هل للجيشِ دور في تأسيس الدولة؟ دعوة إلى حوارٍ موضوعي!
تاريخ النشر: 22nd, March 2024 GMT
الواثق كمير
بين يدى النقاش المحتدم يومئذٍ بعد إنقلاب فض الشراكة فى الخامس والعشرين من أكتوبر 2021 وتبلور وتوقيع وثيقة الاتفاق الاطاري بعد أكثرِ من عامٍ في الخامس من ديسمبر 2022، نشرتُ مقالاً بعنوان “العملية السياسية: هل يذهبُ الجيشُ إلى الثُكنات؟”. زعمتُ في المقال أنّ هذه العملية السياسية الجارية يومئذٍ، حتى إذا توصلت إلى اتفاقٍ نهائيٍ أو سياسيٍ، لن تُفضي لذهابِ الجيشِ إلى الثُكنات، خلال المرحلة الانتقالية.
الشاهد الأول على النية المُبيتة لقيادة الجيش في الحفاظ على سلطة الدولة طِوالِ عُمرِ الانتقال هو ما جاء في “الوثيقة الدستورية الانتقالية” 2019 مدخلاً لتطبيق الوثيقة على أرض الواقع. فالوثيقة، الفصل الرابع، تأسست على الشراكة في الحكم بين “المجلس العسكري الانتقالي” وقوى إعلان الحرية والتغيير بحيث يتقاسم الطرفان مقاعد مجلس السيادة، وبالتناوب بينهما في رئاسة المجلس السيادي، وهذا هو مربط الفرس. فقد كان حدسي منذ يوم التوقيع على الوثيقة أنّ قيادة الجيش لن تُسلم رئاسةَ المجلس لقوى الحرية والتغيير في أجلها المضروب، ولم تكن أصلاً لتذعِن بصيغة التناوب في الرئاسة، لولا حكم توازن القوة بعد 30 يونيو 2019. ولربما توازن القوى في تلك اللحظة، من جِهةٍ، وإحساس قيادات الحرية والتغيير بقرب الوصول إلى مقاعد السلطة، من جِهةٍ أخرى، قد حثهم على القبول بأن تؤول رئاسة المجلس للمكون العسكري في الفترة الأولى.
وبعد تدفُقِ مياهٌ كثيرة تحت الجسر، ومن فوقهِ، منذ التوقيع على الوثيقة الدستورية، في العلاقة بين طرفي الحكم إذ استفحلّ الاحتقانُ السياسي، وتفاقمّ الاسقطاب الحاد بين شركاء تحالف الحكم الانتقالي، قامت قيادة المكون العسكري بانقلاب “فض الشراكة” في 25 أكتوبر 2021. إنّ الانقلاب في حدِ ذاتهِ يقِفُ شاهداً ثانياً، يتلازم مع الشاهد الأول، على أنّ قيادة الجيش كانت مُتمسكةً بالحفاظ على السلطة والبقاء في رئاسة الدولة. ومع ذلك، في رأيي أنّ ما قدح زناد الانقلاب هو تصعيد مطالبة تحالف قوى الحرية والتغيير بمغادرة القائد العام للقوات المسلحة مقعده كرئيس لمجلس السيادة ليحل مكانه المرشح “المدني” للتحالف، وفق أحكام الوثيقة الدستورية، خاصة في مليونية 21 أكتوبر التي تم التعويل عليها لحسمِ أمرِ تسليم السلطة للمدنيين.
