أثير – أ.د. محمد القضاة، عميد كلية الآداب في الجامعة الأردنية

‎سألني أحد الأصدقاء عن غياب النخب المثقفة عن المشهد العام وعن غياب قدرتهم على التأثير في واقعهم، فكرت في سؤاله طويلًا، وقلت إن الواقع المعيش ينطوي على إشكالات واختلالات كثيرة في الوعي والفعل، وبين التجذر في الماضي والإقلاع عن الحاضر والمستقبل، وبين خطاب يتشبّث بالأصالة وخطاب رمادي يقفز في فضاء فضفاض، وكأننا بين معادلات تشهد عجزًا تعكس أزمة تطحن الوعي وتسطّحه وتضعه في قوالب جامدة، تزيد من التعصّب والانغلاق والتطرّف، حتى غاب فيها الفعل الثقافيّ الحصيف، وبين هذه الرؤى تبرز أهميّة مزج الأبعاد التي تحدّد القيمة الحقيقيّة للثقافة في إطار دقيق من المعاينة لردم الهُوّة التي تعيق الطاقات وتفجر الإبداع والإنتاج الثقافيّ في الأوساط التي تسعى الثقافة إلى التأثير فيها، والمؤسف أنها في غياب حتى تبدو بلا أثر أو حضور؛ وكأنّ سؤال القلق الذي طرحه شكيب أرسلان في أوائل القرن الماضي: لماذا تراجع العرب وتقدّم غيرهم؟! ما يزال حيًّا في الأذهان، لا بل غاب المثقف وسط هذا الصخب الإلكتروني والذكاء الاصطناعي، وغدا الخطاب الثقافيّ في تخبّط وانتظار وارتهان لقادم لا يأتي بجديد، فلماذا كلّ هذا الغياب؟

‎أَلأنّنا لا نعترف بالمأسسة والديمومة؟ أم لأننا لا نحسن التخطيط والاختيار ولا نعترف بالانفتاح؛ وإنما نحسن الانكماش والاتهام والدفاع؟! أم لأنّ النرجسيّة هي صفات ملازمة للمثقف النخبوي؟ ومن يتابع حال المشهد اليوم يشعر بألم وحزن على مآلات وغياب وواقع لا يحرّك غصنًا في الزمن العجيب الغريب.

كنا نقول دائمًا إنّ الثقافة ليست ترفًا ذهنيًّا؛ وإنما هي أرقى درجات سُلّم التقدّم، تحصّن الإنسان وتدفع به إلى الرفاهية والوعي، واذا لم تكن كذلك! فلماذا تضع الدول المتقدّمة خططها الثقافيّة وأفكارها التنويريّة لمجتمعاتها وإنسانها؟ ولماذا تخصّص لها المؤسسات والدوائر والوزارات؟ والثقافة لا يمكن أن تكون ترفًا يسدّ فراغ الإنسان، ولا يمكن أن تكون منصبًا توزّع مكاسبُه على فئة دون أخرى، وإنما هي قاعدة حضارية تعيد للإنسان توازنه وتؤهّله للحوار والنقاش والرؤية، ودونها يبقى الفكر مُعطّلاً، والإنسان متأرجحًا في آرائه ومواقفه وتصوّراته، والمهمّ أنّها فعلٌ إنسانيّ لا غنى عنه، وأداة قياس وتمايز بين البشر، ورأس مال معنويّ يوسّع المدارك، ويمهّد الطريق للحوار والبناء والتقدم والتفاهم والتعاون والتنمية، ويؤسّس لقيم الثقة والتنافس وحبّ العمل والثواب والعقاب والابتكار والإبداع والإنجاز والمبادرة، ونقيض ذلك تقاعس وبرود وروتين وهروب واستجداء وتحيّز وشدّ عكسي.

‎الثقافة تعيد بناء قطاعات الحياة بأسلوب حضاري شفاف وبمنطق يكسر الجمود والثبات والتخلّف، وحين ندقق في سياسات الدول المتقدّمة نرى أنّ الثقافة قد مارست فعلها الحقيقيّ في النموّ والتغيير والرقي والتقدم، ولم تذعن للآراء الضيّقة والأفكار المريضة والتحيّز والفرضيات والاستغلال غير العقلانيّ، وظلّ هدفها الإنسان ورغبته في التجديد والإتقان بعيدًا عن الإحباط ومكنونات الفشل والتلوّث الفكري.

