#امرأة_من_طحين
#محمد_طمليه
امرأة من طحين ، و وجهها رغيف . ويا لها من مفارقة ، فقد ماتت وهي تعد “قلاية بندورة” لاخي “علي” الذي يعود من عمله في الرابعة: ماتت وهي على رأس عملها كأم .
كنا صغارا ، ومات أبي ، فعملت امي بوظيفة ” اذنة مدرسة” ، انا لا اخجل من ذلك بل اشعر بإمتنان ، فقد اصرت على تعليمنا جميعا .
** وهكذا ، ماتت امي ، فاجتمعنا نحن الابناء لمناقشة الامور وترتيب الاوضاع بعد رحيل امرأة صارمة كانت تدير حياتنا باسلوب غير متمدن ويخلو من الشفافية : اجتمعنا في الغرفة التي كانت تنام فيها ، وكان ثمة ساعة دائرية على الحائط امامي ، وقررت ان احصل على هذه الساعة ، واخذتها بالفعل .
وها قد مرت خمسة شهور على وفاة أمي ، والساعة معلقة على حائط في بيتي الذي اقيم فيه بعيدا عن العائلة ، وانني استعين بهذه الساعة لمعرفة ما تبقى من وقت في حياة عشتها طولا وعرضا وغصبا ، وانتظر ان تفرغ ” البطارية” ، وتفرغ “بطاريتي” .
اتذكر ان لصا تسلل ذات ليلة ماطرة الى بيت فاخر لاثرياء كانوا قد ذهبوا في اجازة ، والمكان خالي ، والحاجيات ثمينة ومتاحة ، ولكن اللص حمل ساعة حائط فقط ، وعاد بها الى بيته الذي تفصله عن بيت العائلة خمسون سنة ، وها هو يستعين بالساعة لمعرفة الوقت الذي مر في حياة لم يعشها اصلا .
** نتقدم يوما بعد يوم باتجاه “عيد الام” : أحلى جهاز لقياس الضغط لامي في عيدها / جهاز يصدر عنه صفير وبخار اذا نضجت الدمعة في العين . ويصطف الصغار في طابور امام بيت العائلة ، ويحمل كل منهم قصعة : خذ حصتك من وجعي .
ثلاث وجبات في العمر الواحد : افطار ، غداء وعشاء . والاحتياطي في غرفة الخزين يكفي الجميع : ” برغل و عدس مجروس وحب هيل/حباب العيون” . ” وجميد كركي” و” عناقيد بامياء ناشفة” مدلاة من السقف . ولكن ، “قوموا عن الطعام وبكم خصاصة”، وحذار من التخمة .امي ، ما تزال بي خصاصة لمزيد من الدمع .
الطحين بين ايدي الامهات ، مضافا اليه “ماء وضوء ، فيكون” خبز طابون” ساخنا ومباركا ، وعلى وجه الرغيف تجاعيد ، وعلى وجه امي تجاعيد . وهذه ليست مصادفة.
“احن الى خبز امي ” وثوب امي على حبل الغسيل فوق السطوح ، وخطوة امي في الزقاق صوب سوق الخضار ، وهياج امي اذا تأخر احدنا بعد المغرب ، ودمعة امي في “المركز الصحي” اذا اصابنا مغص في البطن ” النملية” لا تحفظ الاطعمة .
أمي ، علميني الحبو على قدمين . لا تقلقي فلن ابتعد كثيرا عن “عتبة الدار” سأعود الى الحضن قبل ان يهبط الليل..
المصدر: سواليف
إقرأ أيضاً:
د. عبدالله الغذامي يكتب: هل العقل رجلٌ والعاطفة امرأة؟!
كنت طرحت مقولة استنبطتها من السلوك الفكري في التمييز بين عقل الرجل وعقل المرأة، وهي (أن تكون المرأة شاعرةً فهذا أهون على الفحولة من أن تكون منظّرة وناقدة وصاحبة رأي وفكر)، وهذه مسألةٌ تعود لنسقيةٍ ثقافية تعتمد مقولة (العقل رجلٌ والعاطفة امرأة)، وهي مقولة ليست جائرة فحسب، بل هي خاطئة كذلك، وليس هذا مقام تبيان عوار هذه المقولة، ولكن فيما يخص المرأة المنظرة والمرأة الشاعرة، فقد جرى ثقافياً قمع الخطاب الشعري للمرأة وتقييده بشروط ضد البوح والإفصاح عن المشاعر، في حين يبوح الشاعر كيفما يشاء دون خجل ولا تردد، وقد جرى تقبل شاعرية المرأة من حيث المبدأ منذ الخنساء وما بعد، ولكن سنرى فيما يخص النظرية، فالمرأة الفيلسوفة عند اليونان تمت إزاحتها من ذاكرة المتن الثقافي، وبقيت اسماً ورقماً دون أن يسند إليها ما يكشف عن خطاب فلسفي ناتج عنها، رغم ترداد الأسماء في متون الكتب والمرويات، مما يؤكد وجود الفيلسوفات، لكن الفلاسفة الفحول هم المتصدرون للنظريات وهم صنّاع التحولات، وهذه سيرةٌ عامةٌ في الثقافات القديمة كلها، على أن مقولتي هذه جاءت في سياق الكلام عن نازك الملائكة، حيث حضرت في مبحث الريادة للشعر الحر (شعر التفعيلة)، وتساوى الحديث عنها مع الحديث عن السياب مع الجدل عن الأسبق منهما، وهو جدل في حدود الرصد التاريخي، ولكن الجدل الذي ليس علمياً ولا منهجياً هو الجدل حول نظرياتها، التي ساقتها في كتاب (قضايا الشعر المعاصر)، حيث لم يقتصر الجدل عن الخلاف مع مقولاتها وهذا حق ومنهجية، ولكن شابته لغة ساخرة ومتعالية عليها لجراءتها في ابتكار قواعد لتقعيد ما كان يسمى حينذاك بالشعر الحر، وتصديها لنقد الشعراء واستخداماتهم العروضية وتجاوزاتهم، التي مالت نازك لتقييدها، وهذا موقف لا أتفق معها فيه، لكني احترمت عقلها وجهدها وقدرت اجتهادها، على عكس ما جرى من نقاد عرب كثر تهجموا عليها بلغة استعلائية وإقصائية، مما جعلني أقول مقولتي تلك، وهي ملمح من نقدي للأنساق الثقافية، وهو مشروع واسع تصديت له في خمسة كتب، أولها (المرأة واللغة)، ثم ثقافة الوهم، وآخرها (الجنوسة النسقية).
كاتب ومفكر سعودي
أستاذ النقد والنظرية/ جامعة الملك سعود - الرياض