فى أدبيات العرب مصطلح «رجل بأمَّة»، وهو يطلق على النادر من الرجال الذين أحدثوا التأثير الكبير فى أممهم وأوطانهم، والذى يعجز عن مثله العدد الكثير من الرجال، ولا شكَّ أن أستاذى ووالدى العالم الجليل والمربى الفاضل الأستاذ الدكتور على جمعة، رجل يستحق هذا اللقب بجدارة، فهو منذ أن عرفته يُفنى ذاته فى حب الله تعالى ورسوله، ويبذل نفسه فى خدمة دينه وأمته، جمع فى معارفه وعلومه بين أصالة التراث بعلومه الواسعة مع تمكنه الراسخ من مفاتيح فهم ذلك التراث وامتلاك كامل لأدواته وحل غوامضه وفك عقده، مع رؤية شاملة علمية للواقع المتشابك المتسارع الذى نحياه.
وهو أول من أرشدنا إلى ضرورة الإلمام بـ«علوم الواقع» وكيفية ربط علوم التراث بالواقع، وبنى فضيلته نظرية متكاملة فى قضية الثابت والمتغير، تعلمنا من خلالها أن نقرأ التراث قراءة واعية لا تسبب ارتباكاً فى الواقع، ومما أرشدنا إليه مولانا الإمام أن المنهجية الصحيحة لا تتمثل فقط فى الإلمام بالعلوم التراثية الأزهرية، بل إن القراءة الحرفية الجامدة للتراث سوف تؤدى إلى نتائج غير محمودة. إن النموذج المعرفى الذى أسَّسه مولانا الإمام العلامة ينظر إلى الدين كله بأصوله وفروعه وعلومه السلوكية، باعتبار أنه بنى على أساس أن الدين جاء لنفع العباد وتحقيق مصالحهم فى الدنيا والآخرة، وأن قواعد مثل رفع الحرج والضيق ومنع الضرر وتصحيح أفعال العباد ما أمكن وسلوك مسالك التيسير والاستفادة من الثروة الفقهية الواسعة فى إجراء هذه القواعد تعد من أسس هذه المنهج التجديدى، إننا بإزاء منهج تجديدى شامل يسعى إلى نفض غبار الجمود والتخلف الذى أحدثته القراءة السطحية المتعجلة الجامدة للتراث، والذى أنتج بعد ذلك ظاهرة الجماعات المتطرفة بكل تجلياتها وصورها من التكفير والإرهاب ومحاربة الأوطان... إلخ.
قد يظن بعض الناس أن حملة تصحيح المفاهيم التى بدأها مولانا كانت وقت تفجر أزمات جماعة الإخوان وغيرها عقب ثورة يناير، وهذا غير صحيح بالمرة، فمنذ أن فتحنا أعيننا على رؤية مولانا الإمام من عشرات السنين وهو يقوم بتصحيح المفاهيم التى بثتها تلك الجماعات وحادت بتعاليم الإسلام عن وضعها الإلهى، لقد كانت حركة التجديد والإصلاح التى قام بها مولانا حركة شاملة تعلمنا كيف نفكر، كيف نستعمل المصطلحات بدقة، كيف نتعلم قبل أن نتكلم، كيف نبنى السعى على الوعى، كيف نلتفت إلى عبث الجماعات المتطرفة بالمصطلحات والأوضاع الشرعية حتى صنعت ديناً موازياً يشبه الإسلام فى ظاهره ويتناقض معه تمام التناقض فى جوهره وحقيقته.
تعلمنا من فضيلة الإمام العلامة قيمة أن حب الوطن من الإيمان، وفى مشروعه التجديدى لبناء العقول والأفهام تعرض لجميع المصطلحات والقضايا التى عبث بها الإرهابيون مثل الخلافة والحاكمية والولاء والبراء والقول بجاهلية المجتمع، وأبان عن مكمن الخطر والتكفير والتفجير فيها، والآن وفى برنامج نور الدين نحن بإزاء تجديد من نوع آخر فى مشروع مولانا الإمام من الممكن أن نطلق عليه «تواصل»، التواصل مع الأجيال الناشئة والاستماع إلى صوت عقولهم ونبض قلوبهم، وفهم لغتهم، وبسط البيان الحق لهم فى قضية العفاف فى العلاقات، وتقبل الآخر والتعايش مع الجميع، ورفض منهج المنع والمصادرة تحت دعوى العيب والحرام. إن ما قام بها مولانا الإمام من تجديد فى هذا المضمار سوف تبنى عليه رؤى ومشروعات مستقبلية لاستنقاذ هذا الجيل من براثن أفكار الجماعات المتطرفة التى تستهدف عقول هذا الجيل، أملاً فى بناء قاعدة أخرى تعويضية لهذا الفكر. إن مولانا الإمام العلامة رجل بأمَّة لكثرة جهوده المباركة واتساعها، وهو رجل مهموم بأمته، بأوجاعها وقضاياها ومستقبل أجيالها، ويحاول أن يرسم لها الطريق كى تستعيد مكانتها وهويتها الوسطية، إنه رجل بأمَّة وهو رجل الأمَّة.
