشئة كبلادنا، التي يسبق فيها الاستقلال السياسي بناء القومية، وحيث تتعدد عناصر الأمة، وتنشأ بالضرورة نوازع الفرقة بينها، نسبة للعوامل الجغرافية والثقافية والتاريخية. وعلي جيلنا هذا، إما أن يقابل هذا التحدي، أو أن يخلد إلى اليأس، وتبديد الطاقة في تجميد الأوضاع". غاب الورع الأخلاقي في التعاطي مع القضايا وحيكت المؤامرات، ففشل قادة الأحزاب التقليدية في تحقيق التسوية الوطنية، وجمدوا الأوضاع وبددوا الطاقات. ويضيف يوسف محمد علي، عضو سكرتارية المؤتمر ورئيس لجنة الاثنى عشر، قائلا: "ولم يقدر لتلك التجربة أن تؤتي ثمارها للأسف. فقد نكست رايات أكتوبر بعد حين، وعادت النظم الاستبدادية –برلمانية وعسكرية- تتناوب على التسلط والقهر". ما من ثورة جماهيرية غاب عنها مبدأ الأخلاق لدى قادة الجماهير، كما كان حال ثورة أكتوبر، إلا ونكست راياتها. فغياب مبدأ الأخلاق عند خدمة الجماعة يعني بالضرورة غياب القانون وهو قاعدة الأخلاق، ويعني بالضرورة أيضا، خيانة الجماعة وخيانة مبادئ الثورة. فالأخلاق تعطي الناس الفرصة ليكونوا أحرارا وشجعانا في سعيهم لخدمة الجماعة والفكر والثقافة وأنسنة الحياة، فغياب الأخلاق يعني موت المعاني الإنسانية.
تبع فشل مؤتمر المائدة المستديرة ولجنة الاثني عشر، وهو بمثابة الإعلان عن عجز الساسة في تحقيق التسوية الوطنية الشاملة، أن اتبعت الدولة السودانية، بمختلف أنظمتها السياسية المتعاقبة، أمام تحديات التسوية الوطنية وانفجار الصراعات في أقاليم أخرى، منهج الترقيع والترميم عبر الاتفاقيات الثنائية والجزئية والمؤقتة، في سعيها لتحقيق السلام والاستقرار والوحدة. فمنذ ثورة أكتوبر، وحتى تاريخ اليوم، لم تتوفر فرصة لتحقيق التسوية الوطنية الشاملة، مثل تلك التي توفرت مع مؤتمر المائدة المستديرة. وأصبحت المعالجات جزئية وثنائية ومؤقتة وفوقية. فمنذ توقيع اتفاقية السلام بأديس أبابا عام 1972، تفشت في السودان ثقافة عقد الاتفاقيات، فقد تم توقيع عشرات الاتفاقيات، ولا يزال توقيع الاتفاقيات مستمرا وبكثافة حتى تاريخ اليوم. وبرغم التوقيع المستمر للاتفاقيات ظلت الصراعات تتجدد وتتوسع والانقسامات تتالى وتتمدد. فالاتفاقيات – برغم حقنها المؤقت للدماء وهو أمر مطلوب وواجب وطني وإنساني- لا تمثل سوى حلا جزئيا ومرحليا للصراع مهما قيل عنها وطال سريانها، في حين أن المطلوب هو الحل الكلي والشامل والدائم. كما أن الاتفاقيات الثنائية والحلول الجزئية والمؤقتة، في بلدان التعدد الثقافي، كحال السودان، ما هي إلا ترميم لبناء متهالك، وتعبير فصيح عن العجز والفشل في تحقيق التسوية الوطنية، أقصى مراتب مصيرها الانهيار وأدناه الانفصال.
إن تفشي ثقافة الاتفاقيات الثنائية والجزئية، هو نتيجة طبيعية لفشل مؤتمر المائدة المستديرة، وعجز الأحزاب التقليدية عن تحقيق التسوية الوطنية الشاملة. والمفارقة العجيبة أن نفس تلك الأحزاب عندما وقع انقلاب 25 مايو 1969، عادت إلى مربع النضال من أجل استعادة الديمقراطية، وظلت تناضل حتى عادت بالمصالحة الوطنية عام 1977. وما لبثت أن غطت سماء الخرطوم مرة ثانية بالدعوات للدستور الإسلامي، الأمر الذي تحقق لها في عام 1983. فدخلت البلاد في الحرب الأهلية مرة ثانية، وتحكم مناخ الانفصال والتشظي حتى تاريخ اليوم. ولا مخرج إلا بالثورة الكبرى، ثورة العقول.
