الزمرة.. قصة عاشق داخل نفق في غزة
تاريخ النشر: 22nd, March 2024 GMT
عمار الزبن، هو روائي آخر أنتجته السجون الإسرائيلية ونضال المقاومة، توقفت بندقيته فناضل بقلمه، وكتب وسرّب من محبسه روايات أبطالها شخصيات حقيقية، ينقلنا فيها إلى لحظاتهم في الميدان، وفي الأسْر.. هو نفسه كان بطل بعض تلك الروايات.
يملك الزبن قلمًا يجعلك تعيش الأحداثَ، كما عاشها أصحابها، وتتخيل نفسك مع أبطال أعماله، وينطلق خيالك لتتصور الأماكن، وتحلّق في شوارع القدس، وجبال نابلس، وقرى فلسطين، وتفكّر في حلول للمآزق، وتعيش مشاعر النضال والعناد والصبر.
والمدهش أن الزبن، هو أسير قسامي عاش في السجون أكثر مما عاش خارجها، فقد عرف الزنازين صغيرًا عام 1994، وكان عمره وقتها 16 عامًا، إذ حُكم عليه بالسجن عامين ونصف العام، وعندما خرج شكل خلية "شهداء من أجل الأسرى" التي نفذت عمليات لأسر الجنود الإسرائيليين بهدف مبادلتهم بأسرى فلسطينيين.
وهكذا، تم اعتقاله مجددًا عام 1997، لتصدر المحاكم الإسرائيلية بحقه أحكامًا بالسجن المؤبد 27 مرة، أو ما يعادل 2700 سنة، بتهمة المسؤولية عن عمليات قتل فيها 27 جنديًا إسرائيليًا، وأصيب 323، فأصبح بذلك من أصحاب أعلى المحكوميات في السجون الإسرائيلية، واعتبرت الصحف الإسرائيلية اعتقاله نجاحًا كبيرًا لأجهزة الأمن.
رأيناهم في النفق بشرًا يتبادلون الحكايات، ورأيناهم ملائكة تتعلق أرواحهم وقلوبهم بالله الواحد الأحد، وأخيرًا بعد طول انتظار، حانت اللحظة بعدما تجمع عدد كبير من الجنود فوق أنقاض بيت عماد، فهمس لهم علاء: استعدوا وتوكلوا على الله
أما هو، فقابل الحكم بابتسامة ساخرة، ورفع مصحفه وشارة النصر، ومضى إلى سجنه المظلم مرفوع الهامة.
وبهذا فإن عمره الذي تجاوز الآن نحو 45 عامًا، لم يعش منه خارج السجن إلا 17 عامًا تقريبًا، وفي سجنه حصل على شهادة الثانوية العامة، ثم بكالوريوس العلوم السياسية، ثم الماجستير في العلوم السياسية من جامعة القدس المفتوحة، والتحق بعدها ببرنامج الدكتوراه.
في اعتقاله الثاني، تعرض لتعذيب شديد استمر 3 أشهر خلال التحقيق في سجن المسكوبية، وحرموه من زيارة أهله 8 سنوات، حتى استشهدت والدته خلال مشاركتها في إضراب عن الطعام؛ تضامنًا مع الأسرى في أغسطس/ آب 2004، ثم لحق بها والده، فسمحوا وقتها لزوجته وابنتيه بشائر وبيسان بزيارته عام 2005.
عندما يكتب المقاتليقول عمار الزبن: إن أصعب أنواع الكتابة الأدبية أن تكون مشاركًا في الحدث؛ فتكتب ما كنت جزءًا منه، وهذا ما دفعه للتأجيل المتكرر لمشروع الكتابة نحو عشرين عامًا، ولكنه حين تكلم أخيرًا كان جديرًا أن يسمع.