ومن جانب القوى السياسية، فقد وصفت قيادات المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير العملية السياسية المصاحبة للاتفاق بأنها كفيلة بإنهاء الانقلاب واستعادة التحول الديمقراطي وتأسيس السلطة المدنية الكاملة. ذلك، بينما شككت قطاعات مُعتبرة من القوى السياسية، التي شككت في أن تقود العملية السياسية (أو الاتفاق الإطاري) إلى ذهاب الجيش للثُكنات. ولكن، إكتفيتُ فقط بالإشارةِ إلى موقفِ قُطبين مؤسسين أساسيين في تحالف قوى الحرية والتغيير، هُما الحزب الشيوعي وحزب البعث، والذي عبر عنه بيانهما المشترك (20 فبراير 2023)، إضافة إلى تصريحات قياداتهما. يتفِقُ الحزبان على أنّ الاتفاق الإطاري “يُشرعِن” الانقلاب ويُطيل عمره، ويزرع الشِقاق في الجبهة المنادية بالتحول المدني، ويُفضي إلى تشكيل حكومة منزوعة السلطات لا تخضع لها الأجهزة الأمنية والعسكرية. “شرعنة” الانقلاب ببساطة تعني أنّ الوصولّ إلى أي اتفاقٍ سياسيٍ ودستوري مع قيادة الانقلاب يعني بقائهم شرعياً في السلطة، ليس بموجب الانقلاب إنما بموجب هذا الاتفاق”، على حدِ تعبير البيان المشترك للحزبين. وفي رأيي، أنّ المعيار الحقيقي للسلطة المدنية الخالصة وخروج المؤسسة العسكرية من المشهد السياسي هو الخضوع التام للسلطة المدنية، سيادية كانت أم تنفيذية.
بجانب أنّ هناك ثمةَّ شواهد أخرى تتجلى في خطابات وتصريحات القائد العام للجيش وأركان حربه (الفريقان كباشي والعطا، في كادوقلي وود حامد، على التوالي في فبراير 2023) تدعم صِحة فرضية المقال بأن المؤسسة العسكرية لن تنسحب من المسرح السياسي خلال الفترة الانتقالية. وبالرغم من أنّ القائد العام للجيش ظل يُكرر الوعدّ بخروج المؤسسة العسكرية محاولاً اثبات نيته ببيان 4 يوليو 2022، إلاّ أنّه حال ما تراجع عنه وانخرط في العملية السياسية بعد تدخل مجموعة “الرباعية”. فهكذا، تكاثرت زيارات الفريق أول البرهان في مناطق مُتفرقة، وتعددت خطاباته التي مَا فَتِئَ يُرددُ فيها بأنه لن يسلم السلطة إلا بتوافق سياسي أو عبر الانتخابات العامة، من جِهةٍ، ولا يسمحُ الجيش بتدخل المدنيين إطلاقاً في شئونه، من جِهةٍ أخرى.
فوق كل هذه الشواهد والوقائع الدالة على تمسك المؤسسة العسكرية بالبقاء في السلطة خلال الفترة الانتقالية، فإنه من المُهمِ بمكانٍ أن نتعرف على كيف ترى قيادة الجيش نفسها، وتعريفها لدورها في سلطة الدولة. فقد راكمّ الجيشُ كمؤسسة من خلال تجاربه المتعاقبةِ في الحُكمِ خبرةً في اللاشعور بأنه هو الأقدرُ والأحقُ على الحُكمِ، خاصة وقيادة الجيش تطرحُ سؤالاً موضوعياً حول الوزن السياسي للقوى المُطالبةِ بالسلطة في هذه المرحلة في ظلِ عدمِ وجودِ أي تجربةٍ انتخابية تُثبت حجم قواعدها. هذا التراكمُ ولدَّ في قيادة الجيش إحساس راسخ وقوي بأن لا يحكُم أحدٌ من خارج الجيش، وهو ما يؤكده دورهم وأدائهم في الصراع السياسي الماثل. أحد ملامح هذا التوجه تتمظهرُ فيما يُمكن أن نطلق عليه “تبادل الحواضن”: فتاريخياً كانت هناك “حاضنة” سياسية تُخرجُ الجيش من الثُكنات إلى الحُكمِ، ومن ثمَّ ينقلبُ على القوى السياسية التي أتت به للسلطة. بينما في الوضع الذي أعقب ثورة ديسمبر أضحت قيادة الجيش هي من تسعى بحثاً عن حاضنة سياسية، لإدراكها أنه من المستحيل أن يحكم الجيش بدون هذه الحاضنة.