المصدر: الوطن
كلمات دلالية: منزلة العلماء د على جمعة قناة الناس مكانة العلماء
إقرأ أيضاً:
محمود حامد يكتب: حروب الإبادة الثقافية.. كارثة تواجه المجتمع الدولى
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
الحروب على أشكالها تقع، سواء كانت غزوًا بالجيوش الأجنبية أو الجماعات الإرهابية أو حتى الحروب الأهلية أو الصراع بين أطراف متعددة فى الدولة الواحدة.. تعانى الشعوب من كل هذه الحروب أيًا كان شكلها ونمطها، ذلك أنها تأتى على الأخضر واليابس ولا تفرق بين الحجر والبشر ومثلما راح ملايين من الناس ضحية الحروب، فقد دُمرت الآلاف من الآثار التى تمثل هوية أى شعب وتعبر عن ماضيه وتجعله يزهو بتاريخه العظيم.
سمعنا عما أحدثته الحرب العالمية الثانية من تدمير للآثار فى العديد من الدول الأوروبية التى كانت طرفًا فى القتال، ولعلنا رأينا بأنفسنا بعد تطور وسائل الاتصال ما فعلته التنظيمات الإرهابية من تدمير لآثار الشعوب سواء فى العراق أو سوريا أو فلسطين أو اليمن أو أفغانستان أو غيرها من البلدان، فى حملة محمومة ومجنونة فيما يمكن اعتباره «إبادة ثقافية» لذاكرة الشعوب.
وبعد أن سكتت المدافع فى الحرب العالمية الثانية يوم ٧ مايو ١٩٤٥ باستسلام القوات الألمانية للحلفاء، تم الإعلان عن انتهاء الحرب رسميًا فى اليوم التالى ٨ مايو والذى أُعتبر يوم النصر فى عموم أوروبا.
وظل المجتمع الدولى يفكر ويفكر فى كيفية حماية تراث الشعوب، واستمر التفكير نحو تسع سنوات حتى تفتق الذهن عما يُعرف بـ«اتفاقية لاهاى لحماية الملكية الثقافية فى حالة النزاع المسلح»، وهى معاهدة دولية تطلب من الموقعين عليها حماية الملكية الثقافية فى الحرب، وتم التوقيع عليها فى ١٤ مايو عام ١٩٥٤ فى مدينة لاهاي، فى هولندا، وصدق عليها أكثر من مئة دولة ودخلت حيز التنفيذ فى ٧ أغسطس ١٩٥٦.
كانت الاتفاقية انتصارًا للإنسانية وعم الارتياح بين الشعوب والمسؤولين وكل عارفى ومقدرى قيمة الأثر فى تاريخ الشعوب وحياتها، فقد وضعت قواعد لحماية السلع الثقافية أثناء النزاعات المسلحة. وكانت أول معاهدة دولية تهدف إلى حماية التراث الثقافى فى سياق الحرب، وسلطت الضوء على مفهوم التراث المشترك وأدت إلى إنشاء «اللجنة الدولية للدرع الأزرق» لحماية التراث.
ومرت الأيام والسنوات حتى رأينا اليوم «الأزرق»، ونحن نتابع تدمير الآثار فى أكثر من دولة دون أى وازعٍ من ضمير أو أى إحساس بقيمة البشر والحجر. ولم يقتصر الأمر على هذا التدمير، فقد تواترات الأنباء عن سرقة الآثار بفعل فاعل هو جيش الغزاة، وكان أوضح مثال على ذلك ما أقدم عليه جنود وضباط من الجيش الأمريكى عقب احتلال العراق، والتفاصيل يعرفها القاصى والدانى فى كل بقاع الأرض.. [هامش: من غرائب الطبيعة ما ذكره كاتب أمريكى يدعى بيتر ستون فى تقرير بموقع «ذى كونفرزيشن» الأمريكي، إذ قال إن «الولايات المتحدة أول دولة تجعل حماية الممتلكات الثقافية جزءًا من سياستها العسكرية من خلال قانون ليبر لعام ١٨٦٣ الذى كتب دليلًا مخصصًا للقوات الفيدرالية خلال الحرب الأهلية آنذاك»، ويبدو أن هذا «القانون» صُنع خصيصًا للحرب الأهلية داخل حدود دولته، لكن نهب وسرقة آثار الشعوب الأخرى فهو جائز شرعًاّ!].