لقد منحته التجربة والمحنة تلك الصفة التي يسميها النقاد: "الأصالة"، وقد قامت أعماله التي قدمها بـ "أنسنة الحدث"، فلم يعد المقاوم فردًا مجهول الهُوية والمشاعر، يمرّ كرقم في نشرة أخبار، أو نقرأ كلماته الأخيرة التي سجلها ومات.. إننا في هذه الروايات نعيش معه حياته كلها، ونشاركه آماله، وإحباطاته، ولحظات صعوده وهبوطه، ونصره أو استشهاده.
كتب الزبن 6 روايات حتى الآن، كلها عن أحداث حقيقية، هي "عندما يزهر البرتقال" و"خلف الخطوط" و"ثورة عيبال" و"أنجليكا" و"الزمرة" و"الطريق إلى شارع يافا".
مع "الزمرة"ونقف هنا عند رواية "الزمرة"، وربما نقف مع أعمال أخرى في مقالات قادمة.. كتب الزبن هذه الرواية في سجن رامون الصهيوني بعد أن حصل على تفاصيلها من اثنين من أبطالها تم أسرهما، وتدور أحداثها خلال العدوان الإسرائيلي على غزة عام 2014، وهي تصور الحياة الإنسانية لهؤلاء الأبطال، وكما هي عادة الزبن فإن العمل، بكل ما فيه من أسماء وتواريخ وأماكن وأحداث، حقيقي من الألف إلى الياء، وقد أهدى روايته إلى رجال نخبة القسام في غزة "تحت الأرض وفوقها وفي لجج بحرها".
عندما تقرأ الرواية الآن، تنتقل إلى زمن غزة التي كانت يومًا مدينة تضم بيوتًا، لكنها ليست كالمدن ولا كالبيوت، وذلك قبل أن تهدمها الوحشية الصهيونية في حرب الإبادة الأخيرة، فلا تترك فيها حجرًا على حجر.
الحدث يبدأ من حي الأمل بخان يونس، حيث يقيم البطل الأول إبراهيم، تنزل الصواريخ على هذا الحي كالصواعق فتهشم الذكريات، وتحرق خارطة الوطن السليب المعلقة على جدار بيت "أم خالد" (أمه)، وليس هذا إلا استمرارًا لقصة معاناة عاشتها الأم من زمن النكبة عندما طردتها العصابات الصهيونية من بئر السبع، ولا تزال تنتظر العودة لبيتها الذي تملك مِفتاحه.
أما زوجة إبراهيم، فهي نموذج لامرأة فلسطينية تتوقع أن يخرج زوجها لمقاومة الاحتلال فلا يعود، لكنها تحاول أن تقنع نفسها "أن الله -عز وجل – سيبقي لها الرجل الطيب والحبيب الرائع، فليس عدلًا أن تموت القصص الجميلة في غزة، وليس قدرًا أن ينتصر الغزاة علينا، ولا بد أن يقاوم إيماننا باطلهم، حتى تنتصر الحياة ويبقى الحب.. وأنا أكره أن يفارقني زوجي رغم علمي أن الخير في صد المحتلين عنا وعن أرضنا".
الغزّي.. الشهيد الحيوتعيش في الرواية علاقة الغزيين بالكهرباء، فهي هناك "ترف لا يليق باللاجئين والكادحين والحالمين.. وعليك إن كنت غزيًا أن تكره الكهرباء، حتى لا تتعود على ساعات توفُّرها القليلة؛ فكل عامين هناك حرب، أول ضحاياها محطة الكهرباء العجوز".
أطلقت الطائرة الإسرائيلية صاروخًا فدمر بيت ياسر (وهو البطل الثاني) في المخيم، وقتل أسرته، واحترق قلبه لفراق أمه الشهيدة كما، تحترق قلوب أهل غزة كل يوم على فراق أحبابهم، لكن هناك قاعدة أدركها الجميع، هي: "أن تكون غزيًا، فأنت شهيد مع وقف التنفيذ حتى يجيء دورك في إحدى الحروب المتلاحقة، أو سنوات الحصار الممتدة؛ أو عبر صاروخ ذكي بدعوى أنك قنبلة موقوتة.. لذلك لا تصف الغزي عندما يغادر بالميت؛ فمكتوب على جبينه عندما يولد: أنا من غزة إذن أنا شهيد!".
