سِراج الهداية وإشارة التوحيد فى العمارة الإسلامية
رمز للقوانين الإسلامية.. ومعراج العبد إلى خالقه
مآذن شَقت السماء الدنيا، وشُيدت لتقف بمفردها جلية فى عُلو لتكون إعلانًا خالدًا لوحدانية الخالق جل وعلا، وإشارة لا ريب فيها على عقيدة أهل الأرض التى أُقيمت عليها، ورمزًا للتوحيد يُدركه كل ذى عِلم وجهل بمجرد النظر، مآذن عليها سِراج، تُخرج الناس من ظُلمات الليل، وتُدخلهم نور الإسلام حين تصدع مُناديه بأذان الرحمن «حى على الصلاة.
المئذنة فى سماء الغرب
لكل جزء فى التاريخ الإسلامى أسراره، ولم يعتد المسلمون على العشوائية فى فنونهم وعلومهم قديمًا، ولم تغفل قلوبهم المؤمنة المخزون الروحى والعقائدى خاصة لرموز الدين التى تحولت عبر القرون إلى قوة حقيقية مؤثرة ومهيبة رغم معنويتها غير الملموسة، وأوضح دليلا على ذلك ما منع سويسرا بناء المآذن على أرضها، رغم وجود 120 مُصلياً (صورة مُصغرة للمسجد بلا مآذن أو قباب) فى مختلف أرجائها.
سويسرا لا تحتوى سوى على مسجدين أحدهما فى زيورخ والآخر فى جنيف، مما يعنى وجود مئذنتين لا غير، ورغم هذا كان يؤرق الحكومة السوسرية مجرد وجود مئذنتين صغيرتين على أرضها الواسعة، لم تهددهم إقامة الصلاة فى حد ذاتها ولكن هددتهم رمزية المئذنة كونها أحد أهم معاقل الدين الإسلامى بقوانينه وأوامره ونواهيه وأخلاقه.
وصرح أوسكار فرايسينجر عضو البرلمان عن حزب الشعب السويسرى قائًلا: «ليس لدينا أى شىء ضد المسلمين، لكننا لا نريد المآذن.. إنها رمز للإسلام السياسى العدوانى.. إنها رمز للقوانين الإسلامية.. اللحظة التى توجد بها المآذن فى أوروبا تعنى أن الإسلام أصبح مسيطراً».
وجاء تصريحه خلال حملة شُنت فى سويسرا لمنع بناء المآذن كونها غير أساسية فى أداء الصلوات ولكنها رمز لقوانين الإسلام، فكيف لمئذنتين أن يكون لهما كل هذا التأثير، وهنا تأتى القوة الدلالية للتوحيد، قوة لا تُغلب حينما تتلاقى السماء بالأرض عَبر مئذنة تصدع بقول الله أكبر.
فلسفة المئذنة والأذان
أبدع المسلمون فى بناء المآذن وزخرفتها عبر العصور الإسلامية، حتى تكاد تُميز كل عصر عن غيره بأشكال المآذن، ومن هنا يبدو أن الخوض فى تفاصيل فنونها المعمارية والجمالية، لم ولن يُجزيها حقها براعةً وتفرد، وقد يصعب إدراكه على غير المُتخصصين، كما أنه بجانب القيمة الوظيفية والجمالية فى البناء الهندسى للمخازن، هناك جزء أكثر إبداعًا ونادر التناول يتلخص فى أسرار ودلالتها المعنوية ولطائفها الدينية.
إن كلًا من المئذنة والأذان إعلان عن وجود أرض مأهوله بمن يُقيمون شعائر الله عليها، ودليل على أن هناك رجالًا لا تٌلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، ولا مفر من أن ينظر المسلم فى بلاد الغرب يمينًا ويسارًا ليرى مئذنة تقوده لمسجد، أو يُنصت ليسمع أذن يُرشده إليه، فيجد الدليل والطريق فى طُرقات الغُربة ويتذكر أنها جميعًا أرض الله وأن كل أرض طهور بيت لمالك الملك.