ولم يفُتني أن آتَي على ذْكِرِ أنّ الرِهانَ على المجتمعين الإقليمي والدولي، في إخراج الجيش من المشهد السياسي، رهانٌّ خاسرٌ. فمن المهم فهمُ أهدافِ هذا المجتمع في سياقِ سعيهِ لتحقيق قدرٍ من الاستقرار السياسي والأمني في السودان لحماية مصالح دوله، خاصة في ظل إضطراب أمني في المنطقة وبما يخدم أغراض الأمن والسلم الإقليمي والدولي. ستظلُ دول المجتمع الدولي، وظِلها الإقليميي، مجسدة في “الرباعية”، تبتغي بقاءّ المؤسسة العسكرية مُمسكة بالملفات الاستراتيجية والأمنية التي تمِسُ مصالحها، والأمثلةُ تترى: البحر الأحمر، الإضطرابات في أفريقيا الوسطى وتشاد وليبيا وإرتباطها بالصراع بين أمريكا وروسيا، قضايا الإرهاب والإتجار بالبشر، العلاقة مع إسرائيل، والوضع في القرن الأفريقي.
خُلاصة الأمر، أنّ المقال قد طرحَ سؤال ومصير القوات المسلحة السودانية فى أيّما عملية سياسية إنتقالية أو دور الجيش فى المرحلة الانتقالية، وهو سؤالٌ جوهري ما زال قائماً أمام القوى السياسية كافة وعلى نحوٍ أشد وأكثر الحاحاً خلال هذه الفترة العصيبة والأشدّ احتداماً، التي خلقتها الحرب الجارية، فى تاريخ الدولة السودانية الحديث. فهل تتوفر هذه القوى على رؤية واضحة وتصور لدور القوات المسلحة يجنب الانتقال الردة والانقلاب؟ إنّ مراجعة تاريخ الانتقال منذ تأسيس الدولة الوطنية بعد الاستقلال وخاصة الفترة الاخيرة التى توالت احداثها منذ سقوط نظام الانقاذ فى ديسمبر 2019 وما شابها من اضطراب إنتهى بالبلاد إلى الحرب الحالية التى تعاظم فيها دور الجيش، يؤكدُ بشدةٍ على ضرورةِ التأمل فى الاسئلة التى أثارها المقال، والتداول الجاد المسؤول حول دور القوات المسلحة في العملية السياسية لتأسيس الدولةالسودانية.
يستصحب المقال مع طرح تلك الأسئلة الدعوة بحرصٍ تامٍ لتجنيبِ الفترة الانتقالية مغبات الصراع على السلطة المؤقتة ويؤكد على حتمية انصراف القوى السياسية كافةً إلى قضايا التأسيس وتحقيق الهدف الذى ظلت تدعوا وتسعى اليه قوى سياسية وأصوات وطنية وهو قيام المؤتمر الدستورى منذ عقود. فمقاربة الفترة الانتقالية بوصفها فترة تأسيسية هو المدخل الوحيد السليم الذي يُنقذنا من تِكرارِ التجارب الماضية الفاشلة، ويُعبِد الطريق لحل القضايا المؤجلة لبناءِ الدولة السودانية على قواعد صحيحة وعلى رأسها الجيش الواحد المتوازن ونظام الحكم الذى يضمن القسط فى السلطة الثروة بين شعوب وأقوام السودان، ثم يكتمل باستفتاء الشعب على دستور دائم ينتخب على أساسه ممثلى الشعب وقيام حكومة شرعية، هو السبيل الوحيد لعودة الجيش إلى الثُكنات والخروج من السياسيةِ الى الأبدِ.
ما دعاني وحفزني لإعادة نشر هذا المقال هو ما أثارته تصريحات مساعد القائد العام للجيش، الفريق ياسر العطا، خلال مخاطبته لوفدٍ من السياسيين الداعمين للقوات المسلحة (16 مارس 2024)، بأنّ الجيش لن يسلم السلطة إلاّ لحكومةٍ مُنتخبةٍ. انقسم المجتمع والرأي العام السياسي على إثر هذه التصربحات بين من يلمسُ فيها وجاهةً بسبب الحالة الأمنية في البلاد، يرى آخرون أن مثل هذا الحديث يكشف عن نزعة قيادات الجيش نحو الإستئثار بالسلطة تمهيداً لفرض دكتاتورية عسكرية جديدة.