أما علاء (البطل الثالث) فقد قال لأمه: أنتما في عيني يا أمي.. لكنك تعلمين أنني اخترت طريقًا نهايته أحد أمرين: أن أنال الشهادة في ساحة المعركة، والثاني أن أمسك بيدك الجميلة، وأطير بك إلى قريتنا الرائعة في اللد بعد تحريرها من الصهاينة، وما ذلك على الله ببعيد.
في حب فلسطين، وأمي، وأمل!
أما البطل الرابع أحمد (الملقب بسمارة)، فهو عاشق ينظم لمحبوبته كلمات يغترفها من بحر قلبه؛ فللعشق في غزة مذاق خاص، لكن عندما تزور خطيبته (أمل) بيتهم تصله رسالة الاستدعاء، فيضطر لتركها، ليجد علاء وإبراهيم ومحمد في انتظاره، وينضم لهم عماد، فتتشكل الزمرة (المجموعة) التي تم تكليفها بمهمة خاصة.
تقف الرواية عند أحلام شخوصها، فأمل كانت ترسم في مخيلتها صورة فارس أحلامها، فتقول: أريده مجاهدًا يحمل بين جنباته حب الشهادة، والدفاع عن أرضه، فالذي لا يفعل ذلك أخافه على نفسي وأولادي".
أما أحمد (سمارة)، فيقول: إن "فلسطين، وأمي، وأمل، والبندقية، لا تغادرنني مطلقًا، فلا يمكنني فصل الواحدة عن الأخرى، فمن تخلى عن إحداهن سيفقد الأخريات"، ويواصل متحدثًا عن رؤيته للحب: "حتى نعمر أرضنا يجب أن تكون نظيفة من الشر، وحتى نصل إلى ذلك يجب أن تتوفر لدينا أسباب القوة، وأهمها الأسرة الصالحة التي تبدأ مني ومن خطيبتي المؤمنة؛ التي تدفعني للقتال من أجلها ومن أجل بلدي وديني وأمي".
تكمل زوجة إبراهيم الصورة: "إن المقاتلين وحدهم هم العشاق، وغيرهم عابرون في العشق؛ لأن الحب الذي تحميه البندقية، ويختلط مع عرق الثورة وحده يستحق الخلود.
مع الرجال الخمسة في النفقلكل بطل في الرواية حكايته، لكن يجمعهم أنهم "رهبان بالليل، مقاتلون في النهار" يقفون على أرضية أخلاقية ثابتة وإيمان لا يلين.
وتوضح الرواية المراحل التربوية التصاعدية التي يمر بها المقاتل قبل أن يصبح من "نخبة القسام" بجوانبها الإيمانية والعقدية والثقافية ليصبح مجاهدًا ملتزمًا تجاه دينه وشعبه وأمته، ولا يتم اختياره في صفوف القسام إلا بعد التحقق من خلقه تجاه أهله والناس، واستعداده للبذل من أجل وطنه السليب.
كلف الرجال الخمسة بعملية استشهادية، فتجمعوا في نفق أسفل بيت عماد الذي دمرته الطائرات الإسرائيلية، وهناك عاشوا وعشنا معهم أسبوعين في النفق ينتظرون اللحظة الحاسمة، طعامهم تمرات قليلة وشربة ماء، ولا يحظون حتى بنسمات هواء نقية.
رأيناهم في النفق بشرًا يتبادلون الحكايات، ورأيناهم ملائكة تتعلق أرواحهم وقلوبهم بالله الواحد الأحد، وأخيرًا بعد طول انتظار، حانت اللحظة بعدما تجمع عدد كبير من الجنود فوق أنقاض بيت عماد، فهمس لهم علاء: استعدوا وتوكلوا على الله.