‎وحين نقرأ الواقع نرى أنه بحاجة إلى نسيم ينعش البدن، وماء زُلال يروي الظمأ، وفهم قائم على موازين تأخذ بالأسباب التي تبلغ بالمجتمع إلى مستوى الطموح، ولا تقبل ردود الفعل المركّبة القائمة على المفاخرة والمكابرة والمغالاة والبهرجة دون نفاذ إلى أطراف البيت كله بحركة تستوعب الرقعة الاجتماعيّة كلها، بحيث تتجنب تحالفات أصحاب المكاسب ومنطقهم النفعيّ الآني، ومواقف ضعاف النفوس من النفعيين. وفي هذا السياق، لا يجوز أن تبقى الحيرة والتبرّم والتعليل القاعدة، وإنما لا بدّ أن يتّسع تيّار الوعي لدى الجميع بحيث يحوي البيتُ إيقاعاتِ المثقفين وأفكارَهم وألوانهم، على أن يطالهم الدعم والرعاية والاهتمام والارتقاء على أساس من الانتماء وتأكيد الهُوِيّة الوطنيّة في المُنتج الثقافيّ، وتطوير الفكر والوعي وَفقًا لحاجات المجتمع وقدراته. ويبقى السؤال المُلح: أين المثقّف اليوم من كلّ هذا؟ لماذا يغيب يومًا تلو الآخر؟ أين النخبة المثقّفة التي غاب صوتها وفكرها؟ أين صولجانها وخططها؟ أين دورها في بناء مجتمعها؟ وكيف يمكن أن نعيد مركز الرؤية إلى مفهومه المعياريّ بعد أن غاب في سياق معرفة ذهنيّة مُجرّدة لا تجسّد المشهد الحالي الذي كان إلى وقت قريب ينمو وينحو باتجاه التنسيق والتميّز والفعل وبلورة ثقافة واضحة تخدم حركة التنوير والتغيير والإصلاح في شتّى شؤون الحياة؟ إنها أسئلة حيرى في ظل تماهي العقل، تحتاج منّا أن نفكّر في هذا الواقع تفكيرًا جادًّا يُفضي إلى حلول علميّة وعمليّة، ينجم عنها فِعْلٌ ثقافي يعيد إلى مثقّفينا ثقتهم بأنفسهم، ويهيّئ لهم مكانًا عَلِيًّا في المشهد الثقافيّ المحليّ، وما أحوجنا لهذه النخبة من جديد كي تضيء الحاضر برؤيتها وإبداعها وأفكارها.

المصدر: صحيفة أثير

إقرأ أيضاً:

مركز إدارة الطوارئ والأزمات والكوارث لإمارة أبوظبي يعد تقريراً بحثياً حول تعزيز ثقافة الطوارئ والأزمات بالتعاون مع “مركز تريندز للبحوث والاستشارات”