وبحسب ما طرحته من رؤية لسودان ما بعد الحرب، شفاهةً وكتابةً، ويشاركني فيها كثيرون، فإنّه لا مجال لأن تفرض أي قوةٍ تصورها الذاتي للحُكمِ، فدعونا نتداعي إلى حوارٍ موضوعي حول دور الجيش في سياقِ العملية السياسية التأسيسية للدولة، بما يضمن سلمية التحول الديمقراطي الحقيقي.
الوسومالواثق كميرالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: الفترة الانتقالیة العملیة السیاسیة المؤسسة العسکریة الحریة والتغییر القوى السیاسیة القائد العام قیادة الجیش
إقرأ أيضاً:
الانسداد السياسي وآفاق الحل الدائم
على مدى عقد ونيف من الزمن، ونحن على أبواب العيد الرابع عشر لثورة السابع عشر من فبراير المجيدة، واجهت الأمة الليبية أكبر أزمة سياسية في تاريخها الطويل، من تشظي أوصال الوطن، إلى إنقسام مزمن للمجتمع والحكومات، الى انتشار الفساد، وتغول المجموعات المسلحة، إضافة إلى تشبث المؤسسات التشريعية والتنفيذية فاقدة الشرعية باستمرارها في المشهد. هذا يوضح بجلاء عدم وجود نخبة تقود الجموع، ولا موروث سياسي يعتمد عليه، ولا مؤسسات سياسية فاعلة مثل الاحزاب، ولا مؤسسات مجتمع مدني قوية خلال 70 سنة من عمر الدولة الليبية.
نعم الشعب الليبي فسيفساء اجتماعية ودينية واضحة، يوجد طيف مدني مرن التعامل معه، وهناك طيف قبلي متشدد وآخر إسلامي بألوانه المختلفة من الاصولي الماضوي إلى الاسلام الديموقراطي، وهناك العسكري المتربص. وللعلم لا يتطلب من الدولة أن تكون متجانسة اجتماعيا، بل يتطلب أن يكون هناك وعي سياسي ومجتمعي يكفل تبني قواسم مشتركة يمكن بناء الدولة على أساسها، وهو ما يعرف بالهوية الوطنية.
لتحليل الأزمة، يتطلب الرجوع إلى جذورها، إلى بدايات الاستقلال. في زمن الاستعمار الإيطالي، لم يكن هناك دراية لليبين بالسياسة، ومعظم المتصدرين للمشهد هم شيوخ قبائل وشيوخ دين، خاضت حروب ضد المستعمر باسم الدين وليس باسم الوطن. كما خاضوا حروب كثيرة فيما بينهم، عدا قلة مثل سليمان الباروني بما في جعبته من علم وفكر في مجتمع لم يستطيع إنتشاله مما فيه من تاخر.
إلا أن انتهاء الاستعمار الإيطالي في ليبيا بفعل قوات الحلفاء، وانتقال ليبيا إلى الإدارة البريطانية، أوجد أجواء مناسبة للعمل السياسي، فكان هناك قرابة خمسة أحزاب، لكل منها برامجه وأهدافه. فمثلا الحزب الوطني نشأ في سنة 1944 كنادي أدبي، تحول إلى حزب سياسي بنادي الوحدة، وينادي بالوحدة الوطنية وقيام الجمهورية على كل ليبيا، أما الجبهة الوطنية المتحدة فتم إنشاؤها في سنة 1946م، وتنادي بإنشاء دولة وطنية ديمقراطية، وهناك حزب الكتلة الوطنية، الذي نشأ في 30 مايو 1946م وينادي بالجمهورية، ويرفض الإمارة في الشرق بشدة، واخيرا حزب المؤتمر الوطني، الذي ظهر في 11 مايو 1949م ينادي بأن تكون ليبيا مستقلة موحدة تحت الإمارة السنوسية.
رغم هذه التنظيمات إلا أنه لم تُبني مؤسسات حزبية فاعلة، فتقرير لجنة التحقيق الرباعية التي تتكون من أمريكا وفرنسا وبريطانيا والاتحاد السوفيتي سنة 1948 بخصوص تقرير مصير المستعمرات الإيطالية، يقول “إن الظروف الاجتماعية التي كانت سائدة في إقليم طرابلس يغلب عليها طابع الولاءات العائلية والحزازات القبلية والتنافس الشخصي بين الزعامات القبلية “.