نهاية أم بداية؟فجّرت (الزمرة) العبوة الناسفة في فتحة النفق فأحدثت انفجارًا مزق أجساد عدد كبير من جنود الاحتلال، وقبل أن يستفيق بقية الجنود خرجت نخبة القسام من العين الثانية للنفق، فواجهتهم من "المسافة صفر"، وأوقعت بهم كثيرًا من القتلى، وكان وقع المفاجأة سببًا في نجاحهم وارتباك العدو.
ولكن المعركة مع ذلك طالت لساعات حتى بدأت ذخيرة المقاتلين تنفد، وكان أحمد (سمارة) أول الشهداء؛ فلما تفجرت الدماء من جسده قال مناجيًا حبيبته (أمل): "هاك دمي.. ما كنت أبخل به على وطن أنت أجمل ما فيه، والملتقى الجنة".
استشهد أحمد محتضنًا سلاحه، وقد اخترق جسدَه رصاص كثير، فكتم شعوره بالألم، واختار أن يرحل واقفًا بهدوء الأشجار، وعيناه تحميان ظهر الوطن.
وكان علاء هو الشهيد الثاني، نزفت دماؤه وهو يطلق العنان لتكبيراته؛ فقد برّ بقسمه: إنهم لن يمروا إلا على جسده.
أما عماد فقد كان سيد المكان؛ حيث تمكن من استدراج العدو إلى كمين جديد، واستخدم القنابل اليدوية ليلحق أكبر الخسائر بهم، ثم اخترقت رصاصة وجهه الباسم ليروي أشجار الزيتون بدمه.
استشهد ثلاثة، وبقي من الزمرة إبراهيم ومحمد يقاتلان جنود العدو من داخل النفق، حتى نفدت ذخيرتهما، فألقى جندي إسرائيلي قنبلة دخان داخل النفق فاضطرا للخروج، فأسروهما، وخضعا للتحقيق في سجن عسقلان، ولم تعرف "كتائب القسام" أنهما على قيد الحياة إلا بعد ظهورهما في سجن إسرائيلي".
كانت تلك صورة المعركة البطولية، كما رواها إبراهيم ومحمد للأديب عمار الزبن الذي شعر بنشوة النصر على قيود السجن، وهو ينهي السطر الأخير من الرواية.
على مدى الأشهر الستة الأخيرة، وعلى مدى السنوات التي سبقتها هناك آلاف الحكايات لأمثال هذه الزمرة، لشباب يحبون الحياة والوطن، وقلوبهم قادرة على العشق، ولكنهم يحبون الكرامة والحرية، وهم مستعدون لدفع أرواحهم في سبيل ما يحبون.. وحكايات كل هؤلاء في انتظار من يكتبها.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: رمضان 1445 هـ حريات فی النفق فی سجن فی غزة
إقرأ أيضاً:
«صائد النوارس».. عندما يسرد البحار روحه
في كتاب «كيف تكتب رواية في مائة يوم أو أقلّ» الذي ترجمه إلى العربية الكاتب المصري محمد عبد النبي؛ ينقل الكاتب الأمريكي جون كوين نصيحة ذهبية عن الروائي الإنجليزي جون براين؛ مؤلف رواية «غرفة على السطح»، يقول فيها: «إذا كان لصوتك أن يُسمَع وسط آلاف الأصوات، وإذا كان لاسمك أن يعني شيئًا بين آلاف الأسماء، فسيكون السبب الوحيد هو أنك قدمت تجربتك الخاصة صادقًا»، وأزعم أن هذا ما يحاوله محمد الصالحي؛ الشاعر والكاتب العُماني، سواءً في كتابه السردي الأول الذي صدر قبل سنتين، أو في كتابه الجديد الصادر عن الجمعية العُمانية للكتّاب والأدباء مؤخرًا بالتعاون مع دار جدل الكويتية بعنوان «صائد النوارس». يكتب الصالحي ما يعرف. ينطلق من معرفته العميقة بقريته «الخضراء»، الغافية