خاتمة: نحو الثورة الكبرى ثورة العقول
على الرغم أن ثورة أكتوبر الشعبية السلمية العزلاء، إلا من قوة إجماع الجماهير على إرادة التغيير، استطاعت أن تغير الحكم العسكري، بيد أنها لم تحقق المكاسب المرجوة حيث التغيير الجذري والشامل في اتجاه الحرية والعدالة الاجتماعية ووحدة البلاد، والمنطلق من مكونات السودان وتكويناته المتنوعة وانتمائه الأفريقي، والمتصل بالمشهد العالمي حيث انتصار حركة الحقوق المدنية والاعتراف بالتعدد الثقافي. لقد اختطفت القوى التقليدية والدينية والطائفية ثورة أكتوبر، وتحالفت قياداتها فيما بينها، وعبر التآمر والعبث بإرادة الجماهير والفوضي الدستورية نجحت في إبعاد القوى الحديثة وتحجيم المد الديمقراطي، وتكليس الوعي الديمقراطي. كما أنها سارت بالسودان، أمام تحديات التسوية الوطنية وانفجار الصراعات، في اتجاه منهج الترقيع والترميم في سعيها لتحقيق السلام والاستقرار من خلال توقيع الاتفاقيات الثنائية، وهو منهج يعبر عن العجز وأفضي إلى الانفصال وتمكين ثقافة التشظي.
وعلى الرغم الخسائر الضخمة الناتجة من اختطاف ثورة أكتوبر، وعدم تحقيقها للمكاسب المرجوة، إلا أن ثورة أكتوبر، لم تكتمل مراحلها بعد. فقد تركت إرثاً ثورياً ضخماً وعميقاً، سيعين في اكتمالها يوم اشتعال الثورة الكبرى من جديد، ثورة في عقول الجماهير، بقيادة المثقفين الأحرار. وعندما تشتعل الثورة من جديد في عقول الشعب فإنها تكون قد بدأت المرحلة الإيجابية من ثورة أكتوبر.. وهذه في الحقيقة هي الثورة الكبرى، وواجب اشعالها يقع على أفراد الشعب عامة وعلى المثقفين بصفة خاصة عبر تنوير الجماهير وتحريرهم من التبعية والطائفية والقوى التقليدية والدينية ورجال الدين والأوصياء على العقول.
إن المد الثوري، كحالة إنسانية تنشد التغيير والتحرير، في حالة توسع وتجدد واستمرار. كما أن مغذيات الثورة الشعبية وأسبابها في السودان، اتسعت وتعمقت الآن، أكثر من أي وقت مضى، وتسربت إلى وعي الجماهير، بمعزل عن الأوصياء على العقول، ولهذا فنحن الآن على مشارف انفجار "الثورة الكبرى". وهي ثورة ستشتعل في عقول الجماهير، وهدفها التغيير الشامل والجذري، ولا يفصلنا عنها، سوى لحظة الاجماع، وقيام المثقفين بواجبهم نحو اشعالها في عقول الجماهير. فمتى ما تمت الثورة الكبرى، الآن أو مستقبلاً، ستكون إدارة السودان على أساس التعدد الثقافي، وقيم الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية وكرامة الإنسان، من أبجديات الحراك السياسي والفكري، وعندها ستتم الوحدة بين أقاليم السودان المختلفة، بما في ذلك جنوبه، الذي اختار اسم (جمهورية جنوب السودان) لدولته وفي هذا نبوءة مستقبلية لوحدة قادمة.
(بالطبع تتضمن الورقة قائمة بالمصادر والمراجع، وهي منشورة ضمن: حيدر إبراهيم وآخرون (تحرير)، خمسون عاماً على ثورة أكتوبر السودانية (1964- 2014): نهوض السودان المبكر، مركز الدراسات السودانية، القاهرة، 2014).