أما في برقة، فمن الواضح أن العمل السياسي قد توقف بها، بعد صدور مرسوم أميري من إدريس السنوسي بتاريخ 7-12-1947م، مفاده توحيد جمعية عمر المختار وغيرها من الاجسام في المؤتمر البرقاوي برئاسة الأمير نفسه، ولذا لم يكن هناك أحزاب في برقة زمن الاستقلال. الجناج الثالث الجنوبي كان غارقا في الأمية والفقر مع قلة عدد السكان التي لم تتجاوز 40 الف نسمة في منتصف القرن العشرين، ولذا، لم يكن هناك عمل سياسي والأمر كله منوط للزعامات القبلية.
تم الإعلان عن القانون الانتخابي في يناير 1957م وأجريت الانتخابات النيابية في 19 فبراير 1957م والتي يتزعمها مجموعتان في طرابلس حيث الحراك السياسي، وهما مجموعة الحكومة بقيادة محمود المنتصر والاخرى بزعامة حزب المؤتمر ورئيسها بشير السعداوي، أم البقية الباقية في برقة وفزان فهم من المستقلين. وإستطاع حزب المؤتمر الحصول على 8 مقاعد في مجلس النواب.
نتيجة الاستقطاب وغياب التجربة النيابية حدث تزوير للانتخابات قاد إلى مظاهرات وأعمال شغب في المنطقة الغربية، على أثرها، وجد الملك فرصة لاصدار قرار بحل الأحزاب ( وكان قرار غير دستوري)، وإبعاد السعداوي ومن معه إلى الخارج، وبذلك انتهى أمل تكوين منظومات سياسية وإنتاج مناضلين سياسيين، وتراكم معرفي حزبي.
في نهاية الستينات كان هناك حراك سياسي كبير للمنظومات الحزبية، (وكان جلها غير قانوني تبعا لقرار الملك)، تشتغل بسبب ضعف النظام الملكي، من هذه حزب الإخوان وهو الأقوى، ثم القوميين العرب، وحزب التحرير الاسلامي، والشيوعيين والبعثيين وغيرهم، وكان هناك حوار فكري عميق بينهم في المنابر الاعلامية أكثر من برامج سياسية.
مع وصول القدافي للحكم في انقلاب 1969 م أصدر قرار تجريم الحزبية سنة 1972م، ثم كان له خطاب بمناسبة المولد النبوي في مدينة زوارة الموافق 15 إبريل 1973 أعلن فيها ما يسمى بالثورة الثقافية، وكان هدفها حظر وتجريم العمل الحزبي وقمع رموزها، ثم الزج بهم في السجون تحت شعار “من تحزب خان”.
في الحقيقة يمكن تصور حياة ديموقراطية سليمة ذات كفاءة وفاعلية في تحقيق حرية وإرادة جمهور الأمة، ولا يمكن تخيل حياة سياسية حرة للمواطنين إلا بوجود أحزاب سياسية مختلفة ومتنافسة، تنور وتحرك الرأي العام وتقدم للأمة الخيارات المختلفة لتختار من بينها ما يعتقد جمهور الأمة صحته وجديته بكل حرية وأمان بل ولتحمي هذه التنظيمات السياسية المستقلة عن السلطة الشعب من تغول الدولة وأجهزتها المنظمة والبوليسية.
بعد ثورة 2011 صدر القانون 29 لسنة 2012 بشأن تنظيم العمل الحزبي، وكان بادرة طيبة، ولكن القانون لم يجد مؤسسات حزبية ليقوم بتنظيمها. قرأ النشطاء والقادمون من المهجر والمتربصون والمتسلقون القرار وسمعو همسا من الحكومة لدعم العمل الحزبي، فتفاقمت هبة تسجيل الاحزاب حتى زادت عن مئة حزب ووصل دروة عددها 125 قبل الانتخابات التي لم تقام سنة 2020.