قال الدكتور مصطفى حسن البدوى فى كتابة لطائف الإشارات إن ارتفاع الأذان من كل مئذنة خمس مرات كل يوم إنما هو إفصاح وبيان للإشارة التى تدرك بمجرد مشاهدة هيئة المئذنة، فالمؤذن يعلن أن الله أكبر من كل شىء وأى شىء، أى منزه عن أن يشبهه شىء، منزه عن أن يُحاط به علماً، منزه عن أن يوصف بغير ما وصف به نفسه، فإنه يقول تعالى: «وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ» ويقول: «سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ».
ثم بعد أن نزه نفسه عن أن يصفه خلقه يقول المولى: «وَسَلَامُ عَلَى الْمُرْسَلِينَ» فى إشارة إلى أن الطريق الوحيد لتمام معرفته هو الاستماع والانقياد لما أرسل به رسله، ولذلك يتبع المؤذن شهادة التوحيد بشهادة الرسالة فيعلن أن محمداً رسول الله، ثم يدعو الناس لتأييد القول بالفعل بأن يقول: حى على الصلاة، أى أقبلوا إلى عبادة ربكم الذى أفردتموه بالتوحيد، معلناً بقوله: حى على الفلاح، أن هذه الطاعة والعبادة هى سبيل الفلاح والنجاة، كما أنها سبيل التيقن والتحقق بأن الله أكبر، وأنه لا إله إلا الله.
وهكذا بُنيت المآذن عبر القرون فى تفاوت من أنواع البناء والزخارف والأراضى بين الفاخر وشديد الفقر، ولكنها تُبنى مهما كانت الظروف فينظر إليها كل ضعيف ومظلوم وخائر القوى ويتذكر أن الله أكبر وأنه عز وجل فوق كل شئ، وأن لكل ظالم نهاية فهى شاهدة على كل النفوس المقتولة والمكلومة على أرضها.
معانى البنية المعمارية للمآذن
الصلاة صلة ورابط روحى يربط العبد الفقير لله بربه ذى القوة والجبروت، والمآذن على مد البصر والبصيره ترتفع كرابط فى عالم الشهادة بين الأرض والسماء، تدعو الناس ليرتفعوا وينتقلوا من ثُقل المادة إلى خفة الروح، ومن طين الأرض ودرنها إلى رقة السماء ولطفها بالقرب من علام الغيوب وبعيدًا عن دار البلاء والابتلاء، وهى السبيل فمن يُلبى نداء الرحمن بأن حى على الصلاة وحى على الفلاح يفوز فى الدارين الدنيا والآخرة.
وخلاصة كل الدلالات الروحية والفلسفية لبُنية المئذنة هو أنها تنطلق من الأرض نحو السماء، أى من الأدنى نحو الأعلى، من الأرض وما عليها من البناء الضيق الكثيف إلى الهواء اللطيف والسماء الواسعة، فإذا أمعن المسلم النظر فى المئذنة يشعر أنها إشارة إلى انطلاق المؤمن بروحه إلى العوالم العلوية مقترباً من ربه سبحانه وتعالى، فهيئة المئذنة وهى منطلقة إلى العلى تصور معراجه إلى قاب قوسين أو أدنى، فهى تصور لكل مؤمن معراجه الخاص على قدره، وذلك من الأرض، أرض صورته الطينية إلى السماء، أى من أسفل سافلين إلى أقرب ما يستطيع الاقتراب اليه من أعلى عليين.
العصر الأول
لم يكن للمآذن وجود فى عهد سيدنا رسول الله ولا الخلافة الراشدة من بعده، كان يصعد مؤذن الرسول بلال بن رباح رضى الله عنه على بيت امرأة من بنى النجار ليؤذن الفجر، وكذلك كانت المنازل المرتفعة وسيلة المؤذنين لإيصال أصواتهم، ثم انتقلوا إلى سطح المسجد النبوى الشريف.