على ساحل الباطنة كحورية من حوريات ألف ليلة وليلة؛ ببحارتها وصياديها، بتلاميذها ومعلميها، بأطفالها الأشقياء وشيوخها الممسوسين برائحة المكان وأسئلته. يخلق منها عالمًا سرديًّا مميزًا، وكأنه يغرف من معين لا ينضب. في تقديمه لكتابه السردي السابق «الخضراء؛ لؤلؤة النهار، وتغريبة المساء» (الصادر عن الجمعية العمانية للكتاب والأدباء أيضًا بالتعاون مع «الآن ناشرون وموزعون» الأردنية، 2022) يخبرنا أن هناك آلاف الحكايات المدفونة في مناديس ذاكرته «تتلون بلون الخضراء«»» هذه المناديس يفتحها بين الفينة والأخرى ويستلّ منها مجموعة حكايات ليقدمها لقارئه بلغة بسيطة، والتقاطات ذكية، وتأملات شفيفة، وقدرة على شدّ القارئ من أنفه. حكايات عن شخصيات مستلة من الواقع ونابضة بالحياة، مما يجعلها فريدة ومصدَّقة من القارئ. حكايات لا يبدو لقارئها أن الصالحي مهتم بصفة «كاتب»، قدر اهتمامه بنقل تفاصيل عاشها في الماضي أو عايشها في الحاضر، لكأن الكتابة لديه ليست سوى استجابة لنداء خفيّ لسرد الحكايات، وانقياد عفويّ ناحية الشغف العميق بالمكان وحكاياته، فيروي مواقف وذكريات تشكّل جزءًا كبيرًا، ليس فقط من وعيه الإنساني، وإنما أيضا من وعي مرحلةٍ خَبِرَها جيلُه الذي عاش طفولته في ثمانينيات القرن الماضي. ولئن كان محمد الصالحي قد اختار لكتابه الجديد عنوانَ أحد نصوصه وهو «صائد النوارس»، فإني أرى أن هذا العنوان موفق تماما، لأنه يعبّر بذكاء عن روح هذه النصوص جميعها. فالنوارس كما نعلم هي طيور بحرية تجسد الحرية والانطلاق بعيدًا عن القيود، كحال النورس في قصة «صائد النوارس»، كما تمثل العزلة والتأمل اللذين سنعيشهما في قصة «رائحة الجدة»؛ عزلة خالد الذي لا يستطيع الحركة ولا الكلام ولا الصراخ، ويقضي حياته في تأمل الناس صامتًا. والنوارس أيضًا رمز للتحدي والصراع، فكما يصارع البحارُ الأمواجَ، يصارع النورسُ الرياحَ والعواصفَ، بحثًا عن رزقه وملاذه، وسنشاهد هذا الصراع في قصة «صائد النوارس» المُشار إليها، التي أَعُدُّها شخصيًّا أجمل نصوص الكتاب، ويذكرني الصراع المحتدم فيها بين الصياد والنورس بالروايتَيْن الكلاسيكيّتَيْن: «العجوز والبحر» لإرنست هيمنجواي و«موبي ديك» لهرمن ميلفيل، ففي هذه الأعمال الأدبية الثلاثة نشهد تحديًا كبيرًا ومستمرًّا بين الإنسان والطبيعة، ميدانُه البحر، وبحثًا دؤوبًا عن الذات عُدَّتُه الصبر والجلَد وعدم الاستسلام للمصير المجهول. هذا عدا أن النورس – وهذه دلالة أخرى للعنوان – يمثِّل رمزًا للتنقل والتغيير، فهو لا يستقر في مكان واحد، بل يجوب السماء والمحيطات، تمامًا كسالم؛ بطل قصة «نرجس»، إحدى القصص الجميلة أيضًا في الكتاب. يتألف «صائد النوارس» من ثلاثة أقسام رئيسية، كل قسم منها يعكس جانبًا من اهتمامات الصالحي ومعرفته العميقة بتفاصيل الحياة التي ينقلها إلينا؛ القسم الأول، المعنون بـ«البحّار يسرد روحه»، يأخذنا في