أعدّ مركز إدارة الطوارئ والأزمات والكوارث لإمارة أبوظبي بالتعاون مع “مركز تريندز للبحوث والاستشارات” تقريراً بحثياً بعنوان ” تعزيز ثقافة الطوارئ والأزمات والكوارث لدى موظفي الجهات الحكومية” يناقش فيه أهمية اتباع منهجيات تعزيز ثقافة الاستجابة للطوارئ والأزمات والكوارث لدى موظفي القطاع الحكومي عبر اعتماد الاستراتيجيات المثلى في هذا المجال بما يسهم في تحسين خطط الاستجابة ونتائجها.
ويتناول التقرير كيفية الاستفادة من التطور التكنولوجي لإيجاد طرق مبتكرة لتحسين الاستجابة للطوارئ والأزمات والكوارث، مع التركيز على أهمية تعزيز الوعي والتثقيف في مجال إدارة الطوارئ والأزمات والكوارث بين موظفي الجهات الحكومية، ونتائج ذلك على إدارة خطط الاستجابة، إضافةً إلى التأكيد على ضرورة أن تتبع الجهات الحكومية نهجاً واضحاً واستراتيجيات فعالة في هذا الشأن للوصول بالمؤسسات إلى مستوى الاستجابة المطلوبة.
وقال محمد أحمد خميس المحيربي، رئيس قسم الدراسات والأبحاث في مركز إدارة الطوارئ والأزمات والكوارث لإمارة أبوظبي: “يأتي إعداد هذا التقرير البحثي في إطار التزامنا بتوجيهات حكومة أبوظبي ورؤيتها الرامية لترسيخ مكانة الإمارة كأنموذجٍ رائدٍ عالمياً في مجال الاستجابة للطوارئ والأزمات والكوارث. ونطمح من خلال هذا الجهد البحثي الدقيق إلى تعزيز قدرة المركز والإمارة على مواجهة الطوارئ والأزمات والكوارث عبر توفير المعرفة والأدوات الكفيلة بضمان الاستجابة السريعة والمستدامة. وتنبع أهمية هذا التقرير البحثي من إدراكنا بضرورة رفد الموظفين الحكوميين بالخبرة والمهارات اللازمة لتطوير الأداء الحكومي، باعتبارهم خط الاستجابة الأول في حالات الطوارئ والأزمات والكوارث.”
وأضاف المحيربي: “نعمل بشكل مستمر على تطوير الدراسات والأبحاث وإعداد السياسات والخطط اللازمة للوقاية من الطوارئ والأزمات والكوارث المحتملة وتخفيف أضرارها.”
وخلص التقرير البحثي إلى مجموعة من النتائج التي أكدت على ضرورة نشر ثقافة الاستعداد للطوارئ والأزمات والكوارث بما يساعد أفراد المجتمع على تحقيق أفضل استجابة ممكنة في حال وقوع أي منها. وتضمن أيضاً أهم الاستراتيجيات التي يمكن تطبيقها لاستيعاب مبادئ إدارة الطوارئ والأزمات والكوارث، بما في ذلك التعليم والتدريب والتوعية، ومشاركة المجتمعات المحلية في خطط الاستجابة، وسن التشريعات اللازمة لزيادة فعالية هذه الخطط، فضلاً عن ضمان كفاءة الاتصال والتنسيق بين المؤسسات وأفراد المجتمع.
وبيّنت نتائج التقرير البحثي إمكانية تطبيق استراتيجيات مبتكرة لتسهيل تقييم التهديدات ومشاركة المعلومات وخطط الاستجابة لحالات الطوارئ والأزمات والكوارث، مثل الاستعانة بمنصات التواصل الاجتماعي، والتطبيقات الذكية التي تسهل عملية نشر المعلومات، وتقنيات الواقع الافتراضي والألعاب الجادة التي تدمج المتعة مع التعليم مما يُسهم في إدراك المخاطر المحتملة وإتاحة السبل الكفيلة بتوفير الاستجابة الأنسب لها.
وأكدت نتائج التقرير على أهمية تدريب كافة العاملين في مجال إدارة الطوارئ والأزمات والكوارث وإكسابهم المهارات اللازمة من أجل تعزيز التعاون والتنسيق بين المؤسسات والجهات الفاعلة في حال حدوث أزمات وكوارث تستدعي استجابة مشتركة. وأوضحت مخرجات التقرير أيضاً الحاجة إلى رفد فرق الاستجابة بوسيلة اتصال سريعة وسهلة الاستخدام، وضرورة تدريبها بشكل مستمر على نماذج الطوارئ والأزمات والكوارث المختلفة. وأشار التقرير إلى أهمية استخلاص الدروس من التجارب السابقة بما يسهم في تطوير الاستجابة مستقبلاً.
ويؤكد إعداد هذا التقرير الدور المحوري الذي يضطلع به مركز إدارة الطوارئ والأزمات والكوارث لإمارة أبوظبي في تعزيز معرفة وثقافة الموظفين الحكوميين بشكل عام – وموظفي المركز بشكل خاص- حول مجال الطوارئ الأزمات والكوارث، ويمثل مساهمة جديدة في سياق سعي المركز إلى رفع جاهزية الإمارة للاستجابة للكوارث والأزمات المحتملة.


مقالات مشابهة

  • الدكتور سلطان القاسمي يكـتب: فطنة زعاب سكان الجزيرة الحمراء
  • صندوق إعمار درنة يفتتح مدرسة “عبدالكريم جبريل” للتعليم الأساسي
  • الأوركسترا اليمنية تشعل مسرح مركز الملك فهد الثقافي في الرياض
  • مركز فناء الأول يطلق النسخة الأولى من “أسبوع الأفلام الفنية”
  • ” عندما يكون الفن القوة التي تتحكم في التعايش السلمي ونبذ الاعراف البالية “فصلية “
  • اختتام “فعاليات إجازة الخريف” بحي حراء الثقافي
  • بعد 15 عاما من التوقف.. عودة شركة “النصر للسيارات” المصرية للإنتاج
  • معرض الوحي يُضفي أجواء إيمانية ضمن “فعاليات إجازة الخريف” بحي حراء الثقافي
  • “السعيطي” يناقش مع وزير الشؤون الاجتماعية القضايا التي تمس الشباب
  • مركز إدارة الطوارئ والأزمات والكوارث لإمارة أبوظبي يعد تقريراً بحثياً حول تعزيز ثقافة الطوارئ والأزمات بالتعاون مع “مركز تريندز للبحوث والاستشارات”