ومن أسطُح المنازل والمساجد إلى بناء أبراج عالية ملحقة بالجوامع بداخلها سلم حلزونى يصعد خلاله المؤذن وصولًا إلى شرفة يصدع فيها بقول الله أكبر لإيصال صوته بالأذان لعباد الرحمن، وسمى هذا البناء بالمئذنة لأنها موضع الأذان والإعلام به، وكان يُعلق عليها سراج أو قنديل يرشد المسافرين ليلًا فأطلق عليها الباحثون العرب «المنارات»، كما كان يُعلن عليها الرسائل الهامة لخليفة الدولة.
أول مئذنة فى التاريخ
هوية أول مئذنة بُنيت فى التاريخ اختلف حولها المؤرخون والأثريون، رأى يؤكد أنها فى عهد الخليفة عثمان بن عفان، وآخر يقول العصر الأموى، بينما يذهب البعض إلى أن أول مئذنة كانت فى جامع عمرو بن العاص بالقاهرة، ولكن مهما كانت البداية مع مرور الوقت باتت المآذن جزءا أصيلا ومنفردا بذاته فى العمارة الإسلامية.
وهكذا أخذت المئذنة عناية المعماريين ووصل طولها عشرات الأمتار وتنوعت أشكالها ما بين الدائرى والمُضلع والمُربع، وبالطبع نالت نصيبا وافرا فى الزخرفة والنقوش، وكانت وما زالت لا يكتمل بناء المساجد بدونها حتى مع انتهاء فائدتها الوظيفية، فبعد ظهور مُكبرات الصوت لم يعد هناك حاجة لشُرفات يصل إليها الداعى بدرج، ومع التطور التكنولوجى المُبالغ لم يبق قيمة وظيفية حقيقة من الارتفاع الشاهق للمئذنة، ومع ذلك ما زال وجودها بالتصاميم التقليدية والتنافس على مدى طولها وزخرفتها قائمًا.
القيمة المعنوية للمآذن
وكل ما ذُكر وتكون من مخزون فلسفى ودينى للبناء المعمارى للمآذن عبر العصور، يكون فى ذهن المعمارى عند بنائها، مئذنة فيها إشارة للتشهد والتوحيد، فهناك من يبنيها حديثًا كأنها برج مراقبة، وحين يُبدع فى البناء على أساس الفهم المعانى الباطنة للمئذنة يُضيف الخطاط المعانى الظاهرة على البناء من آيات قرآنية، والأسماء الحسنى، والأذكار النبوية، وأسماء النبى صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين وسائر الصحابة وأهل البيت، وأبيات الشعر.
وهذه القيمة الجمالية فى الزخرفة مرتبطة بالقيمة النفعية فى البناء الهندسى للمئذنة من إيصال الصوت لأبعد نقطة وغير منفصلها بدورها بل ومرتبطة ارتباطا وثيقا بالقيمة المعنوية، وحقيقة القيمة المعنوية أن صورة الشىء وهيئته يكون فيها من الإشارات ما يُذكر الناظر إليها بالمعانى السامية والقيم العُليا لها، كما تتوقف على مدى عمق إدراك الإنسان باختلاف دينه وموقعه.
فالسماء تعنى العلو المعنوى فى كل اللغات والحضارات، أما ما يصنعه الإنسان بيديه كالمآذن تتوقف معانيه على حسب البيئة الدينية والفكرية والحضارية للشخص، وهنا يختلف الشكل الواحد فى معناه مع اختلاف النموذج المعرفى للفرد.
وصورة المئذنة ما هى إلا عمود يرتفع إلى السماء، مقسم إلى أقسام عن طريق شرفات متتالية، أو خطوط أو علامات أخرى، وله سلم داخلى وأحياناً خارجى، وهنا يأتى الإدراك المعنوى الروحى للبناء، فإذا صعد الإنسان درجات هذا السلم فإن مجال بصره يزداد اتساعًا، ويرى مساحات أوسع جغرافيًا، وبعد أن كان ذا بصر محدود أضحى واسع الأُفق مدركاً لأمور كانت سرًا عنه ولا تزال مكتومة عن لا يزالون على الأرض، ويستطيع أن يُخبرهم بما يحدث عند الأفق الذى يراه ولا يرونه، ومن يأتى من هذا الاتجاه، وما يحدث فى ذاك الموقع.