رحلة عبر حكايات البحر والبحارة والصيادين. كما هي الحال في نص «أسنان تشبه القمر» الذي يجسد قدرة المؤلف على تحويل الأساطير المحلية إلى حكايات شيقة تستدعي التأمل، إذ ترتبط حكايته هنا بأسطورة عُمانية لتسمية المد الأحمر في قرية «الخضراء» بـ«دم البانيان». وفي نص «البوم / البلم»، يروي لنا قصة عاشق البحر خلف بن خميس الملقب بـ«البوم»، الذي لم يتحمل الابتعاد عن معشوقِهِ/ البحر، فكان مصيره الموت حزنًا وكمدا. لكن المؤلف لا يكتفي هنا بتقديم صور منوعة من حياة البحارة والصيادين، مشبعة أحيانًا بإرادة الحياة، ومجللة في أحيانٍ أخرى بالحزن واللوعة والحنين؛ بل يُرينا أيضًا في أكثر من نص، المصيرَ المؤسِفَ الذي يؤول إليه البحّار حين يتخلى عن البحر، أو يحاول تغيير مهنته، كما في نصّ «سيد البحار» الذي لم تشفع له أمجاد أسلافه البحرية والتغني بها ليُصبح بحّارًا جيّدًا في وطنٍ ليس بوطنه، وبحرٍ ليس ببحره، وكما في نصّ «الصيد البرّي للبحار» حين يفشل بطلُه البحار في مهنته الجديدة التي بادل بها أخاه سائقَ التاكسي. أما القسم الثاني، فحَمَل عنوان «قم للمعلم...»، ويروي فيه المؤلف ذكريات وحكايات عاشها في المدرسة؛ تلميذًا أولًا، ثم معلّمًا بعد ذلك. نص «أنت بتعرف شو كاتب؟» – على سبيل المثال - يسرد حكاية إعداده وهو تلميذٌ صغير صحيفة حائط عن مذبحة صبرا وشاتيلا، ناقلًا الصور والتعليقات من مجلة عربية، وما تبع ذلك من غضب المدير الأردني منه، لعدم انتباهه – بسبب حداثة سنّه – إلى عبارات كاذبة عن رمي بعض الأهالي الزهور في وجه العدوّ المحتلّ. وفي حين يقدم نص «نبيع الأرنب بنصف ريال»، حكاية طريفة عن تربية الآباء لأبنائهم في الثمانينيات على عزة النفس وإبائها، ورفضهم أن يكونوا عالة على الآخرين، فإن نصّ «لماذا يضحك خدام؟» يسرد حكاية طريفة أخرى تُرينا كيف يرى التلميذ الصغير أستاذه، وكيف يعبّر عن رؤيته هذه بالضحِك حين لا تتأتى له طرق أخرى. في هذا القسم، يعيد الصالحي إحياء ذكريات الطفولة والمدرسة بأسلوب مشوق وساخر. قد لا تبتعد بعض نصوص القسم الثالث، المعنون «من يعشْ يَرَ»، عن روح القرية البحرية التي قرأناها في القسمين الأولين (خصوصًا في نص «متعهد الحفلات») إلا أن نصوص هذا القسم غلب عليها بشكل عام تناول أماكن وشخصيات بعيدة نسبيًا عن «الخضراء». إن قصصًا مثل «مشيرًا إلى شيري»، و«نرجس»، و«رائحة الجدة»، تعكس قدرة الصالحي على مراقبة حياة الآخرين وتحليلها عن بُعد، هذا طبعًا مع افتراض أن هذه القصص بعيدة عن تجربته الشخصية، وإن كنتُ لا أستطيع الجزم بذلك. ولأنني ذكرتُ الثمانينيات مرتين -حتى الآن - خلال هذا المقال، فيجدر بي أن أشير إلى أنه ما من شك عندي أن هذا الكتاب سيحبّه كل من عاش طفولته في تلك الفترة من تاريخ عُمان، وأنا أحد هؤلاء. فهو عابق برائحة الثمانينيات وتفاصيلها، من ماكينة الخياطة، إلى جهاز المذيع الذي يُفصَّلُ له لباس