لم تكن هذه الأحزاب فاعلة سياسيا وليس لها قاعدة شعبية كبيرة تستند عليها، بل دكاكين تقوم بتسجيل أبناء عمومتها وأصدقائها للحصول على نصاب التسجيل، هذا يظهر مدى التصحر السياسي في البلاد، رغم ذلك كان هناك تكتلات شاركت في انتخابات نزيهة، شفافة سنة 2012 لم تشهد لها ليبيا مثيل من قبل، وتم بها انتخاب أعضاء المؤتمر الوطني العام لاول مرة في تاريخ ليبيا.
أما عن مؤسسات المجتمع المدني، فهي ليست استثناء، فبعد حصول بعض الجمعيات على معونات تفاقم عددها إلى أكثر من 2500 جمعية مع نهاية 2012م، في مختلفة الأنشطة، تم انحسر عنها الدعم فتوقف جلها، وواصل البعض بمجهودات فردية متواضعة، والجدير بالذكر انه يمكن تفعيلها لو تحصلت على دعم مناسب لنشاطاتها ويمكن أن تكون جهة رقابية على النشاط السياسي.
من الكوابيس المزعجة بعد سنة 2013 م ظهور عائلة حفتر في المشهد الليبي، كمولود غير شرعي للمخابرات الاقليمية في الشرق الليبي، ولقد استخدمت هذه العائلة فزاعة التقسيم بين الشرق والغرب، لتسخير كل موارد الدولة لمشروع تنصيب خليفة حفتر أو أحد أبنائه رئيسا على ليبيا، هذا المشروع ذروة سنام المشكلة، وعقدت العقد، نتج عنه غزو طرابلس، وقفل المواني النفطية، وتزوير العملة بالمليارات في روسيا، وشراء دبابات متهالكة وصواريخ قديمة من سوريا ودرون من الصين وتمكين القوات الروسية في ليبيا ومنحها أربعة قواعد عسكرية على البحر وفي عمق الصحراء.
في هذا المشهد المريع كيف يكون المخرج؟ وكيف يكون الحل؟ بالتأكيد ليس بالسؤال السهل الإجابة، ولكن أن تبدأ متأخرا خير من أن لا تبدأ.
ألاجابة على مستويين: المستوى الأول هو الاستمرار في عملية مصالحة، لأجل توحيد القواسم المشتركة، والتي تكون باتفاق على ميثاق وطني يتضمن البنود المتعارف عليها لبناء الدولة الليبية الوطنية الديمقراطية (وليست دولة مكون واحد تابعة كما جاء في ميثاق أديس أبابا) هذا الميثاق يصبح بوصلة عامة للشعب الليبي، وتنتهي مع توقيعه الأفكار الطوباوية مثل العودة للخلافة أو للمملكة أو الجماهيرية، وينتهي المستبد العادل، والقائد المؤمن، وبالتأكيد تنتهي التزكية والتصعيد، والتفويض من الشعب.
الأمر الثاني، تحريك النشطاء في كل ليبيا لدعم برنامج إسقاط مجلس النواب ومجلس الدولة مع إبقاء المجلس الرئاسي ليكون وسيلة إنتقالية إلى الانتخابات البرلمانية، وإستمرار الحكومتين في الشرق والغرب في عملهما زمن الانتخابات النيابية، وقد يحتاج الامر إلى مرسوم رئاسي لإنهاء دور المجلسين كما حدث لمحافظ مصرف ليبيا المركزي. وتقوم هيئة الانتخابات بتنظيم إنتخابات نيابية مشابهة لانتخابات البلديات التي تقام دوريا، وباشراف المجلس الرئاسي وبعثة الامم المتحدة، مع وجود القضاء كجهة ضامنة للمسار القانوني.
بعد انتخاب المجلس النيابي الجديد تكون الأمور أسهل وأيسر، حيث يقوم هذا المجلس بالآتي:
تشكيل حكومة جديدة موحدة لكل ليبيا. تشكيل لجنة لمعالجة بنود الاختلاف في الدستور. عرض الدستور الاستفتاء العام. تنظيم إنتخابات رئاسية تبعا لبنود الدستور. تحول ليبيا إلى الوضع الدائم: بتفعيل العمل السياسي الحزبي والنقابي وتنظيم إنتخابات نيابية ورئاسية تبعا للدستور الجديد.الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.