وأخيرًا إذا ما نظرنا إلى مآذن المسلمين عبر الزمن وفى مختلف بلادهم وجدنا أن لها هيئات وتصميمات مختلفة، وشاعت فى مصر وفى غيرها من بلاد المسلمين المآذن ذات التقسيم الثلاثى، سواء كان ذلك بشرفات ثلاث، أو ثلاثة أجزاء تفصلها شرفتان، ويكاد يكون نمطًا متفقاً عليه، على الرغم من اختلاف الطراز المعمارى من مكان إلى مكان، ومن زمان إلى زمان، إلا أنه يتفق مع تصور المسلم لمراحل معراجه إلى خالقه من الأرض إلى السماء ورمزًا للإسلام والتوحيد.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: جل وعلا ى العمارة الإسلامية الله أکبر من الأرض عن أن ی حى على
إقرأ أيضاً:
لحظة السماء المفتوحة: دعاء ساعة الاستجابة في يوم الجمعة
تُعدّ ساعة الاستجابة يوم الجمعة من الأوقات المباركة التي يحرص المسلمون على اغتنامها بالدعاء والذكر، لما ورد في السنة النبوية عن فضلها. وقد اتفقت دار الإفتاء المصرية والأزهر الشريف على أن هذه الساعة هي وقتٌ مستجاب فيه الدعاء، استنادًا لحديث النبي ﷺ: "فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله شيئًا إلا أعطاه إياه" (رواه البخاري ومسلم).
ساعة الاستجابة في يوم الجمعة
اختلف العلماء في تحديد هذه الساعة، لكن الرأي الراجح أنها إما الساعة الأخيرة من نهار الجمعة قبل غروب الشمس، أو أثناء خطبة الجمعة بعد جلوس الإمام بين الخطبتين.
أفضل الأدعية المستحبة في هذا الوقت
أوصت دار الإفتاء المصرية والأزهر الشريف باستحضار القلب والإخلاص في الدعاء، مع الإلحاح على الله والاستعانة بالأدعية النبوية المأثورة، ومنها:
اللهم اجعل لي في قلبي نورًا، وفي لساني نورًا، وفي سمعي نورًا، وفي بصري نورًا، ومن فوقي نورًا، ومن تحتي نورًا، وعن يميني نورًا، وعن شمالي نورًا، ومن بين يدي نورًا، ومن خلفي نورًا، واجعل في نفسي نورًا، وأعظم لي نورًا.اللهم اشف مرضانا ومرضى المسلمين شفاءً لا يغادر سقمًا، اللهم يا من تعيد المريض لصحته، وتستجيب دعاء البائس، اشف كل مريض. لا إله إلا الله الحليم الكريم، لا إله إلا الله العلي العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات السبع ورب العرش العظيم، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
كما يُفضل أن يختم المسلم دعاءه بالصلاة على النبي ﷺ، لما فيها من بركة وزيادة في القبول.
كيف نستعد لساعة الاستجابة؟
أكدت دار الإفتاء المصرية أن الدعاء يوم الجمعة يحتاج إلى نية خالصة واتباع السنة، مع الحرص على الطهارة ورفع اليدين أثناء الدعاء. يُستحب أيضًا الإكثار من الأعمال الصالحة كالصلاة على النبي ﷺ وقراءة القرآن.
نصيحة من الأزهر الشريف
أوصى الأزهر الشريف بضرورة اغتنام هذه الساعة بالدعاء لأنفسنا وأحبابنا ولجميع المسلمين، داعيًا للتوكل على الله والثقة في استجابته، مع الابتعاد عن الدعاء بالإثم أو القطيعة.
إنّ الدعاء هو جسرٌ بين العبد وربه، وساعة الإجابة يوم الجمعة هي فرصة عظيمة لتعزيز الصلة بالله سبحانه وتعالى.