خاص، إلى حوض الاستحمام في المزرعة وماكينة الريّ «اللندنية» التي تملأه بالماء، إلى ملعب كرة القدم البدائي بجذوع الشجر، وبدون شِباك، وليس انتهاء بأغاني تلك المرحلة، مثل «لمن السفاين» لسالم بن علي، و«ما علينا» لأبو بكر سالم، و«خليجية» لعباس البدري، وهذه الأغنية الأخيرة يمكن استعارة كلماتها إذا ما أردنا وصف حنيننا الجارف لتلك الحقبة المهمة: «زَرِي منثور / على ثوبك يا حورية / واشمّ عطور / كل ما أقرّب شوية». في كتابه السابق «الخضراء» اختار الصالحي لبعض النصوص تصديرًا شعريًّا قبل الدخول في سرد حكايتها، كما هي حال نص «الغول والترانشيب» الذي صدّره بأبيات للإمام الشافعي، ونص «راعي الحفري» الذي صدّره بشعر لغازي القصيبي، و«الغريب» الذي استبقه بأبيات للمعتمد بن عبّاد، و«الإسمنت الروسي والتاجر» الذي سبق سرد حكايته بشعرٍ لمظفر النواب، وحتى عندما اختار تصديرًا من التراث الشعبي العُماني لنصّ «العفريت» اختار أيضًا بيتين شعريَّيْن: «واخسارتك يو لوح لوشار / تقلبك موية سلامة / وتقلبك يمين ويسار / وتعقبك في بحر الظلامة».. أما في الكتاب الجديد («صائد النوارس») فقد اختار أن يُصدِّر الكتاب كاملًا بمقطع شعريّ من تأليفه هو هذه المرة: «شق المسا صوتي / ناديت يا حطاااااب / كسّر غصون العمر / طارن عصافيري»، وكأنه يريدنا ألّا ننسى أنه شاعر في المقام الأول. ولقد عرفتُه بهذه الصفة منذ أكثر من ثلاثين عامًا، ومع هذا فإنه لم يُصدر ديوانًا بعد، بل إن بعض نصوصه الشعرية ضاعت لأنه كان يكتبها على الورق، كما أخبرني صديقه الحميم الشاعر فيصل العلوي، (أفتح هنا قوسًا لأقول: إن للعلوي فضلًا كبيرًا في ظهور كتابَيْ الصالحي السرديَّيْن للنور، أعني «الخضراء: لؤلؤة النهار، وتغريبة المساء» و«صائد النوارس»). إن الضياع لهذه النصوص يدعم ما ذكرتُه في بداية هذا المقال بأن محمد الصالحي غير مكترث أن يكون كاتبًا، قدر اكتراثه بالتعبير العفوي عن خلجات نفسه في الشعر، وعن حكايات أهله في السرد. وإذا كان في أحد نصوص «صائد النوارس» قد ربط بين نوعين من الهدايا التي كانت تقدمها شركات المنتجات الغذائية في الثمانينيات، وهما كرة القدم الخاصة بحليب «نيدو»، والقلم الخاص بحليب «بوني»، معلّقًا على ذلك بالقول: إن هذا التنافس قد قسّم جيله إلى اثنين؛ جيل نشأ على حب كرة القدم، وآخر نشأ على حُبّ الكتابة، فإنه يمكن الاستنتاج بسهولة أن محمد الصالحي كان من الجيل الثاني؛ جيل حليب «بوني». ختامًا؛ فإنه يسعني القول: إن «صائد النوارس» يفتح نافذة على عالم غني بالتجارب الإنسانية والمشاعر الصادقة التي شكلت هوية جيل بأكمله. بين بحرٍ يفيض بالأساطير والذكريات، ومدرسة تتشابك فيها خيوط الطفولة والتعليم، وبين حكايات تمتد من الماضي إلى الحاضر، ينسج الصالحي عملًا أدبيًا يعبّر عن شغفٍ حقيقي بالحياة وبالقصص التي يشكلها الناس والمكان.
سليمان المعمري كاتب وروائي عماني