وإذا سألنا أنفسنا: ماذا فعلت اتفاقية لاهاى وهل ساهمت فى حماية آثار العالم؟، فسوف نجد الإجابة واضحة للعيان فى العراق حيث اتفقت إرادة التنظيم الإرهابى «داعش» مع إرادة المحتل الأمريكى، فالأول استخدم معاوله للهدم والتدمير والثانى استخدم سطوته فى النهب والسرقة.. وإذا توجهنا قليلًا نحو سوريا المجاورة، نتحسر على ما دمرته التنظيمات الإرهابية.. ومن يدرى؟ فقد يكون أبو محمد الجولانى أحد الذين شاركوا فى التدمير إذ كان يتنقل بين التنظيمات الإرهابية على حسب مزاج مموليه وداعميه، أما لبنان فقد أصابت الغارات الإسرائيلية العديد من آثاره (بالأخص فى بعلبك) خلال الأشهر الماضية.. وإذا كانت عيوننا ترحل كل لحظة صوب غزة الجريحة، فيكفى أن نشير إلى أن المرصد الأورومتوسطى لحقوق الإنسان أكد فى تقرير حديث له، أن «إسرائيل تنتهك على نطاق واسع قواعد القانون الدولى لحقوق الإنسان والقانون الدولى الإنسانى لا سيما اتفاقيات جنيف، ومعاهدة لاهاى الدولية المتعلقة بحماية الإرث الثقافي، من خلال شنها لهجمات عسكرية منهجية ضد الأماكن والآثار التاريخية أثناء عدوانها المتواصل منذ السابع من أكتوبر على قطاع غزة». ولا نريد أن نسترسل فى هذا المجال وقد استعرض الزملاء والزميلات الكثير من أبعاد جريمة «الإبادة الثقافية» على صفحات هذا العدد الذى حاولنا فيه تقديم بانوراما عامة عن هذه الكارثة.
ورغم ما نراه حولنا من أهوال، دعونا نحلم ونقول مثل ديباجة الميثاق التأسيسى لليونسكو «لما كانت الحروب تتولد فى عقول البشر، ففى عقولهم يجب أن تُبنى حصون السلام».. وقد يكون مفيدًا أن نشير إلى الديباجة التى تصدرت اتفاقية لاهاى.. فتعالوا نقرأها معًا:
«إن الأطراف السامية المتعاقدة؛ لاعترافها أن الممتلكات الثقافية قد منيت بأضرار جسيمة خلال النزاعات المسلحة الأخيرة، وأن الأخطار التى تتعرض لها تلك الممتلكات فى ازدياد مطرد نتيجة لتقدم تقنية الحرب؛ ولاعتقادها أن الأضرار التى تلحق بممتلكات ثقافية يملكها أى شعب كان تمس التراث الثقافى الذى تملكه الإنسانية جمعاء، فكل شعب يساهم بنصيبه فى الثقافة العالمية؛ ولاعتبارها أن فى المحافظة على التراث الثقافى فائدة عظمى لجميع شعوب العالم وأنه ينبغى أن يكفل لهذا التراث حماية دولية؛ ولاعتبارها أنه ينبغي، حتى تكون هذه الحماية مجدية، تنظيمها منذ وقت السلم باتخاذ التدابير اللازمة، سواء أكانت وطنية أم دولية؛ ولاعتزامها اتخاذ كل التدابير الممكنة لحماية الممتلكات الثقافية؛ قد اتفقت على ما يأتي»..
والمقصود بـ«ما يأتى» هو نصوص اتفاقية لاهاى التى جاءت فى أربعين مادة تعبر فى جمل متناسقة وجميلة ومحكمة وتناطح بعضها بعضًا فى إثبات حسن النية.. ولكن هل تكفى حسن النوايا فى إدارة مثل هذه الأمور؟.. العالم فى حاجة إلى تطوير أدواته، فلم يعد يكفى إبرام المعاهدات وإصدار البيانات والبكاء على الأطلال.
وعلى أية حال، يمكنك أن تكتب على جوجل عبارة «اتفاقية لاهاى لحماية الملكية الثقافية فى حالة النزاع المسلح» كى تكون أمام ناظريك وأنت تتصفح معنا هذا العدد.